13 العزلة علامة العقل
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 23/8/1443 هـ
تعريف:

13/ العزلة علامة العقل

كتابة الفاضلة أم سيد رضا

نعود إلى استكمال ما جاء في وصية الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام لهشام بن الحكم البغدادي الكوفي: (يا هشام الصبر على الوحدة علامة قوة العقل، فمن عقل عن الله اعتزل أهل الدنيا والراغبين فيها ورغب فيما عند الله عز وجل وكان الله أنسه في الوحشة وصاحبه في الوحدة وغناه في العيلة ومعزه من غير عشيرة).

موضوع الإعتزال والوحدة في مقابل الحضور الاجتماعي المكثف من المسائل القديمة التي كانت مطروحة في كتب الأخلاق وفي تهذيب النفس وما شابه ذلك، هناك كلام يقوله علماء الأخلاق بأن الوحدة والعزلة خير من الاجتماع، ولهم في ذلك مبررات وللطرف الثاني مبررات أيضاً، ونحن نريد أن ننتهي إلى لب الموضوع فنقول أن الروايات الواردة في تحبيب العزلة مرتبطة بأزمنة وحالات وأشخاص.

مرتبطة بأزمنة: بمعنى أنه إذا كان التوجه الغالب في الزمان الذي يعيش فيه الإنسان هو توجه عبثي وانحلالي وتوجه خاطئ، فليس من المناسب أن يذهب الإنسان وراء هذا الاجتماع، فمثلاً لو أن بلداً معيناً تكون الإجتماعات فيه في المقاهي التي تحتوي على المحرمات كالموسيقى الصاخبة والنساء الخليعات فهذا لا يكون محبباً بل تكون العزلة هنا من الأفضل والأحسن.

مرتبطة بأشخاص: أي أن تكون هناك فئة من الفئات أو طبقة من الطبقات في المجتمع، مثلاً لو كنت موظفاً في شركة وكنت إنساناً ملتزماً وأعلم أن الإحتفالات والإجتماعات في هذه الشركة تحتوي على الشراب المحرم أو مصافحة النساء وما شابه ذلك، فهذه الأمور قد لا تكون مرتبطة بزمان وإنما تكون مرتبطة بطبقة معينة، كالطبقات الجديدة الآن في السناب شات والتي تكون غير هادفة كالتي تسمي نفسها بالفاشنيستا وهي نسبة إلى الملابس تقوم فيها هذه المرأة بعرض مختلف الملابس والمجوهرات، وهذا فراغ في هذه الحياة مما يجعلها تعبر وجودها في المجتمع مرتبط بما تملك من السيارات وبما أهدي إليها من عقود الذهب والملابس والإكسسوارات وما شابه ذلك، فهل هذه كل حياة الإنسان؟ وهل خلق الله الإنسان ليستعرض فقط ما يملك من الملابس وغيرها؟، نجد أن قسماً من الناس تكون هذه الأمور هي كل حياتهم ووجودهم، لذلك فإن الإختلاط بمثل هذا المجتمع والذهاب وراء توجهاته هو مذموم وتكون العزلة النفسية والفكرية والإجتماعية في مثل هذه الحالات مطلوبة، لأن الله خلق الإنسان من أجل غاية وهدف وهو ما جاء قوله تعالى: ((وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)) فيجب على الإنسان أن يسعى وراء تحقيق هذا الهدف، بينما هذه التوجهات تضره وتعيق مسيرته في العبادة وإلى الجنة، وعليه أن يبحث عن إجتماعات تنفعه كصلاة الجماعة، مجلس قراءة، رحلات الزيارة، والذهاب إلى العمرة مع مجموعة، فهذه أمور مطلوبة لأن من خلال هذا الأجتماع لن يلغي توجهه إلى الله ولن يقلل اتجاهه إلى سبيل الله عز وجل.

إذاً لب الموضوع في ما جاء من هذه الروايات هو أنه إذا كان الاجتماع مع جماعة يساعدك في الوصول إلى هدفك الأساس وهو عبادة الله والإستقامة في الحياة والإيمان فهذا اجتماع مطلوب وحتى لو تنفق المال في سبيله لأنه يخدم تكاملك الأخلاقي ويخدم وصولك إلى الغرض الذي أنت مخلوق من أجله، وأما إذا كان هذا الاجتماع يزيد من عبثيتك في الحياة ويذَكِّرك دائماً بالدنيا ويحليها في لسانك ويجليها أمام عينيك فهذا اجتماع مذموم لأنه لن يزيدك علماً ولا إيماناً ولا أخلاقاً وتكون الوحدة في هذا الموضع من علامة قوة العقل كما يقول الإمام عليه السلام، فإذا كنت مخيراً بين الذهاب لمجلس فيه الغيبة والمعصية ولو لم تعصي وبين أن تجلس في منزل وتنشغل بأمرك فمن الأفضل أن تختار الخيار الثاني، لأنه ينبغي على الإنسان أن ينشغل بما هو مهم بالنسبة له فيكون أكثر حكمة في حياته ويعتني بأسرته ويكون عابد حقيقي لله عز وجل.

يقول الإمام عليه السلام: (فمن عقل عن الله عز وجل اعتزل أهل الدنيا والراغبين فيها ورغب فيما عند الله عز وجل) كلمة عقل عن الله هنا تأتي بمعنيين، إما عرف الله حق المعرفة أو أنه أصبحت له قدرة عقلية ناشئة من تعاليم الله عز وجل، وقد نلاحظ أحياناً في بعض الجرائد والمجلات قسماً للجرائم أعاذنا الله وإياكم، ومن هذه الجرائم القتل، السرقة، الإنتهاكات الجنسية وغيرها، ولو بحثنا عن دوافعها فإننا نجد أن آخرها ينتهي إلى البطن وما تحت البطن أي شهوة البطن وشهوة الفرج، فهذا الإنسان الذي يرتكب هذه الجرائم لا يعقل عن الله حال الدنيا، فالدنيا حقيقةً لا تستحق أن يقتل أحدنا الآخر من أجل المال لأنه يوم القيامة سينال لعنة الله والملائكة والناس أجمعين والخلود في نار جهنم، كما أنه سوف ينتهي أمره أيضاً في الدنيا إما بالقتل أو غيره، فالذي يعقل عن الله عز وجل يفهم أن الآخرة لهي الحيوان أي هي الحياة التي لا تنتهي ولا تنفذ بعكس الدنيا التي هي فترة سريعة تمر بلمحة عين فكم من أمور حدثت لنا قبل خمسين عاماً لكننا لا نزال نتذكرها وكأنها بالأمس، فبعد عشر سنوات أو خمسة عشر سنة سنجدها أيضاً انتهت بنفس السرعة وربما أسرع أيضاً، فإذا كان الأمر هكذا فينبغي أن يعقل عن الله حقيقة هذه الدنيا وأنها لا تسوى شيئاً ولا تستحق ان يعصي الإنسان ربه من أجلها، وينبغي عليه أن يعتزل اهل الدنيا والراغبين فيها لأنهم يعتبرون أن الحياة الحقيقية هي الدنيا وأن المتعة والسعادة هي في الدنيا وكأنما هو خالد فيها فيعمل أهل الدنيا للدنيا وفي الدنيا كأنها خالدة، فنجده يترك صلاته لأجل ذاك العمل الوظيفي، بينما الصلاة هي لبناء ذلك المنزل الدائم والعمل الوظيفي هو لبناء المنزل المؤقت، إذاً فإن الحياة الحقيقية هي في الآخرة وعلينا أن نلتزم التزاماً تاماً بالأحكام الشرعية والعبادات والأعمال الصالحة.

ثم يقول الإمام عليه السلام: (وكان الله أنسه في الوحشة)، فنجن نقرأ عن الإمام الكاظم عليه السلام أنه عندما سجن في أواخر حياته قال: (اللهم إني أسألك أن تفرغني لعبادتك وقد فعلت فلك الحمد)، ليس المقصود هنا انه لا بد للإنسان أن يذهب إلى السجن حتى يتفرغ للعبادة، ولكن بالمقدار الذي هو متاح له كل يوم، فهنيئاً للإنسان الذي يصل إلى مرحلة أن يكون الله أنسه في وحشته، فالمؤمنون الحقيقيون يستوحشون بما يستلين به المترفون ويجدون بأن الراحة الحقيقية هي عندما يلجأ الإنسان إلى ربه ويستأنس به.

(وصاحبه في الوحدة)، فعندما كان نبي الله يوسف في داخل البئر لم يشعر بالوحدة لأن معه جبار السماوات والأرض وهو الظهر الأعظم له، ونحن أيضاً ينبغي أن نكون كذلك.

(غناه في العيلة)، فلا ينبغي أن يكون الإنسان مطمئناً بما في رصيده البنكي أكثر من اطمئنانه إلى بركة الله ورزقه وعطائه، لأن الله سبحانه وتعالى هو الرزاق ذو القوة المتين ولا يمكن لأحد أن يمنع عنك رزق الله لك ولو اجتمع أهل الدنيا لأن يمنعوك من رزق ساقه الله إليك لن يستطيعوا ذلك.

(ومعزه من غير عشيرة)، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يقربنا إليه وأن يعرفنا نفسه، وهذه تكون بالإكثار من الدعاء والمناجات والإكثار من التوجه فهي تقرب الإنسان وتعرفه بربه، نسأل الله أن يكرمنا بذلك إنه على كل شيء قدير.

 

 

 

مرات العرض: 3407
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (0) حجم الملف: 29379.64 KB
تشغيل:

هكذا يهدم بناء العقل 12
كيف يتعامل العاقل مع الطعام والعلم 15