أصداء النهضة الحسينية في واقعة الحرة 24
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 24/1/1442 هـ
تعريف:

أصداء النهضة الحسينية في واقعة الحرة

كتابة الفاضلة أم سيد رضا

نتناول الأثر الذي تركه الإمام السجاد عليه السلام في المدينة المنورة من خلال إحيائه قضية الإمام الحسين عليه السلام وفضيحته لبني أمية في جريمتهم في كربلاء، وهذا من الأدوار التي تبين لنا عظمة وأهمية بكاء الإمام السجاد عليه السلام حتى عدَّ من البكَّائين الخمسة الذين عدَتهم الروايات على مدار التاريخ، ومن هؤلاء البكَّائين كان الإمام زين العابدين عليه السلام في الجهتين، من جهة البكاء من خشية الله عزَّ وجل ومن جهة البكاء على مصيبة والده ومن استُشهِد معه في كربلاء.

 كان تاريخياً يصنفون المناطق بحسب أكثرية ميل سكانها، فمثلاً يقولون أن الشام ودمشق أموية لا يعرفون غير بني أمية، ويتحدثون عن البصرة ويقولون بأنها في تلك الفترات على الأقل كانت زبيرية الهوى، ويتحدثون عن الكوفة فيقولون أنها علوية الهوى، ويتحدثون عن المدينة فلا يصنفونها على أنها شيعية وإنما على أنها ممن يهوى الخليفتين الأول والثاني، فلم يكن في المدينة توجه شيعي واضح في تلك الفترة، ولعل عدم خروج أحد مع الحسين عليه السلام حين خروجه إلى مكة المكرمة في السابع والعشرين من رجب سنة ستين للهجرة سوى أهله وعائلته، وهكذا الحال عندما خرج من مكة المكرمة بإتجاه كربلاء لم يخرج معه أحد بمقدار واضح، بل وروي عن الإمام السجاد عليه السلام أنه قال: (ما بمكة والمدينة عشرون ممن يحبنا)، أي أنه لم يكن هناك حتى عشرون شخصاً ممن هو على منهجنا ويوالينا تلك الموالاة القوية وينتهج منهجنا في العقائد والفقه والسياسة وغيرها، فسواء كان هذا العدد دقيق أو لأجل التقليل فإنه يشير إلى أن المدينة لم تكن في حالتها الشعبية متعاطفة مع أهل البيت عليهم السلام كما ينبغي، ولكن هذه المدينة بعد سنة واحدة أو سنتين من شهادة الإمام الحسين عليه السلام أعلنت الثورة ضد الأمويين فيما عرف بواقعة الحرة التي ذكرها التاريخ والتي أظهرت الأثر الذي تركه الإمام زين العابدين والسيدة زينب عليهما السلام وعمل ركب الأسارى الذي جاء من كربلاء إلى المدينة المنورة.

رجع ركب الأسارى والسبايا من كربلاء ووصل إلى المدينة المنورة في اليوم الثامن من ربيع الأول في سنة 61 للهجرة، فد بقي ركب الأسارى ثلاثة أيام في كربلاء من اليوم العشرين إلى اليوم الثالث والعشرين من شهر صفر، ثم تحرك ووصل إلى المدينة في الثامن من ربيع الأول، وقد خيم الإمام السجاد عليه السلام على بوابة المدينة عدة أيام والبعض قال ثلاثة أيام، واجتمع إليه الناس وندب من ينعي الحسين عليه السلام داخل المدينة وكانت الوفود تأتي إليه وتعزيه وهو يخطب فيهم، وينقل التاريخ شيء كثير بأن هذا اليوم كان كيوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  لشدة ازدحام الناس فيه والإمام يتحدث ويخطب فيهم خطبة مفجعة حول شهادة الإمام الحسين عليه السلام.

بعد ذلك دخل الإمام السجاد عليه السلام داخل المدينة واستمر بذلك وقد كان يستفيد من أي فرصة من الفرض لتذكير الناس بقضية الإمام الحسين عليه السلام وقد كان يربط كل مشهد يمكن أن يُربَط بكربلاء ويذكر على أثر ذلك مصيبة الإمام الحسين عليه السلام، وقد كان هذا من جهة الإمام السجاد عليه السلام.

من جهة العقيلة زينب أيضاً، فقد بدأت تعقد المجالس، ويذكر في التاريخ بأنه كان لها مجلس تذكر فيه قضية الحسين وما جرى على النساء بعد ذلك من سبيهن، حتى شكَّلت نوع من التيار العاطفي بين الناس ينقم على بني أمية فعلهم، فالشيء الذي حاول بنو أمية كتمانه قد أصبح على الألسن الآن، وكانت مجالس العقيلة زينب عليها السلام مؤثرة إلى الحد الذي لم يتحملها والي المدينة آنذاك وهو عمر بن سعيد الأشدق الأموي، فكتب إلى زيد كما نقلوا: أن زينب بنت علي امرأة عاقلة لبيبة وتحسن الكلام فهي لا تفتأ تذكر أمر الحسين وأصحابه في كربلاء، وأشار عليه بأن يخرجها من المدينة، وبالفعل صدرت الأوامر لهم بأن يُخرِجوا العقيلة زينب عليها السلام فخرجت في بداية سنة 62 للهجرة وذهب على رواية إلى الشام أو إلى مصر وهذا يحتاج إلى بحث ولكن الرأي الأكثر هو أنها أُخرِجَت إلى بعض ضواحي الشام، ومضت إلى ربها وإلى أجدادها في النصف من شهر رجب، أي بين شهادة الإمام الحسين عليه السلام ورجوعهن إلى المدينة ومن ثم وفاتها كان أقل من سنة ونص، وكان سبب إخراج السيدة زينب عليها السلام من المدينة هو أنها كانت تتحدث ببلاغة ويتضح ذلك من خلال خطبها حيث كانت خطبتاها في الشام والكوفة من أبلغ ما يمكن.

فتعاضد كلام الإمام زين العابدين عليه السلام وخطابه مع العقيلة زينب ومجالسها وشكلوا أرضية لحركة الناس في المدينة، وأصبح هناك نوع من الغليان والتحرك وأصبح الواحد منهم يخبر الثاني بما سمعه ورآه، وعلى أثر ذلك أراد والي بني أمية في المدينة المنورة وهو عمر بن سعيد الأشدق وقيل عثمان بن محمد بن أبي سفيان أراد أن يرسل جماعة إلى الشام ومنهم وفي طليعتهم عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة الذي كان والده من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد سمي بغسيل الملائكة لأنه عندما كان شاباً في ليلة زفافه نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للجهاد فجراً، ولم يسعه الوقت للإغتسال وخرج إلى القتال في المعركة وهو جُنُب، ولما استُشهِد في القتال نُقِل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: رأيت الملائكة تغسل حنظلة بماء الجنة في صحائف من المزن، وسمي في ذلك الوقت بحنظلة غسيل الملائكة أو حنظلة الغسيل، فقد كان ابنه عبد الله أيضاً رجل من الكبار ومن الشخصيات المهمة ولهذا اختاره والي المدينة من ضمن الأشخاص الذين يذهبون للشام حتى يقوم يزيد بإكرامهم لتتحسن صورة بني أمية لديهم، وبالفعل ذهب عبد الله بن حنظلة إلى الشام ويقال بأنه ذهب مع أولاده الثمانية ومجموعة أخرى من الناس، ولما وصلوا إلى دمشق احتفى بهم يزيد وأعطى لعبد الله بن حنظلة مئة ألف درهم وأعطى لكل ولد من أولاده عشرة آلاف درهم وأكرم من معهم أيضاً بهذه المقادير ورحب بهم حتى انصرفوا، فلما عادوا إلى المدينة سألوا عبد الله بن حنظلة عن تلك الأموال فقال:وما أخذتها إلا لأستعين بها على حربه وإلا فإنَّا قد جئنا من رجل يشرب الخمر ويسكر حتى يخرج وقت الصلاة وينادم الفهود والقرود، (ينقل عن أتباع مدرسة الخلفاء من الإتجاه الأموي بأن يزيد لم يكفر بالله وأن البيعة لا تنخلع من الرجل الفاسق ) وهذا غير صحيح لأن يزيد لم يبايع برضا الناس وكان فسقه يجعله ظالماً والظالم ينبغي أن يُغَيَر عليه، وهذا واحد من أسرار نهضة الحسين عليه السلام وثورته، ولذلك أراد عبد الله بن حنظلة مقاتلته ومقاومته حتى وإن لم يجد أحداً من أبنائه الثمانية، والسلام على الحسين وآل الحسين، فقبل أن يخرج الإمام الحسين عليه السلام كان هؤلاء الناس موجودين في أرجاء المدينة وقال عليه السلام بأن يزيد رجل فاسق فاجر شارب للخمور عامل بالفجور وقاتل النفس المحترمة ومثلي لا يبايع مثله، ولكن لم يكن لهذا الكلام التأثير في ذلك الوقت كما أصبحت الآن بعدما جاء الإمام زين العابدين عليه السلام والعقيلة زينب وتكلموا عن مصيبة الحسين ومأساته وعن جرائم بني أمية في حق الإمام الحسين عليه السلام.

بدأت الأمور تتحرك وأصبح الكلام عن مظلومية الحسين عليه السلام وارتكاب بنو أمية لهذه الفظائع والفجائع ولزوم تغييرهم وإخراجهم من المدينة، فخلعوا الوالي أولاً وأمروه بالخروج سلماً وإلا لجؤوا للقتال، فخرج الوالي منها، وقد كان هناك من بني أمية أيضاً نساءهم ورجالهم وولاتهم وأعوانهم وجندهم وأقاربهم وأمروهم أيضاً بالخروج سلماً أو القتال وإن خرجوا يخرجون بشرط أن لا يدلُّوا على عوراتهم أي لا يقومون بالإتفاق مع يزيد ويدلُّوه على مداخل ومخارج المدينة ويقومون بالغدر والخيانة، وأن لا يعينوا من يأتي من جيش يزيد فوافق بنو أمية على هذه الشروط ولكن قالوا بأنهم لا يستطيعون إخراج أهلهم ونساءهم والكبيرات في السن، فوافق أهل المدينة على إبقاء النساء ولكن بشرط أن يبقوا عند الإمام زين العابدين عليه السلام، فمروان بن الحكم الذي أمر الوليد بن عتبة بأن يكَّتِف الحسين عندما خرج من المدينة ويأمره بالبيعة وإلا يضرب عنقه، وافق على إبقاء نساءه وعياله تحت رعاية الإمام زين العابدين عليه السلام، ( فشتان ما كان التفاوت بيننا وكل إناء بالذي فيه ينضح )، فاحتضنهم الإمام زين العابدين عليه السلام حتى أنه يأتي في بعض المنقولات أن قسماً من نساء الأمويين قالت: أنها لم ترى عزاً كما وجدت عندما كانت تحت رعاية الإمام زين العابدين عليه السلام، وهذه هي أخلاقيات أهل البيت عليهم السلام وليس غريباً عليهم، فليس من البساطة أن يصبح الإنسان إماماً فلابد من أن يتخلص من الأحقاد وأن لا تملكه نفسه بل هو الذي يملكها.

بقي هؤلاء النسوة عند الإمام زين العابدين عليه السلام، ولم يذهب كثيراً عند قضية واقعة الحرَّة لأنه يراها غير ناجحة من الناحية العسكرية، وهي أن يزيد جرَّد جيشاَ جراراً من عشرة آلاف شخص وأتى بمسلم بن عقبة المري ويسمى الآن مسرف بن عقبة وبعضهم يقول مجرم بن عقبة وهو رجل كبير طاعن في السن وكان مريضاً جداً إلى درجة أنه عندما أحضروه للقتال جاؤوا به في سرير وهو مضطجع، وأمره يزيد بأن يغزو المدينة فإذا تغلب عليهم فإنه يبيحها ثلاثة أيام والإباحة هي أنه لا يوجد امرأة مصانة ولهم أن يغتصبوها، وإن وجدوا مالاً أعجبهم فلهم أن يأخذوه وإن رأوا رجلاً فلهم أن يقتلوه، وأمره أيضاً إن فرغ من المدينة أن يذهب إلى مكة.

وبالفعل جاء هذا اللعين مسرف أو مجرم بن عقبة المري وقد كان مريضاً جداً ولكنه كان يريد أن يختم أيامه بأسوأ ما يمكن، فجاء بعشرة آلاف شخص من الشام معبئين بالحقد وفي مقابلهم ثلاث مئة أو أربع مئة مقاتل، فمن الطبيعي أن يتغلبوا عليهم وقتلوهم وصنع ما كان قد قيل له، فأباحوا المدينة ثلاثة أيام، وأدخلوا خيولهم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والذي هو مقدس عند جميع المسلمين حتى بالت وراثت في المسجد، وهذا الكلام ليس من مصادر مدرسة الإمامية بل من مصادر مدرسة الخلفاء، وقد ذُكِر بأن عدد المولودين الذين لا يُعرَف لهم آباء في السنة الثانية يناهز الألف شخص وهذا يعني بأن عدد النساء اللاتي اغتُصِبن في ذلك الوقت يقارب 1500 إلى 2000 امرأة، والقتلى كانوا بالمئات من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله ومن أبناء الصحابة وغيرهم.

هنا يقول بعض الكاذبين من المدرسة الأخرى: ( ولم يلمس زين العابدين بسوء لأنه كان قد كتب إلى يزيد بن معاوية )، وهذا كذب لأن الإمام زين العابدين عليه السلام لم يكتب شيئاً ليزيد ولم يباشر أصلاً مع هؤلاء في القتال، لأنه أولاً ليس في هذا التوجه، فالله سبحانه وتعالى الذي حفظه في كربلاء بإيجاد عذر له لكي يواصل مهمة الإمامة لأنه لو كان صالح البدن حينها فسيجب عليه القتال وسيقتل، لكن الله جعله معذوراً من الناحية الشرعية حتى لا يجب عليه القتال وحتى يستمر خط الإمامة في تبليغ الدين وفي إدارة أمور الشريعة وما شابه ذلك، فكيف يرمي بنفسه في هذه المعركة التي لا يعتقد بأنها معركة منتصرة؟، ولذلك لم يساهم في القتال ولم يقم بدور في هذه الجهة.

نجد أن أعمال الإمام زين العابدين عليه السلام السابقة وبكاءه وحزنه وكلامه على القضية الحسينية هي التي جعلت الأجواء مستعرة ومشتعلة في وجه الأمويين، وهو الذي جعل المدينة تتهيأ لتستذكر نهضة الحسين وأن تستعيد بعض الشعارات والكلمات التي أخرجت الحسين، من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومقاومة الباطل بعدما كانت المدينة لا تتفاعل مع القضية الحسينية ولا مع شعارات الإمام عليه السلام، فنحن عندما ننظر إلى بكاء الإمام زين العابدين عليه السلام وإلى رثائه ونياحته وكذلك عندما ننظر إلى العقيلة زينب عليها السلام نجد أن هذه الأعمال تخدم أغراض مختلفة ومتعددة منها إبقاء القضية الحسينية ساخنة ومنها تعليم الناس بأن هذا الحاكم يزيد هو حاكم باطل وطاغوت.

كان الإمام السجاد عليه السلام كما علمتم وتعلمون يكثر من ذكر الحسين سلام الله عليه ويتحدث عن مصيبته وقضاياه، ينظر إلى الماء فيبكي ويستعبر ويؤتى إليه بالطعام فيقول: كيف آكل وقد قُتِل ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جائعاً، أم كيف أشرب وقد ذبح ابن رسول الله عطشاناً طمآنا، وظل على هذا الحال إلى الحد الذي خيف عليه من الهلاك، وهناك أكثر من رواية منها رواية مع أبو حمزة الثمالي ورواية مع جابر الأنصاري وغيرهم تقول بأن فاطمة بنت الحسين عليه السلام أخت الإمام السجاد عليه السلام جاءت إلى جابر بن عبد الله الأنصاري وقالت له: ( يا جابر إن لنا أهل البيت عليكم حقاً برسول الله، فقال: بلى ماذا تريدين، فقالت له: هذا علي بن الحسين بقية آبائه يكاد يُتلِف نفسه هماً وحزناً وكمداً على أبيه الحسين، فلو جئت إليه تحدثت معه لعله يترك ذلك )، فجاء جابر بن عبد الله الأنصاري وقال للإمام عليه السلام: ( يا ابن الحسين، البقيا على نفسك، أراك تتلف نفسك غماً وكمداً وحرناً وأنت بقية الماضين )، فقال عليه السلام: ( يا جابر، لا والله لا أزال على هذا فن يعقوب النبي غيَّب الله عنه واحداً من ولده وهو حي على قيد الحياة فابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم واشتعل رأسه شيباً، وأنا رأيت أبي وأخي وعمومتي وأبناء عمومتي مجزرين على الرمضاء ضحايا، لا والله لا أترك هذا حتى أرد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )، وظل على ذلك الحال إلى أن حاول فيه أولئك الأمويون لعنة الله عليهم وكادوا له لينهوا حياته فدسوا له سماً فتاكاً عن طريق واليهم على المدينة، حتى استُشهِد سلام الله عليه.




مرات العرض: 3415
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2580) حجم الملف: 45373.51 KB
تشغيل:

من الحياة الاجتماعية والاسرية للإمام السجاد 25
ابن الزبير وأزمة نظرية مدرسة الخلفاء 26