سيد الكائنات عبادة وعبودية
كتابة الأخت أمجاد عبد العال
صياغة الأخ الفاضل عبد العزيز العباد
مقدمة
بحثنا إن شاء الله تعالى يتناول عبودية وعبادة النبي في ضمن حديثنا عن سيرة سيد الكائنات المصطفى محمد صلى الله عليه وآله. فهل هناك فرقاً بين العبودية والعبادة؟ وهل العبودية أن يعرف الإنسان أنه مجرد عبداً لله تعالى؟ وهل تعني العبادة الصلاة والصوم والحج وما شابهها ؟ وهل يطلق على الإنسان أنه عابد ومتدين من حيث كثرة عبادته؟
سوف نتعرض – إن شاء الله تعالى – خلال هذا البحث إلى جانب مهم من حياة النبي صلى الله عليه وآله، ونسعى من خلال تفهم هذا الجانب أن نقتدي به قدر استطاعتنا وإمكاننا ونصحح بعض المفاهيم الشائعة.
ما الفرق بين العبودية والعبادة؟
يعتقد أن العبودية متقدمة على العبادة، فالعبادة متفرعة من العبودية أو دليل عليها. فالعبودية تعني وجود شعور لدى الإنسان بأنه عبد فقير صغير لرب عظيم كبير قادر، وهو بمثابة عبد لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشورا.
ورد في الدعاء المستحب الذي نقرأه في ليالي القدر، وفي ليالي الجمع، وبشكل عام: ( اللهم إني أَمْسَيْتُ لَكَ عَبْدًا دَاخِرًا لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِيِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَلَا أصرف عنها سوءاً ، أَشْهَدُ بِذَلِكَ عَلَى نَفْسِي وَأَعْتَرِفُ لك بِضَعْفِ قُوَّتِي وَقِلَّةِ حِيلَتِي) فهذا الدعاء يراد منه تكريس حالة العبودية عند الإنسان، فإذا تكرست هذه الحالة، حالة أنني لا أملك شيئا إلا من الله، ولا أدفع عن نفسي شيئا إلا بالله، وليس لي نفع لها، وليس لي أن أدفع عنها إلا من الله وبالله عز وجل، فهذه كمال حقيقة العبودية، وهذا المعنى هو الذي يراد تكريسه حتى بالعبادات.
فنلاحظ في القرآن الكريم أنه لا يوجد وصف لأي نبي من أنبياء الله تعالى في أي آية من آياته بأنه نِعْمَ العابد، ولكن يوجد وصف بـ (نِعْمَ) العبد. كما هو واضح في قضية سليمان: (وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ ۚ نِعْمَ الْعَبْدُ)[1]، وكذلك أيوب: (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ ۗ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ۚ نِّعْمَ الْعَبْدُ)[2]. فـ ( نِعْمَ العبد ) غير ( نِعْمَ العابد ) فتأمل ذلك.
أساسا هناك اشتقاقان: فيشتق من العبادة عابد، ويشتق من العبودية عبد، ولهذا كان محل مدح وثناء في القرآن الكريم من الله عز وجل لأنبيائه، لاحظوا أن الله تعالى عندما يريد أن يتكلم عن صفة من الصفات العالية في سيدنا محمد صلى الله عليه وآله يصفه بعبده: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا)[3]، كذلك: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ)[4] وهكذا، حتى صار عندنا في تراثنا الديني وفي واجبات الصلاة تقديم عبودية النبي حتى على رسالته، مع أنه خير المرسلين وخاتم النبيين إلا أن مرتبة العبودية هي مرتبة عالية حققها رسول الله صلى الله عليه وآله، قال تعالى: (فَأَوْحَىٰ إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ)[5]، كما إننا لنشهد في الصلاة -في التشهد - وهذا عند جميع المسلمين، "وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ"، والتقديم هنا فيه معنى خاص.
فإذن ، لا بد أن لاحظ أن مرتبة العبودية تتقدم على مرتبة العبادة، فالعبودية مربوطة بالاعتقاد، بالقلب، والعبادة مرتبطة بالأفعال وبالجوارح. وهم يتحدثون عن أن ما يرتبط بالعقائد والقلوب والجوانح مقدم على ما يرتبط بالأعضاء والجوارح. فالعبودية ترتبط بقلب الإنسان، فياله من شعور عظيم، أن يشعر هذا الإنسان بأنه عبد لله عز وجل، فيعرف ذلك من خلال تواضعه.
روي أن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى نبيه إبراهيم عليه السلام، فقال: أَتَدْرِي لِمَا اتَّخَذْتُكَ خَلِيلًا؟ - فهذا اللقب عُرِف بـه إبراهيم عليه السلام بأنه خليل الرحمن- حيث جاء في القرآن الكريم (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا)[6] ،قَالَ: لَا، قَالَ: لِأَنِّي اطَّلَعْتُ عَلَى خَلْقِي فَلَمْ أَجِدْ أَحَدًا مِنْهُم أَكْثَرَ تَوَاضُعًا مِنْكَ. بمعنى أنك أنت يا إبراهيم في داخلك ذليل متواضع، عندك شعور مطلق بالعبودية ، لذلك اتخذتك خليلا. ونحن نعتقد أن نبينا المصطفى صلى الله عليه وآله هو الأول في كل الصفات بما فيها هذه الصفة.
النبي صلى الله عليه وآله حقق في ذاته العبودية الكاملة، وانعكست هذه العبودية على نفسه فهو يعلم أنه خير خلق الله وأفضلهم، لكنه في داخله يرى نفسه عبداً رقا لا يملك لنفسه نفعً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشورا، ويفتخر بأنه عبد ولا يوجد أحداً أعبد منه، بمعنى أكثر عبودية، فكان جالساً على الحضيض، - حضيض يعني على التراب مباشرة - وأمامه طبق يأكل منه ومعه جماعة، فمرت عليه امرأة، وقالت: "يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ لَتَأْكُلُ أَكْلَةَ الْعَبْدِ وَتَجْلُسُ جِلْسَةَ الْعَبْدِ" على التراب. فقال لها: "وَيْحُكَ وَأَيُّ عَبْدٍ أَعْبَدُ مِنِّي" بل أنا عبد لله عز وجل وأفتخر بذلك.
فإذا تحقق للإنسان حالة العبودية جاءت العبادة مصداق لذلك، فعندما يقول العابد: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)[7] يعني نعبدك فقط ونستعين بك فقط، ونحن ليس قدرة على أن نعين أنفسنا ولا نطلب الاستعانة من الغير. لا بد أن يكون هذا شعوراً صادقاً داخل الإنسان نفسه بأنه بالفعل لا يملك من أمره شيء.
أما إذا بالعكس، صار لدى الإنسان شعور داخل نفسه أنه مكتف ومستغن بالأموال والأنصار والأعوان، وهو يرى نفسه بأنه شخص مهم ولا حاجة له لأحد، فمثل هذه هالآيات المباركات لن تؤثر فيه تأثير كامل.
فالحج مصداق واضح على تكريس عبودية الإنسان، بأنه لا يملك أي شيء، حتى بدنه لا يملكه، لا يقدر أن يقص شعرة من بدنه، لا يقدر أن يدمي بدنه أو يحكه، أو يزينه، لا يقدر أن ينظر إلى وجهه. فإذا وافق هذا الشعور عند الإنسان داخل نفسه، سيشعر هذا الحاج بالفعل في داخله أنه سيقول "أنا لا أملك من نفسي شيىء ، وأن نفسي وبدني وكل شيء يرتبط بي هو من الله وإلى الله وبالله. بعد هذا سترى أن الحج قد أعطى أثره الكامل.
وأما إذا أعتقد أحدا غير ذلك، بأنه هو المالك هو القادر هو القاهر هو المستغني عن غيره ... إلى آخره، فمثل هذا الحج وتلك الصلاة وذاك الصوم، لا يؤثر تأثير عبادي قوي عليه. وهذا المعنى الذي يشير إليه أمير المؤمنين عليه السلام في تقديم مرتبة العبودية على ما سواها: ( إِلَهِي كَفَى بِي عِزًّا أَنْ أَكُونَ لَكَ عَبْدًا )
النبي المصطفى صلى الله عليه وآله كان قد حقق في نفسه العبودية المطلقة والتامة لله عز وجل، فكان لا يرى لنفسه شيء ولا في إمكانه أن يصنع شيئ، لا أن ينفع نفسه ولا أن يدفع عن نفسه إلا بأمر الله تعالى ، فتحققت في داخله العبودية التامة.
هل العبادة تعني كثرة الصلاة والصيام والحج وغيره؟
تصحيح النبي لمفهوم العبادة، العبادة كما ذكرنا هي دليل على العبودية، هي علامة، هي كاشف، أنت عندما تصلي وتصوم وتحج وتزكي كل ذلك يُفترض أنه كاشف عن عبوديتك لله، الله أمر هكذا، فيجب عليك أن تقول : أنا يجب أن أمتثل للطاعة كما يُريد الله تعالى، أمر بركعتين لصلاة الصبح، أصلي ركعتين لا أصلي ثلاث ولا أصلي واحدة فأنا عبد مأمور لله عز وجل، أمر أن نصوم في شهر رمضان وليس في شهر شعبان ولا في شهر شوال، فأنا أسمع وأمتثل لكلام الله عز وجل، فأنا عبد داخر مطيع ليس لي رأي ولا كلام آخر أمام كلام الله عز وجل، فالعبادات هي عبارة عن كواشف لعبودية الإنسان.
ماذا تعني العبادة ؟
هناك قسم من الناس يتصورون أن فعل شيىء معين هو كل العبادة، فماذا تعني مفردة عبادة ؟ عندما نقول فلان عابد، ما شاء الله عليه، كثير الصلاة ، كثير الصيام، هذا عابد. هذا من العبادة، وليس كل العبادة.
الإمام الحسن العسكري صلوات الله وسلامه عليه، يوضح لنا معنى العبادة بقوله: (لَيْسَتْ الْعِبَادَةُ بِكَثْرَةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، وَإِنَّمَا الْعِبَادَةُ بِكَثْرَةِ التَّفَكُّرِ فِي أَمْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ).
إذا إنسان تفكر في أمر الله عز وجل، ولاحظ عظمة الله وقدرة الله سبحانه وتعالى، وفي نفس الوقت لاحظ هذا الإنسان ضآلته وفقره وعجزه، فهو أيضاً في عبادة ما دام يتفكر في أمر الله عز وجل.
هناك رواية جميلة، ينقلها المحقق الأردبيلي أعلى الله مقامه، وهي موجودة في كتب مدرسة الجمهور، يقول في كتابه زبدة البيان في أحكام القرآن : أن العبادة هي كثرة التفكر ، ولهذا هو ينقل رواية مفصلة أنا أشير إليها إجمالاً، يقول فيها : كان رسول الله صلى الله عليه وآله ذات ليلة في بيته مع زوجته عائشة، فأراد أن يقوم من فراشها واستأذنها في ذلك، باعتبار هذا الوقت – مثلا – لها حق أولوية فيه، فاستأذنها في أن يقوم الليل، -أي يريد التعبد الكامل- فقالت: قربك أحب إلي ولكن عبادتك أحب إليك وهي أقرب إلى ربك. - وهذا فُهم منه أنه لا مانع من ذلك -. فقام رسول الله صلى الله عليه وآله، وأخذ يقلب طرفه في السماء ويقول: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابُِالَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[8] وبعد ذلك بدأ رسول الله صلى الله عليه وآله يبكي، ويقول: ( وَيْلٌ لِمَنْ مَرَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْمُبَارَكَةِ فَلَمْ يَتَفَكَّرَ فِيهَا وَلَمْ يَتَأَمَّلَ فِيهَا) ولم يزل هكذا يصلي ويتفكر ويبكي، إلى أن بلغت دموعه حقويه، إلى أن جاء بلال بن رباح وطرق عليه الباب مؤذناً إياه بالصلاة. - وقت صلاة الفجر - ولا بد أن يأتي النبي صلى الله عليه وآله إلى صلاة الجماعة، فوجد النبي صلى الله عليه وآله يبكي بكاء كثيراً فقال له بلال: يَا رَسُولَ اللهِ أَهَكَذَا تَبْكِي وَقَدْ غَفَر َاللهُ لَكَ مَا تَقَدَمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، قال: أَفَلَا أَكُونُ يَا بِلَال ُعَبْدًا شَكُورًا.
مع الإشارة إلى تفسير الآية عند علماءنا ( لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)[9] أن النبي صلى الله عليه وآله لم يكن لديه ذنب أصلاً لا في السابق ولا في اللاحق. فالنبي لم يكن له ذنب لا صغير ولا كبير بالنسبة لله عز وجل، لكن كان بالنسبة إلى قريش كان مذنباً ، وأنه قد ارتكب شيئاً عظيماً في حقهم، وحق آلهتهم، وحق علاقاتهم الاجتماعية، فلما فتحت مكة وأعطاهم بعض الأشياء غُسلت هذه من أنفسهم .
إذن، الرسول الله صلى الله عليه وآله يعتبر أن التفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار عبادة، ويلزم من يقرأ القرآن الكريم ويقرأ هذه الآية المباركة أن يتفكر ويتأمل فيها. فالحقيقة لو أن الشخص تأمل وتدبر قليلاً لابد أن يحدث ذلك التدبر والتأمل تغييراً داخل نفسه، فمن الأشخاص الذين انقلبوا رأساً على عقب وتأثروا تأثراً كبيراً وإن بقي على كفره هو الوليد بن المغيرة، فعندما أرسله كفار قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ليقنعه في زعمه أن يترك الرسالة وما هو عليه، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وآله فتحدث إليه فأكمل كلامه، قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن أنهيت كلامك، دعني أن أتحدث. قال: قل، فتلا عليه هذه الآيات المباركات (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[10]، فشدت الوليد بن المغيرة هذه الآيات، فظل يتقدم نحو النبي صلى الله عليه وآله كلما استمر في القراءة حتى التصقت ركبتاه بركبتي رسول الله صلى الله عليه وآله من انشداهه بهذا الحديث، فقام وهو ذاهل، فلما رجع إلى قومه ، قال لهم: والله لقد سمعت منه كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من الجن ، وإن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وإنه ليَعلو ولا يُعلى عليه.
هذا فقط من خلال هذه الآيات المباركات التي أمر النبي صلى الله عليه وآله بالتفكر فيها. فالشاهد أن النبي صلى الله عليه وآله لا يعتبر العبادة فقط هي الصلاة، وإنما هي تفكر في البداية، تفكر في أمر الله في عظمة الله في خلق الله في المصير الذي ينتهي إليه هذا الإنسان. فبعد ذلك يتأثر هذا الإنسان بذلك التفكير فيقوده ذلك إلى القول (ربنا ما خلقت هذا باطلا)[11].
تصحيح النبي صلى الله عليى وآله لمفهوم العبادة
النبي صلى الله عليه وآله أراد أن يصحح مفهوم العبادة، وأن العبادة ليست مجرد الصلاة والصيام، هما جزء من العبادة ولكن هناك أيضا أجزاء أخرى، إن لم تَفُق هذه أهمية، فهي لا تقل عنها، يقول الإمام ( وَكُلُّهُمُ نُورٌ وَاحِدٌ وَيَنْبَعُونَ مِنْ مَنْبَعٍ وَاحِدٍ"، يقول: لَيْسَتِ الْعِبَادَةُ - أي كمال العبادة - بِكَثْرَةِ الصَّلَاة ِوَالصِّيَامِ إِنَّمَا هِيَ بِكَثْرَةِ التَّفَكُّرِ فِي أَمْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ). هذا مع أن النبي صلى الله عليه وآله كان أيضا مكثراً من الأمور العبادية، بمعنى كان مكثراً من الصلاة ومن الصوم، كما كان صلى الله عليه وآله مكثراً من قيام الليل وقد أوردنا على هذا مثالاً، إلى الحد الذي تؤثر صلاته على منامه ومشاركته لزوجته، إلى أن جاءت الآية المباركة (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ)[12]، فكان في البداية يقوم أكثر الليل ثم صار بعد ذلك إلى النصف وأقل من النصف، وكان يقوم رسول الله صلى الله عليه وآله أن أكثر من ذلك حتى قيل أنه تفطرت قدما رسول الله صلى الله عليه وآله من كثرة القيام بالليل حتى أنزلت عليه الآيات المباركات، مثل (طَه َ مَا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى)[13] وما شابهها.
فالنبي صلى الله عليه وآله في نفس الوقت الذي كان يقول أن العبادة ليست لها صورة واحدة وهي الصلاة أو الصيام فقط، وإنما هي لها صور متعددة، منها صورة التفكر في أمر الله تعالى ، منها صورة الاعتكاف والتي هي سنة من السنن التي بحمد الله بدأت تنتشر في مجتمعاتنا في هذه الفترات، وهي سيرة الصالحين سابقاً، وكان النبي صلى الله عليه وآله يعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان فيما نقل من خبره، والاعتكاف كما هو واضح لديكم أن يلبث الإنسان في مسجد من المساجد الأربعة: المسجد الحرام، المسجد النبوي، مسجد الكوفة، مسجد البصرة، وهذه يجمعها أنه صلى فيها نبي أو وصي نبي، وأيضا يجوز الاعتكاف في هذا الزمان في المسجد الجامع في البلد، والمسجد الجامع ليس المقصود به أنه مخصص لفئة معينة أو جماعة خاصة أو لجهة خاصة، وإنما هو للجميع دون استثناء، فهو عام لكل أهل البلد يستطيعون أن يمارسوا فيه عبادتهم، فباستطاعة الإنسان أن يبقى في مثل هذا المسجد لثلاثة أيام يكون صائما نهاره، ومنشغلاً بالعبادة في ليله ويترك متعلقات الدنيا بما فيها الممارسات الزوجية، فالإنسان الصائم في النهار يحرم عليه المعاشرة الجنسية، بينما المعتكف حتى في الليل يحرم عليه، بل ما دون المعاشرة الكاملة على الاحتياط في سائر الاستمتاعات الجنسية أيضا، فلا يجوز له هذا، وهو يشبه تروكات الإحرام في الحج.
أيضا فيه ميزة أخرى وهي أنه لا يصح أن يقوم بأعمال البيع والشراء وسائر المعاملات التجارية المختلفة ما دام معتكفاً سواء في الليل أو النهار، وهذا ليس موجود لا في الصيام ولا في تروك الإحرام، هذا خاص بالاعتكاف، فالاعتكاف أن لا ينشغل بأمر بيع أو شراء أو سائر المعاملات الدنيوية التي تدخل في ضمن هذا الإطار وأن يكون طول وقته في المسجد إلا أن يخرج لحاجة ضرورية ذكرها الفقهاء في مواضعها، أن لا يتزين، لا يتعطر، لا يشم الرياحين، وهذا أيضا تشبه تروك الإحرام سواء في النهار أو الليل، مع أن الصيام دون اعتكاف يستحب فيه التعطر والتطيب، لكن إذا صار الإنسان معتكفا لا يتعطر ولا يتطيب، وكأن هذا الإنسان ينتقل من حالة بهرجة الدنيا واهتماماتها ولذائذها في فترة ثلاثة أيام إلى مسجد يعتكف فيه ويتفكر في أمر الله عز وجل ويتعبد إليه، وكل ذلك منطلق من أنه شخص عَبدٌ لله عز وجل.
فالنبي صلى الله عليه وآله كان يعتكف وكان يصوم، وربما أوصل بالصيام شهر شعبان بشهر رمضان، وينقل عن النبي صلى الله عليه وآله أنه كان أيضا يصوم صوم الدهر، وهو ثلاثة أيام من كل شهر، في أوله ووسطه وآخره، كما ورد في روايات أئمة الهدى عليهم السلام أن النبي صلى الله عليه وآله كان يقوم بهذا العمل، ومن قام به فكأنما صام الدهر كله.
وهذا في معادلة بسيطة وواضحة، ثلاث أيام من كل شهر، فبتالي أنت تصوم وكل حسنة بعشر أمثالها، يعني ثلاثون يوم، ثلاثون يوماً تعني طوال السنة أنت في حالة صوم، بمعنى أنك طول الدهر وطول حياتك أنت صائم إن مارست هذا الأمر.
فالنبي صلى الله عليه وآله مع أنه كان يمارس مثل هذه الأعمال العبادية ويكثر منها، إلا أنه في نفس الوقت يوضح لنا أن القضية ليست بالكثرة بقدر ما هي مرتبطة بالصورة الحقيقية للعبادة وهي التفكر في أمر الله.
النبي صلى الله عليه وآله القدوة الصالحة في التوازن العبادي
قسم من الناس إذا تسمع عنه مثلا أنه يصوم كثيراً أو يصلي كثيراً أو يتعبد كثيراً، معناه أن هذا الإنسان لا شأن له بأسرته ولا بقضيته الاجتماعية ولا بقضيته السياسية ولا بنشاطه ولا بتجارته ومعاشه ولا ولا...الخ
النبي صلى الله عليه وآله مع كل هذا العمل العبادي كان متوازناً، يضع كل شيئ في موضعه. جاء جماعة إلى منزل رسول الله صلى الله عليه وآله ، فسألوا زوجاته عن عبادته، فذكرن لهم: أنه مثلا يقوم نصف الليل أو دون ذلك، بمقدار من الركعات، فاستقلوا الأمر، كأن النبي صلى الله عليه وآله ليس عابد بالدرجة الكاملة مثلنا.
أحياناً الإنسان عندما يشعر في داخله أنه شيئء عظيم من خلال عبادته وأنا لديه رصيد كبير الصلاة والصيام والزكاة ، وأنه صاحب منة على الله ، فَقَد حقيقة العبودية. لذلك يجب على الإنسان أن يعتقد في داخله أن كل عمل يقوم به، إنما هو بتوفيق الله تعالى وبفضله ومنّه، ( أَصْبَحْتُ وَأَمْسَيْتُ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي خَيْرًا وَلَا أَدْفَعُ عَنْهَا ضرًّا )، فهذا لا بد أن يكون شعار الإنسان وأنه ليس بشيئ إلا بالله عز وجل، وكل خير هو من الله عز وجل وكل شر مدفوع بالله عز وجل.
فهؤلاء كأنما استقلوا عبادة النبي صلى الله عليه وآله ، وفي هذه الأثناء جاء النبي صلى الله عليه وآله ، فذكروا له شيئا من عبادتهم، فقال أحدهم: أما أنا يا رسول الله، فإني أصوم النهار طيلة الشهر، وقال آخر: أما أنا يا رسول الله فقائم طوال الليل. أتعبد وأصلي وأركع وأسبح وغير ذلك. وقال ثالث: أما أنا فقد اعتزلت النساء. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ( إنِّي لَأَعْبَدُ مِنْكُم ) - أي أنا أكثر عبودية وأكثر عبادة منكم- ( وَلَكِنِّي أَصُومُ وَأَفْطِرُ وَأَقُومُ وَأَنَام ُوَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيسَ مِنِّي).
الشيطان أحياناً يزيّن لك عبادة خاصة
المشكلة أن في قسم من الناس إذا صار لديهم مثل هذا التطرف، مثلاً امرأة تريد الاعتكاف وأن تكون متعبدة، فتترك زوجها وتترك أولادها، وتنبهها بحق الزوج عليها وأنه هو الواجب وذاك المستحب، وأنه لا يجوز للمرأة أن تذهب للاعتكاف إلا بعد إذن زوجها. وإذا تعارض المستحب مع الواجب، لا شك أن المستحب هو الذي يترك، فنحن ننصح الأزواج بأن يسمحوا قدر ما يستطيعون لزوجاتهم، والآباء لبناتهم، أن يذهبن لهذه البرامج الروحية والعبادية، لأنها تربي هذا الإنسان، فينعكس هذا على البنت أو على الزوجة دنيوياً وأخروياً في صفاءها، في حسنها، في إشراقة روحها، فنحن ننصح بهذا. ولكن في نفس الوقت يجب أن لا تكون الأمور العبادية وعموم الأعمال الدينية طريقاً للفرار من المسؤوليات المنزلية والحقوق والواجبات الزوجية، وهذا ينطبق على الرجال أيضا.
دخل أمير المؤمنين على العلاء بن زياد الحارثي وهو من أصحابه يعوده فلما رأى سعة داره، قال: ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا اما أنت إليها في الآخرة كنت أحوج، وبلى إن شئت بلغت بها الآخرة تقري فيها الضيف وتصل فيها الرحم وتطلع منها الحقوق مطالعها فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة فقال له العلاء: يا أمير المؤمنين أشكو إليك أخي عاصم بن زياد قال: وما له قال: لبس العباء وتخلى من الدنيا قال: على به فلما جاء قال يا عدى نفسه لقد استهام بك الخبيث اما رحمت أهلك وولدك أترى الله أحل لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها أنت أهون على الله من ذلك قال: يا أمير المؤمنين هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك قال: ويحك فقال إني لست كانت إن الله تعالى فرض على أئمة الحق أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كي لا يتبيغ بالفقير فقره.[14]
فصار عاصم أخو العلاء بن زياد عنده توجه روحي وترك كل شيء وانكفأ، وهذا ما نلحظه من بعض الناس عندما يتحول إلى هكذا توجه لا تلبث حياته إلى أن تتبدل إلى اتجاه آخر، بمعنى إذا كان متطرفاً في الأمور الروحية، فتوقعه بعد ستة أشهر أو أكثر أو أقل يتحول تحول سيئ في القضية الدينية، وهذا ما أثبتته التجربة.
فجاء أخوه العلاء إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، شاكياً حال أخيه الذي ترك أهله وعياله وزوجته وبيته وذهب، قائلاً : أريد أن أعتكف وأصلي وأصوم والله يتكفل برزق هؤلاء. قال له: وماله - من يقوم على أهله وينفق عليهم- قال له: أنا، أحمل لهم الطعام والماء. قال له: أنت خير منه عند الله.
أنت الذي تكون صلاتك صلاة عادية، أفضل عند الله تعالى من ذلك الذي عنده اعتكاف وصلاة وتبتل وتهجد وهو لا يهتم بأمور أهله. فطلبه أمير المؤمنين فجاؤوا به فقال له: لقد استهام بك الخبيث- يعني خدعك الشيطان بهذا الفعل - اما رحمت أهلك وولدك أترى الله أحل لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها أنت أهون على الله من ذلك ، قال: يا أمير المؤمنين هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك قال: ويحك فقال إني لست كانت إن الله تعالى فرض على أئمة الحق أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كي لا يتبيغ بالفقير فقره.[15]
أنا ينبغي عليّ أن أواسي نفسي بأضعف الناس باعتباري قدوتهم وإمامهم، وليس هذا مطلوب منك، أنت عليك مسؤولية تجاه أهلك وتجاه عشيرتك وتجاه أولادك وبناتك لا بد لك من تحملها.
ثلاث أحبها الرسول: الطيب... النساء... الصلاة
رسول الله صلى الله عليه وآله في الوقت الذي كان بهذه الصورة من العبادة، أيضا يقول: ( حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُم الطِّيبُ وَالنِّسَاءُ وُجُعِلَتْ قُرَّةُ عَينِي فِي الصَّلَاةِ ). فليس يعني أني أنا رسول الله وأعبد الناس وعبد الله يجب علي ترك كل الأمور المادية وما أحله الله وأذهب للرهبنة. إنما هذا في مكانه، الجهاد في مكانه، الإرشاد في مكانه، التعليم في مكانه، النساء في مكانها، الطيب في مكانه، الجمال والتزين في مكانه، بالتالي كل جهة من الجهات كان يعطيها رسول الله صلى الله عليه وآله حقها بالكامل ، وهذا هو الفن وهذا هو الإعجاز. أما أن يقوم شخص ويتعلق بالزينة فقط تاركاً العبادة، فليس صحيحاً. أو عكس ذلك، بأن يتوجه للعبادة تاركاً أمر بيته وأهله وعياله، فهذا غير صحيح أيضاً. التوازن في كل شيء هو الذي يصنع من الإنسان الشخصية الرسالية العابدة التي أرادها رسول صلى الله غليه وآله في كل مكان يعطيه حقه تماما.
[1] ) سورة ص آية 30
[2] ) سورة ص آية 44
[3] ) سورة الإسراء آية 1
[4] ) سورة الفرقان آية 1
[5] ) سورة النجم آية 10
[6] ) سورة النساء آية 125
[7] ) سورة الفاتحة آية 5
[8] ) سورة آل عمران آية 190-191
[9] ) سورة الفتح آية 1
[10] ) سبق ذكر المصدر
[11] ) سورة ال عمران آية 191
[12] ) سورة المزمل آية 1
[13] ) سورة طه آية 1-2
[14] ) شرح نهج البلاغة ج11 ص32
[15] ) شرح نهج البلاغة ج11 ص32 |