هكذا يهدم بناء العقل 12
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 23/8/1443 هـ
تعريف:

12/هكذا يهدم بناء العقل

كتابة الفاضلة أم سيد رضا

لا يزال الحديث في وصية الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام لهشام بن الحكم، ووصلنا إلى هذه الفقرة: (يا هشام إن العاقل لا يشغل الحلال شكره ولا يغلب الحرام صبره، يا هشام من سلَّط ثلاثاً على ثلاث فكأنما أعان على هدم عقله، من أظل نور فكره بطول أمله، ومحا طرائف حكمته بفضول كلامه، وأطفأ نور عبرته بشهوات نفسه، فكأنما أعان هواه على هدم عقله ومن هدم عقله أفسد عليه دينه ودنياه).

الفقرة الأولى تتحدث عن العلاقة العاقلة بين الإنسان الحكيم وبين الحلال، بين الإنسان الحكيم والعاقل وبين الحرام، فيقول سيدنا الإمام الكاظم عليه السلام أن العاقل هو ذلك الذي لا يغلب الحلال شكره، فلو كان عندك أشياء محللة من أموال ومكاسب صحيحة وعندك صحة من الله عز وجل وعافية وعندك بيت وزوجة وأولاد وما شابه ذلك، فإن هذا الحلال الذي تملكه لا ينبغي أن يغلب شكرك لله عز وجل، فأحياناً نجد أشخاص يشكرون الله على الحرام كأن تكون هناك مغنية تشكر الله على أن الحفلة الغنائية التي أقامتها كانت ممتازة، وأن يكون هناك شخصاً مكسبه حرام فيحمد الله على ذلك، فنجد هنا أن هذا ليس موضع شكر وإنما موضع استغفار لأن هذه ليست نعمة تُشكر وإنما هي بلاء وذنب ينبغي أن يُستَغفر منه.

كذلك في موضوع الحلال نجد قسماً من الناس يكون مكسبه حلال وبجهده ولكن يكون على طريقة الذي جمع مالاً وعدده، أي أنه ينشغل بما عنده من الأموال والأعمال ولا يذكر أن الله تعالى هو المنعم عليه، مثل أن ينسب ربحه اليومي إلى نفسه وأنه حصل على هذا الربح بقدرته وفهمه وينسى أن الله يرزق من يشاء بغير حساب، فلولا أن الله سبحانه وتعالى أعطاه فكراً ولفت نظره إلى هذا المكان دون ذاك المكان لما كان يحصل على شيء، ولولا أن الله أعطاه قوة بدنية لما كان يستطيع أن يصنع كل هذا، فأساس الرزق وأوله هو الله سبحانه وتعالى، ولا ينبغي للإنسان أن يكون مثل قارون عندما قال إنما أوتيته على علم من عندي، فلا يجب ان يجعل الإنشغال بالحلال يغويه ويلغي في ذهنه حمد الله وشكره، وهذه درجات: 

أولاً: يجب أن يعتقد الإنسان في قرارة نفسه بقوله تعالى: ((وما بكم من نعمة فمن الله))، فاليوم الذي تكسب فيه مئة ريال لا بد أن تعتقد أنه من عند الله عز وجل وتحت نظره كما قال في كتابه: ((وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها)) أي يعلم ماذا ستكسب اليوم وغداً وكيف سيأتي إليك المال.

ثانياً: عليه أن يخرج هذا في صورة ذكر، فأولاً يكون تذكر قلبي وإيمان واعتقاد ثم يخرجه في صورة ذكر لفظي كقول الحمد لله رب العالمين والشكر الله، فمن قال في يومه الحمد لله رب العالمين أربع مرات فقد أدَّى شكر ذلك اليوم، ومن كرر قول الحمد لله على كل نعمة كانت أو هي كائنة فقد أدى شكر نعم الله عليه السابقة واللاحقة.

ثالثاً: أن يعمل، كما جاء في قوله تعالى: ((وقل اعملوا آل داوود شكراً)) أي ينبغي أن يكون عمله متناسب مع شكر الله عز وجل، فمن الشكر الإنفاق على الأهل والعيال، الإنفاق على المحتاج والفقير، والإنفاق في سبيل الله، فالعاقل هو من لا ينشغل بالحلال عن شكر الله فيكون في ذهنه دائماً أن المنعم هو الله عز وجل وأنه هو الذي يستحق الشكر ويجب عليه أن يعمل بهذه النعم فيما يتناسب مع شكر الله.

ثم يكمل الإمام حديثه: (ولا يغلب الحرام صبره).

فالحرام فيه جاذبية، فلو كان أمام الإنسان خيار بين الحلال والحرام فقسم منهم سيميل إلى الحرام ويترك الحلال، فقيل لأحدهم وكان يتعشق امرأةً جارية أنه لماذا لا يشتريها ما دام عنده المبلغ الكافي لشرائها، فقال: فأين لذة المسارقة إذاً؟

فكثير من الناس هكذا، قد تكون لديه زوجة جميلة ولكنه يتركها ويذهب للأمور المحرمة الناقلة للأمراض والتي بها إثم وقلق وعذاب، إذاً فإن الحرام به جاذبة لدى قسم من الناس ولكن المقاوم لهذه الأمور المحرمة التي بها جاذبية وإغراء هو صبر الإنسان عن الحرام، ولذلك قُسِّم الصبر إلى: صبر على الطاعة وصبر عن المعصية، فالعاقل هو الذي لا يغلب الحرام صبره.

بعد ذلك يشير الإمام إلى ثلاثة أشياء مدمرة لثلاث جواهر عند الإنسان، فعند الإنسان مجموعة قوى ونعم قد يسلط عليها مدمرات قاضية ولو انتبه إلى ذلك لوجد أنه يهدم بناءه العقلي ومن هدم بناءه العقلي فإنه يخسر الدنيا والآخرة، فيقول الإمام: (يا هشام من سلط ثلاثاً على ثلاث فكأنما أعان هواه على هدم عقله) فلو تصورنا أن العقل كبناء جميل محكم ومتوازن فإن الهوى يكون بمثابة الصاروخ الذي يهدم هذا البناء، فمن سلط هذه الأشياء الثلاثة فكأنما سلط ثلاثة صواريخ لهدم بناءه العقلي، فالإنسان عنده نور الفكر وطرائف الحكمة ونور العبرة، ومن خصوصياته القدرة على اكتشاف مصائر الناس واستفادته من التجارب بعكس الحيوانات التي لا تملك هذه الخاصية، فمثلاً عندما يأتي قطيع عند النهر فإنا نجد في أغلب الأحيان عندما يعبر أحدهم النهر فإنه يغرق ثم يقوم الآخر بالعبور ويغرق أيضاً والسبب في ذلك أن الحيوانات غالباً ليس عندها استنتاج بأن عبور النهر يعني الغرق، على عكس الإنسان الذي يملك هذه خاصية ولذلك نرى قضية الإكتشافات وتقدم العلم التجريبي وهذه يعبر عنها بالعبرة وتعني العبور من الجهل إلى العلم، من عدم المعرفة إلى المعرفة، والغالب أنها تستخدم في الموضوع الأخلاقي.

هناك مقاوم ومضاد لهذه الأمور الثلاثة عندما يسلطها الإنسان عليها ينتهي إلى هدم عقله وهي: 

1 – من أظلم نور فكره بطول أمله، فمن أسوأ الصفات والأخلاق هو طول الأمل وهو عكس المبادرة، فهناك أحدى المقابلات لفتت نظري وهو أن أحد العصاة عندما سألوه متى آخر عهده بالصلاة قال بأنه لا يتذكر وأنه لا يصلي لأنه مشغول جداً في تحضير البرامج والأغاني وغيرها وبعد مدة عندما يقل العمل ربما تكون لديه فرصة للصلاة، نجد أن هذا ما يسمى بطول الأمل، فالإنسان لا يعلم متى يأتي موته.

2 – ومحا طرائف حكمته بفضول كلامه، أي إنسان تكون عنده حكمة قد تبرز منه كلمات في الصميم كما يقال، فما الذي يجعل إنسان كل كلماته حكم كأئمتنا عليهم السلام بينما نجد آخر لا توجد حكمة بتاتاً في كلماته إلا بشق الأنفس، فهل السبب في ذلك هو عدم وجود العقل؟، الجواب هو أن لكل إنسان عقل وطرائف حكمة ولكنها تذهب بكثرة الكلام، فكثرة الكلام لا تسمح للإنسان بالتفكر فيكون ذهنه مشغول دائماً بصياغة الكلام، ولذلك علينا أن نتجنب فضول الكلام لأنه يذهب طرائف الحكمة، إضافة إلى ذلك فإن الناس عندما يرون شخصاً كثير الكلام لا ينصتون له دائماً، فكلما قلل فضول الكلام أبرز طرائف الحكمة.

3 – وأطفأ نور العبرة بشهوات نفسه، فالعبرة تحتاج إلى تفكير حتى يكون الإنسان متزن بعيد عن الأهواء والشهوات.

فإن سلط هذه الأمور الثلاثة على الأمور الثلاثة التي ذكرناها فكأنما أعان هواه على هدم عقله ومن هدم عقله أفسد عليه دينه ودنياه، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكمل لنا عقولنا وأن يحسن أعمالنا ويزكي انفسنا إنه على كل شيء قدير.


مرات العرض: 3406
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (0) حجم الملف: 28224.92 KB
تشغيل:

ما هي مساحة العقل في الشريعة 11
13 العزلة علامة العقل