ما هي مساحة العقل في الشريعة 11
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 23/8/1443 هـ
تعريف:

ما هي مساحة العقل في الشريعة؟

كتابة الفاضلة أم سيد رضا

في وصية الإمام الكاظم أبي الحسن عليه السلام لهشام بن الحكم قال: (إن لله على الناس حجتين، حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأما الحجة الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة، وأما الباطنة فالعقول)

من جملة ما يستدل به الفقهاء في استنباط الأحكام الشرعية هو العقل عندنا في الإمامية، فإنهم يقولون إن الأدلة على الأحكام الشرعية هي أربعة:

1 - الكتاب (القرآن الكريم) حيث أن بعض الأحكام وردت صريحة واضحة فيه كالأمر بالصلاة والزكاة والصوم والحج وغير ذلك من الأمور.

2 -  الدليل الثاني هو السنة بما يشمل سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسنة المعصومين كما هو في اعتقادنا الإمامية، بينما خالف بقية المذاهب هذا فقهم يعتمدون على ما يرونه سنة رسول الله صلى الله عليه وآله دون حديث المعصومين، ولذلك فإن أحاديث رسول الله وسنته عندهم لا تفي بالغرض ولا تشمل كل حاجات الإنسان العبادية فضلاً عن المعاملاتية كما ورد في الصحاح مثلاً مع حذف المكررات قد يصل إلى 2400 حديث ولو فرضنا أن في كل حديث مسالة واحدة فمعنى ذلك أن لديهم 2400 مسألة، بينما الكتب الفقهية بعضها يصل إلى خمسين ألف مسألة وأكثر من ذلك، إذاً فإن 2400 مسألة لا تحيط بمسائل الحج فضلاً عن باقي الأبواب، ولذلك اضطر أتباع هذه المدرسة إلى إدخال مصادر جديدة مثل عمل الصحابي، فأي صاحبي من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن عمل عملاً فإن هذا يكون حجة حتى لو لم ينسبه إلى رسول الله، وهذا يعتمد على نظرية عندهم وهي عدالة الصحابة أجمعين وأنه لا يمكن لأحدهم أن يعمل شيئاً على خلاف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما اضطروا أيضاً إلى إدخال أدلة أخرى كعمل أهل المدينة كما هو عند بعض المذاهب، واضطروا كذلك إلى أقيسة واستحسانات وهذا تحت ضغط الحاجة إلى وجود مصادر تشريعية وأدلة على الأحكام، بخلاف الإمامية الذي يكون فيه هذا الأمر مرفوع كلاً لأنه ورد عندنا من المعصومين عليهم السلام بل حتى هو مقتضى حديث الثقلين ورد عنهم أنه حديثي حديث أبي وحديث أبي حديث جدي وحديث جدي حديث الحين وحديث الحسين حديث أمير المؤمنين وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله وهو عن الله عز وجل، فتتمتع الإمامية بميزة وهي ان لديهم عشرات الآلاف من الأحاديث تدخل ضمن هذا الإطار وتدخل ضمن إطار ما ورد عنهم أيضاً: (لو كنا نقول برأينا لكنا من الهالكين، وإنما هي أصول علم نتوارثها عن جدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم).

3 – الدليل الثالث وهو الإجماع ضمن شروط معينة وهي إذا قام الإجماع على شيء من الأشياء او حكم من الأحكام، كشف ذلك عن أن قول المعصوم داخل في كلامهم وفتواهم.

4 – الدليل الرابع وهو العقل.

اختلف الأمر في مساحة الإستدلال بالعقل عند المسلمين في الفريقين، بدءاً من مدرسة الخلفاء وانتهاءً بالإمامية هناك آراء بين موسع ومضيق للإستدلال بالعقل، فمثلاً الحنابلة في مدرسة الخلفاء وفي بعض الأحيان المالكية قد ضيقوا المساحة التي يتحرك فيها العقل إلى درجة كبيرة فإن ثبت النص عندهم فلا مجال هنا لحكم العقل، ولذلك تورطوا في مسألة العقائد وهي مسألة مهمة، فعندهم أحاديث واردة في الصحاح وبطرق معتبرة لكن فيها ما يكاد يكون تصريح ونص بإسمية الله عز وجل بأن له بدن ورجل ويد وأمثال ذلك، كما لديهم روايات أيضاً بأن الله يضحك وينتقل من سماء إلى سماء، وبما أن هذه روايات صحيحة عندهم فيحكمون على مقتضاها لكن مع تفسير وتوجيه لأن القول بالجسمية بشكل واضح وصريح هو من الشناعة، فتأول ببعض التأويلات ولكن الجوهر هو واحد، في مقابل ذلك فإن الأحناف (المذهب الحنفي) وسع دائرة العقول وتجاوز الحد المفترض ووصل إلى موضوع القياس الواسع الذي جعل العقل مشرعاً في مناطق كثيرة جداً.

نفس الكلام عندنا أيضاً في الإمامية، فهناك مساحة ضيقة التزم بها محدثون أخباريون وهم أتباع أهل البيت عليهم السلام ولهم هذه المدرسة المعروفة، بل يكاد القول بأن أوائل المحدثين والمؤلفين للموسوعات الحديثية الكبرى هم ضمن هذا المنهج، لكن فيما بعد صار الإتجاه إلى المدرسة الأصولية، فمن جملة أماكن الإختلاف بين المدرستين هو مساحة العقل التي يتحرك فيها، فبينما ضيق المحدثون الأخباريون مساحة حركة العقل فإن الأصوليون أعطوا مساحة أوسع إليه، وهذا حديث مفصل جداً ومعترك للآراء والغالب أن أهل العلم والطلبة يدرسون هذا في علم الأصول لفترة طويلة أيضاً.

هناك حديثان يمكن أن يضيئا لنا وجه الحق في هذا:

الحديث الأول ما جاء عن أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة وهو يذكر بعثة الأنبياء ودورهم فقال: (فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ليستهدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته ويحتج عليهم بالتبليغ ويثيروا لهم دفائن العقول) أي أن الله بعث الرسل في المجتمعات البشرية وجاء بالأنبياء الواحد تلو الآخر لأنه سبحانه وتعالى عندما خلق البشر خلقهم بشكل تهديهم فطرتهم ويدلهم عقلهم على بارئهم، وهذا هو الفرق بين الإنسان وبين سائر المخلوقات، وبإمكانه أن ينمي هذا العقل أو أن يغطيه بالشهوات والأهواء وما شابه ذلك، ولو تُرك الإنسان هكذا بدون تأثير المؤثرات الأخرى عليه لكان هذا العقل وكانت تلك الفطرة ترشده إلى وجود خالق لهذا الكون وأنه يستحق العبادة وينبغي أن يتوجه إليه، فالأنبياء هنا يعيدون ميثاق الفطرة التي جعلها الله سبحانه وتعالى في البشر ويمسحون الغبار الذي ران على فطرة الإنسان ويجلون الصدأ عن العقل ويوجهوهم إلى ربهم، وهذا لا نلاحظه فقط في الأنبياء فأحيان كثيرة عندما يذهب شخص إلى إنسان غافل عن ربه ويتحدث معه ويثير فيه هذه التساؤلات نجد أنه يعود إلى ربه وخالقه، وأيضاً ما يقوم به الأنبياء هو تذكير الناس بنعمة العقل والفطرة التي جعلها الله سبحانه وتعالى فيهم حتى تكون حجة عليهم كما قال تعالى: ((يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً)).

الحديث الثاني وهو حديث عبد الله بن سنان عن الإمام الصادق عليه السلام فيه إيضاح وتفصيل أكثر قال: (حجة الله على العباد النبي، والحجة فيما بين العباد وبين الله العقل) فكأنما هناك خط نازل من السماء إلى الأرض وآخر صاعد من الأرض إلى السماء، فالصاعد من الأرض إلى السماء هو العقل بينما النازل من السماء إلى الأرض هو الرسول، ومعنى ذلك فيما يرتبط  بأمور معرفة الله عز وجل والوصول إليه أن الرسول ليس هو من يعرِّف بالله في أصل التعريف وإنما العقل ، وليس الرسول من يُشعِر الإنسان بالحاجة إلى وجود الله وإنما هذا موجود فطرة الإنسان وعقله، فدور الرسول هنا ان يأتي بتفاصيل المعرفة ويأتي بأحكام عن الله عز وجل، فالرسول لو لم يأتي فإن عند الإنسان قدرة وضعها الله سبحانه وتعالى حتى يتعرف على أنه لا يعقل أن يكون هذا الكون بلا خالق، ولذلك جاء في كلمات الأنبياء ومنها ما ورد في الآثار: أ فسماء ذات أبراج وبحر ذو أمواج وما شابه ذلك ألا يدلان على اللطيف الخبير؟، أي هل يعقل أن يكون هذا الكون وهذا العالم والأفلاك والأمواج والبحار بلا خالق؟، فعقل الإنسان كالمصباح إذا كان لا يعمل فلا يفيد مسح الغبار عنه، وإنما ينفع إذا كان هذا المصباح في أصله منيراً فحينئذ بالإمكان إزالة الصدأ والتراب والغبار عنه.

إذاً فإن ما يرتبط بمعرفة الله عز وجل وبأصول المعرفة وأن الله سبحانه وتعالى يجب عبادته وشكره فإن عقل الإنسان يصل له، ولكن ما يرتبط بالأحكام كعدد الصلوات وطريقتها وتفاصيل الشريعة فلا يستطيع العقل أن يتدخل فيها، وهذه وظيفة الرسول والإمام الذي يأتي بتفاصيل العقيدة.

هناك مسألة أخرى وهي المواضع التي يستدل فيها بالعقل: 

العقل لا يستدل به في موضوع العبادات وإنما هناك بعض القضايا الفقهية التي يستدل فيها العلماء والفقهاء بالعقل وهي ما يسمونه موارد الإستلزامات العقلية، كوجود التناقض والتضاد في مسألة معينة أو هل أن الحسن والقبح عقليان أو لا؟، هل يمكن أن يأمر الشرع بما هو قبيح عقلاً؟، فهنا يمكن أن يحكم العقل بعدم وجود تشريع في هذا المقام، وهذه بحوث لا نستطيع أن تعرض لها في هذا الحديث.

 

مرات العرض: 3409
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (0) حجم الملف: 26501.29 KB
تشغيل:

نعم لحجية العقل لا لتأليه العقل 10
هكذا يهدم بناء العقل 12