الأمن والعدل والحرية في منهج الإمام علي
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 19/9/1432 هـ
تعريف:

الأمن والعدل والحرية في منهج الإمام علي عليه السلام

تحرير الفاضلة أم سيد رضا

قال سيدنا ومولانا أمير المؤمنين عليه السلام: ( والله لأن أبيت على حسك السعدان مسّهداً أو أجر في الأغلال مصّفداً أحب إلي من أن ألقى الله ظالماً لبعض العباد أو غاصباً لشيء من الحطام، والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت، وأنّا أفعل ذلك لنفس يسرع إلى البلا قفولها ويطول في الثرى حلولها )

لا تقاس الفترات التاريخية في عمر الإنسان بطولها من ناحية الزمان، وإنما قيمتها بمقدار ما يقدم فيها للبشرية والإنسانية، ولذلك قد تكون ليلة واحدة من حيث عطائها ومردوداتها أفضل من ألف شهر من الزمان، بل أفضل من ألف قرن من الزمان، فالفترة التي حكم فيها أمير المؤمنين عليه السلام لا تتجاوز خمس سنوات وأشهر وهي قريبة من الفترة التي حكم فيها وقاد فيها سيد الكائنات محمد صلى الله عليه وآله وسلم، تلك الفترة التي بلغت عشر سنوات، لكن هاتين الفترتين القصيرتين في عمر الزمان خلّفتا للإنسانية تراثاً عظيماً وكبيراً في كيفية إدارة الإنسان نفسه وكيفية تحكيم القيم في حياته وكيفية بناء دنياه بسعادة في طريقه إلى الآخرة والفلاح، هي خمس سنوات وأشهر في حكم أمير المؤمنين ولكن هلمّ وانظر إلى التجارب التي خلّفها هذا الإمام إلى حد أن العالم اليوم يحاول ان يدرس هذه التجربة ويتطلع إلى معانيها ولقد اعتمدت الامم المتحدة قبل مدة قريبة من الزمان بعض هذه التجربة وهو نص الإمام علي عليه السلام وعهده لمالك الأشتر بإعتباره ميثاقاً ونصّاً يفي بكل ما يتطلبه الإنسان من حقوق سياسية واجتماعية ودينية، ولا يزالون على الباب، فلو أتيح لهم ولبلاد المسلمين وحكامهم أن يدرسوا هذه التجربة ويتعرفوا عليها لكانت بلاد المسلمين بل بلاد الإنسان تصطبغ بصبغة أخرى وتتلون بلون آخر.

لو تبعنا بعض المفردات التي ارادها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتحدث عنها القرآن الكريم وطبقها أمير المؤمنين عليه السلام وهو التلميذ الأمين لرسول الله وهو الشخص الذي استوعب كل ما أراده النبي صلى الله عليه وآله فطبقه في حياته ومارسه في حكمه، نتكلم عن ثلاثة مبادى:

المبدأ الأول: الأمن الإجتماعي

المبدأ الثاني: العدل والإنصاف

المبدأ الثالث: مبدأ الحرية

الأمن الإجتماعي وهو غاية من غايات الرسالات السماوية، فنرى أن الله سبحانه وتعالى يقول للناس أن عليهم مسؤولية أن يعبدوه لأنه وفر لهم الطعام وهيء لهم الأمن من الأشياء المخيفة كما قال في كتابه الكريم: ((فليعبدوا رب هذا البيت * الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف))، يتقدم الأمن حتى على الطعام فلا يستطيع الإنسان المملوء خوفاً ورعباً أن يتهنأ بطعام أو شراب او صحة أو مال أو بيت، فحصول الأمن والأمان في المجتمع هو تلك الغاية التي يتحدث عنها القرآن الكريم عندما يضرب مثلاً أعلى للحضارة التي يريد أن ينشأها فيقول: ((ضرب الله مثلاً قريةً كانت آمنةً مطمئنةً يأتيها رزقها رغداً من كل مكان))، وفي هذا ترابط لا يخفى بين الأمان والأطمئنان والرفاه الإقتصادي ومجيء الخيرات من كل مكان، فإذا حصل الامان والأمن في بلد أو مجتمع فإن هذه الأمور تتحقق، فهذا هو المثل الذي يحرك إليه القرآن الكريم.

يعد المسلمين في زمان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيقول لهم: ((لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين مطمئنين محلقين رؤوسكم ومقصرين))، الأمان والأمن في المجتمع سواء أمن الإنسان الشخصي أو أمنه الإجتماعي كان محط التشريعات السماوية فشرعت لأجل ذلك الحدود والديات والقصاص والتعزيرات، فلتأمين حياة الناس وليسير الإنسان في المجتمع وهو آمن على حياته من أن لا يعتدي عليها أحد فقد شّرع القصاص، ومن أجل أن يكون آمناً على ماله فقد شرّع حد السرقة، وحتى يكون آمناً على عرضه فقد شرّع حد الزنا، وكذلك سائر الحدود والتعزيرات هي في هذا الإتجاه، فصناعة الأمن للإنسان على المستوى الشخصي وعلى المستوى الإجتماعي هو أول الأغراض وأول المبادئ التي تتعقبها الحكومة العلوية والحكومة المحمدية.

المبدأ الثاني هو العدل والإنصاف، فالعدل هو اسم الله وصفته ونحن نقرأ في الدعاء: ( وأنك الحكم العدل الذي لا يجور )، فمن أسماء الله عز وجل وصفاته الحسنى وفعله وأمره هو العدل كما قال في كتابه الكريم: (( إن الله يأمر بالعدل والإحسان ))، ولا سيما في مدرسة الإمامية فإن مبدأ العدل يحتل موقعاً متميزاً حيث أنه يقرن بالتوحيد كأصل من أصول المذهب، أي إذا كانت أصول الدين ثلاثة وهي التوحيد والنبوة والمعاد فإن أصول المذهب عندنا أن العدل مقروناً إلى جانب التوحيد والإمامة مقرونة إلى جانب النبوة، فنجد أن العدل شيء عظيم ويدخل في باب العقائد ويتفرع عليه أبواب كثيرة في قضية الإختيار والجبر، القضاء والقدر، العقوبات في يوم القيامة، فجملة من المسائل الإعتقادية ترتبط بأمر العدل ونسبته لله، ويرتبط به جملة عظيمة أيضاً من الأحكام الفقهية في الفقه فأي حكم كان فيه ظلم لا يمكن أن يكون مشروعاً لأن الله عز وجل يأمر بالعدل ولا يمكن أن يأمر بالظلم أبداً لأن الظلم قبيح لا يمكن أن يأمر به الله عز وجل، كذلك على المستوى السياسي فإن الحاكم الذي لا يحكم بالعدل هو منعزل إلهياً وحكمه غير نافذ، والقاضي الذي لا يقضي بالعدل فهذا قاضٍ في النار وحكمه غير نافذ وهو منعزل أيضاً لأنه أُخذ عليه شرط أن يحكم بالعدل فإذا زال هذا الشرط زال المشروط معه.

إذاً فإن العدل والإنصاف من الأمور التي جُعلت مبدأً من المبادئ المهمة ضمن الرسالة الدينية إلى درجة أن العدل في الحاكم الكافر أفضل من الظلم في الحاكم المسلم وقد سُئِل علمائنا ومنهم علي بن طاووس رضوان الله تعالى عليه وهو أستاذ العلامة الحلي في قضية هولاكو عندما جاء إلى بغداد سنة 656 للهجرة وجمع العلماء وسألهم فيما إذا كان الحاكم المسلم الجائر أفضل أم أن الحاكم الكافر العادل أفضل؟ فلم يتوقف السيد ابن طاووس عن الجواب بأن الحاكم الكافر العادل أفضل من الحاكم الجائر المسلم، فالناس في الحكومة لا يحتاجون إلى صلاة الليل من الجائر بل يحتاجون إلى عدله وإنصافه والحكم لا يبقى مع الظلم وإن كان الحاكم مسلماً، ويبقى مع الكفر إن كان الحاكم عادلاً وهذه قاعدة متسالم عليها، فالعدل والإنصاف مطلوب في كل حاكم مسلم كان أو غير مسلم.

المبدأ الثالث هو الحرية، نلاحظ أن أعظم شيء هو حق الله على عباده فلا يوجد حق أعظم من ذلك ولا يوجد واجب أكبر من واجب العباد تجاه ربهم، ومع ذلك لم يرد الله عز وجل من الناس عبادة بدون حرية ولم يرد منهم ديناً بالإكراه ولم يرد منهم صلاة بالجر وقال كشعار عام: ((لا إكراه في الدين))، بناء على أن أحد تفاسيرها هو لا إكراه على الدين وأن الله لا يقبل بالإكراه على الدين، فأساساً لا يمكن أن يكون هناك دين بالإكراه، فإذا كان الله لا يقبل الإكراه في عبادته وهو صاحب الحق الأعظم والواجب الأكبر فكيف يقبل إكراه الناس بعضهم لبعض في القضايا الإجتماعية أو السياسية أو الدينية، فالله سبحانه وتعالى خلق هؤلاء الناس أحراراً كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام: ( لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً )، فالإنسان وُجِد في هذا الوجود ووجدت معه حريته كجزء من ذاته ومقوم له ولا يستطيع احد أن يسلبه هذا الحق الإلهي، فكما أنه لا يمكن لأحد أن يسلب روحه فأيضاً لا يستطيع أن يسلبه خاصيته التي خلقه الله بها.

هذه هي المبادئ الثلاثة، هلم لنرى كيف كانت في حكم أمير المؤمنين عليه السلام خصوصاً أن الأوضاع في بلاد المسلمين تتحرك ضمن ما يسمى بالربيع العربي أو الصحوة العربية أو غير ذلك، ولنرى الفرق في يومنا هذا كيف أن الناس على أثر المواقف السياسية يتواجهون بالقمع والسجن والقتل والقصف بالدبابات والطائرات وبكل ما اوتي بعض الحاكمين من قوة، فلنتعلم الفرق كيف كان في عهد أمير المؤمنين حتى يتعلم من يريد أن يتعلم طريق الهداية.

أمير المؤمنين عليه السلام الذي قال: ( لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً)، لم يقسر أحداً على موقف سياسي أو ديني ولم يقيد حرية أحد في التنقل والسفر ولم يحبس أحد حبساً إحترازياً ولم يسجن أحد بإعتبار أنه كان صاحب رأي مخالف له، فأول ما بدأ في الخلافة كانت بيعته كما قال في رسالة إلى معاوية: ( وبلغ من فرح الناس ببيعتي واستبشارهم بها أن هشّ إليها الصغير وهدج  إليها الكبير وخفّت إليها النساء )، حتى لقد وُطئ الحسنان وشق عطفاه مجتمعين حوله يقولون البيعة البيعة، فقد كان بالمقابل قسم من الناس لم يقبلوا ببيعة أمير المؤمنين ووقفوا في وجهه وعارضوه معارضة سياسية كعبد الله بن عمر الذي رفض بيعة الإمام وقال لأمير المؤمنين: يا علي اتق الله ولا تنزون على أمر الأمة بغير مشورة منها، فأمير المؤمنين عليه السلام اعتبر هذا الشخص مخالفاً لحكمه السياسي ومعارضاً معه ولكنه لم يسجنه بعكس الحال في يومنا هذا، فلو جاء شخصاً معارضاً لحاكم من الحكام في أول يوم من جمهوريته وسلطنته فماذا سيصنعون به؟.

سعد بن أبي وقاص أيضاً كان مخالفاً لأمير المؤمنين وقال له إن أعطيتني سيفاً فيه عينان تقول لهذا كافر اقتله وذاك مسلم لا تقتله حينها سأبايعك، لكن الإمام عليه السلام لم يصنع به شيء، فتندم فيما بعد على ذلك ووقف في وجه معاوية عندما قام يشتم امير المؤمنين عليه السلام، وغيرهم من المعارضين الذين كانوا مخالفين لبيعة أمير المؤمنين عليه السلام، بل الأكثر من ذلك أنه عندما خرجت جماعة للتآمر عليه كالزبير وطلحة الذين جاءا يستأذنان الإمام علي في الخروج للعمرة كما زعما ولكن الإمام علي عليه السلام يعلم ما يخفيان وقال لهما بأنهما يريدان البصرة والغدر به ومع ذلك سمح لهما بالذهاب، ولم يسجن هؤلاء ولو صنع ذلك لكن حاله كحال غيره الذي تمتد فترة حكمه أربعين وخمسين عاماً ولا يخلف إلا المثل السيء، لكن علي عليه السلام استطاع في خمس سنوات أن يخلف ضياء إلى البشرية في مستقبل زمانها إلى يوم القيامة.

أكثر من ذلك أيضاً عندما حدثت مظاهرة جماعية ضد أمير المؤمنين في مسجده في يوم الجمعة وهو يخطب، فقد توافق عدد من الخوارج وقام أحدهم ورفع يده وقال: يا علي لا حكم إلا لله ثم قام شخص آخر وقال: يا علي لا حكم إلا لله وقام جماعة أخرى أيضاً وقالوا نفس الكلام، ومعنى ذلك عند الخوارج أنه يحّكم في أمر الله وبالتالي أصبح كافراً، فأشار إليهم أمير المؤمنين عليه السلام بأن يسكتوا وقال لهم: (بلى لا حكم إلا لله كلمة حق يراد بها باطل، حكم الله أنتظر فيكم، ألا إن لكم علينا ثلاث امور: ألاّ نمنعكم مساجد الله وألا نحرمكم من فيئكم ما دامت يدكم معنا وألا نقاتلكم ما لم تقاتلونا)، وبالفعل هكذا صنع أمير المؤمنين، فأي مستوى إنساني وأي قمة سامية يشير إليها أمير المؤمنين عليه السلام.

أبو العيزار الطائي وهو من جماعة الخوارج كان يستعرض الناس بعد النهروان ويقول هل ترى أن علياً آثم أو كافر؟ فخاف منه جماعة من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام لأنه رجل شرس وأمسكوا به وذهبوا لأمير المؤمنين وقال لهم: فما؟، قالوا له: نرى أن تقتله، فقال أمير المؤمنين: أقتل رجلاً مسلماً من غير جناية؟، قالوا له: إذاً اسجنه، قال عليه السلام: كيف أسجنه ولم يرتكب جناية، قالوا: فماذا نصنع به، قال لهم أمير المؤمنين: خلّوا سبيل الرجل.

هذا أمير المؤمنين سلام الله عليه الذي يوفر لمعرضه حرية الكلام وحرية السفر ولا يسمح بإعتقاله، ولننظر إلى ما نجده الآن من صور يندى لها الجبين خجلاً وندماً، فماذا نقول عن حاكم يملك المليارات بينما أبناء شعبه ينامون في المقابر لعدم وجود مكان لهم، ولننظر إلى أمير المؤمنين عليه السلام عندما جاء له جماعة ليتوسطوا للإمام الحسن والإمام الحسين وجعفر بحكم أنهم أصبحوا أبناء الخليفة وليعطيهم أموالاً يحسن وضعهم، فالتفت أمير المؤمنين للرجل وقال له: أعد ما قلت، فأعاد الرجل الكلام، فقال له عليه السلام: أهما قالا لك هذا؟، قال الرجل: لا والله، فقال عليه السلام: والله لو قالا لك لما كان لهما عندي هوادة ولا ظفرة مني بإرادة وأما أنت فأعزب عن هذا، فكيف يعطي الإمام من بيت المال المسلمين شيئاً في غير استحقاقه.

ولذلك عندما جاء عمرو بن العاص وأراد أن يحرك معاوية في قضية الطلب بدم عثمان وبدء الحرب أرسل له رسالة وقال فيها: (يا ابن أبي سفيان ما أنت صانع إذا قشرك ابن أبي طالب من كل ما تملك كما تقشر العصا من لحاها)، فشد معاوية من عزمه على الحركة.

 هذه هي عدالة أمير المؤمنين عليه السلام حتى يبقى هذا النموذج نموذج رائد للأبد، ومع الأسف فإن هذه التجربة لم يقدّر لها أن تستمر سوى خمس سنوات وأشهر قليلة وبعدها انطفئ ذلك المشعل الوضاء من أمير المؤمنين سلام الله عليه وخسرت الامة من التجارب والأفكار والمبادئ والقدوة الحسنة مما لا يعوض، وجاء بعد ذلك السخام والسواد والغثاء في الحالة الأموية والعباسية، فكان من المفترض أن تحتضن الأمة هذه التجربة بين أهداب عيونها وتطبقها بكل ما تستطيع حتى تفلح في دنياها وتربح في أخراها، ولكن مع الأسف الشديد فها هو أمير المؤمنين عليه السلام يفد بخطواته إلى ربه بعد أن أخبره رسول الله صلى الله عليه وآله في هذه الليلة المباركة سيكون ارتحاله، حقيقةً مع الأسف فإن ذلك الوجود الرباني الذي رزقت الأمة إياه يكون طريحاً على الفراش طُبِر بذلك السيف المسموم.




مرات العرض: 3451
المدة: 00:58:00
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2584) حجم الملف: 19.9 MB
تشغيل:

علي عليه السلام في الكتاب والسنة
ثلاث بطاقات في ميلاد الامام الحسن ع