تحويل القبلة .. آراء وأدلة 9
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 9/9/1439 هـ
تعريف:

تحويل القبلة آراء وأدلة


تفريغ نصي الفاضلة فاطمة الخويلدي
تصحيح أفراح البراهيم


قال تعالى ( قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فولّ وجهك شطر المسجد الحرام  وحيث ما كنتم فولّوا وجوهكم شطره وإنّ الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنّه الحق من ربهم وما الله بغافلٍ عمّا يعملون )1

مناحي التوحيد في الإسلام
يختصّ الدين الإسلامي بموضوع القبلة الواحدة من بين بقية الديانات وذلك أنّ الله سبحانه وتعالى بعد ما أرسل نبيه لكي يؤكد على وحدة المعبود وتوحيد الله عزّ وجل وكان شعاره لا إله إلا الله شرع بعد ذلك توحيد العبادة ، فكانت هذه العبادات التي ذكرنا في وقتٍ مضى في صورتها وكيفيتها وهيئتها واحدة بين المسلمين ، وصلاتهم وصومهم و حجهم غير خاضعٌ للاقتراحات وإنّما هذه العبادات كانت توقيفية وعلى نهجٍ موحد .
 ثم جاءت بعد ذلك المرحلة الثالثة وهي توحيد جهة العبادة فكان أن وجّه المسلمون في عبادتهم وصلاتهم إلى الكعبة المشرفة ، ولذلك نرى اليوم أنّ المسلمين في كل أقطار الأرض يتوجّهون إلى نقطة جغرافية واحدة وهي مكة المكرمة والكعبة المشرفة زادها الله شرفاً ولا نعهد كما يقول المرجع الديني الراحل السيد عبد الأعلى السبزواري تغمّده الله بالرحمة متوفى سنة ١٤١٤ هجرية وهو من أعاظم الفقهاء وأعاظم المقدسين الورعين ، لديه كتب كثيرة منها (مهذب الأحكام ) شرح استدلالي في الفقه ) ولديه أيضًا (مواهب الرحمن ) في التفسير وهو كتابٌ قيم جداً تجاوز فيما يبدو الثلاثين مجلداً ، وفي بعض هذه الطبعات في هذا المقام يقول في ذيل هذه الآية المباركة في قضية القبلة ( لا نعهد في سائر الأديان توحيداً لجهة القبلة بالرغم من وجود بعض الإشارات وبعض الممارسات ، في القرآن  الكريم بالنسبة إلى موسى وبني إسرائيل ورد ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) وهذه تحتمل أحد تفسيرين:
التفسير الأول / أن يكون بيت موسى و بيت هارون قبلة  لقومهم  وهذا الذي أشار إليه هذا الفقيه في كتابه  .
التفسير الثاني / أنّ المقصود اجعلوا بيوتكم قبلة يعني متقابلة مثل الدائرة  فهذا البيت يواجه  ذاك  البيت وذاك  يواجه هذا فيما يشبه الدائرة فكل بيتٍ يكون مقابل البيت الأخر، وهذا تفسير بعيد عن قضية القبلة التي نعرفها ، وإذا كان بمعنى أنّ بيت موسى وبيت هارون يكون قبلة لبني إسرائيل فالمقصود في تلك المدينة و المنطقة لا في كل مكان ، وقد ورد أنّ بني إسرائيل  كانوا يجعلون التابوت الذي فيه السكينة والعلم أمامهم ويسيرون خلفه فكأنه قبلةً  لهم ، لكنّ هذا المعنى الذي هو موجودٌ في قبلة المسلمين أنّ أي إنسان مسلم في أي مكان من الأرض يجب أن يتجه في عبادته إلى نقطة محددة هذا غير موجود عند بني اسرائيل وايضاً لا يوجد لدى المسيحين ، حيث أنّ المسيحين يتوجهون في عباداتهم جهة شرق بيت المقدس باعتباره أنّه محل ميلاد السيد المسيح لكن لم يعلم أنّ هذا كان على أثر وحيٍ سماويٍ وتوجيه إلهي.
توحيد القبلة وحي سماوي ذا هدف وغاية
  1/ المكان الوحيد الذي نرى فيه توحيد لجهة العبادة وأنّ ذلك نابع من وحي السماء هو ما يوجد لدى الإسلام ، حيث أنّ قضية القبلة أصلها واضح و هي حالة تكاملية بعد توحيد العقيدة وتوحيد الله عز وجل وتوحيد العبادة ثم توحيد الاتجاه ، وفيه من الإشارات إلى قضية الوحدة والالتئام الاجتماعي بين المسلمين ، ولو تصوّرنا أنّ كل المسلمين اختلفوا في اتجاه قبلتهم فكان أحدهم يتّجه شرقًا والآخر غرباً والآخر شمالاً لكانت حالة التفرق أكثر بكثير مما هي عليه الآن.
2/  من جملة  الجوانب المشتركة التي تؤلف القلوب يفترض أن يكون قرآننا واحد وربنا واحد ونبينا واحد وقبلتنا واحدة .
وقضية القبلة دارت حولها عدة بحوث منها قضية تحويل القبلة وتغير القبلة ، وقد تحدّث القرآن الكريم عن ذلك في آيات متعددة منها الآية التي توّجنا بها هذا الحديث
( قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فولّ وجهك شطر المسجد الحرام ) ثم خطاب لكل المسلمين ( وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره )
تحويل القبلة من القدس إلى مكة :

الحادثة بحسب ما نقلها أرباب الحديث والمؤرخون من الطائفتين تقول أنّ نبينا المصطفى محمد صلى الله عليه و آله بعد قدومه إلى المدينة في السنة الثانية بعد غزوة بدر سنة اثنين هجرية كان يصلي في ذلك اليوم في مسجد لبني سلمة وهو المعروف الآن بمسجد القبلتين كان يصلي صلاة جماعة بالمسلمين حيث كان النبي أمامهم وهم خلفه وخلفهم النساء المسلمات ، بعدما أنهى الركعة الثانية من صلاة الظهر في نفس الصلاة نزل عليه جبرائيل وأخذ بيده ودار به حتى أصبح مقابلًا لجهة الكعبة المشرفة ودار معه المسلمون وكذلك المسلمات.
وأصبح كل الجمع باتجاه الكعبة وأصبحت صلاتهم نصفها باتجاه بيت المقدس ، ونصفها باتجاه الكعبة ، وتفشّى الخبر وشاع بين المسلمين وتغيّر الاتجاه في جميع المساجد .
هل كان الاتجاه في السابق إلى جهة بيت المقدس طوال هذا المدة إلى أن أصبح في سنة اثنين هجرية بعد نصف شهر رمضان إلى جهة الكعبة أم لا ؟
هناك رأيان ونظريتان
1/  القول الأول وهو المشهور جداً ولعله الحاضر في الأذهان أنّ الصلاة كانت  في السابق باتجاه بيت المقدس  إلى هذا التاريخ ، ثم أصبح التوجّه للكعبة المشرفة ، ولذلك المشهور عند المسلمين أنّ بيت المقدس هو القبلة الأولى ، هذا هو الرأي المشهور عند المسلمين وقد يستدلّ عليه بالإضافة إلى هذه الشهرة ما كتبه المؤرخون وأرباب الحديث في بعض ما ورد من طريق  الإمامية ، ومن ذلك ما نقله الشيخ الطبرسي في كتابه (الاحتجاج) عن الامام العسكري عليه السلام الرواية التالية  ( لما كان رسول الله صلى الله عليه وآله بمكة أمره الله أن يتوجّه نحو بيت المقدس في صلاته  ويجعل الكعبة بينه وبينها إذا أمكن وإذا لم يمكن استقبل بيت المقدس كيف كان )2 إذن كان في مكة الاتجاه إلى بيت المقدس على هذه الرواية ، وكان يجعل الكعبة بينه وبينها إذا أمكن في الأماكن التي يستطيع أن يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس، مثلًا كان إذا صلى في نفس المسجد الحرام وقف خلف الركن اليماني تكون أمامه الكعبة وأمامهم جهة الشام لأنّ الشام في الشمال  والمدينة في الوسط ومكة في الجنوب،
فإذا وقف النبي خلف الركن اليماني واستقبله يعني أنّه استقبل الكعبة واستقبل بيت المقدس وإذا لم يمكن حسب هذه الرواية استقبل بيت المقدس كيف كان ، وفي أماكن لا يستطيع فيها أن يستقبل الكعبة ولا أن يستقبل بيت المقدس مثلًا  إذا صلى في بيته وبيت النبي يقع شرق  الكعبة  لا يستطيع أن يستقبل الكعبة وبيت المقدس  فيبقى على استقباله لبيت المقدس ولا يستقبل الكعبة ، ولو افترضنا أنّ المسلمين عندما كانوا  في شعب أبي طالب ثلاث سنوات ، حيث كانوا محاصرين في الشعب، وكان شعب أبي طالب ليس في الجهة الجنوبية بالنسبة إلى المسجد الحرام وإنّما تقريباً في الجهة الشمالية فلا يستطيع أيضاً أن يستقبل الكعبة ويستقبل بيت المقدس، و إذا أراد أن يستقبل بيت المقدس ستكون الكعبة خلفه ، وكذلك عندما ذهب للطائف لم يستطيع  أن يستقبل الكعبة ويستقبل بيت المقدس ؛ لأنهما جهتان مختلفتان فماذا يصنع هنا يستقبل بيت المقدس وإن لم يستقبل الكعبة هذا بحسب ما ترويه الرواية ، فكان رسول الله يفعل ذلك طول مقامه ثلاث عشر سنة  في مكة  إن استطاع أن يستقبل الكعبة ويستقبل بيت المقدس فإنه يفعل ، وإن لم يستطع يترك الكعبة ويستقبل بيت المقدس ، فلما كان بالمدينة وكان متعبّداً يستقبل بيت المقدس وينحرف عن الكعبة ، لأنّه أصبح في الوسط بين الكعبة والمدينة وبيت المقدس وإذا أراد أن يستقبل بيت المقدس وهو في الوسط يجب أن يعطي ظهره إلى الكعبة ، إذ أنّ الكعبة في الجهة الجنوبية والمدينة متوسطة ، وبيت المقدس في الجهة الشمالية فإذا أراد استقبال بيت المقدس يجعل الكعبة إلى ظهره وهذه رواية نقلها الشيخ الصدوق رضوان الله عليه في كتابه (من لا يحضره الفقيه ) ولم ينسبه إلى إمام من الأئمة ، حيث ذكر أنّ النبي صلّى نحو  بيت المقدس بعد النبوة ثلاثة عشر سنة  بمكة ، وتسعة عشر شهراً في المدينة ، والمجموع حوالي أربعة عشر سنة  وسبعة أشهر  كان يتوجه إلى بيت المقدس ، إذن القبلة الحقيقية الأولى بناءً على هذا الرأي كانت هي بيت المقدس.

 هذا الكلام قد أشكل عليه بسبب روايات صحيحة ومنها رواية عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله لم يجعل الكعبة خلفه بمكة أبداً ، وبناءً على هذه الروايات ماذا كان يفعل رسول الله في الصلاة إن كان في بيته أو في شعب أبي طالب وفي رحلته إلى الطائف والروايات لا تستطيع الإجابة على مثل هذا السؤال ، ولكنّها تقول بأنّ النبي لم يجعل الكعبة خلفة بمكة أبدًا، وهذا الراي هو المشهور ولكن توجد حوله بعض الملاحظات إذ أنّه كيف يعقل أنّ الكعبة المشرفة التي هي بمنزلتها ليست فقط لدى الموحدين بل حتى عند الوثنين  منزلة عظيمة والتي كانت محجة الأنبياء ( وإذ جعلنا البيت مثابة للناس )3
مثابة أي محل الرجوع والملجأ الذي يلتجىء إليه باعتباره بيت الله والكعبة المشرفة التي بناها إبراهيم قبل بيت  المقدس بآلاف السنين ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت )4 وهي المكان التي حجّ إليه الأنبياء وشرّع فيه الحج وقصدها الأنبياء ، كيف يعقل أنّ النبي يكون في وسط مكة ومع ذلك يعطيها ظهره ولا يستقبلها ، وكذلك تكون على يمينه وتكون على شماله فإذن الرأي الأول وهو الرأي المشهور تقريباً وهو الذي عليه الأكثر.

 2/ الرأي الثاني وهو غير مشهور لكن له مؤيدات وهو يقول أنّ القبلة الحقيقية هي الكعبة المشرفة وذلك لموقعها في منظومة التوحيد الله سبحانه وتعالى جعلها بالنسبة للأنبياء والموحدين قال تعالى ( طهّر  بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود )5 ومع تحديد القبلة قال  ( فلنولينك قبلة ترضاها )
رضا النبي ليس نابع من شي ، ونلاحظ عبث قريش التي لم تكن تقيم قداسة لأي شىء لكنّ الكعبة كانت بالنسبة لهم شيء مقدس ، و بنو هاشم الذين كانوا ورثة الاتجاه الإبراهيمي كانوا يعظّمون الكعبة كما نرى في قضية إبرهة عندما جاء لهدم الكعبة ، وأتى عبد المطلب مع بني  هاشم يدعون الله تعالى  ( اللهم إنّ المرء يمنع رحله فامنع رحالك ...لا يغلبنّ محالهم وصليبهم أبدًا محالك ..  أين كنت تاركهم وقبلتنا فأمر ما بدا لك )6
كانوا يتأمّلون حماية الله لهذا البيت العظيم لأنّهم يعلمون منزلته كونه محجة الأنبياء جميعًا ، وكونه بناء التوحيد منذ البدايات البشرية ، وكونه  المكان المقدس الأعظم ، وما هي قيمة بيت المقدس قياساً إلى الكعبة المشرفة ، هو مسجد من المساجد لا يعادل شيئًا ً بالقياس إلى مكة ، ربما بالقياس لغيره من المساجد له منزلة عظيمة ،  لكنه بالقياس إلى مكة غير ممكن فأصحاب هذا الرأي يقولون أنّ القبلة الحقيقية الواقعية والدائمة هي الكعبة المشرفة ، والنبي صلى الله عليه وآله كان يصلي إليها والشواهد التاريخية التي تتحدث عن أنّ الناس كانوا يرون النبي يصلي تلقاء الكعبة المشرفة  كثيرة ، كقضية عفيف الكندي التي نقلها التاريخ عندما أتى للعباس بن عبد المطلب وكان يقصد الكعبة ، ويقول أصحاب هذا الرأي عندما هاجر النبي إلى المدينة وكان فيها جمع كبير من اليهود وكانت لهم القوة المالية والبشرية إذا كانوا ثلاث قبائل  كبيرة: قبيلة بنو النظير وقبيلة بنو قريضة وقبيلة  بنو قينقاع وكانوا في أماكن متعدّدة في قلب المدينة ولديهم جمهور كبير في فدك وخيبر، بالإضافة إلى أنّهم أهل الكتاب والفئة الدينية المتميزة آنذاك على العرب ، وعلى عكس ذلك كان وجودهم في مكة قليل جدًا ، ولا يقاس بكثرتهم وقوتهم في المدينة ، وبناءً على هذه الفكرة والنظرية الثانية ومن أجل مصالح متعددة أمر النبي صلى الله عليه وآله أن يتوجّه إلى بيت المقدس وذلك لمصالح  عديدة منها أنّه لا يريد عداءهم خاصة أنّ الإسلام كان في بداية نشأته، فكان لا يريد أن يستفزّهم ، لذا أمره الله بأن يتوجّه إلى بيت المقدس ، بالإضافة إلى احتمال آخر وهو أنّه إذا رأى اليهود موافقة النبي لاتجاههم وتعظيمه وتقديسه لما يعظّمون وما يقدّسون وهناك احتمال وهو إذا رأى اليهود أنّ هذا النبي الذي أتى موافق لهم في الاتجاه آمن بعضهم به وصدّقه ، وآمن بأنه النبي المبعوث والموعود ، لذا أمر الله نبيه بأن يتوجّه لبيت المقدس ، حتى مرّت السنة الأولى للهجرة ومرّت السنة الثانية ، ثم حدثت غزوة بدر التي نصر الله فيها المؤمنين نصرًا مؤزراً ،  ثم افتعل هؤلاء اليهود المشاكل واتخذوا من اتجاه المسلمين لبيت المقدس قبلة  ذريعة للقول  بأنّهم هم الأصل والمسلمون هم الفرع ، وقالوا بأنّ لهم الأفضلية وما هؤلاء المسلمين إلا متطفلين على دينهم وقالوا بأنّ النبي موسى له الأسبقية في القبلة  ، ومن هنا جاء سبب تغيير القبلة ولا يوجد مصلحة للاستمرار في الاتجاه إلى بيت المقدس ، ولم يكن النبي محبًا للالتزام بهذه القبلة لكنه لم يسأل ربه بأن يغيّر القبلة لكنّ الله خبير بذات الصدور ، ويعلم بتفضيل النبي للقبلة الأولى فهي قبلة الأنبياء ومحجة الأنبياء فنزلت الآية (  فلنولينك قبلة ترضاها ) إذن النبي كان يصلي أربعة عشر سنة إلى بيت المقدس لكنها كانت قبلة مؤقتة بدلالة الآية ( قبلة ترضاها ) فهي قبلة مؤقتة  زمنها زمن قصير،  ويؤيد هذا ما نقله ابن حجر العسقلاني من علماء مدرسة الخلفاء الكبار في كتابه (فتح الباري في شرح صحيح البخاري) ينقل رواية عن ابن عباس يقول فيها لما هاجر النبي صلى الله عليه وآله   إلى المدينة واليهود أكثر أهلها يستقبلون بيت المقدس أمره الله أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود فاستقبلها سبعة عشر شهراً وبعضهم يقول تسعة عشر شهراً وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يحب أن يستقبل قبلة إبراهيم فكان ينظر إلى السماء فنزلت الآية.
فإذن القبلة الأصلية الحقيقية لم تكن بيت المقدس وإنما صارت هذه القبلة إلى بيت المقدس على أثر هجرة رسول الله للمدينة وكون اليهود أكثر الناس في المدينة وأنّه لم يكن يشأ الاصطدام معهم ، ويؤيّد هذا الكلام  تلك الرواية المعتبرة عن الامام الصادق عليه السلام (  لم يجعل الكعبة خلف ظهره بمكة ابداً حينما سئل هل كان رسول الله يصلي إلى بيت المقدس ؟ قال نعم ، فقلت: أكان يجعل الكعبة خلف ظهره؟ فقال: أما إذا كان بمكة فلا ، وأما إذا هاجر إلى المدينة فنعم ، حتى حوّل إلى الكعبة )  7 ، والرواية القائلة أنّه كان يترك الكعبة ويستقبل بيت المقدس ليس لها سند ، والرواية الصحيحة ذات السند المعتبر تقول  أنّ النبي لم يجعل الكعبة خلف ظهره بمكة أبداً ، إضافة لما نقل عنه في التاريخ من أنه رؤي مراراً يصلي إلى جهة الكعبة المشرفة .

السبب في القول بأنّ القبلة هي بيت المقدس
هناك اتجاه في التاريخ الاسلامي وفي كتب  الحديث يحاول أن يعلي من شأن بيت المقدس على حساب الكعبة المشرفة وهو اتجاه مسلمة أهل الكتاب مثل كعب الاحبار ووهب بن منبه  وعبدالله بن سلام هؤلاء كانوا من الأحبار والرهبان المسيحين الذين يرون أنّ بيت المقدس هو الأفضل وأنّ فلسطين هي بلاد الشام هي الأشرف وهي التي يحشر منها الخلائق، بخلاف رأي  أهل البيت عليهم السلام  الذي يعارض هذا الاتجاه بقوة حيث يقولون بأنّ الكعبة المشرفة كما قال الله سبحانه وتعالى ( أول بيت وضع للناس )8 بني بأمره ، وأمر بالحج إليه من أول بنائه إلى أن تقوم الساعة ، وجعله مثابة للناس ، والأحكام المترتبة عليه أحكام في غاية الاهمية ، لذلك عندما أتى شخص للإمام الباقر وقال له : إنّ  كعب الاحبار يقول  أنّ الكعبة تسجد لبيت المقدس في كل غداة ، فقال عليه السلام: فما تقول فيما قال كعب؟ قال: صدق القول ما قال كعب، فقال عليه السلام: كذبت وكذب كعب الأحبار معك وغضب. قال زرارة: ما رأيته استقبل أحدًا يقول كذبت غيره.. ) 9
 وقد كذّبه الإمام لأنّه شارك صاحبه في الكذب وأمضى على كلامه بالصدق.
هنا يتبادر سؤال أنّ هذه الأمور تبين لنا أنّ إمكانية أن تكون الكعبة متروكة كقبلة من البداية غير معقول فكيف يرضى رسول الله  بالكعبة قبلة له  ومع ذلك  تكن قبلته مدة أربعة عشر سنة ، والله يقول له ( لنولينك قبلة ترضاها  ) ومع ذلك أربعة عشر سنة يدعه يتوجه إلى جهة أخرى ، وأصحاب هذا الرأي يقولون لا يعقل ذلك وإنّما كانت هي فترة من الزمان ويستشهدون برواية معتبرة عن الإمام الصادق عليه السلام وهي نفسها التي نقلناها مسبقًا لكنّه بالتأمل والتدقيق فيها يقول كما نقله الحر العاملي رضوان الله عليه في وسائل الشيعة  معاوية بن عمار عن الصادق عليه السلام يقول ( وكان يصلي في المدينة إلى بيت المقدس سبعة عشر شهراً
 ولكنه بعد ذلك يقول ( ثم حوّل إلى الكعبة)
ومعنى كلامه أعيد إلى الكعبة أي أنّ مكانه الأصلي كان هو الكعبة ثم تغيّر لمكان آخر ثم أعيد إلى الكعبة ،   وهذا هو الذي حصل بالنسبة إلى القبلة ، حيث كانت قبلة رسول الله صلى الله عليه وآله في الأماكن الذي كان يمكن  له أن يستقبل بيت المقدس  والكعبة كان يستقبلهما احتراماُ لبيت المقدس لا لأنه قبلة وإنما قبلته الحقيقية هي الكعبة المشرفة .
بعض المسلمين الذين ماتوا قبل أن يتم تحويل القبلة إلى الكعبة
مثل البراء بن معرور كان  وهو في المدينة يصلي إلى الكعبة ، وعندما مات كانت وصيته أن يدفن مسقبلًا القبلة ، وهذه من الممارسات الموجودة مسبقًا ولم يعارض فيها رسول الله بل أيّدها ، لأنّ القبلة الحقيقية هي الكعبة المشرفة  ، ولكن لفترة زمنية محددة ولظرفٍ ما صارت بيت المقدس.
هذا الرأي الثاني وهو كما قلنا رأي غير مشهور لكن بعض الباحثين يرى أنّ الأدلة حوله أكثر من الأدلة  على الرأي المشهور  ، وما حدث بعد ذلك من تحويل القبلة وردة فعل اليهود عندما بدؤوا يشكّكون الناس في القبلة وفي صلاتهم فردّ الله عليهم بقوله ( لله المشرق والمغرب فأين ما تولوا فثم وجه الله )10
الله سبحانه وتعالى هو مالك الجهات وهو الذي يتعبد له البشر حتى في الصلاة الواحدة قد يقول لك صلّ نصفها في هذا الاتجاه ، ونصفها في الاتجاه الآخر ، فهو المشرع وله الأمر والحكم فيه ،  وفي رواية مروية عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه دخل عليه عبدالله ابن  ابي  يعفور وقال له لو قطعت لك تفاحة نصفين وقلت لك هذا حلال وهذا حرام ماذا كنت تفعل قال له أسلّم . لماذا؟ لأن الإمام لا ينطق كذباً ، ولو كان غير معصوم لك أن تسأل كيف يكون ذلك ، و ما هو الوجه في ذلك ؟ ولماذا هذه صارت حرام وهذه صارت حلال والحال أنّهما من تفاحة واحدة ، والآن أنت للتو قسمتها لك حقٌ لك أن تستفسر وأن  تستفهم من الفقيه لأنه غير معصوم  ولابد أن يقدّم دليله ،  لكن بالنسبة إلى النبي وبالنسبة إلى الإمام المعصومين لا تستطيع ذلك بل يجب عليك أن تصدق.
الله سبحانه وتعالى  عندما يوجّه الناس  في هذا الاتجاه أو في ذلك الاتجاه فلا مشكلة في ذلك ، ولو تساءل أحدهم كيف يكون حكم هذه الصلاة الكثيرة الحركة ألا تبطل الصلاة ؟

الجواب على ذلك
1/ أنّ هذه التشريعات كانت فيما بعد ولم تكن في أول التشريعات.
2/ لو فرضنا أنّها مبطلة ، لكنها لا تكون مبطلة إلا إذا كانت مخالفة لأمر الله ، وإنّ أمر الله سبحانه في الاستقرار في حال الصلاة فلابدّ من الامتثال لأمره ، وإن أمر بالتحرّك فعليك بالحركة فأنت مطيع لله ولا محذور من ذلك.
3/ أحد الإشكالات التي أثارها اليهود أنّهم قالوا بأنّ الذين صلّوا وماتوا قبل التغيير كانوا يصلّون إلى بيت المقدس كيف يكون حكم صلاتهم ،وقد جاء الردّ عليهم بأنّ الله لا يضيع عملهم بقوله (وما كان الله ليضيع إيمانكم )11يعني صلاتكم نحو بيت المقدس .

الحكمة من تحويل القبلة
امتحان من الامتحانات ابتلي بها المؤمنون ليعرف من هو المطيع ومن هو العاصي ومن ينقلب على عقبيه ، كما أنّه أحد الأمور التي من خلالها يتم تثبيت استقلالية الدين الإسلامي ، وتكريس الوحدة بين المسلمين من جهة ، وإثبات الاستقلالية الإسلام عن سائر الأديان
فقد كان المسلمون يتجهّون مع اليهود لنفس الجهة لأجل
مصلحة معينة وجدها الله سبحانه وتعالى، ثم انتفت هذه المصلحة وأصبح من الضروري اثبات استقلال المسلمين وتوحّدهم في قبلة معينة ،.
بعض المسائل حول القبلة
1/ يجب التوجّه للقبلة في الصلاة المفروضة وإن كان راكبًا ، أمّا إن كانت صلاته نافلة فيجوز له أن لا يستقبل القبلة .
2/ من كان في المسجد الحرام قبلته نفس الكعبة، و من كان يرى المسجد فقبلته المسجد ومن كان خارج مكة قبلته مكة ، ومن كان خارج هذه البلاد قبلته هذه البلاد ، ومن كان  في الفضاء قبلته الأرض  ويستطيع أيضاً أن يتوجّه إلى خصوص مكة ، ومن كان  في مجرة غير مجرتنا قبلته مجرة درب التبانة التي نعيش فيها ، إذن كلما ابتعدت  أصبحت قبلتك موسعة ، وليس من الضروري أن تتجّه أمام نفس الكعبة لأنك لن تستطيع ذلك .

3/ يكون التعرّف على القبلة إما بعلم وجدانيٍ ، و إما بعلم عرفيٍ ومن ذلك استخدام الأدوات الهندسية والأدوات الجغرافية ، وكذلك برامج الجوالات وما شابه ذلك ، فإذا كانت دقيقة وأفادت الاطمئنان  للإنسان بجهة القبلة يستطيع أن يعتمد عليها ، وإن اعتمد على إنسان ذا خبرة وثقة يستطيع أن يعتمد عليه وأن يصلي .
4/ لو فرضنا إنسان أتى وصلى إلى جهة ما معتمدًا على الجوال ثم تبيّن له أنّ الجهة غير صحيحة ، أو اعتمد على ثقة وتبيّن أنّه مشتبه أو هو اجتهد بنفسه واعتمد على حسابات جغرافية حين قال نحن في المنطقة الشمالية ومكة في جنوب غرب مثلاُ فإذن هذه الجهة هي القبلة ، ثم تبيّن له أنّه صلى إلى غير جهة القبلة ، هنا يعتمد إن كان جهة الانحراف ما بين اليمين والشمال لا يجب عليه الإعادة حتى في داخل الوقت ، وإذا أراد أن يحتاط لا مشكلة في ذلك ،  أما إذا صلى ثم تبين له أنّه كان معاكس تماماً للقبلة  فكانت القبلة في جهة وهو صلى في الجهة المقابلة ، فقد تكون صلاته داخل الوقت أو خارج الوقت ، فإن كان داخل الوقت يجب عليه الإعادة والصلاة في الجهة الصحيحة ، أما إن كان  خارج الوقت وكان قد عمل جهده وسعى في ذلك وتوصل إلى جهة معينة ولكن في الليل  اكتشف أنّه صلى عكس القبلة فإنّ قسم من العلماء يقولون لا يجب عليه الإعادة ، 
وإن كان الاحتياط في هذه الحالة في محله لأننا  لا نملك غير هذه الصلاة ، فإذا كانت على خلاف القبلة فإنّ  إمكانية القبول والثواب قد لا تكون عالية جداً .
 نسال الله أن يجعلنا من مقيمي الصلاة ومن المتجهين إلى قبلة الله ، ومن الحاجين إلى بيت الله الحرام والمعتمرين إليه.
------------------------------------------------
1 سورة البقرة  آية 144
2 جامع أحاديث الشيعة ج4 ص575
3  سورة البقرة أية 125
4 سورة البقرة آية 127
5 سورة الحج آية 26
6 المكتبة الشاملة التفسير الواضح
7 موسوعة التاريخ الإسلامي ج2 ص160
8 سورة آل عمران آية 96
9 ويكي شيعة
10سورة البقرة 115
11 سورة البقرة آية 143
  

 

مرات العرض: 3498
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2555) حجم الملف: 64087.35 KB
تشغيل:

مراحل تشريع الصلاة في الاسلام 8
تشريع صلاة الجماعة والجمعة 10