الأئمة والمجتهدون هل هم مشرعون ؟ 3
التاريخ: 3/9/1439 هـ
تعريف:

هل الأئمة والفقهاء مشرعون في الدين أم لا؟

تفريغ نصي الفاضلة أم فاطمة
تصحیح الفاضلة أفراح البراهيم


في رواية عن سيدنا ومولانا أبي جعفر محمد بن علي الباقر صلوات الله وسلامه عليه قال : ( إنَّ الله عز وجل أدّب نبيه  فأحسن أدبه فلما أكمل له الأدب قال : " وإنك لعلى خُلق عظيم )1 ثم فوض إليه أمر الدين والأمة ليسوس عباده،  فقال: ( ما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)2 وإنّ رسول الله كان مسدّدًا موفقًا مؤيدًا بروح القدس ، لا يزل ولا يخطئ في شيء مما يسوس به الخلق ... وقال عز وجل:( من يطع الرسول فقد أطاع الله )3 ثم إنّ نبي الله فوّض إلى علي و أئمته فسلمتم وجحد الناس والله لنحبكم أن تقولوا إذا قلنا وأن تصمتوا إذا صمتنا ونحن فيما بينكم وبين الله عز وجل ما جعل الله خيرًا في خلاف أمرنا )4 صدق سيدنا ومولانا محمد بن علي الباقر سلام الله عليه. 
سبق أن ذكرنا أنّ المشرع الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى وأنّ أي شخص يتقدّم في هذا الميدان من غير إذن الله عز وجل يكون متعاطيا ما ليس له ، ويكون مفتريًا على الله عز وجل في دينه ثم ذكرنا بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وآله هناك قولٌ واسعٌ من حيث القائلين به في أنّه صلوات الله عليه له حق التشريع الجزئي المحدود، وقد شبهه بعض مراجع الدين كما في تقريراته وبحثه، شبّهه بما هو عند المعاصرين أنّ هناك في دول العالم شيئين أحدهما مثلًا قانون أساسي للبلد يضع الأنظمة وهناك شيء آخر بمتمّم القانون ومفصّله ، بعض العلماء شبّه تشريعات رسول الله بما هو متمم القانون الأساسي ومفصّل الفصول القانونية لا أنّ النبي مثلا يأتي فيشرع شيء مبتكرًا ، وإنما شيء أصله موجود كالصلاة فيشرع في هذه الصلاة كيفيات معينة أو أحكام خاصة ، وهذا الرأي يستدل أصحابه بعدد من الروايات المعتبرة ويقولون أنّ ذلك من الله تعالى من أجل إظهار منزلة رسول الله وعظمة شأنه ، ومن جهة أخرى اختبار طاعة الخلق لرسول الله في هذه التشريعات وتمّ الحديث في ليلةٍ مضت عن هذا الموضوع عن هذا الرأي وهناك رأي آخر في هذا الموضوع يقول إنّ النبي صلى الله عليه وآله في كل حالاته هو مبلغٌ و ورسولٌ وناقلٌ وليس من شأنه أن يشرّع وأنّ ما صنعه في الصلاة والزكاة في سائر الأمور هو تبليغٌ عن الله وهو نقلٌ عن الله عز وجل إلى الناس.
 حديثنا سيكون في المرحلة الثالثة وهو هل للأئمة المعصومين عليهم السلام حق التشريع في الدين أو لا ؟
إن قال أحدهم أنّ النبي لا يحقّ له ذلك فمن باب أولى أن يقول أنّ المعصومين ليس لهم الحق فالذي يقول أنّ النبي ليس مشرعًا ولا بتشريعات جزئية ولا بأشياء تفصيلية بل كان مبلغًا لا مشرعًا ولا مبتكرًا فمن الطبيعي أنّ هذا الأنسان يقول أنّ المعصومين ليس لهم هذا الحق . وهناك من  القائلين بإنّ له حق التشريع بإذن الله عز وجل الله حيث أعطاه وأذن له ، وأكمل خُلقهُ وأكمل علمهُ ومعرفته ، وأوصله إلى أعلى درجةٍ يمكن أن يصل إليها بشر ثم أذن له بأن يمارس هذا التشريع المحدود في الأمور التفصيلية، فإن قبلنا هذا الكلام يتبادر هنا سؤال:
 هل كان هذا الأمر أيضًا للمعصومين أم لم يكن؟ ثم هل كان للفقهاء والمجتهدين هذه الصلاحية ؟ هل هم مُشرِعون أم لا ؟
بالنسبة للمعصومين عليهم السلام هناك قولان وتوجهان:

 القول الأول
 ما ثبت للنبي المصطفى محمد صلى الله عليه وآله من أمور فهو ثابت للأئمة المعصومين إلا ما استُثني، فعليٌ عليه السلام  هو نفس رسول الله ، وكذلك المعصومين أيضًا كالنبي ،ورواياتهم في هذا كثيرة ( ما ثبت لرسول الله ثبت لنا) إلا بعض الأمور المُستثنيات مثل النبوة قال تعالى : (إلا أنّه لا نبي بعدي )5 مثل نزول الوحي بنحو الذي كان ينزل على رسول الله فهذا خاص برسول الله ، فهناك مجموعة من الأمور هي خصائص لرسول الله صلى الله عليه وآله وهذه لا يشترك فيها معه  غيره حتى الأئمة عليهم السلام، ما عدا هذه الأمور ما ثبت لرسول الله يثبت للمعصومين مثل :
1/  إمامة الخلق فهي ثابتة لهم كما ثبتت له.
2/ العصمة ثابتة لهم كما ثبتت لرسول الله .
 3/ وجوب طاعة الناس لهم ثابتة لهم كما ثبت ذلك لرسول الله .
4/ حُجية أقوالهم ولزوم العمل بأقوالهم ثابتةٌ على الناس كما هي ثابتةٌ لرسول الله.
 5/الولاية ثابتةٌ لهم كما هي ثابتةٌ لرسول الله .
 أصحاب هذا الرأي يقولون بما أنّه ثبت لرسول الله حق التشريع فإذن يثبت للمعصومين نفس هذا الحق ، وربما أيضًا يستفيد هؤلاء من بعض ما ورد في الروايات التي تفيد التفويض إليهم كالرواية الواردة عن الإمام الباقر عليه السلام قال : ( ثم إنّ النبي فوّض إلى عليٍ وائتمنه) هناك تفويض في الرواية لكنها لم توضّح هل هو تفويض في أمر التشريع أو في أمور أخرى ؟، لكنّ أصحاب هذا الرأي يقولون: بما أنّ النبي قد فوّض إلى عليٌ فإذن حتى التشريع يكون من حقه .
ماهو التفويض؟
 التفويض هو الإيمان بإنّ الله قد فوّض إلى النبي أو فوّض إلى المعصومين ، وفيه بحث مفصل وفيه كلام كثير ذكره العلامة المجلسي رحمة الله عليه في البحار وقال : إنّ التفويض يُتَصور على تسعة وجوه ، بعض هذه الوجوه كفر مثلًا: قد يعتقد شخص  أنّ الله سبحانه وتعالى بعد أن خلق الخلق فوّض كل شيء إلى النبي والأئمة وتركهم ، هذا القول يعتبر من الكفر الذي هو خلاف توحيد الله عز وجل ، ونحن الشيعة الإمامية لا نعتقد أنّ الله سبحانه وتعالى فوّض الخلق بهذا النحو إلى أي أحدٍ، لأنّ  الله هو الخالق الحي القيوم المتصرّف الأمر الناهي ،وهناك أنحاء أخرى من التفويض مقبولة كما ذكرنا في محاضرة سابقة بالنسبة لرسول الله وهي أن يفوّض إليه أمر التشريع المحدود وبين هذه المراحل تتعدّد – تحتاج لحديث مفصل خاص- ، إذن أصحاب هذا الرأي يقولون كلّ ما ثبت لرسول الله ثبت للمعصومين وما ثبت للنبي من حق التشريع فهو إذن ثابت للمعصومين عليهم السلام.

القول الثاني
 يذهب إليه كثير من مراجع الدين المعاصرين ويذكرونه في أبحاثهم العالية حيث يقولون : أنّ الأئمة عليهم السلام منزلتهم عظيمة جدًا وولايتهم على الخلق ثابتةٌ ، ومشابهتهم لرسول صلى الله عليه وآله مؤكدةٌ كما ذكرنا في العصمةِ والإمامةِ وحجية أقوالهم ولزوم إتباعهم وغير ذلك من الأمور لكن لم يثبت أنّهم شرعوا كرسول الله حكمًا من الأحكام، ومادام لم يثبت لهم فلو كان ثبت لهم لعرفناه كما ثبت لنا أنّ النبي فعل في الصلاة كذا وفعل في الزكاة كذا ، وفعل في الخمر كذا وفعل في الصوم كذا، فكما جاءت روايات معتبرة على أنّ النبي صلى الله عليه وآله مارس حقيقةً التشريع المحدود والتفصيلي فثبت لنا هذا الأمر بالنسبة  للمعصومين عليهم السلام  أنهّم لم يشرّعوا ، حيث لم نجد رواية تقول أنّ الإمام الفلاني قد أضاف هذه العبادة أو أضاف فيها شيئَا ، أو أنّه مثًلا منع هذا الأمر وكان مباحًا أو أباح ذلك الأمر وكان ممنوعًا ، لم نجد ما يثبت هذا الأمر ، ولكنّ الأئمة عليهم السلام ما رسوا الأحكام الولائية وهي مختلفة عن الأحكام الشرعية العامة الدائمة كما ورد عن رسول الله (حلال محمد حلال أبدًا إلى يوم القيامة وحرام محمد حرام أبدًا إلى يوم القيامة )6، فعلى سبيل المثال  يبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله عن ربه سواء في الكتاب أو السنة كما قال الخمر محرمةٌ لعن الله شاربها و عاصرها ساقيها وحاملها وبائعها وشاريها والمحمولة إليه كل هؤلاء الطوائف المرتبطة بهذا الأمر هي ملعونة وثمنها سُحت وأيّ حلقةٍ من حلقات إنجاز قضية الخمر ملعون صاحبها – هذا حلال محمد حلال إلى يوم القيامة ، وليس مرتبط بزمن معين ولا مرتبط بأشخاص معينين.، هذا من الأحكام الشرعية الدائمة.
 وهناك بعض الأحكام تسمى أحكام ولائية لأننا قلنا إنّ مناصب النبي متعدّدة منصب التبليغ ومنصب الولاية على الناس فقد يُقرر حكمًا ولائيًا يمنع شيئًا أو يبيح شيئًا لفترة معينة، كما ذكرنا  في السنوات الماضية أنّ النبي صلى الله عليه وآله حرّم لحوم الحُمر الأهلية ، وقد يقول أحد الأشخاص أنّ هذا الحمار حرم النبي لحمه ومنع من ذبحه إذا نظرنا لذلك نقول مادام أنّ النبي حرمه معنى ذلك أنّه محرم إلى يوم القيامة وهو من تشريعات النبي لأنه لم يذكر في القرآن ، ولكن يأتي الإمام الصادق عليه السلام فيفسّر لنا ما الذي صنعه رسول الله ويقول لنا أنّ هذا الحكم ليس حكم دائم للزمان والمكان ، وليس إلى يوم القيامة وإنّما هذا الحكم هو حكمٌ ولائيٌ ، وكان خاصًا بظرف خاصٍ ، وهو أنّه عندما فُتحت خيبر وانتصر النبي على اليهود ، كانت خيبر تبعد حوالي 120 -130 كيلومتر عن المدينة وحينما انتصر المسلمون أخذوا غنائم كثيرة وكانوا يحملون هذه الغنائم على الحمار فنهى النبي عن أن تذبح هذه الحيوانات ، لأنهّا كما  يقول الإمام الصادق عليه السلام : لأنّه كان حمولة الناس، إذًا هذا النهي خاص بغزوة خيبر لأجل هذا الغرض ، وبعد انتهاء غزوة خيبر لسنا بحاجة إلى الالتزام بهذا الحكم نظرًا لأنّ هذا الحكم خاص بذلك الزمان، إذن  هذا الحكم يسمى حُكم ولائي وليس حُكم شرعي كُلي عام عابر للزمان والمكان والأشخاص.
لكنّ فقهاء مدرسة الخلفاء لم يلتفتوا إلى هذا المعنى الذي أشار إليه الإمام الصادق عليه السلام فبقي الحُكم محرمًا عندهم إلى هذا اليوم ، أما فقهاؤنا نظرًا لأنّهم يعتبرون أنّ كلام الإمام الصادق عليه السلام شارحٌ ومبينٌ لكلام جده رسول الله رأوا أنّ هذا الحكم حكمٌ ولائي وليس حكم دائم
فأصحاب هذا الرأي يقولون بأنّ الأئمة عليهم السلام كان لديهم هذا النوع من التشريع ومن التحليل والتحريم في الأحكام الولائية وليس في الأحكام التشريعية الدائمة .
  وهناك فرق في إضافة رسول الله إلى الصلاة الركعات حتى أصبحت  صيغة الصلاة من ذلك الوقت إلى يوم القيامة  كما هي الآن ولم ولن تتغيّر ، وعلى كل مسلم أن يلتزم بها في كل زمان ،  أما في مسألة الحمار الأهلي لم يكن كذلك بل هو حُكم ولائي لفترة من الزمان.
مثال آخر كان في زمان الإمام الجواد عليه السلام أبي جعفر محمد بن علي الجواد عليه السلام فقد حدثت بعض الظروف الأمنية والاجتماعية الخاصة بشيعة أهل البيت عليهم السلام ربما لا نعرف تفاصيلها لكنّه على أثر تلك الظروف قام الإمام الجواد عليه السلام بمنع الشيعة من أن يؤدوا إليه الخُمس في تلك السنة  وهي سنة ألفين وعشرين للهجرة ، فقد أمرهم الإمام في تلك السنة  أن لا يؤدوا إليه الخُمس ، وهذه تحدث حتى في هذا الزمان فقد يكون إعطاؤك الخمس للمرجع فيه خطورة عليك من قبل بعض الجهات ، فهنا الامام الجواد عليه السلام قام بحكم ولائي وأمر شيعته بأن يتوقّفوا عن دفع الخمس ، وليس المقصود أنّ الخمس أصبح غير واجب إلى يوم القيامة بل هو لفترة زمنية معينة،  ففي سنة ألفين وتسعة عشر كان الخمس واجبًا ، وكذلك في سنة ألفين وواحد وعشرين ، أما في سنة ألفين وعشرين بتوجيه من الإمام فقد جمّد دفع الخمس من قبل شيعته إليه .
وكذلك كان للأئمة أن يؤخروا بيان حكم معين ، إذ يوجد لدينا أحكام تم بيانها في وقت متأخر ، حيث يذكر العلماء أنّ الروايات الدالة على نجاسة عرق الجُنب من الحرام أو مانعيته عن الصلاة صدرت في زمان الإمامين الهادي والعسكري عليهم السلام ، وكذلك بالنسبة للحكم الشرعي فيما لو استمنى شخص على الحرام سواء كان رجلًا أو امرأة وهو عمل حرام لو افترضنا أنّه في هذه الأثناء تعرّق هل يستطيع الصلاة في ملابسه هذه أم لا ؟
العلماء هنا على أكثر من رأي ، البعض  من القدامى يقولون أنّ هذا العرق صار نجسًا ولا يجوز الصلاة فيه ، والبعض الآخر من العلماء يقول بأنّ هذا العرق ليس نجسًا ولكنه مانعٌ عن الصلاة فيه ، وهو مثل وبر القط (وبر حيوان لا يؤكل) هو ليس نجس لكنّه لا تجوز الصلاة إلا بعد إزالته عن هذه الملابس ، وكذلك هذا العرق هو ليس نجس لكن لا تجوز الصلاة إلا بعد إزالته فعرق الجُنب مانع من الصلاة على أي من التقديرين وهذا الحكم صدر متأخرًا ، وهذا يحدث من الأئمة بعض الأحكام يتأخر بيانها ، وقد ورد في بعض التفاسير أنّ قوله تعالى (هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب )7 تعني أنّ هذا العطاء المقصود هو عطاء الأحكام ، فهذا الحكم مرة يبينه ومرة يحجبه عن البيان ، لأنّ الظروف لا تناسب أن يبينه لهذا الشخص أو الظرف الزماني لا يتناسب مع ذلك ،  فالإمام المعصوم هو الذي يقرّر هل يناسب أن يجيب بمحض الحق أو يجيب على نحو التقية أو يؤخر الإجابة .
إذن  فأصحاب هذه الفكرة يقولون أنّ المعصومين عليهم السلام لم يثبت عنهم أنهم قاموا بالتشريع على النحو الذي قام به رسول الله صلى الله عليه وآله ، بل كانوا ينقلون عن النبي صلى الله عليه وآله وهناك رواية يستشهدون بها وهي رواية جيدة يقول فيها: ( كل ما أحدّثك هو عن رسول الله –أنا مبلغ مبين ولست مُشرع -) وفي رواية أخرى عن أبي عبدالله ( إنّ عندنا جلدًا سبعون ذراعًا أملى رسول الله وخطّه علي بيده وإنّ فيه جميع ما يحتاجون إليه حتى الإرش في  الخدش )8 أحد الأشخاص يسأل الامام ويقول له هل هذا رأيك ؟ فيجيبه الامام : لا هذا ليس رأيي بل هي أصول علمٍ من رسول الله نتوارثها كابرًا عن كابر فالأمر بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وآله قائمٌ على أساس أننا نرث منه العلم والمعرفة ونحدثك عنه وليس تشريع من عندنا .
وهذا الرأي الثاني  يذهب إليه أكثر العلماء ، فإذا كان لم يثبت للأئمة عليهم السلام عنهم أنهم شرعوا على النحو الذي كان عند رسول الله صلى الله عليه وآله فهل يبقى مجال أن يقول أحد أن العلماء والفقهاء مشرعون؟!
إذا كان الإمام لم يثبت عنه حق التشريع فهل يثبت للمأموم أو المجتهد ؟

بالطبع كلا إذ أنّهم يستنبطون الأحكام ، ولديهم طرق وروايات ومنهاج للاستنباط يجب أن يسيروا عليه فمن هذه الأمور يستنبطون الأحكام ، وهي ليست تشريعات جديدة وإنما أصولها موجودة وهم يطبقون تلك الأصول على هذه الأمور التفصيلية والصغيرة ، لذلك نعتقد أنّ ما هو شائع في مدرسة الخلفاء من الحديث عن أنّ المفتي موقعٌ عن الله عز وجل هذا كلام خاطئ ، وقد انتشرت هذه الفكرة مؤخرًا لديهم  ، ونحن نعتقد خلافها ، وقد تكوّنت هذه الفكرة في حدود سنة ستمئة وخمسين للهجرة في زمن الشيخ شرف الدين النووي الشافعي الذي يُعد من علمائهم الكبار ولديه كتاب اسمه (المجموع ) وهو كتاب فقهي استدلالي مقارن بين الشافعية وبين بقية المذاهب الأربعة ، وهو كتاب مفصّل ولديه كتاب آخر أسمه (أدب المفتي والمستفتي)  وقد ورد فيه أنّ الفتوى هي توقيعٌ من الله عز وجل والمفتي موقعٌ عن الله ، وبعد حوالي مئة عام أو اقل جاء تلميذ ابن تيمية وهو ابن قيم الجوزية المعروف بابن القيم وهي مدرسة حنبلية موقوفة وكان والده  القيم عليها فسميت القيم الجوزية وابنه ابن القيم وهو من العلماء الكبار لديهم ومن أهم تلامذة ابن تيمية ولديه كتاب اسمه (أعلام الموقعين عن رب العالمين) وفيه أشار إلى أنّ هؤلاء الفقهاء هم موقعّون عن الله وفتاواهم موقّعة من الله ، وحكمهم هو حكم الله تعالى ، ونحن نعتقد بخلاف ذلك حيث أنّ هذه الفتاوى من علماء أهل البيت وإن جلّت مرتبتهم وعلمهم إلا أنّها ليست توقيعًا عن الله عز وجل وإنما هي حكم مستنبط من الأدلة الشرعية قد يطابق الواقع وقد لا يطابق الواقع ،  قد يطابق حكم الله حقيقة وقد لا يطابق حكم الله حقيقة.

 هنا يرد سؤال/ لماذا إذن نتبعه؟
 لأنّه حجة لك وعليك فحينما يأتي يوم القيامة وتسأل / لماذا ارتمست في نهار رمضان متعمدًا؟ فتجيب يا رب أو يا ملائكتي أنت أمرتنا أن نرجع لأهل الذكر وإلى أهل الفقه  المتخصصين في الأحكام وعقلنا أرشدنا  بلزوم رجوع الجاهل إلى العالم وأهل الخبرة وأنا رجعت إلى شخصٍ اعتقد أنه في أعلى درجات المعرفة بالدين والفقاهة كما أمرتني – إذ قال حسب اجتهادي ونظري في الروايات ومعرفتي بالقواعد وبحثي الدقيق واجتهادي توصلت إلى أنّ الارتماس في نهار شهر رمضان كما هو رأي بعض العلماء يجوز –،  وبعض العلماء لديهم رأي أخر فأنا أأخذ برأي مرجعيي وليس حسب أهوائي فهو حجة ، ولأنه لا يوجد طريق آخر فلو كان الامام المعصوم حاضر لذهبت إليه مباشرة وأخذت الحكم هل الارتماس مبطل للصوم أم لا ؟ أنا في زمان لا يكون فيه المعصوم حاضرًا بحيث أستطيع الوصول إليه وسؤاله فأنا سأرجع إلى ما أرجعتني إليه فهو ليس توقيعًا عن الله عز وجل وليس حُكمًا واقعي ، بل هو حكم أنا معذور في اتباعه لأنّي إن لم اتبعه سيكون حجة عليّ يوم القيامة لماذا لم أتبع هذا الحكم وهو طريق وضعه الله لي لمعرفة أحكامه .
إذن ما يذهبون إليه أنه توقيعٌ عن الله هذا أمر ظنيٌ ولكنه ظن معتبر ونحن مأمورون باتباعه ، وهذا ممّا يعظم شأن أهل الدين ولزوم إتباعهم ، و هم ليسوا مُشرعين ولكن إذا جاؤوا من الطريق الصحيح والتخصص المناسب فإنه يجب طاعتهم ، وهذا الباب هو باب خطير ليس لأحد أن يطرقه وهو ليس له بأهل ، وفي هذه الأزمنة نرى بعض النماذج ممّن درس أربع أو خمس سنوات في الحوزة أو كلية الشريعة أو أضاف إلى نفسه حرف الدال في المقدمة أصبح يرى نفسه معبرًا عن الله ولا يُسأل من أين أتيت بهذا الحكم وأين ناقشته؟ كيف تصنع معارضاته؟ يعتبر نفسه أنّ له الحق بأن يفتي ، وهذا من الجرأة على أحكام الله ، فالإنسان عليه أن يوقّر العلم وأن يوقّر أهله وأن ينظر إلى هذه الفئة التي تفني عمرها في استنباط الأحكام الشرعية ،والحمد لله الذي أكرمنا في مذهب أهل البيت عليهم السلام بعددٍ كبير فاضلٍ من المراجع و الفقهاء والعلماء الذين انحنت ظهورهم في تحقيق مطالب الدين وأصول المذهب وروايات أهل البيت عليهم السلام ومن يلتزم برأي هؤلاء يثق ثقةً تامةً أنّ هذا الحكم الشرعي لم يخرج إلا بعد أُن أشبع بحثًا وتحقيقًا وتنقيبًا ، وبعد الاطمئنان إلى أنّه هو المأمور باتباعه العلم والبصيرة ، وهي التي ترفع الإنسان إلى أرفع الدرجات ، إنها البصيرة  في الدين والمعرفة ، والبصيرة في الحياة هي التي تجعل الإنسان محل إشادة حتى من أعدائه.
----------------------------------------------
1 سورة القلم آية 4
2 سورة الحشر آية 7
3 سورة النساء آية 80
4 الكافي ج1 ص 266
5شبكة المعارف الاسلامية
6 الكافي ج1 ص58
7 سورة ص 39
8 بصائر الدرجات ص167
 

 

مرات العرض: 3573
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2570) حجم الملف: 55347.46 KB
تشغيل:

المشرع الحقيقي هو الله تعالى 1
الخط الناقد للعلماء .. ماله وما عليه 30