14 التدبر في القرآن
التاريخ: 14/9/1440 هـ
تعريف:

التَدَبُرُ في القُرآنِ الكَرِيم

 

كتابة الأخت الفاضلة فاطمة آل السيد

 

قال اللهُ العظيمُ في كتابِه الكريم: “أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا”.

وقال جل شأنُه: “أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا”

حديثُنا بإِذن الله تعالى يَتَنَاوَلُ موضوعَ التدبُر في القرآن الكريم.

معنى التدبُر

التدبُر في اللغة يعني النظر إلى دُبُر الشيء. كُلُ شيءٍ في الحياةِ له وجهٌ يقابلك، ولهُ طرفٌ يكونُ دُبُرًا بالنسبة إلى ذلك الشيء.إقبال وإدبار، قُبُلُ الشيء ودُبُرُ الشيئ. وهذا في الأمور التكوينية إلى الكلمات إلى غير ذلك.

المنزل له وجهٌ يقابلك وله دُبُرٌ تحتاجُ أن تَذهَبَ خلف المنزل لكي تنظر إليه، فلا تستطيعُ أن تنظُرَ إليه وأنت مُقَابِلٌ لهذا البيت.

 الكلام أيضًا ينطبق عليه نفسُ الفكرة، فالكلام لهُ منطوق - ألفاظ - ولهذهِ الألفاظ أبعاد وأعماق وما ورائِيات، بمعنى دُبُرُ هذا الكلام، ماذا يُراد وماذا يُقصد. هذا بالنسبة إلى الاشتقاق اللُغوي، ولذلك يأتي عادةً هذا التعبير في الأمور التي تحتاج إلى تَفَعُل وتَعَمُل. يُقال إذا هَمَمتَ بشيءٍ فتَدَبَر عاقبته، هذا الشيء له مُقدماتٌ أمامك، وله أيضا عواقِب، المقدمات لا تحتاجُ إلى جُهد لكنَّ عواقب ذلك الشيء تحتاج إلى جُهد، وتحتاج أن تتدبرها وأن تذهب وراءها. كما قلنا المنزل لِتَرى واجِهته فإنك لا تحتاجُ إلى شيء، ولكن لكي ترى دُبُرَه فإنك بحاجةٍ لتتغير مكانك والذهاب لكي تراه. أي أمرٍ من الأمور فهو في ظاهره شيء، ولكنَّ عاقِبَتهُ ونتيجتهُ ونهايتهُ تحتاجُ إلى تأمُلٍ وتَدبُرٍ وتَفَكُر.

 القرآن الكريم أيضًا هكذا، أيُ إنسانٍ - إذا كان عربيا - يستطيعُ أن يُلاحِظ الألفاظ فيه، مثلا “بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ” شيءٌ واضح، هذه البسملة يبدأ فيها الله باسمه تعالى الذي هو الرحمن والذي هو الرحيم، وهذا لا يحتاجُ الشيء الكثير في فهم واجِهَتِه، لكن إذا أردت أن تتدبر في الأمر فستحتاجُ أن تَغُوصَ قليلًا في أعماقِ هذا الكلام، وأن تنظُرَ أدباره، وتنظر نتائجهُ وخلفياتِه.

 أمثلة على التدبُر في القرآن الكريم

المثال الأول: لو أردنا أن نُطبقَ هذا الكلام مثلا على آية “أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا”، من الممكن أن يستنتج أيُ شخصٍ بالقراءةِ الظاهرية بأن هذا تساؤُلٌ في القرآن، ظاهِرُ الآية هو التساؤل، ولكن في حالِ أن شخصًا مُتدبِرًا قرأها فإنه سيكتشف من نفس هذا اللفظ أمورًا أخرى. منها أن التدبُر أمرٌ محبوب ومطلوب ومرغوبٌ في القرآن الكريم لأن الله حرَّض وحضَّ عليه “أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ” أي لماذا لا يتدبرُون، وهذا نوعٌ من التشجيع والحث على مِثل هذا العمل. هذه نتيجةٌ من النتائج غير الموجودة في الظاهر، والتي تحتاجُ إلى تفكيرٍ وتأمُل حتى ينتهي القارِئ لمثلِ هذا الأمر.

ومع التفكير بشكلٍ أعمق في الآية نستكشف أنه بالإضافة إلى أن التدبُر في القرآن الكريم أمرٌ محبوبٌ ومطلوبٌ من عند الله وإلا لما أُمُرَ بِهِ من قِبَلِه سبحانه، إضافةً إلى ذلك فإنهُ أمرٌ مقدورٌ عليه، ولو لم يكن كذلك لما أمرَ اللهُ بِه. فيَتَبَين من الآية أن هذا الأمر مُتَيَسِرٌ للإنسان.

ونستفيدُ أيضًا أنَّ الذي يُعيقُ الإنسانَ عن الوصولِ إلى معاني القرآن إنما هو إقفالُ العقل. حين يُقفِلُ الإنسانُ عقله فإن النورَ الإلهي لا يصلُ إليه. لو كان في منزلك نافذة ولكنها مُغلقة فإن الشمس والهواء لن يصلا إلى المنزل، بالرغم من أن الشمس تُشرقُ كل يوم، ولكن إغلاقُ النافذة سيكونُ سببًا في عدم وصول ضوء الشمس إلى المنزل. وكذلك نافذةُ عقل الإنسان إذا كانت مُغلقة فإن نور الله لا يصل إليها، طبعا القلوب في الآية تعني العقول، وليس عضو القلب، هذا شيءٌ من التدبُر والتَفَكُر في نهايات هذه الآية والذي يكشفُ للإنسان أمورًا مُتَعَدِدَة.

 

المثال الثاني: نأتي للآية الثانية “أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا”. قد نستنتج من الآية أولًا أنَّ الإنسان مُطالبٌ بأن ينظُر في معاجِزِ الأنبياء، وأن يُفتشَ عن العقائد لأنهُ طُلِبَ منهُ التدبُر في أمرٍ هو إعجازي.

لو كان هذا القرآن من غير الله لَكَانَ فِيهِ اختلافٌ كثير، لكن لأنهُ ليسَ فيهِ اختلاف فهو من عندِ الله. هذه هي النتيجة التي نصلُ لها من خلالِ التأمُل في المعجزة، فإذن التأمُل والتفكُر في معاجز الأنبياء من الأمور المطلوبة من الإنسان.

الُمتدبِر أيضا بإمكانه أن يستنتج من هذه الآية أن غَيرَ اللهِ هو قَرِينٌ للنقص والعجز والاختلاف في أفكارِهِ ورُؤَاه إلا إذا كان ذلك هو الله أو كان من قُوةِ الله، كما هو الحال في النبي المعصوم والإمام المعصوم حيث لا يتناقض كلامُه ولا يتخالف. من كان دُونَ الله، ومن لم يُمدِدهُ اللهُ بقوتِه فهو مُؤَهَلٌ للاختلاف والاضطراب في كلماته وأفكاره، أما الله فهو بريٌء من ذلك. وهكذا كلما استطاعَ الإنسان أن يتأمل ويتدبر استطاع أن يسكشفَ أمُورًا جديدة، مع أن هذا الاستكشاف ليس ظاهرًا في الآيات وإنما هو موجودٌ في دُبُرِها، لذلك فالتدبُر هو أمرٌ مطلوب من الله في كلماتِه وأياتِه الُمنزلة.

 

التدبُر والتفسير بالرأي:

بعضُ العلماء خالفُوا التدبُر وقالوا أن التدبُر ليس صحيحًا، وأنه لا ينبغي أن يكون لأنهُ ينتهي إلى التفسيرِ بالرأي. إذا بَدَأَ الإنسان بمطالعةِ القرآنِ الكريم وباستنتاجِ أفكارٍ من رأسِه فإن التفسير حينها يُعَدُ تفسيرًا بالرأي. وهذا مذمومٌ “من فَسَّرَ القرآنَ بِرأيهِ فقد هَلَك”. وهذا غيرُ صحيح، هناك فرقٌ بين التدبُر في القرآن الكريم وبين التفسيرِ بالرأي.

التدبُر ممدوحٌ ومطلوب كما في الآيتين السابقتين، بينما التفسير بالرأي منهيٌ عنه. الفرقُ بينهُما نعرِفُه من خلال المثال التالي: لو علمتَ أنَّ المطر سينزل، وصنعت قنواتٍ خاصة لهذا المطر تصل للمكان الذي تريده لمنزلك، حين يهطُلُ المطر من السماء فإنهُ سيجتمع في هذه القنوات ويصلُ لبيتِك دونَ سائِر الأماكن. في حالةٍ أخرى أنت تُلاحظ مكان نزولِ المطر فتذهب وتزرع في هذه المنطقة التي ينزلُ المطرُ فيها.

الحالة الأولى أنت أعدَدتَ قنواتِ المطر وسيَّرتَ المطر إلى المكانِ الذي عينتَهُ أنتَ له، بينما في الحالة الثانية قُمتَ بالزراعة في المكان الذي ينزِلُ فيه المطر.

 

التفسير بالرأي هو الحالةُ الأُولى، المُفسّر من أولِ الأمر قامَ بتجهيزِ قنواتٍ واتجاهاتٍ مُعينة في عقله، ثم قام بتعبئةِ الآيات المباركة في هذه القنوات وعبث بها بمِزاجِه، وهذا خطأ. أما التدبُر فيعني أن الإنسان يسيرُ مع القرآن ويتبعه ويهتدي بٍهُداه.

 أذكُر هنا - ولَعَلّ هذا كان قبل ٤٠ سنة - كُنا في النجف الأشرف أيامَ حُكمِ البعثيين، وكان في ذلك الوقت مكتوبٌ في بوابة النجف على جدارٍ كبير هذه الآية “فَهَٰذَا يَوْمُ الْبَعْثِ”. هذه الآية القرآنية المقصودُ منها يومُ القِيامة، ولكنها كانت موضوعةً بقصدِ أن هذه أيامُ البعثيين، وأنه هذه الأيام مذكورةٌ في القرآنِ الكريم، هذا يُعدُ من التفسيرِ بالرأي.

وهكذا عندما يقولُ الاشتراكيون مثلًا بأن المقصودَ من هذه الآية المباركة “وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ” أن هذا مبدأ اشتراكي مُحارِبٌ للرأس مالية، هنا هذا المُفسِر كان عندهُ قناة مُفصلة ومُجهزة قامَ بوضعِ الآيةِ فيها.

 كيفيةُ التَدَبُر:

بعدما تعرّفنا على الفرق بين التدبُر والتفسير بالرأي، فإنهُ من المهم معرفةُ كيفيةِ التدبُر.

أولًا إخلاصُ النيةِ لله عز وجل بأنه إذا هدانا سبحانه لشيءٍ ألا نُحَكِمَ فيهِ آراءَنا، وألا نأخُذَ بعضَ الكتابِ ونَترُكَ البعض الأخر. ينبغي للإنسان أن يُخلِصَ نيتَهُ لله سبحانه أنهٌ عندما يهديه الله إلى أمرٍ أو فكرةٍ أو مفهوم أن يُتابِعَه سواءً كانَ معهُ أو ضِده، عليهِ أم معه.

 ثانيًا التفكُر في كلماتِ الآياتِ المباركات. ننظُر للكلمة الموجودة في الآية ماذا تعني؟ وهذا طبعًا يقتضِي أن نتَدَبَر في الآيات الُمحكمة وليس المتشابهة والمتشابكة والتي ليست من مُستوانا، وإنما الآيات التي فيها منحىً أخلاقي أو عقائِدً بَيِنَة أو أحكامًا واضحة، هذه آياتٌ محكمات، وهي أكثرُ آياتِ القرآن الكريم.

مثلا نتفكر في سبب اختيار لِكلمةٍ مُعينة دُون غيرها من الكلمات. تعلمون أن كلمات اللغة العربية أولا كُلما زادَ المبنى فيها زادَ المعنى أيضًا، مثلا كلمةُ “قَرُبَ” تختلف عن “اقتَرَبَ” ، “حَمَلَ” تختلف عن “حَمَّلَ” مع أنها نفسُ المفردات ولكنَّ المعنى يختلف.

كمثالٍ من القرآن الكريم نذكُر الآية المباركة التي تقول “وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا” وفي موضِعٍ أخر آيةٌ أخرى تقول “إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ”.

أيضًا سُمِي بعضُ أعداء أمير المؤمنين بالقاسطين، والله يقول ان الله يحب المقسطين، فكيف يكونُ ذلك؟

يقولُ عُلماءُ اللغة أن “قَسَطَ” وفاعِلُها “قَاسِط” تعني “ظَلَمَ” وفاعِلُها “ظالِم”، لذلك المعنى في الآيةِ الأولى هو الظالمون، وعكسها تمامًا “أَقسَطَ” فهُو “مُقسِط” أي “عَادِلَ”، هنا تغير الفعل من ثلاثي إلى رباعي واختلف المعنى على إثرِ ذلك، في هذه الحالة يحتاجُ الإنسان أن يُميزَ بين هذه الكلمات.

ذكرنا سابقًا في ليلةٍ ماضية أنه من ميزات اللغة اشتِقاقُها من الفعل الثلاثي غالبًا، فكُلما يزيدُ في الفعل شيء فإن معناهُ يتغير. الفعل “دَبَّر” مُختلفٌ عن “استَدبَرَ” وعن “تَدَبَرَ”. كُلُ إضافةٍ وتغييرٍ في الصيغة تؤثر في المعنى، فيحتاجُ الإنسان أن يتفكرَ في هذه الكلمة لماذا استُخدِمَت في هذا المكان مع إمكانية استخدام كلمة أخرى فيه.

مثالٌ آخر نذكرُه في ما يرتبط بذبح الحيوان وتذكيته. تذكيةُ الحيوان لها أحدُ طريقتين إما الذبح أو النحر. النحرُ للإبل والذبحُ للشاة والخروف والطيور وما شابه. اختلف الناس في تذكية البقر لأنهُ ليس بحجمِ الإبل ولا بحجم الشاة، فهل يُلحق بالإبل أم يُلحقُ بالفئة الأخرى؟ فرجع المسلمون للإمام (ع) فقال “ليس إلا الذبح” قالوا كيف ذلك؟ قال “إن الله تعالى يقول -إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً -“. هنا كان بالإمكان أن يقول الله عز وجل “أن تنحروا” أو “أن تُذكوا” ولكن ما دام أنه سبحانه استخدم كلمة الذبح ليس غيرها، وهي مقرونةٌ بأمره تعالى فيتبين أن الذبحَ هو المشروع، وغيرُهُ يحتاجُ إلى دليل، طبعًا الأئمة (ع) عندهم عِلمُ الكتاب، ولكن نحن نتعلم من طريقتهم.

 ثالثًا النظر لسياقِ الكلمة والمعنى التركيبي للجملة. كُلُ جُملةٍ تتكون من كلماتٍ ومن سياقٍ مُعين. ترتيبُ الكلمات بهذا الشكل هو الذي يجعلُ كلام الناسِ مُختلفًا فيما بينهم، نحن نتكلمُ بنفس الكلمات لكنّ ترتيبَ الكلمات يختلِف فتختلِفُ المواضيع على إثرها.

لذلك نحتاجُ أن نتدبَرَ في السياق التريبي للجملة، ونتفكَرَ في ارتباط الجملة ببعضها، هل هذه الجملة بعضها يرتبط ببعض بمقدمة وسبب؟ أي أن القسم الأول منها سبب والقسم التالي نتيجة؟ أو تِعداد؟ أو غيرُ ذلك؟

 نذكرُ ما نُقِلَ عن الأصمعي - مع أن مقولات الأصمعي يُشكِكُ فيها بعضُ العلماء والسبب هو إمكانية أن يُنقلَ عنهُ كُلُ هذا النقل، لأن لهُ صولاتٌ كثيرةٌ في الأدبِ في مناطقَ مُتعددة من الحجاز واليمن والعراق وغيرها، على أي حال نحنُ نستفيدُ من أصلِ القصةِ هنا - يقولُ الأصمعي كُنتُ أقرأُ الآية المباركة “وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ ۗ - واللهُ غَفُورٌ رَحِيم -” وكان بِجانبي أعرابي فقال “كلامُ من هذا؟” قلتُ “كلامُ الله” قال “لا يكونُ كلامُ اللهِ هكذا” فالتفتُ أني قرأتُهُ بشكل خاطئ، الُمفتَرَض أن تُقرَأ الآية “وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ” قال الأعرابي هذا يكونُ كلامُ الله عز وجل، لأن هاتان اليدان سرقتا فقطعهُما اللهُ بِعَزَتِه وعَاقَبَهُما لِحكمتِه، اللهُ عزيز فأمر بقطعِهِما من جهةِ العزةِ والقُوّة، واللهُ حكيم، قرّرَ بِحكمتِه هذا القانون حتى لا تسُود السرقةُ في المجتمع. وهذا كلامٌ صحيح.

 وهكذا بالنسبةِ إلى غيرها من الآيات. قِيل أن أَحَدَ أصحابِ رسول الله (ص) قرأ الآية المباركة “وَفَاكِهَةً وَأَبًّا” فَقال “أما الفاكهةُ فعرفناها، وأما الأبُ فلا نعرِفُه، ثمّ لماذا هذا التكلف؟” أي ماذا يضُرُنا لو لم نفهم ماهو الأب؟ فسُئِلَ أمير المؤمنين (ع) عن ذلك فقال “في الآيةِ التي تليها - مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ -” متاعًا لكُم المقصود بها الفاكهة، وأنعامُكُم تحتاجُ الحشيش والتبن وهكذا فهذا هو الأب.

فسياقُ القرآن الكريم يُوضح لكَ المعنى فما كان هذا الرجل بحاجةٍ لأن يقُولَ بأن هذا تكلف، هُو ليسَ تكلُفًا وإنما أمرٌ مطلوب، لا سيما إذا كانت إمامةُ النَاسِ عندك، ولكن هذا عليُ ابن أبي طالب وصيُ نبينا محمد (ص).

 أضِف إلى ذلك أن الكلمات التي جاءت في آيات القرآن البعضُ منها لهُ استخداماتٌ أخرى في آيات أخرى، فيتوجب علينا أن نتبين إن كانت تُفَسِرُها، تُعارِضُها أو تُقيدُها أم لا؟

مثلا يأتي في القرآن الآية المباركة “إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ” ظاهِرُ الآية أن الناسَ سينظرُونَ إلى الله عز وجل يوم القيامة، وهذا ما استند عليه بعضُ أتباعِ المدارس الإسلامية الأخرى. أحدُ دُعاةِ هذه المدرسة - وله تسجيلٌ على اليويتوب بهذا الكلام - يقولُ أكثر من هذا، فيقول حتى في الدنيا يستطيع الإنسان أن يرى الله عز وجل في منامِه، ويقول أنا كُنتُ أشُكُ في ذلك في السابق ولكن أنا الآن عندي يقينٌ بذلك لأنني أنا رأيتُه سبحانه ١٠ مرات في المنام.

نعودُ للآيةِ المباركة، ظاهِرُها أن العيونَ تنظُرُ إلى ربِها، ولكن لو بحثنا في القرآن لرأينا الآية “لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ۖ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ” ونحن نقول أن القرآن الكريم قطعًا غيرُ مُتناقِض فلا يُوجدُ فيه اختلاف، فمن غير الممكن أن يقول تارةً “لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ” وتارةً يقول “إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ”. لذلك نَحمِلُ “نَاظِرَةٌ”على معنى آخر وهو بمعنى التقدير وإلا سيتناقضُ القرآن الكريم.

وعلى هذا السياق ننظر هل يُمكنُ تفسير الآيات بآياتٍ وكلماتٍ أخرى في القرآن الكريم أم لا، إذا كانت تُفسِرُها فنرجِعُ إلى ذلك التفسير القرآني، وأمثالُ هذا كثير.

 رابعًا التَفَكُر في بعض الضمائر والروابط في الآيات. كما في قوله تعالى “وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا” سُفَهَاء هنا تعني من ليس لهُ تدبيرٌ في مالِه كاليتامى الصغار مثلًا إذا ورثوا مالا فالحكم الشرعي ألا نُعطيهم أموالهم حتى البلوغ “وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ“ أي لا بد من البُلُوغِ والرُشد، أو يكون إنسان غير رشيد حتى وإن كان بالغًا، فالحكم الفقهي هنا ألا نضع المال في يده.

السؤال هنا هو لماذا قال الله سبحانه “أَمْوَالَكُمُ” مع أنها واقعًا “أموالهم” أي أموال اليتامى؟، هنا نستفيدُ من التدبُر، فالمال لهُ جهتان، جهةٌ شخصية وجهةٌ اجتماعية فهو جزءٌ من الدورةِ الاقتصادية في البلد، وبالتالي فهو جزء من اقتصاد المجتمع، والشاهدُ على ذلك قول الله عز وجل بعدها مباشرةً “الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا” فبهذه الأموال يقُومُ بِناءُ المجتمع. ومن هذا نستنتج أن هذا المال، الذي وإن كان لهُ جهةٌ شخصية، إلا أنهُ لهُ جِهةٌ اجتماعيةٌ عامّة. والدول الآن تتعامل بنفس هذا النظام، لو أراد مواطنٌ أن ينقُل ثروتهُ كاملةً للخارج فإن الدولة تحجُرُ على أمواله حتى وإن كانت مُلكُهُ الشخصي، لأن ذلك يُسبِبُ انهيارًا اقتصاديا.

أيضا غسيلُ الأموال ممنوع،حتى وإن كان الطرف الآخر قابِلٌ بذلك، لأنه يُفسِدُ الاقتصادَ الحقيقي لصالح اقتصادٍ مُزيف. فإذن “أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا” لها صِبغَةٌ اجتماعية، وكُل هذا استفدناه من إضافة ضميرٍ فقط للكلمة.

أيضًا “وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا” لم يَقُل الله سبحانه “وارزُقوهم منها” لأن “منها” تعني أن تقتطِعَ من هذه الأموال فتنقُص أو أن تستهلك من رأس المال لهذا اليتيم، بينما المطلوب هو أن تُنَمِيه اقتصاديا، والربحُ من هذه التنمية تُعطيه لهذا اليتيم، “ارزقه فيه” معنى ذلك أنك تتوسعُ في استثمار مالِ هذا اليتيم، وهذا أيضًا استفدناهُ من ضميرٍ في الآية.

 خامسًا ذكرُوا أيضًا أن التدبُر قد يكونُ تدبُرًا موضعيا أو تدبُرًا في الموضوع بشكلٍ عام. هذا يعني أن تجمع كُل آياتِ التوحيد مثلا أو آيات النبوة ثم تتدبّر فيها كُلها.

 

سادسًا وهذا الأهم في كُلِ ذلك وهو أن يتواضع الإنسان في أنه لو أمرهُ القرآن بشيء أن يلتزم به، لو خطَّأَهُ القرآن في بعض أفكاره فإنهُ يأخُذُ به ولا يُصِرُ على أفكاره.

وأن يتواضع ولا يعلُو برأسِه “وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ” فالتكبُر ليس فقط تكبُرًا أخلاقِيًّا بل أيضا هناك تكبُرٌ في العلم. هذا الكِبر العلمي منبوذ.

يُنقل أنهُ في زمان الشيخ مرتضى الأنصاري، وهو أستاذُ أستاذ أستاذ مراجعنا المعاصرين، ولديه الكثير من الكتابات والمؤلفات أشهرُها كتابان الرسائِل والمكاسِب، وكان من الزُهدِ والتواضُعِ والقداسةِ ماهو فوقَ العبارة، وكان يُدّرِسُ في النجف الأشرف، وكان لديه طالبٌ فهمُه ضعيف ولكنه كان دؤوبًا على الحضور للدرس، كان هذا الطالب كُلُ يومٍ يأتي للدرس ويخرجُ كما دخل، لا يستطيع حفظ أو فهم شيء، فقدرات الناس الذهنية تختلف، استمر الحال بهذا الطالب لعدة سنوات، لربما أربع أو خمس سنوات، فاشتد به الأمر وذهب لأمير المؤمنين (ع) وشكى لهُ الحال، وطلب منهُ أن يشفعَ لهُ عند الله ليفتحَ عليهِ أبواب الفهم، فلما خرج وذهب إلى بيته رأى في الليل في عالم الرؤيا، كما ينقُل، أن الإمام علي (ع) قد أتاه وقال له “أدنِ أُذُنك” وقال في أُذُنِه “بسم الله الرحمن الرحيم”، وهذا ليس بقليل “إن بسم الله الرحمن الرحيم أقربُ للإسمِ الأعظمِ من سوادِ العين إلى بياضِها”، فقام الطالبُ من المنامِ مُستبشِرًا وذهب للدرس، فرأى أنه يستوعبُ مطالبَ الشيخ الأنصاري بالكامل، وفوق هذا لديه أسئلة وإشكالات عليه، فبدأ مناقشةَ الشيخ، وكثُرَت الأسئلة فاستغرب الحاضرون، اليوم الثاني والثالث نفسُ الشيء، فأصبح يأخذُ فترةً طويلةً من الدرس في المناقشات والمناظرات، وأصبح لا يقبلُ بكلامِ الشيخ إلى أن قال طَالَبَ بعضُ الطلبة بإنهاءِ هذا الوضع لأن وقت الدرس يضيع، فالشيخ الأنصاري حفاظًا على الدرس طلب من الطالب الحضور إليه، فدنى الشيخ من أُذُنِه وقال له “من قرأ لك بسم الله الرحمن الرحيم في أذنك كان قد قرأ لنا - ولا الضالِّين -” أي لا ينبغي للإنسان أن يكون هكذا، فهو بحاجةٍ إلى أن يتواضع سواء كان عالم دينٍ أو مُثقف، وهذي نصيحة إلى الُمثقفين وإلى أمثالي من صغار الطلبة، فلا تتصور أن ما لديك هو علمُ الأول والآخر، وأن غيركَ لا يفقهُ شيئًا.

     

 

مرات العرض: 3500
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2556) حجم الملف: 72199.93 KB
تشغيل:

13 قراءات سبع أو حرف واحد ؟
15 الامام الحسن المجتبى وتفسير القرآن