الاماام جعفر الصادق والقيادة الاجتماعية للمذهب
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 15/7/1439 هـ
تعريف:

الإمام الصادق والقيادة الاجتماعية للمذهب

    كتابة الأخت الفاضلة ليلى الشافعي

 حياة الإمام الصادق عليه السلام حياة حافلة بالأدوار والأعمال ومليئةٍ بالمناقب ، وفترة إمامته تعد من أطول فترات إمامة المعصومين عليهم السلام . فقد امتدت فترة إمامته 34 سنة وهي من الفترات القليلة التي تيسرت للمعصومين عليهم السلام كي يمارسوا أدوار الإمامة خلال هذه المدة الطويلة ، لذلك يعسر علينا أن نتعرض لكل جوانب حياته .

     فإن من الممكن أن يتحدث الإنسان عن دور الإمام الصادق عليه السلام في ترسيخ أسس المذهب وتكميل قواعده سواء في جانب العقائد والأصول أو في جانب الفقه والفروع أو في جانب الأخلاق والسلوك وهذا الأمر قام به الإمام عليه السلام حتى صار هذا المذهب في زمانه وبعد زمانه في أكمل صورةٍ من الصور . ولقد تناول هذا الجانب المرحوم العلامة الشيخ أسد حيدر - رضوان الله تعالى عليه - في كتابه -الإمام الصادق والمذاهب الأربعة – تناول هذا الجانب فأجاد وأتقن ، ولو أن إنسانًا أراد أن يتعرف على البيئة الثقافية والفكرية التي عاش فيها الإمام الصادق عليه السلام وعلى أدواره في تلك البيئة وعلى تأثيراته في أئمة المذاهب وفي الساحة الإسلامية فإن هذا الكتاب القيم والمتقن يمكن أن يكون مرجعًا مناسبًا لمن أراد الاطلاع على هذا الجانب .

سبب نسبة المذهب للإمام الصادق :.

     هذا جانب من الجوانب وهو دور الإمام الصادق في بلورة المذهب الشيعي الاثني عشري في كافة جهاته وفي أبعاده المختلفة . وليس غريبًا بعد ذلك لما قام به الإمام في هذا الجانب أن ينسب المذهب إليه فيقال المذهب الجعفري فلا يقال مثلًا المذهب العلوي مع أننا نعتقد أن أمير المؤمنين عليه السلام هو سيد الأئمة ووالدهم وأفضلهم ولكن لا ينسب إليه في الاصطلاح ، ونعلم أن الإمام الحسين عليه السلام بما قام به من تضحية وشهادةٍ عظيمةٍ أنقذت كل الإسلام وكرست الاتجاه الصحيح فيه ومع ذلك لم يجرِ العرف على نسبة المذهب إليه فلا يقال المذهب الشيعي الحسيني ولكن ينسب للإمام الصادق عليه السلام فيقال المذهب الجعفري ويعبر عن الشيعة بالجعفرية وفي هذا إشارة إلى دور الإمام عليه السلام في هذا الجانب .

أدوار الإمام الصادق في ترسيخ المذهب :

ا-     هناك جهةُ أخرى لا تقل أهميةً عن هذا الجانب وهي أعمال وأدوار الإمام الصادق عليه السلام التي قام بها بحيث تحول أتباع هذا المذهب من فئةٍ قليلة مطاردة ومحصورة إلى تيار عريض وواسع في الأمة . وقد سلك إمامنا الصادق عليه السلام في هذا الجانب أدوارًا شديدة التعقيد ولكن خرج منها بكفاءةٍ عالية جعلت هذا المذهب يتخطى كل العقبات التي كانت في زمان الإمام وما بعد زمانه ، سواء تلك العقبات الاجتماعية أو الرسمية السياسية التي كانت تقوم بها سلطات ذلك الوقت .

     سيكون لنا شيء من الحديث في هذا الجانب لأجل أنه يرتبط بنحوٍ من الأنحاء بسلوكنا في هذه الأزمنة وما يترتب علينا القيام به لذلك سوف نتعرض إلى هذا الجانب .

1/ وصايا الإمام الفردية والجماعية

       أولى الخطوات التي نعتقد أن الإمام قام بها من خلال وصاياه الكثيرة لشيعته ويلحظ هنا أن الإمام الصادق عليه السلام كان كثير الوصايا ، وصايا فردية لأشخاص متعددين تارةً لعبدالله بن جندب وأخرى لعلي بن النعمان وثالثة للمفضل ورابعة للفضيل بن يسار وخامسة وسادسة تشكل شيء أشبه بالاتجاه والخط العام الذي ينبغي أن يسلكه أتباع أهل البيت عليهم السلام . وأخرى عندنا وصايا جماعية وهذا لا نجده في غير حياة الإمام الصادق عليه السلام فإنهم ينقلون أنه كتب وصيةًً لشيعته وصية جماعية عامة وتوجيه اجتماعي لكل الشيعة وأمرهم بتدارسها والنظر فيها وتعاهدها فكانوا يضعونها في مساجد بيوتهم حتى إذا فرغوا من الصلاة نظروا فيها . فكما عندنا الآن أن العادة الجارية للناس عندما يصلون يقرؤون شيئًا من التعقيبات والأدعية كتسبيحة الزهراء عليها السلام وبعض الأدعية التي تعتبر من التعقيبات ، في ذلك الوقت في زمان الإمام الصادق عليه السلام يستفاد من هذه الرواية أن الإمام عليه السلام أعطاهم وصيةً –لاتزال موجودة إلى الآن بنصها – في طليعتها هذا التعبير ( عليكم بالدعة والوقار والسكينة وعليكم بالحياء والتنزه عما تنزه عنه الصالحون من قبلكم وعليكم بمجاملة أهل الباطل تحملوا الضيم منهم وإياكم ومماظتهم ) وهي دعوة إلى التحمل والصبر وعدم إعطاء الفرصة لأهل الباطل على استفزازكم وإبعادكم عن مساركم الطبيعي كأن يأتي شخص لآخر ويسمعه كلمات يستثيره بها ويجعله يمشي على غير ما كان يفكر ، فالإمام يوصيهم بأن يكونوا في الطرف الهادئ الوقر صاحب السكينة والتفكير والوعي ، جاملوا أهل الباطل فلا داعي لمواجهتهم ومماظتهم ثم يقول : ( وعليكم أن تسلكوا معهم فإنه لا بد لكم من مخالطتهم ،عليكم أن تسلكوا معهم بالتقية التي أمرتم بها )

     نلاحظ هنا مثلا بالنسبة للإمام الصادق عليه السلام غير الوصايا الفردية التي كانت موجودة بالنسبة للأئمة السابقين نجد هنا وصية جماعية لعامة المؤمنين وكانوا يضعونها في مساجد بيوتهم فإذا فرغوا من صلاتهم قاموا بالنظر فيها والتأمل في عباراتها مثل بيان وتوجيه دائم من الإمام عليه السلام .

     فهذه الوصايا أول ما نلحظه في توجيهات الإمام وإذا تأملناها سوف نجد فيها خطةً كاملةً للارتقاء بهذا المجتمع الذي سيصبح اسمه شيعة جعفر كما في الروايات الواردة .      فأول أمر أن الإمام عليه السلام حاول أن يخرجهم من جهة الادعاء إلى جهة التصديق بالعمل وهذه قضية جدًا مهمة فإلى الآن بعض الفئات والمجتمعات تعاني منها ، فعندما يتكلم إنسان عن المسلمين يقول أنا مسلم والمسلمون هم أفضل من غيرهم ويورد لك الآية ( الحمد لله الذي فضلنا على كثيرٍ من عباده تفضيلاً ) فانتبه هل تنطبق هذه الصفة عليك أم مجرد عنوان أخذته ، فمن السهل على أي إنسان أن يقول نعم نحن موالين شيعة علي بن أبي طالب وشيعة علي لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون ويورد لك هذه الروايات . صحيح أن شيعة علي هكذا لكن هل نحن فعلًا شيعة علي بن أبي طالب ؟ هل تنطبق علينا هذه الصفة والعنوان حق الانطباق حتى يترتب عليه الأثر المرجو يوم القيامة ؟ أو هذا فقط ادعاء؟ هذا مهم جدًا لأن من أهم ما تبتلى به المجتمعات هو أن تكتفي بالإدعاء بدلًا من التطبيق فيقول أنا مسلم وأنا مؤمن فهنا هل تكتفي بالعنوان أم تطبق ما يقتضيه ذلك العنوان وفي هذا حلٌ للمشاكل . فلماذا إذا قرأنا قوله تعالى : ( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ) فتنظر إلى حال المسلمين لا تجدهم أنهم الأعلون ! فهل يكذب القرآن ؟ كلا ولكنه شرط إن كنتم مؤمنين وليس فقط إدعاء ، فالمؤمن بتمام معنى الكلمة هو الأعلى . وحين يأتي الإنسان ويسمع ما ورد في فضائل الشيعة وهناك كتب في هذا الجانب . فالشيخ الصدوق أعلى الله مقامه المتوفى سنة 381هجرية ألف كتاب كامل اسمه ( فضائل الشيعة ) وفي كتبنا الروائية كثير من هذه الروايات وهي صحيحة وحق ولكن أنا هل أكون صادقًا في عنوان التشيع علي أم لا مجرد أنني أقول أنا موالي لأهل البيت وأنا متشيع لهم .

وصف الإمام للشيعة :

     فالإمام عليه السلام ركز على هذا الجانب كثيرًا ننقل بعض الروايات ، ففي الرواية يخاطب المفضل يقول له : ( إياك والسفلة فإنما شيعة جعفر من عف بطنه وفرجه واشتد جهاده وخاف ربه ) بطنك عفيفٌ عن الحرام ، فرجك عفيفٌ عن المعصية ، شهواتك الجنسية مضبوطة بالضابط الشرعي مأكلك ومشربك من حلال أو لا ؟ فإنما وهي أداة حصر تحصر الشيعة في هؤلاء .

     في روايةٍ أخرى ( يكفي أحدكم أن يقول أنا شيعة جعفر فلو قال أنا شيعة علي بن أبي طالب لكان خيرًا له ، إنما شيعة جعفر المتباذلون في محبتنا المتواصلون في ولايتنا ) وليس مجرد القول هذا لا يكفي فعلي بن أبي طالب خيرُمن جعفر فليقل أنا شيعة علي . فشيعة جعفر لا يقطعون علاقاتهم لأقل الأمور وبمقدار ما يخسر من هذه الصفات يخسر من هذا العنوان .

   الأحاديث كثيرة بل أكثر من هذا يتقدم الإمام عليه السلام خطوة فيقول أن الشيعة الحقيقيون هم مجتمع المتميزون بأفعالهم وهناك روايات عجيبة في هذا الباب كأنما يريد أن يجعل درجتين :

درجات الشيعة :

الدرجة العامة :

   درجة الشيعي العادي هذا من عفَ بطنه وفرجه واشتد جهاده وخاف ربه وتباذل مع غيره وتواصل في ولاية آل الله

والقسم الآخر هم المتميزون :

    هناك روايات عجيبة مثلًا ( ليس من شيعتنا من لا تتحدث المخدرات في خدورهن عن ورعه ) فهو معروف بالورع إلى مستوى أن المخدرات النساء المحجوبات المؤمنات يشرن إلى شدة ورعه وخوفه من ربه فهو ليس صاحب معاكسات وعلاقات غير طبيعية فتتحدث عنه المخدرات في خدورهن . وفي تتمة الرواية ( وليس من شيعتنا وأوليائنا من هو في قريةٍ فيها عشرة آلاف وفيهم من هو أورع منه من غيرهم)

     فإذا كنت من بلدة ليس فيها شيعة أهل البيت عليهم السلام فإذا كنت من شيعة جعفر بن محمد فيجب أن تكون أورع هؤلاء وأبعد هؤلاء عن المعصية وأقربهم إلى الله سبحانه وتعالى فهذ هو الولي الحقيقي والشيعي الحقيقي . فأين هذا الذي يعيش في قرية فيها عشرة آلاف من غير الشيعة ويحتل الرقم الأول في التقوى والورع من ذلك الذي يأتي المحكمة الشرعية وما فيها من مشاكل وقضايا وما فيها من أكل حقوق الآخرين وما فيها من خيانات زوجية وغيرها أين هذا من ذلك الذي تتحدث عنه المخدرات .ورواية أخرى أعجب منها تقول مائة ألف وكأن الرواية تختلف باختلاف الأشخاص . أحدهم يقول بينا أنا جالس وإذا بعيسى بن عبدالله القمي قد دخل وهو أحد أجلة أصحاب الإمام عليه السلام دخل على الإمام الصادق عليه السلام فقال له : ( يا عيسى ليس منا ولا كرامة من كان في مصرٍ فيه مائة ألفٍ أو يزيدون وكان في ذلك المصر أورع منه ) فالإنسان يجب أن يكون في غاية السمو حتى يتفوق على أهل بلد يتكون من مائة ألف إنسان أو يزيدون عن ذلك من غير أتباع أهل البيت عليهم السلام وهو هذا إذا كان بينهم يكون الرقم الأول في جهات الورع – والورع عنوانٌ جامعٌ لجميع الفضائل مثل التورع عن ظلم الغير وعن سرقة الغير وعن غيبة الغير وعن أخذ حق الناس وعن ...... فهو بابٌ عظيمٌ من أبواب الخير . فالإمام عليه السلام ليس فقط في الدرجة الأولى يقول لا يكون هناك ادعاء بالاسم . كلا ! أو تطبيق فقط . كلا ! وإنما لابد أن يكون مستوى هذه الفئة وهذا الكيان وهذه الجماعة الذين هم شيعة جعفر وشيعة علي بن أبي طالب لا بد أن يكونوا في مقدمة المتميزين أخلاقيًا بحيث يتفوق الواحد منهم على عشرة آلاف من غيرهم بل على مائة ألفٍ أو يزيدون ، وطبعا هناك بعض التدبرات الخاصة لا يتسع لها المجال فمرةً يقول ليس منا ومرةً يقول ليس من أوليائنا ومرةً يقول ليس من شيعتنا هذه تحتاج لأبحاث تخصصية أكثر . فإذن الإمام عليه السلام أول أمر قام به بالنسبة إلى هذه الفئة من أتباعه ومعتنقي مذهبه أن وقاهم بوصاياه حتى لا يكون همهم الحصول على العنوان وإنما الحصول على الصفات والكفاءات والميزات والأخلاق بل فوق ذلك أن يتميزوا على من سواهم ولو كان من سواهم بعدد عشرة آلاف أو أكثر .

         الأمر الآخر الذي قام به الإمام الصادق عليه السلام بالنسبة إلى شيعته وأتباعه هناك أحاديث وروايات كثيرة أقرأ لكم منها شيئًا بسيطًا . يقول الإمام الصادق عليه السلام : ( أشهد على أبي أني سمعته يقول كان أولياؤنا وشيعتنا فيما مضى خير من كانوا فيه ، إن كان إمام مسجدٍ في الحي كان منهم وإن كان مؤذنٌ في القبيلة كان منهم وإن كان صاحب وديعةٍ كان منهم وإن كان عالمٌ من الناس يقصدونه لدينهم ومصالح دنياهم كان منهم ) فأفضل الأشخاص في المجتمع من الناحية السلوكية والإيمانية هم شيعتنا ، فإذا أنا ما كنت كذلك فبشكل طبيعي لن أكون من شيعة الإمام الذين يتحدثون عنهم فالإمام يقول شيعتنا كانوا خير أبناء المجتمع فإذا لم أكن من هذا الخير فلا أكون من شيعتهم بنفس المقدار .
•الحفاظ على المذهب الشيعي من الاندثار :

 

     كان هذا في داخل الطائفة والكيان وهناك نقطة أخرى أكثر أهميةً من هذا قام بها الإمام الصادق عليه السلام فحفظ بذلك المذهب وأتباعه واستمر هذا المذهب إلى يومنا ففي زمن الإمام الصادق عليه السلام وبعده بحوالي خمسين سنة كان هناك ما يقارب أحد عشر مذهب معروف منها مذهب سفيان الثوري ، مذهب عيينة ، مذهب الأوزاعي ، مذهب الطبري، مذهب ابن أبي ليلى ، فيما بعد بالإضافة إلى المذاهب الأربعة كل هذه المذاهب اندثرت تقريبا ففي سنة 361هجرية بعد إقرار الجهات الرسمية للمذاهب الأربعة فقط اندثرت المذاهب الأخرى . أما المذهب الجعفري وبالرغم من أنه لم يحظى بعناية تلك الدول لا سيما العباسيين بل كانت في خط المواجهة مع المذهب ، ومع ذلك بقي المذهب وانتشر واشتهر وكبر وتعاظم إلى يومنا هذا .

وهذا له أسباب كثيرة ومن جملة تلك الأسباب :

أن الإمام الصادق عليه السلام
•1- منع أن يحاصر المذهب اجتماعيًا

 

   فأحيانًا بعض المذاهب والجماعات تكون لها مجموعة معينة أو مسجد خاص أو فئة معينة وتنفصل عن المجتمع وشيئًا فشيئًا يحاصرها المجتمع إلى أن ينهيها بمرور الزمان وهذا حدث مع الخوارج مع أنه كان لديهم تيار وتوجه قوي وكبير وكان عندهم قتال ومعارك وصارت عندهم دول بجوار عمان وتلك المنطقة صار لديهم بعض الدول المتعددة وفي فترات متعددة من التاريخ وأيضًا في الأهواز وجنوب إيران صار عندهم دول وشمال تونس والجزائر وأطراف العالم الإسلامي . وهذا واحد من الأسباب التي جعلتهم لا يتحولون إلى تيار عام في الأمة ، فأنت الآن إذا أردت أن تعيب على إنسان فقل له أنت من الخوارج فلا يقبل . حتى من كان حقيقة في أصوله الفكرية يرجع إلى الخوارج فهو لا يقبل أن تسميه من الخوارج .لماذا ؟ لأنه فرض عليهم الحصار الاجتماعي وبالتدريج فنيت قوتهم وصارت سمعتهم غير حسنة .

     الإمام الصادق عليه السلام منع أن يفرض الحصار الاجتماعي على أتباع مذهب أهل البيت عليهم السلام وهذا سهل أن ينتشروا في كل مكان وأن يعيشوا في كل العواصم ، فالخوارج مثلًا لم يكونوا يستطيعون أن يعيشوا في كل مكان بل كانوا يختاروا أطراف معينة ويعملوا لهم جماعة ودولة ونظام حكم . أما الشيعة فكانوا يتعايشون من ذلك الوقت وإلى يومنا هذا حتى مع الأنظمة المعادية لهم والمحاربة لهم ، وهذا لم يأتِ من فراغ وإنما جاء بتخطيطٍ من الإمام الصادق عليه السلام فقام بأمور متعددة نشير إليها سريعًا . أول عنوان

1- التقية

لو فكر المسلون في التقية بإنصافٍ لوجدوها بالفعل كما قال الإمام الصادق ( التقية ديني ودين آبائي ) فكما هي دين جعفر فهي دين الباقر والسجاد والحسين والحسن وأمير المؤمنين والرسول عليهم جميعًا الصلاة والسلام فهو دينهم .فالتقية لا سيما في المجتمع المسلم هي عنوان للتسالم والحياة والبقاء والحياة وبقاء الإسلام فلو أن الإنسان لا يتقي من هو أقوى منه فيقول أني أريد أن أعمل الشيء الذي في بالي وما أؤمن فيه فمن قبل قبل ومن لم يقبل يبرز للميدان معي ، فلن تخلو الأمة في سنة من السنوات من الحروب والمشاكل ، فلا بد أن تفني إحدى الفئتين الأخرى وتقمعها وتغير دينها وذهبها ، فجاءت التقية أولًا لأن الدين لم يأتي ليقتل الإنسان نفسه فأنا أصلي بالطريقة التي أعتقد فيها حتى لو يسيل دمي ، فهل أمرنا الله تعالى بهكذا دين أو أنا أصوم بشكلٍ إذا عاداني غيري فيه حتى لو أدى ذلك إلى قتلي وانتهاك عرضي وأخذ أموالي وإجلائي من أرضي .... مع ذلك أمارس العبادة بالشكل الذي أعتقد فيه ، لم يأمر الله تعالى بذلك .

   لذا جاءت التقية في أصل عنوانها ثم في تفاصيلها في زمن الإمام الصادق عليه السلام ، بل أكثر من هذا في خطوة متقدمة أن الإمام الصادق منع أصحابه عن أشياء جدا عادية في زماننا وفي تقديرنا من أجل المحافظة على هذا الكيان وعدم محاصرته

مثال : منع الإمام أصحابه في فترة من الفترات من الدعوة إلى المذهب . لكن منع الدعوة لا يعني أن الإمام نسي قول النبي صلى الله عليه وآله : ( لئن يهدي الله بك رجلًا خيرٌ لك مما طلعت عليه الشمس وخيرٌلك من حمر النعم ) هو لم ينسى بل هو أحفظ مني ومنك لهذه الأحاديث ولكن إذا كانت مثل هذه الدعوة تؤدي إلى الاستفزاز والاحتراب والمشكلة الاجتماعية هنا يقول الإمام لا تفعلها فذاك أمرٌ مستحب ولكن فيه خطورة إذن توقف

     الرواية الأولى :  ( يا ثابت كفوا عن الناس ولا تدعو أحًدًا إلى أمركم فإن الله إذا أراد بإنسانٍ خيرًا قذف الإيمان في قلبه ) ثم يقول (كفوا عن الناس ولا يقول أحدكم أخي وعمي وابن عمي وجاري

     في حديثٍ آخر ( لاتخاصموا الناس لدينكم فإن المخاصمة ممرضةٌ للقلب فإن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال له ربه ( إنك لا تهدي من أحببت )

     فهذا الوضع الذي كان يعيش فيه الإمام الصادق في تقديرنا لسبب أو لآخر كانت دعوة الأشخاص إلى المذهب تشكل عنصرًا من عناصر التشنج فمنعهم من ذلك وأمرهم أن يعيشوا حياةً اجتماعيةً طبيعية و(كونوا دعاةً لنا بغير ألسنتكم )

   وفي حديثٍ آخر ( كونوا دعاةً لنا صامتين )

   فلا أقل في فترة من فترات حياة الإمام الصادق كان الوضع هكذا ومع بعض الأشخاص أيضًا حتى منع بعض أصحابه من المناظرة حتى جاء رجل إلى مؤمن الطاق ورآه يناظر الناس في مسجد الكوفة ويظهر أن هذا في الفترة التي كان فيها الإمام في الكوفة لأن الإمام عليه السلام بقي سنتين متصلتين في الكوفة كما سيأتي الحديث بعد إذن فقال لمؤمن الطاق : أما بلغك عن أبي عبدالله أنه نهى الناس عن الكلام . فقال له : هل أمرك الإمام الصادق أن تقول لي هذا ؟ قال : لا ولكنه أمرنا . فقال له : فالتزم بما أمرك به . وفي رواية أخرى أنه الطيار وليس مؤمن الطاق . فذهب إلى الإمام الصادق وأخبره أنه ذهب إلى مؤمن الطاق بناءًا على الرواية الأولى أو الطيار بناءًا على الرواية الثانية فقلت له امتنع عن النقاش والمناظرات والاحتجاجات فما قبل مني ذلك . فقال له الإمام : بلى إنه يطير ويقص فيطير وأنت إن قصوك لا تطير . يعني أنت لا تمتلك كفاءة على المناقشة والمناظرة والنقاش .

    فهناك أوامر عامة وهناك بعض الأوامر لغير المتخصص فلا يعني أن الإمام عليه السلام لا يريد أن يأتي أحد إلى الهدى وإلى اليقين وإلى منهاج أهل البيت ولكن هناك بعض الظروف التي تقتضي مثل هذا الأمر .

     وهذا جعل أتباع المذهب وشيعة الإمام يتحركون بيسرٍ وسهولةٍ في داخل المجتمعات .

والنقطة الثالثة :علاقته مع السلطات السياسية :

   فالإمام عليه السلام فترة إمامته الأكثر كانت في زمن الأمويين ففترة إمامته كانت 34 منها 16 في زمن العباسيين و18 سنة أو تزيد قليلًا في زمن بني أمية والتي كانت في طريقها إلى الأفول والنهاية والانقراض وهذا ما مكن الإمام عليه السلام من ممارسة دوره من دون رقابةٍ مباشرةٍ ولصيقة ، لكن في زمن العباسيين تغير الأمر ، ففي بداية سيطرتهم على الحكم طلبوا الإمام الصادق عليه السلام من المدينة إلى الكوفة وفي ذلك الوقت كان العباسيون يفكرون أن يجعلوا الحيرة عاصمةً لهم وكانت الحيرة على بعد أربعة إلى خمسة كيلو من الكوفة وذلك قبل إنشاء بغداد فطلب الإمام الصادق عليه السلام ليكون قريبًا منهم في زمان أبو العباس السفاح أول خلفاء بني العباس حتى يكون تحت رقابتهم وملاحظتهم .

     وبقي الإمام الصادق عليه السلام سنتين في الكوفة قيل في حي بني عبد القيس وهناك صارت له فرصة زيارة أمير المؤمنين مرارًا وكذلك قبر الإمام الحسين مرارً وأيضًا في تلك الفترة استفاد من وجوده في الكوفة في التدريس وما أخذ من الإمام من علمٍ من الرواة الكوفيين غالبًا كان في هذه الفترة .

وكان تحت الرقابة وكان يستدعى بين فترةٍ وأخرى في قصر الحيرة وكان السفاح إلى حدٍ ما ألين من المنصور العباسي الذي أتى فيما بعد والذي في زمانه اشتد الأمر على الإمام عليه السلام مع أن الإمام لم يظهر منه أي شيءٍ يشير إلى معارضةٍ صريحةٍ وواضحة للعباسيين وبالذات لأبي جعفر المنصور ، بل عرض عليه من قبل أبي سلمة الخلال أحد كبار الدعاة ومن أبي مسلم الخراساني أول انتصار الدعوة وأول انهزام الأمويين عرض عليه من قبل هذين القائدين أبي سلمة القائد العربي وأبو مسلم الخراساني القائد الفارسي للدعوة التي عرفت فيما بعد باسم الدعوة الفارسية (أنه نحن نهضنا إلى الرضا من آل محمد وأنت المرضي من آل محمد ) يعني أنت أكبر شخصية من آل بيت رسول الله نحن مستعدين لتسليمك الأمور . فكان جوابه لهما بلسان الحال : ما أنت من رجالي ولا الزمان زماني . وبعضهم يقول ربما هذا كان أيضًا دسيسة من قبل العباسيين ليروا الإمام الصادق ويضبطوه بالجرم المشهود ، وبعضهم يقول هو تصرف من قبل أبي سلمة الخلال الداعي العربي ومن قبل أبي مسلم الخراساني الداعي الفارسي . والإمام الصادق عليه السلام كان أكثر ذكاءً وحكمةً منهما وممن خلفهما ولم يلتفت إلى هذا العرض ولم يقبله منهما وأعرب عن انصرافه عن هذا الأمر ومع ذلك المنصور العباسي كان شديد الحنق على الإمام الصادق ، فالمنصور كان عنده نقاط ضعف كثيرة جدًا بعضها هو أخبر عنها فقال : إن هؤلاء الناس بالأمس رأونا سوقة والآن يرونا خلفاء . فلا قيمة علمية عندنا ولا قيمة نسبية ولا أي قيمة واضحة بين الناس والآن يروننا خلفاء فلسنا نتمكن إلا أن نفرض هيمتنا بالسلطات – بالقوة بالسجن بالاعتقال إلى غير ذلك - هذا في مقابل أن للإمام الصادق عليه السلام مجدٌ عظيمٌ ،فجده رسول الله صلى الله عليه وآله وأبوه أمير المؤمنين عليه السلام ورقي وارتفاع شخصي عنده ، فهو عالم وصفه أبو حنيفة لأبي جعفر المنصور أنه : أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس . فالذي يعرف جميع المذاهب ويعرف كيف يجيب عليها هو أعلم الناس وهو جعفر بن محمد فهو قد حاز المجدين مجد شخصي ومجد عائلي وأسري . فمن الطبيعي أن لا يستطيع المنصور أن يتحمل وجود الإمام الصادق بالرغم من أن الإمام كما أسلفنا كان منصرفًا عن معارضته وكان يرى أن قيامه بدوره في تركيز وترسيخ أسس المذهب ثم صنع المجتمع التابع لأهل البيت وجعله مجتمع طبيعي في الأمة . مهمته هذه عنده أهم من أن ينازع المنصور العباسي على سلطة أو على توقيع أو على مرسوم أو ما شابه ذلك . لكن مع ذلك كان توجس المنصور توجسًا عظيمًا جدًا منه وكان باستمرار يفكر في التخلص من الإمام جعفر سلام الله عليه . ولقد أحصي عليه مرارًا أنه كان يتهدد الإمام لا سيما مع عناصر السوء الذين كانوا يرفعون له الأكاذيب والتقارير الكيدية التي من خلالها يريدون الإضرار بالإمام الصادق .

     فحاجبه الربيع أكثر من مرة ينقل عنه فيقول : دخلت على المنصور ذات يوم فوجدته غاضبًا وهو يقسم بالله أنه ليقتلن جعفر بن محمد فيقول : والله لأقتلنه والله لأقتلنه والله لأقتلنه . فحاولت التكلم معه ، فقال لي : يا ربيع نحن ذاهبون للحج فأذكرني أمر جعفر إذا وصلنا إلى المدينة وإياك إياك أن تنسى فإني معاقبك . يقول الربيع: بالفعل ذهبنا إلى المدينة في حديثٍ مفصل قلت له أذكرك أمر جعفر فقال : نعم اذهب وأحضره إلي على أسوء حالة يكون فيها (ليس من الكبر والعظمة أن تأتي برجل حاسر الرأس وهذا يبين مدى صغارi وخسته ودناءته وضعفه فالذي يتشفى يتبين أن نفسه ناقصة وقلبه حاقد وهذه نقاط ضعف وليست قوة )

     يقول الربيع: ذهبت وأحضرت جعفر بن محمد على حالةٍ يصعب على مثلي أن يصفها في حق إمامنا فلما دخل وكان حاسر الرأس وحافي القدمين رأيته يحرك شفتيه بكلمات فلما أقبل عليه وواجهه أبو جعفر المنصور هدأت نفسه ، فقال : إلي إلي يا جعفر فأدناه حتى أجلسه إلى جانبه ، هنا يقول الربيع : فتعجبت أين ذهب ذلك الحلف والحنق والغضب . فوضع الإمام يده على فخذ المنصور العباسي ، فقال له : حدثني بحديث فحدثه بحديث قال : إن الرحم إذا مست الرحم هدأت وإن أيوب قد ابتلي فصبر وإن داوود قد أعطي فشكر ولك بأولئك أسوةٌ حسنة.

كأنه أراد من خلال هذا الحديث أن يطفئ غضبه وهذا موقف طبيعي أن يكون الإمام حريص على ألا يفقد حياته من أجل زلة لسان . يقول الربيع بعد ذلك أقبل عليه المنصور فقال له : يا جعفر ما حاجتك ؟ وكم عندك من العيال ؟ فأخبره وقام الإمام عليه السلام خارجًا . يقول الربيع : تبعت جعفر بن محمد وقلت له كان من أمره كذا وكذا وكان سالا سيفه ليقتلك فما الذي قرأت وما الذي تحركت به شفتاك عندما دخلت ؟ قال : دعاءٌ أعرفه . قلت له : بحق الله عليك إلا أخبرتني به . (والإمام عليه السلام لا يقول أنت واحد من أعوان الظلمة وأنت جئتني لهذا المكان بتلك الكيفية ، لا ، فهؤلاء رحمة للعالمين )

فقال له الإمام : إذا نابك من أمر السلطان ما يحزنك فقل حسبي الرب من المربوبين ، حسبي الخالق من المخلوقين ، حسبي الرازق من المرزوقين حسبي الله رب العالمين حسبي من هوحسبي ، حسبي من لم يزل حسبي ، حسبي مذ كنت لم يزل حسبي ، حسبي الله لا إله إلا هو، حسبي الله رب العرش العظيم )

هذا الدعاء قرأه الإمام قبل دخوله على المنصور ولا شك أنه يختلف القارئ ، فمجرد هذا الدعاء لا يفعل فعله إلا إذا خرج من قلبٍ محتسبٍ عند الله سبحانه وتعالى وهوتعليمٌ لنا في قضايانا وفي أمورنا ومشاكلنا وكروبنا وفي حاجاتنا ألا نحتسب إلا الله تعالى .

فخرج الإمام وفي مرات أخر أيضًا استدعاه وكانت المواجهة سيئة وكان قد عزم اللعين المنصور على التخلص من الإمام عليه السلام ففي المرة السابقة لم يقتله أما المرة الثانية حتى أدنا النطع ( والنطع عبارة عن جلد إذا أريد أن يقتل شخص في نفس المكان يبسطوه إلى جنبه ) فكان قد جهز هذا النطع ولكن إرادة الله عز وجل ودعاء الإمام عليه السلام وقدر الله لم يحن بعد فنجا الإمام عليه السلام لكن لم ينجو في المرة الثالثة عندما أرسل المنصور الدوانيقي سمًا نقيعًا إلى والي المدينة محمد بن سليمان وقال له أن يدعو الإمام إلى ديوانه ومجلسه وأن يدس له هذا السم فكان أن دس له هذا اللعين والي المدينة بأمر سيده المنصور ما الذي سيكونان مسؤولين عنه أمام الله وأمام رسوله فيما ارتكبا في ذريته فدس ذلك اللعين إلى إمامنا سمًا في عنب ولما تناول الإمام ذلك العنب المسموم سرى السم في بدنه.

مرات العرض: 3464
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2553) حجم الملف: 64094.89 KB
تشغيل:

كيف نستثمر ميلاد فاطمة الزهراء عليها السلام
مجتمع المدينة بعد النبي في الخطبة الفدكية