ختام الرحلة إلى مدينة الرسول 23
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 23/1/1442 هـ
تعريف:

ختام الرحلة إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم

كتابة الفاضلة أم سيد رضا

يتناول حديثنا هذه الليلة المرحلة الأخيرة من مسيرة ركب الأسارى والسبايا الحسيني والتي تبدأ من كربلاء إلى المدينة المنورة في خامس مراحل هذا السفر المجهد بعدما خرجوا من كربلاء إلى الكوفة، ومن الكوفة إلى الشام، ومن الشام إلى كربلاء، وفي آخر المطاف الخروج من كربلاء إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ينقل المؤرخون بأن الركب الحسيني لما وصل إلى كربلاء في اليوم العشرين من صفر سنة إحدى وستين، بقي ثلاثة أيام فيها لإقامة مراسم العزاء ولدفن ما جلب من الرؤوس والقدر المتيقن كان رأس الإمام الحسين عليه السلام بما دلت عليه روايات المؤرخين والروايات الواردة من طريق أهل البيت وأقول العلماء، فثلاثة أيام بقي من كان في هذا الركب من زين العابدين عليه السلام وعماته وأخواته ومن كان معهم من نساء الحسين عليه السلام، وفي اليوم الثالث والعشرين من شهر صفر سنة إحدى وستين تحركوا بإتجاه مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد كانت المسافة بين كربلاء وبين مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحسب ما تتبعها صاحب دائرة المعارف الحسينية بمعرفة المسافة بين مرحلة وأخرى تصل إلى 1200 كيلو متراً، فلو لاحظنا بأن 1200 كيلو متراً في 14 منزل ومكان بين قرية ومدينة وبلدة وبين عين ماء نزل فيها هذا الركب الحسيني إلى أن وصل إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فبالحساب الذي ذكرناه فيما مضى من أن الإبل وهي وسيلة النقل الرئيسية في تلك الأزمنة وأنها كانت تقطع في اليوم بشكل متوسط حوالي 160 كيلو متر، نجد أن هذه المسافة التي هي 1200 كيلو متر لا تحتاج إلى أكثر من سبعة أيام حتى يصل الركب إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، لكنهم خرجوا من كربلاء في اليوم الثالث والعشرين من شهر صفر ووصلوا إلى بوابة المدينة في اليوم الثامن من ربيع الأول من نفس السنة، أي أنهم استغرقوا  ما يقارب خمس عشرة يوماً، وإن لم يحسبوا فيها فترة انتظار الإمام زين العابدين عليه السلام على بوابة المدينة وهي ثلاثة أيام كما تذكر الروايات، فإن الخمسة عشرة يوماً ستتقلص، وهذه الزيادة تحتاج إلى تفسير، فلابد من ملاحظة أنه من المحتمل أن يكون السير ليس ضمن سير عادي وإنا هو أقل من ذلك، أي بدلاً من أن تقطع الإبل 160 كيلو متر في اليوم، فإنها تقطع 140 كيلو متر على سبيل المثال، أو أن الركب قد أقام في بعض الأماكن والمنازل فترة طويلة.

نعلم أن خبر شهادة الإمام الحسين عليه السلام وصل قبل وصول هؤلاء السبايا والأسارى على مرحلتين، فالمرحلة الأولى هي ما نعتقده عن الطريق الغيبي، وشاهد ذلك هو أن أم سلمة عليها السلام زوجة النبي والمدافعة عن ولاية أمير المؤمنين عليه السلام وتُستَحق أن تُدرَس حياتها، فقد أعلنت عن شهادة الإمام الحسين عليه السلام عندما رأت في المنام يوم العاشر من شهر محرم عصراً، رأت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في عالم الرؤيا بأنه حاسر أشعث الرأس وعليه الغبار ويلتقط من الأرض شيئاً وهو يبكي فسألته عن ذلك وقال لها: إني ألتقط دم ولدي الحسين فإنه قد قُتِل الساعة، فقامت من منامها وبكت وأظهرت الأمر ونادت واحسيناه وابن رسول الله فحدثت ضجة في البيوت القريبة من بني هاشم وأخبرتهم بذلك، وقد نُقِل أن ابن عباس وقد كان كفيف البصر عندما سمع صراخاً عالياً من بيت أم سلمة قاده دليله إلى بيتها وسألها مالخبر فأخبرته بمقتل الحسين عليه السلام وقالت: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعطاني تربةً من تراب قبر الحسين وقال: إذا رأيتها قد صارت دماً فاعلمي أنه قد قُتِل)، وقد أرتها أم مسلمه لمن جاء يسأل عنها.

هذا الأمر في إجماله بأن أم سلمة كان عندها من تراب قبر الحسين عليه السلام هو على مرحلتين أيضاً، فقد جاء في بعض الروايات في الإمامية بأن الحسين عليه السلام أيضاً أعطاها تربة من قبره حين خروجه من المدينة، ولكن القدر المتفق عليه عند جميع المسلمين تقريباً هو أن النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم قد أعطاها تربة كربلاء في قارورة وأنها احتفظت بها طوال هذه المدة ما يقارب الخمسين عاماً والتي تحولت في اليوم العاشر من شهر محرم إلى دمٍ عبيط.

نجد أن هذا الخبر قد نقله الطبراني في المعجم الكبير عن أم سلمة بأسانيد متعددة، والطبراني هو من محدثي مدرسة الخلفاء وقد توفي سنة 360 للهجرة، وأيضاً نجد أن من نقل هذا الأمر بأسانيد متعددة عن أم سلمة هو الحاكم النيشابوري في كتابه المستدرك على الصحيحين، فعند المتعصبين من المدرسة الأخرى يصفونه بأنه يتشيع، أي عنده محبة وميل قلبي لآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولذلك نجد في كتابه المستدرك على الصحيحين عدد جم من الروايات في فضائل أهل البيت عليهم السلام ويقول بأن هذه الروايات على شرط الشيخين هي صحيحة وبأسانيد معتبرة ولكنهما لم يخرجاها في كتابيهما، وقد رأى بأن الأسانيد التي يصححها البخاري ومسلم تنطبق على جملة كبيرة من الروايات في مناقب أهل البيت عليهم السلام، وقد أخرجها الحاكم النيشابوري في كتابه وأسماه المستدرك على الصحيحين، وقد توفي هذا الحاكم في حدود 405 للهجرة.

ذكر الحاكم النيشابوري ذلك الأمر بأساليب متعددة عن أم سلمة، بل وذكر قريباً منه بسند عن أحمد بن حنبل إمام المذهب الحنبلي المتوفى سنة 241 للهجرة بأنه ذكر نفس المعنى ولكن ليس عن أم سلمة بل نقلها عن أنس بن مالك، فإذاً إن أصل الخبر هو من الأخبار المعروفة وبناءً عليه بأن أم سلمة عندما أخبرت وبكت وأعلت الحزن على الإمام الحسين عليه السلام فقد بدأ مأتم في المدينة وقد أقام نساء بنو هاشم الباقيات في المدينة العزاء فترة أيام على الحسين عليه السلام، وهذا هو الإعلان الأول عن مقتل الحسين عليه السلام في المدينة المنورة.

الإعلان الثاني جاء من السلطة الأموية نفسها، ونحن نحتمل ما يقارب عشرة أيام أو إسبوعين إلى أن يصل الخبر إلى المدينة، وذلك أن عبيد الله بن زياد لعنة الله عليه أمر شخصاً يقال له عبد الملك السلمي بأن يذهب إلى المدينة ويبشر عمر بن سعيد بن العاص الأشدق بما فتح الله عليهم بحسب تعبيره وأن الحسين عليه قد قُتِل وطلب منه بأن يسرع في نقله، وبالفعل جاء عبد الملك إلى المدينة ويقول بأنه أول ما دخل إلى المدينة: سألني رجل من قريش مالخبر فقلت: الخبر عند الأمير فقال: لقد قُتِل الحسين وأنت أتيت لتبشر بهذا الخبر، وبالفعل فقد ذهب إلى عمر بن سعيد الأشدق ويسمى بالأشدق لأنه كان في فكه لقوة أي أن حنكه كان لا يعمل بشكل طبيعي وبعضهم فسرها بأنه لكثرة ما لعن أمير المؤمنين عليه السلام، فعلى أي حال جاء له بالخبر وقد سر سروراً كبيراً وأخذ يضحك وقال: يوم بيوم بدر، وقد أعلن على الملأ في خطبة أسوأ منه، أي أن عباراتها مجافية بكل الحقائق التاريخية ونذكر قسم منها، فقد صعد المنبر وقال: (أتانا خبر قتل الحسين بن علي ولوددت أن رأسه في جسده وروحه في بدنه) وقد كان يكذب في ذلك، وبعدها أخذ يذكر الإمام الحسين عليه السلام بسوء وقال: ( يسبنا ونمدحه، يقطعنا ونصله كعادتنا وعادته)، والعكس من ذلك فهذا الرجل قد بعثه يزيد وقال له بأن يقتل الحسين ولو كان متعلقاً بأستار الكعبة، وقد جعله يزيد حاكماً على المدينة وعلى مكة لشدته وغلظته وتعطشه للدماء، وهو نفسه أيضاً هدم دار أمير المؤمنين عليه السلام وهدم دار عقيل وهدم دار الرباب بنت امرؤ القيس زوجة الحسين عليه السلام، فعندما خطب خطبته اعترض عليه بعض الحاضرون وقالوا له: أتقول لابن فاطمة هكذا؟، فدفعه في صدره وقال: ما أنت وذاك، وقد كان هذا الإعلان الثاني عن خبر الإمام الحسين عليه السلام وهو إعلان رسمي من قِبَل السلطة بأن الحسين قد استُشهِد، وعلى أثر ذلك أعلن نساء بنو هاشم والقريبون منهم الحداد والبكاء، وقد كان هذا الوالي عمر بن سعيد يتشمت في ذلك ويقول: يومٌ بيومِ بدر وأخذ ينشد: عجت نساء بني زياد عجةً كعجيج نسوتنا بيوم الإرنب، ثم قال: واعية بواعية عثمان، أي كما أن نساء بني هاشم سمعوا البكاء على عثمان فهم الآن يسمعون بكاءهم على الحسين، ولكن ما ذنب أهل البيت مع عثمان بل بالعكس من ذلك فقد خلى أمير المؤمنين عليه السلام الحسن والحسين يصدون عنه، ولم يكونوا يتشمتون في مقتل عثمان ولا غيره بل وليست من أخلاقيات أهل بيت محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولذلك لا يمكن أن نقبل القول بأن يزيد أرسل رأس الحسين عليه السلام إلى عمر بن سعيد حتى يدفنه بجانب أمه كما يذكر هؤلاء المؤرخين خطأً.

أراد الإمام زين العابدين عليه السلام بأن يكون الإخبار الثالث متناسباً مع قضية الحسين ومع شأنه ويعطي له رؤية أيضاً، فقد خيم الإمام زين العابدين عليه السلام خارج المدينة أولاً ولم يدخلها مباشرة حتى يقيم المأتم والمجلس والخطاب ويعزيه من أراد، وكما هو معروف فقد جاء إليه البشير بن حذلم وعزاه بوالده الحسين وبالطاهرين الصفوة من الشهداء فقال له الإمام عليه السلام: رحم الله أباك يا بشر فلقد كان شاعر فهل تحسن الشعر، فقال: بلى إني لشاعر، فقال له الإمام عليه السلام: إذاً فادخل المدينة وانعي إلى أهلها والدي الحسين عليه السلام، فدخل بشر ورفع صوته من بوابة المدينة وقال: يا أهل يثرب لا مقام لكم بها، فجاء الناس إليه يسألون مالخبر، فقال أن الخبر عند مسجد رسول الله عند قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حتى إذا اجتمع الناس أكمل شعره: (يا أهل يثرب لا مُقام لكم بها قُتِل الحسين فأدمعي مدرارُ، الجسمُ منه بكربلاء مضرج والرأس منه على القناة يدار)، ثم أخبرهم بشر بأن الإمام زين العابدين على ظاهر المدينة فاذهبوا لتعزيته، وبالفعل انتقل هذا الجمع بأكمله من الرجال والنساء حتى كان كيوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فخطب فيهم الإمام عليه السلام خطبة مختصرة جداً، نشير إليها ونوضح أهم ما ورد فيها.

قال عليه السلام: (الحمد لله رب العالمين بارئ الخلائق أجمعين الذي بعد فارتفع في السماوات العلى وقرب فشهد النجوى، نحمده على عظائم الأمور وفجائع الدهور وألم الفجائع ومضاضة اللواذع وجليل الرزء وعظيم المصائب الفاظعة الكاظَّة، الفادحة الجائحة، أيها القوم إن الله وله الحمد ابتلانا بمصائب جليلة، وثلمة في الإسلام عظيمة، قُتِل أبو عبد الله الحسين وسُبِي نساؤه وصبيته وداروا برأسه في البلدان من فوق عال السنان، وهذه الرزية التي لا مثل لها رزية، أيها الناس فأي رجالات منكم يُسَرون بعد قتله أم أي فؤاد لا يحزن من أجله، أم أي عين منكم تحبس دمعها وتظن عن إنهمالها، فلقد بكت السبع الشداد لقتله وبكت البحار بأمواجها والسماوات بأركانها والأرض بأرجائها والأشجار بأغصانها والحيتان ولجج البحار والملائكة المقربون وأهل السماوات أجمعون)

 

مرات العرض: 3387
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2576) حجم الملف: 48377.95 KB
تشغيل:

أين دفن رأس الإمام الحسين 22
من الحياة الاجتماعية والاسرية للإمام السجاد 25