وصايا المسيح عيسى عليه السلام للعلماء 28
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 19/7/1443 هـ
تعريف:

28/ وصايا المسيح عيسى للعلماء

كتابة الفاضلة أم سيد رضا

لا يزل حديثنا في وصية الإمام موسى بن جعفر الكاظم صلوات الله وسلامه عليه لهشام بن الحكم وقد وصلنا إلى نقل الإمام عليه السلام فقرات المواعظ التي وعظ بها المسيح عيسى بن مريم الحواريين ومن بعدهم بني إسرائيل، وذكرنا فيما مضى من الأيام خصائص هذه المواعظ والتوجيهات وما هي الدلالات والفوائد التي نستفيدها من نقل الإمام عليه السلام لهذه المواعظ التي هي عن عيسى بن مريم على نبينا وآله وعليه أفضل الصلاة والسلام، ووصلنا إلى هذه الفقرة التي يقول فيها عيسى بن مريم وينقلها الإمام عليه السلام: (يا عبيد الدنيا بحق أقول لكم لا تدركون شرف الآخرة إلا بترك ما تحبون، فلا تنظروا بالتوبة غداً فإن دون غدٍ يوماً وليلةً وقضاء الله فيهما يغدو ويروح، بحق أقول لكم إن من ليس عليه دين من الناس أروح وأقل هماً ممن عليه الدين وإن أحسن القضاء، وكذلك من لم يعمل الخطيئة أروح هماً ممن عمل الخطيئة وإن أخلص التوبة وأناب)، فتعبير عبيد الدنيا ليس مسبة وإنما هو أمر واقعي بالنسبة إلى قسم من الناس، فإن عبد أحد هو من يطيعه ومن يتوخى رضاه ويسعى في أمره، ونجد فسماً من الناس ينطبق عليهم هذا العنوان انطباقاً تاماً فنراه ساعياً في أمر الدنيا أكثر من سعيه في أمر الله، ونراه يصرف على الدنيا أكثر مما يصرف على أمر الآخرة، ويقدم نداء الدنيا على نداء الآخرة، وهذا هو معنى العبودية وقد ينطبق على عامة الناس بل قد ينطبق على بعض المتزيين بزي العلماء، فإن الأزياء لا تغير الحقائق سواء كان لابساً للعمة أو كان لابساً للبدلة أو كان كاشفاً أيضاً، فالمهم هي الحقائق ولذلك عيسى بن مريم يخاطب الحواريين في هذه الوصية.

الحواريون هم الأصحاب المقربون من عيسى بن مريم ومع ذلك فإنه يخاطبهم بهذا الخطاب، إما تخويفاً وتحذيراً وإما أن يكون بعض هؤلاء فيه هذه الصفات.

(بحق أقول لكم لا تدركون شرف الآخرة إلا بترك ما تحبون)، سيأتي فيما بعد: (لا يجتمع في قلب واحد حبان، حب الله وحب الدنيا)، فكما أن العبد لا يكون لشخصين فإن قلب الإنسان أيضاً كذلك، فإذا جعل فيه شركاء متشاكسين أحدهم هو حب الدنيا والشهوات والأموال والرئاسة وأمثال ذلك، والشريك الآخر هو حب الله فإنهم يتشاكسون، فليجعل الإنسان هذه قاعدة فإنه لو تُرِكَ هو ونفسه كأن ينام بقدر ما يحب فهل يُدرَك بالنوم شرف الآخرة، كما جاء في الروايات عندنا: (لقد قالت أم داوود لداوود النبي عليه السلام: يا داوود إياك وكثرة النوم فإنه يفقرك في الآخرة) كالإنسان الذي ينام عن الصلاة الواجبة أو المستحبة أو ينام عن فعل الخير فإنه سيكون فقير، ولو فكر الإنسان في أنه كم يصرف من عمره في نومه لهاله الأمر، فمثلاً لو نام الإنسان عشر ساعات من أربعة وعشرين ساعة فإنه يكون قد أنفق ما يقارب نصف عمره في النوم، ولذلك الشرع أوصى بالوضوء قبل النوم وقراءة سورة التوحيد ثلاث مرات وتسبيح الزهراء والصلاة على محمد وآل محمد ولا سيما هذه الصلاة: (اللهم صل على محمد وآل محمد السادة الراضين المرضين بأفضل صلواتك وبارك عليهم بأفضل بركاتك والسلام عليهم وعلى أرواحهم وعلى أجسادهم وعلى شاهدهم وعلى غائبهم) فهذه قد تخفف على الإنسان قليلاً قضية النوم ولكن النوم بحد ذاته خسارة لا يوفر عمراً على الإنسان، وبكثرة النوم لا يدرك شرف الآخرة، وكذلك البعض يحب أن يأكل كثيراً ولكن كثرته تصبه بالتخمة والكسل عن فعل الخير، فبذلك لا يدرك شرف الآخرة.

لو مثلنا هذه المعادلة بميزان حب الله وحب الدنيا، فإن زاد حب الدنيا سيقل حب الله، وإن زاد حب الله سيقل حب الدنيا، ونحن بالخيار، وقد قال القرآن الكريم: ((لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون)) أي أنه من المستحيل أن تنال البر حتى تنفق مما تحب من الراحة والمال والشهوة وغير ذلك.

(فلا تنظروا بالتوبة غداً فإن دون غدٍ يوماً وليلةً وقضاء الله فيهما يغدو ويروح،)، فهناك قسم من الناس يأجلون أموراً كثيرة في حياتهم، كالتوبة وتغيير أنفسهم وشخصيتهم للأفضل ولا يعلمون أن في التأخير آفات، فالإنسان عندما يفعل الذنب فعليه بالتوبة مباشرة، وكذلك عليه أن يترك السب والنميمة وتأخير الصلاة ولا يؤجل تركهم لغد فإن أمام غد يوم وليلة وقضاء الله فيهما يغدو ويروح، فلا يعلم متى يغتاله الموت ولا يعلم بالأقدار التي قد تحدث له خلال اليوم والليلة، فلا يملك الإنسان الضمان لبقائه ولو بقي لا يعلم بأن يبقى بنفس الحماس ونفس الإندفاع، ولو بقي بنفس الحماس والإندفاع فإنه لا يعلم بالظروف التي قد تأتي إليه.

(بحق أقول لكم إن من ليس عليه دين من الناس أروح وأقل هماً ممن عليه الدين وإن أحسن القضاء، وكذلك من لم يعمل الخطيئة أروح هماً ممن عمل الخطيئة وإن أخلص التوبة وأناب)، ذكرنا فيما مضى أن عيسى بن مريم عليه السلام يأتي بأمثلة متعارفة واجتماعية، فإذا كان الإنسان مديوناً سيكون همه وتفكيره في الدين حتى لو أحسن القضاء فيما بعد وسدد دينه، لو ضربنا مثالاً على أحدهم أنه كان مواظباً على صلاة الجماعة وفجأة انقطع عنها، فلما سُئِل عن ذلك قالوا بأنه مستدين من شخص وهذا الشخص من رواد ذلك المسجد أيضاً ولذلك انقطع الذي عليه الدين من حضور صلاة الجماعة في المسجد، فنجد أن الإنسان الذي ليس عليه الدين أهدأ وأريح بالاً من ذلك الذي استدان وسدد دينه، كذلك أيضاً هي الذنوب فغير المذنب الذي لم ينصرف إلى الذنب والذي لا يحتاج إلى الإستغفار أكثر راحة وأقل هماً وأكثر اطمئناناً من الذي أذنب وبعد ذلك تاب وندم واستغفر.

(فإن صغار الذنوب ومحقراتها من مكائد إبليس، يحقرها لكم ويصغرها في أعينكم فتجتمع وتكثر فتحيط بكم)، فقد تكون محقرات الذنوب أخطر من كبائر الذنوب ببعض الإعتبارات لأن كبائر الذنوب يستعظمها الإنسان ويهولها فيخاف منها ويسارع إلى الإستغفار منها، لكن محقرات الذنوب يضحك بها الشيطان على الإنسان ويخدعه بها، ولذلك نجد كثير من الناس عندما يغتابون أحد في مجلس فإنهم يخرجون من ذلك المجلس وكأنهم لم يفعلوا شيئاً حراماً، فلا يعلمون أن الغيبة حمل على ظهره يسأل عنه يوم القيامة.

(إن الناس في الحكمة رجلان، فرجل اتقنها بقول وصدقها بفعله، ورجل أتقنها بقوله وضيعها بسوء فعله فشتان بينهما، فطوبى للعلماء بالفعل وويل للعلماء بالقول)، من النادر جداً أن نرى إنساناً يقول أن الغيبة ممتازة والنميمة حسنة وغيرها، فعادة إما أن نجد شخصاً يصف الأمور والحكمة بصفاتها الصحيحة ويطبق ذلك كأن يقول الغيبة محرمة ويبتعد عنها، أو يقول أن الظلم قبيح ولا يكون ظالماً، فهنيئاً لمثل تلك الأشخاص كأئمة الهدى عليهم السلام والعلماء الورعون والأتقياء الصالحون، وعامة المؤمنون المطبقون لما علموه، ولكن قد نجد أشخاص يصفون العدل والحكمة والكلام الطيب بقولهم ولسانهم ولكنهم في مجال التطبيق لا يكونون هكذا، كما قال الشاعر:

 تصف الدواء لذي السقام وتعالج المرضى وأنت سقيم

فقد يأتي الإنسان ويصف الحكمة ولكنه في الحقيقة عكس ذلك، ولولا ستر الله لنا لكان الأمر مختلفاً، نسأل الله أن يغفر لنا ذنبنا وقصورنا وتقصيرنا وأن يعيننا على ضعفنا إنه على كل شيء قدير وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.

 

 

 

 

 

 

مرات العرض: 3425
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (0) حجم الملف: 31352.45 KB
تشغيل:

وصايا المسيح التربوية للمسلمين 27
لماذا قال المسيح زاحموا العلماء 29