قافلة السبايا في الكوفة بعد كربلاء 14
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 14/1/1442 هـ
تعريف:

14 قافلة السبايا في الكوفة بعد كربلاء

كتابة الفاضلة أمجاد عبد العال

جاء في زيارة الناحية المقدسة القول: "وسبي أهلك كالعبيد وصفدوا بالحديد، تلفح وجوههن حر الهاجرات، يطاف بهن في البراري والفلوات".  

حديثنا بإذن الله تعالى سيتناول هذه الليلة، والليالي التي تليها متابعة للركب الحسيني إلى الكوفة، ثم إلى الشام، ثم إلى كربلاء، ثم إلى المدينة المنورة. هذه الليلة التي استغرقت 58 يوما من الألم والمعاناة، والتي كان على أثرها أن شيد بناء النهضة الحسينية، وانتشرت أخبارها وآثارها في مناطق كثيرة من العالم الإسلامي، لولا حركة السبايا – بالقطع واليقين – لم تكن هذه النهضة المباركة أن تصل إلى تلك الأماكن على حقيقتها. ولذلك يعتبر الباحثون أن حركة السبايا هي بمثابة الجزء الثاني لكتاب النهضة الحسينية. بل قد تفوق الجزء الأول، في أنه لولاها – أي هذه المرحلة الثانية – لضاعت تلك الشهادات والتضحيات والجهود. فمن المناسب جدا أن نتعرف على هذه الحركة وما حصل فيها من أحداث، ونستبعد ما هو غير محقق تاريخيا، ونركز على ما هو الصحيح فيما نراه. 

ملاحظة عابرة، ذكرناها في بعض الأماكن، ونشير إليها إشارة هنا، وهي: أن قسما من العلماء والباحثين التاريخيين، استبعدوا أن تكون رحلة الركب الحسيني، من كربلاء إلى الشام إلى كربلاء، قد وقعت في 40 يوما، يقول: هذا غير معقول؛ لأنهم أقاموا في بعض الأماكن، الكوفة قريب أسبوع، في الشام قريب أسبوع، في الطريق كان يتوقفون. فكيف يرجعون خلال أربعين يوم، إلى كربلاء، مع بعد المسافة بين كربلاء وبين بلاد الشام. 

لذلك؛ قسم من هؤلاء قالوا: إذا رجعوا، رجعوا في سنة أخرى، طبعا هذا الرأي – وإن كان صادرا من بعض العلماء – إلا أنه لا يوجد قرينة تاريخية، تؤيده ولا منبع موثوق يؤكده. وهكذا الحال، فإن قسما من الباحثين، قالوا: لا، رجعوا في نفس السنة، سنة 61، لكن مو بعد 40 يوما، يمكن بعد أربعة أشهر، خمسة أشهر. وبالتالي يرى هؤلاء أنه ما صار لقاء جابر الأنصاري وكذا وكذا، في يوم الأربعين. وهذا أيضا الرأي الآخر ليس رأيا محققا، ولا يعضده التاريخ. وإنما الصحيح هو ما ذهب إليه مشهور المؤرخين وعليه العمل، وهو: أنه بالفعل رجعوا في يوم العشرين من صفر. 

وبشكل مختصر نشير إلى: أن من منشأ الخطأ الذي وقع فيه هؤلاء الباحثون، هو أنهم لم يلاحظوا المسافة التي تقطع في كل يوم، على ظهور الجمال والنياق، المسافة التي يقطعها الجمل والإبل في اليوم، اللي هي مسيرة ثمان ساعات تقريبا، تزيد أو تنقص قليلا، هذه تبلغ 160 كيلو ميتر بحساباتنا اليوم. 160 كيلو متر يقطعها الإبل الجمال في المسير العادي، مو المسير السريع، مسير القوافل. فإذا تقسم المسافات على هذه السرعة وقطع المسافة، سوف تجد أنه ينطبق تماما على قضية الأربعين. فإن الطريق الأول الذي سلكوه، وسيأتي إن شاء الله حديث مفصل فيه وما جرى في محطاته، الطريق الأول: من الكوفة إلى الشام، هو الطريق الأطول اللي سلكوه في الذهاب، حوالي: 2100 كيلو متر، 2100 كيلو متر قطعتها الإبل، في 13 يوم، أقل بقليل من 13 يوم 

لذلك ينص المؤرخون كالطبري، وابن الأثير، وغيرهم، على أنه في اليوم الثاني، من شهر صفر، وصل ركب السبايا إلى باب دمشق، وهذا يصير 13 يوم، يعني يوم 19 خرجوا من الكوفة، يوم 2 صفر وصلوا إلى بلاد الشام، 13 يوم أو أقل بقليل لما تقسم 2100 كيلو، على هذه المسافات 160 في اليوم يقطعون، يصير قريب 13 يوم. هنا من الممكن، أن شوية يزيدون السرعة لبعض الظروف، يقللون لبعض الظروف، ولكن هذا معدل عام."نعم، هو 150،  160 في اليوم، هو معدل 8 ساعات"، 8 ساعات اللي هي عادة تمشي الإبل حتى لا تنهك بالعشر ساعات وأكثر، وقد يسيرون بها بدءا من الليل، وهو كثير، في السحر، ساعتين قبل طلوع الفجر، أكثر السير كان هكذا، لا سيما في أيام الصيف، واشتداد الحرارة. وعلى وجه الخصوص في الليالي المقمرة، أيضا هذا يعطيهم مجال واسع للسير في ضوء القمر. 

ونفس الكلام لما نأتي إلى قضية الرجوع، في الرجوع، ما سلكوا نفس الطريق طريق الذهاب، لأسباب قد نتعرض لها فيما بعد، وإنما سلكوا طريق آخر، هو طريق بادية الشام، وهو حوالي 1500 كيلو، أقل بقليل أو أكثر بقليل. هذه قطعوها، في تسعة أيام، وبالفعل التاريخ يذكر أنهم خرجوا يوم 11 من دمشق، ووصلوا إلى كربلاء يوم 20. 

فهذه المسافات لما واحد يحسبها على سير الإبل المعتاد، الذي كان في ذلك الوقت، يجدها متطابقة مع ما ذكرها المؤرخون. ربما بعضهم كانوا يقيسون المسافات على أساس سير الإنسان العادي، اللي يقطع 44 كيلو متر في اليوم، واللي هي مسافة القصر من الناحية الشرعية. لكن هذي مسافة السير على الأقدام. ولم يكونوا ليذهبوا كل هالمسافات، 2100 كيلو متر على أقدامهم، وإنما على الجمال والإبل. فهذي إشارة عامة إلى عموم هذه الرحلة. 

أول مرحلة من مراحل هذه الرحلة: ركب السبايا. بين قوسين خل أوضح كلمة السبايا هنا. عند بعض المجتمعات، كلمة: سبية، وسبايا، جدا مستهجنة، كما هو الحال في بلاد الشام، ما يقبلون هذه الكلمة عن نساء أهل البيت. ليش؟ لأن السبية عندهم: هي المرأة التي تؤخذ وتنتهك من الناحية الجنسية. كما فعل مثلا الدواعش مع النساء اللاتي أخذنهن. يقولوا: هذولا سبايا، وبالتالي أخذوهم، وانتهكوهم واغتصبوهم من الناحية الجنسية، لذلك يقولون ما يصير، في مثل: بلاد الشام، وهالمناطق هذي، هاللفظ هذا مستهجن عندهم، أن ما يصير نطلق على نساء أهل البيت، أسارى كربلاء، ما يصير نطلق عليهم اسم سبايا.

نقول: لا. هذا ليس صحيحا. السبي: أن تؤخذ المرأة أسيرة. بعد ذلك ماذا يصنع بها، هذا أمر آخر. فيقال لها: سبية، بمجرد أنها أخذت في أثناء المعركة، أو بعد المعركة، يقال لها: سبية، وسبايا. السبايا بعض الأحيان يستعملن للخدمة، وما شابه. وبعض الأحيان يستخدمن لقضية النكاح وما شابه. 

بالنسبة إلى أسرى أهل البيت (ع)، ورد في لسان الأخبار التسمية لهن بسبايا، وأسرى، كل هذا وارد. وسبية أيضا ليس فيها ذلك المعنى الخاص الذي يستهجن، يتفرع على هذا، مسألة عادة يسأل عنها وهي: أن الإمام الحسين (ع)، لما ودع نساءه، أخبرهن بالصبر، ولبس الأزر، والاحتساب، وأخبرهن أن الله حاميكن وحافظكن، وأنه سيجعل عاقبة أمركن إلى خير. فالبعض يقول: كيف الإمام الحسين قال: الله حاميكن وحافظكن، والحال: أنه تم سبيهن. 

الجواب على ذلك: أن نظر الإمام الحسين (ع)، في قضية النساء، إلى هذا الجانب: أنه لن يتم الاعتداء عليهن. لن يسبين بذلك المعنى السيء الخاص، وإن كن سوف يقيدن ويؤخذن من بلد إلى بلد. وهذا بالفعل ما حصل. ولما أراد بعض الشاميين، أن يؤخذ فاطمة بنت الحسين على رواية، أو بنت علي على رواية أخرى، قال: هب هذه الجارية، تقول: وكنت جارية وضيئة فخسيت أن يفعل ذلك فلذت بعمتي زينب، فقالت: لا والله، ما ذلك لك ولأميرك. ليش؟ لأن سبي المرأة المسلمة من مسلم غير جائز شرعا. من الناحية الشرعية، لا يجوز أن تسبى المرأة المسلمة من قبل رجل مسلم. فإذا أنت مسلم لازم تلتزم بهذا، وإذا ما مسسلم لازم تعترف. ولذلك عندما قال يزيد: بلى، إنه لي، ولو أردت لفعلت، قالت له العقيلة زينب: كلا إلا أن تدين بغير ديننا. إذا أنت تدين بدين آخر غير الإسلام، نعم. أما إذا مسلم، لا يحل لك مثل هذا الأمر. في حالات معينة، ليس منها هذا المورد.

على كل حال، فخرج ركب السبايا والأسارى من كربلاء، يوم الحادي عشر بعد الظهر، وكان يوم سبت، 11 يوم السبت، يوم السبت، 11، سنة 61، بعد الظهر، المفروض أنه بعد صلاة الظهر، خرجو الركب، ركب الأسارى، باتجاه الكوفة، بين الكوفة وبين كربلاء، 80 كيلو متر، سيقطعونها بحدود 5 ساعات أو أكثر أو أقل، ولذلك وصلوا في الليل. فلم يكن القادة العسكريون، كعمر بن سعد، وأشباهه من اللؤماء ما يريدون يدخلون في الليل، إنما يريدون وط النهار، الناس يتجمعون، يحتفلون بهذا النصر، في زعمهم، ويبينون ما صنعوه من فتح كما زعموه. لذلك أخر الدخول إلى اليوم الثاني، يوم الأحد صباحا، بعد ما الناس استيقظت، وأعلن أنه في اليوم العاشر من المحرم يدخل ركب سبايا الحسين (ع)، وتجمعوا الناس من كل مكان. بالفعل بدأ الناس يتقاطرون في الأماكن والطرقات، ويحاولون التفرج. هنا نشير إلى عدة نقاط، واحد من النقاط: أن بعض المؤرخين حاولوا أن يهونوا من المصيبة ومن الإثم الذي ارتكبه أولئك، وهذا سبق في بعض الأماكن أن ذكرنا بأنه تم تغييب النهضة الحسينية عندما شوهت المصادر التي نقل منها المتأخرون. المصادر المتقدمة الحقيقية والأصلية، مثل: مقتل: أبي مخنف الأزدي، ومثل: تاريخ الطبري، وأمثاله، وإنما اعتمد المتأخرون على مثل كتاب: الطبقات لابن سعد، وهذا فيه الكثير من الأشياء غير الحقيقية، وعلى كتاب: الأخبار الطوال لابن قتييبة الدينوري، وهذا أيضا نفس الكلام، مثلا: ابن قتيبة الدينوري: ينقل في كتابه، أنه قال: وأمر بن سعد أن تحمل نساء الحسين في المحامل المستورة على الإبل. المحامل المستورة على الإبل، هذي كان يصنعها مثل الحسين وأبو الفضل العباس في المجيء، باعتبار نساءهم محل كرامة، محل تقدير، الإبل ما تنركب إلا بمحمل، يخلون عليها قتب، لأنه مرتفع هكذا بحسب السنام، بينما الخيل والبغل، ما يحتاج، فقط تضع أي قماشة ويركب عليه الإنسان، ظهره مستو، أما الإبل، فيحتاج إلى قتب، هذا القتب يسوي معادلة بين هذا الجانب وذاك الجانب، وينصبوا عليه عادة قبة وستار، عن الشمس من جهة، وعن النظر من جهة أخرى بالنسبة إلى النساء. 

هذا الدينوري يقول: ابن سعد سوا هالشكل. وهذا مخالف لكل ما ذكره المؤرخون حتى من أتباع المدرسة الأخرى، مثل ابن الأثير. ابن الأثير يقول: فاجتازوا بهن على الحسين وأصحابه صرعى، فنحن وصاحت زينب: وامحمداه، صلى عليك ملائكة السماء، وحملن بلا وطاء ولا غطاء. فهذا اللي يسويه مثل ابن قتيبة، أو مثل ابن سعد في الطبقات، الغرض منه: هو تخفيف المصيبة، وتخفيف الشناعة فيها. وسيأتي بعض الأخبار من هذا القبيل أيضا ستذكر فيما بعد. 

قبل وصول السبايا والأسار بيوم، كان قد وصل رأس الحسين (ع)، إلى الكوفة، وكان حمله خولى ابن يزيد الأصبحي لعنة الله عليه، وهذا أشبه برجل فيه لوثة، لأنه لما أراد أن يأخذ الرأس قال لعمر بن سعد: 

املأ ركابي فضة أو ذهبا   إني قتلت السيد المحجبا

قتلت خير الناس أما وأبا    فبعض الحاضرين، إذا علمت أنه خير الناس أما وأبا فلم قتلته؟! ليش احتزيت رأسه؟! ليش جايب رأسه؟! هذا نوع من البلاهة والغفلة، أنت إذا أنت تروح إلى مكان آخر، إلى ابن زياد وتقول له هذا الكلام، مو ما راح يثيبك، ربما يعاقبك على هذه الشهادة اللي تشهدها إلى الحسين (ع). 

فهذا جاء في الكوفة، وصل في الليل، كما ذكرنا، إذا فرضنا أنه طلع بحدود الساعة 3:30، 4، عصرا، يحتاج إله إلى أرع ساعات أو نحوها إلى أن يوصل إلى الكوفة. يوصل الليل، قصر الإمارة دار رسمية، مثل الدوائر الرسمية، مو فاتحة 24 ساعة، فوجد الأبواب مغلقة، فعلى أساس يجيب الرأس في اليوم الثاني. وذهب إلى منزله وبيت هذا الرأس الشريف في منزله، وكانت عنده زوجتان: إحداهما حضرمية، من القبائل اليمنية، إجمالا – هذا بحث يحتاج إله خاص – إجمالا القبائل اليمنية كانت أكثر تعاطفا مع أهل البيت (ع) من القبائل المضرية. عرب الجنوب حسب التعبير كانت في الجملة أكثر تعاطفا مع أهل البيت من عرب الشمال: مضر، قريش، هذولا بالتالي عندهم منافسات مع بني هاشم، عندهم صراعات سابقة، إلى غير ذلك. بينما ذولاك القبائل اليمينة لم يكن عندهم هذا. نعم كان فيهم سيئون، من كندا، مثل الأشعث بن قيس وأبناؤه، وأسرته، وما شابه، لكن بشكل عام. 

فهذه: النوار بنت مالك الحضرمية من قبائل اليمن، لما علمت أنه جاء برأس الحسين (ع) بكت على ذلك، وقالت: لا والله، لا يجمع رأسي ورأسك وساد بعد هذا أبدا. وما قبلت أن يدخل إلى دارها ولا أن يبيت عندها، فذهب إلى زوجته الأخرى الأسدية. هذا واحد من الاحتجاجات اللي نسميها: الفردية، ما إلها منحى عام. عندنا احتجاج عام، في وسط الناس جميعا، كما سيأتي عن عبد الله بن عفيف الأزدي، عبد الله بن عفيف الأزدي، واحد من أصحاب أمير المؤمنين (ع)، جاهد معه وقاتل وخسر إحدى عينيه في الجمل، والأخرى في صفين، ولذلك كان كفيف البصر. لما ابن زياد خطب وسب الحسين (ع) وسب أمير المؤمنين، قام ونهض في وجهه وقال: إنما الكذاب أنت وأبوك ومن ولاك وأبوه، تقتلون أئمة المؤمنين، ثم تصعدون على منابر المسلمين! فلما اعترض عليه، أمر ابن زياد بأن يؤخذ، لكن قومه وقبيلته حاموا عنه إلى أن ذهب إلى البيت. عندما ذهب إلى البيت جردوا عليه جماعة من المقاتلين، وقاتلهم وهو كفيف البصر، بإرشاد ابنته رضوان الله عليه وعليها. تقول له: أبا جاؤوك من اليمين، فيضرب يمينا، أو شمال، فيضرب شمالا، وهي أيضا تساعده لكن بالتالي كانوا كثرة وهو وحيد، وأيضا كفيف البصر، فاتسشهد في داخل بيته رحمه الله، على ما هو المعروف. هذا احتجاج عام في وسط المجتمع، في وسط المسجد. 

لكن عندنا احتجاجات فردية مثل هذا، مثل: المرأة الأخرى، زوجة مالك ابن النسر البدي، هذا اللعين، هو واحد ممن ضرب الإمام الحسين (ع) بعدما وقع على الأرض، ضربه بسيفه، وكان على الحسين (ع) برنس فامتلأ البرنس دما. فبعد ما استشهد الإمام الحسين، إجا أخذ هذا البرنس، شوف خسة النفس، شوف ضعة المستوى، جاء وأخذ هذا البرنس، شقد قيمته هذا البرنس! أخذه وجاء به إلى الكوفة، وأمر زوجته أن تغسله، قالت له: ما هذا؟ فقال لها: هذا برنس الحسين، وقد ضربته بالسيف. فقالت له: حشا الله قبر نارا، والله لا أجتمع معك في بيت واحد. إما أنت تطلع أو أنا أطلع، وبالفعل هجرت ذلك الرجل. وكان هذا أيضا من الاحتجاج الذي نعده احتجاجا فرديا. 

في الكوفة، بعد ما دخل ركب السبايا، وقد أمر بتعطيل الأسواق، وبخروج الناس، عطلة رسمية، خلاص، الناس أيضا يخرجون للتفرج ووسائل الإعلام في ذلك الوقت أخبرت كل بلد، في كل زمن، إله وسائل إعلامية، الآن كيف أن عندنا وسائل إعلامية، كالقوات، والإذاعات وما شابه ذلك. في ذلك الوقت كان شيء مثل الطبول تدق، وواحد أو جماعة يدورون في الحارات والأماكن يطلبون من الناس أن يخرجوا ليتفرجوا أو ينالوا الجوائز أو ما شابه ذلك. وألحق بركب الأسارى، ألحق بهم رأس الحسين (ع). لأن لما وصل وشافه هذا ابن زياد لعنة الله عليه، لما جاء ركب الأسارى، حتى يدوروا بالرؤوس كلها، ألحق بهم، رأس الحسين (ع).

كأن زينب (ع) وقد التفت إلى ذلك الرأس الشريف تمثلت بقول القائل: 

يا هلالا لما استتم كمالا      غاله خسفه فأبدى غروبا 

ما توهمت يا شقيق فؤادي   كان هذا مقدرا مكتوبا 

وبدأت هذه الجولة بالسبايا في أزقة الكوفة وطرقاتها، والناس يتفرجون. طبعا مو كل أهل الكوفة كانوا يتفرجون شامتين، الناس انقسموا إلى قسمين: قسم متعاطف، قسم باكي، قسم حزين على ما حصل، وقسم متشمت وفرح بما حصل للحسين وأصحابه. وإلا وجدنا مثلا في الكوفة نساء ساقتهن الغيرة والمحبة بعد أن سألوا: من أي الأسارى أنتم؟ كأنما ما كانوا ملتفتين، من أي الأسارى أنتم؟ فقالت سكينة: نحن أسارى آل محمد. اللهم صل على محمد وآل محمد. نحن أسارى آل محمد، فلما سمعت النسوة بذلك، استعبرن وبكين، ورفضن هذا الأمر، وذهبن وجمعن أزرا ومقانع، منهم ومن جيرانهن حتى تتغطى النساء وحتى تستتر هذه النسوة اللاتي كن في ذلك الركب. 

وبعد ذلك، بعد هذه الجولة، بعد هذا العرض الذي عرضوه، استقدموهم إلى قصر بن زياد لعنة الله عليه. فابن زياد طبعا بنشوة النصر التي كانت عنده، أخذ يتهكم عليهن، أولا وجه كلامه إلى زينب (ع) وقد تنحت ناحية وهي متنكرة حتى لا تعرف. فقال: من هذه المتنكرة؟ فقالوا له: هذه زينب بنت علي بن أبي طالب. فقال لها: الحمد لله الذي قتلكم وفضحكم وأكذب أحدوثتكم. 

لاحظوا هنا عقيدة الجبر التي يبشر بها الأمويين باستمرار. هنا راح يقولها، وبعد شوي أيضا رح يقولها بالنسبة إلى علي ين العابدين. ليش؟ لأن العقيدة الجبرية، التي تنافي عدالة الله، هي من مرتكزات البناء الأمري، يقولون للناس: الله قدر أنا نصير حكام عليكم، ليش تعترضوا على هذا، الله قدر أن ينقتل الحسين، بل أكثر من هذا، يقول هنا: الحمد لله الذي قتلكم. الله قتلكم. يعني مو عمر بن سعد ولا بن زياد، ولا يزيد! فقالت لها: "إنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا، ثكلتك أمك يا بن مرجانة" 

هذا يسمونه في البلاغة: الإحالة الضدية. بدل ما تقول: أنت الفاسق، أنت الفاجر، تقول: المفضوح: هو الفاسق، المفضوح والكاذب هو: الفاجر، وهو غيرنا. إذن معنى من هو؟ لازم تستنج أنه ذلك الشخص المخاطب، وهذا من بلاغة زينب، وهي في ذلك الموضع. 

عندئذ التفت ابن زياد إلى علي بن الحسين (ع)، وهو قال من هذا، قالوا له هذا علي بن الحسين، مرة أخرى: نفس العقيدة الجبرية الأموية، يقول ماذا؟ "أليس الله قد قتل علي بن الحسين؟"، مرة أخرى: الله قتل علي بن الحسين في رأي ذلك الطاغية. فقال الإمام زين العابدين (ع) بكل هدوء: "كان لي أخ اسمه علي قتله الناس". يعني لا تشيلوا مسؤولية القتل، وتذبوها على الله، وإنما قتله الناس، قال: "بل الله قتله"، الله هو اللي قتله. قال: "الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها"، نعم كل شيء تحت إرادة الله، ولكن المبشر للقتل، المباشر للاعتداء، ليس هو الله سبحانه وتعالى، ما من شيء إلا وهو تحت إذن الله وأمر الله وعلم الله، لكن الذي يقتل مباشرة هو هؤلاء الناس. قال: "وبك جرأة على رد جوابي!" هاي طريقة الطواغيت، هاي طريقة الظلمة، لما ما يصير عنده منطق، لما ما يصير عنده كلام معقول، يتوسل بمنطق القوة، بالعنف، بالاعتداء، فقام لكي يقتله، وسحب سيفه من غمد! هنا رمت العقيلة زينب سلام الله عليها بنفسها على إمام زمانها، ابن أخيها، الإمام زين العابدين (ع)، وصاحت: يا بن زياد حسبك ما سفكت من دمائنا. بس بعد، هذا يكفي. هذا المقدار لقد بلغت فيه الغاية، "حسبك يا بن زياد ما سفكت من دمائنا، والله لا يقتل حتى أقتل قبله"، وهي تطوقه سلام الله عليه بذراعيها. 

فتراجع ابن زياد من جهة لأنه خشي أن يقتل زينب، وقتل النساء عند العرب كان عارا كبيرا، ولا سيما وهي مسالمة هنا، وهي مأسورة، ومن جهة أخرى، لأن بعض من حضر، قيل أنه عمرو بن حريث، وقيل المغيرة بن شعبة، قالا له: أن هذه امرأة ثاكل وهي لا تؤاخذ بشيء من منطقها. 

ونفس الكلام في موضع آخر، عندما أراد أن يعاقب زينب سلام الله عليها، واستل محزمه، عندا قالت له: "إنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا، ثكلتك أمك يا بن مرجانة" في إشارة لا تخفى على السامع، يعني: أنت أمك مرجانة، تلك المرأة المجوسية التي فجرت في زمانها، وهذا معروف، لذلك في كلام الإمام الحسين (ع): "ألا وإن الدعي بن الدعي"، المقصود به ابن زياد، وزياد، كلاهما يدعى لأبيه، والحال أنه ليس معلوم النسبة. وإنما كما اتهمت تلك سمية في قضية أبي سفيان باعترافه أنه أنجب زياد من سفاح، فإن هذه مرجانة أيضا، وهي امرأة مجوسية، تزوجها زياد ابن أبيه، وعرف عنها أنها غير مستقيمة، وكانت لها علاقات مع عبد وجها، ولذلك قيل: أن ابن زياد كان أشبه بذلك العبد منه بزياد ابن أبيه. لا يشبه أباه كثيرا بمقدار ما يشبه ذلك العبد الذي فجر بأمه. هكذا ما يقولون، راجعوا مثالب العرب لابن الكلبي، ففيه من هذا القبيل شيء كثير. 

هذا التعريض بأمه، وأنه أنت لا تتصور نفسك لسيطرتك على الحكم تغير المقاييس والموازين، احنا بالتالي حجورنا الطيبة ونسبنا الطاهر وأرحامنا المقدسة، لا يمكن أن تصل إليها. فلما سمع منها ذلك. قام إليها خطوات، قالوا: واستل سيفه من محزمه، ليضرب العقيلة زينب سلام الله عليها! أين أنت يا أبا الفضل العباس، أين أنتم يا بني هاشم، أين أنتم يا من صنتم هذه العقيلة الطاهرة والحوراء الكاملة عن كل أذى، حتى إذا تفانيتم وذهبتم أصبح يستامها الخسف مثل ابن زياد وأشكاله، فقام البعض ممن حضر، وحال بين ابن زياد، وبين زينب، حتى لا يضربها أمام الناس. نفس هذا أيضا يؤلم لزينب، لأن يوم من الأيام يدافع عنها أخوها أبو الفضل العباس، وأخوها الحسين، ويوم آخر يدافع عنها أعداؤها، يدافع عنها هؤلاء الذين أوردوها هذا المورد. 

 


مرات العرض: 3584
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2570) حجم الملف: 55816.57 KB
تشغيل:

سفر الركب الحسيني من كربلاء إلى كربلاء 13
كيف خاطبوا المجتمع الكوفي؟ خطبة السيدة زينب 15