مجتمع المدينة بعد النبي في الخطبة الفدكية
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 9/5/1438 هـ
تعريف:

مجتمع المدينة بعد النبي في الخطبة الفدكية

الفصل الرابع

كتابة الأخ الفاضل ياسر العرب

صياغة الأخ الفاضل عبد العزيز العباد

المقدمة:

   مما جاء في خطبة مولاتنا سيدة النساء فاطمة الزهراء عليها السلام حينما وجّهت خطابها إلى الأنصار أنها قالت: ( إيهاً بني قيلة، أَأُهضم تراث أبيَ؟ وأنتم بمرأى مني ومسمع ،ومنتدى ومجمع، تلبسكم الدعوة وتشملكم الصرخة، وأنتم ذوو العدد والعدّة والأداة والقوّة، وعندكم السلاح والجُنّة توافيكم الدعوة فلا تجيبون، وتأتيكم الصرخة فلا تغيثون، وأنتم موصوفون بالكفاح، معروفون بالخير والصلاح، والنخبة التي انتخبت، والخيرة التي اختيرت لنا أهل البيت، قاتلتم العرب وتحملتم النصب والتعب، وناطحتم الأمم، وكافحتم البهم لا نبرح أو تبرحون، نأمركم فتأتمرون، حتى إذا دارت بكم رحى الإسلام ودرّ حلب الأيام وخضعت نعرة الشرك، وسكنت فورة الإفك، وخمدت نيران الكفر، وهدأت دعوة الهرج، واستوسق نظام الدين، فأنّى حُرتم بعد البيان، وأسررتم بعد الإعلان، ونكصتم بعد الإقدام وأشركتم بعد الإيمان، ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهمّوا بإخراج الرسول وهم بدأوكم أول مرة أتخشونهم؟ فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين، ألا قد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض، وأبعدتم من هو أحق بالبسط والقبض، وركنتم إلى الدعة، ونجوتم من الضيق والسعة، فمججتم ما وعيتم ودسعتم الذي تسوغتم ، فإن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد). صدقت سيدتنا ومولاتنا الزهراء صلوات الله وسلامه عليها

   سيتناول حديثنا في ظلال خطبة فاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه عليها تحليلاً للمواقف في المجتمع المدني المسلم، وذلك بُعيد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله ، حيث بَيّنت خلال هذه خطبة أنّ هناك ثلاث فئات في هذا المجتمع نعرض لها بالتفصيل إن شاء الله تعالى.

الفئة الأولى: أهل البيت عليهم السلام

   يتمثل في رأس هذه القائمة والعنوان أمير المؤمنين عليه السلاومن تبعه من بني هاشم ومن كان من أنصاره سواء من الأنصار أو من بعض المهاجرين.

الفئة الثانية: التيار القرشي

   هذا التيار القرشي وهذا التجمع هو الذي انتهى به الأمر إلى أن يسيطر على الخلافة ضمن إطار جمعته الحالة القرشية والذي تمكّن من الاستمرار كوجود متصل في الحكم في الأمة بل حتى على مستوى الفتوى والقضاء وما شابه ذلك .

الفئة الثالثة: الأنصار

   الأنصار هم سلالة قبيلة الأوس والخزرج والذين كانوا في الأصل قبائل يمنية مهاجرة من اليمن، حيث استقرت منذ القدم في المدينة المنورة، فبعضهم يُرجع أصل وجود هاتين القبيلتين في المدينة المنورة إلى الزمن الذي إنهار فيه سد مأرب في اليمن ، والذي أدى حدوثه إلى حالة من القحط والجدب وسببّت هذه هجرات. وكما هو معروف فاليمن هو مخزن سكاني للعرب كقحطان والقبائل اليمنية الأخرى، حيث تجدهم منتشرين في كل مكان في المدينة وفي الكوفة والتي أصبحوا فيها أكثرية تقريبًا، وفيما بعد هاجروا إلى لبنان وإلى الشام وإلى قم وبلاد الري وهذه القبائل اليمنية الموالية لأهل البيت نقلت التشيع.

فمن هذه الفئات هاجرت الأوس والخزرج إلى المدينة المنورة واستقرت هناك، فحدث في بداية مجيئهم مشاكل بينهم وبين اليهود، ولكن فيما بعد صار الاستقرار لهم وكأنما السيادة والزعامة أصبحت لهم والمال والاقتصاد أصبح بأيدي اليهود.

ما حقيقة موقف قريش من دعوة النبي صلى الله عليه وآله وأهل البيت؟

   هذه الفئات الثلاث هي التي كانت حاضرة في مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله بُعيد وفاته، وهناك ملاحظة تستوقف الباحث والناظر في التاريخ وهي أن لسان الروايات سواء من نبينا المصطفى محمد صلى الله عليه وآله أو من لسان أهل بيته الطاهرين عليهم السلام كانت باتجاه الفئة الثانية والثالثة، أما الفئة الأولى وهم أهل البيت عليهم السلام فواضح موقفهم، يبقى لسان الروايات تجاه قريش والتجمع القرشي واتجاه الأنصار - الأوس والخزرج - فيلاحظ أن هذه الكلمات ولسان الروايات تجاه قريش كان سلبياً بمعنى أن الروايات الواردة المعتبرة عندنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله في شأن قريش لم تكن إيجابية، وأوضح من ذلك كلمات أمير المؤمنين عليه السلام، ويُعضّد هذا أن مواقف قريش التاريخية تجاه الدعوة أيام النبي صلى الله عليه وآله وما بعده كانت في الاتجاه المخالف، ويمكن القول بأنها القبيلة الوحيدة والمجتمع الوحيد – قبيلة قريش - تقريباً الذي حارب دعوة النبي صلى الله عليه وآله عشرين سنة ، ثلاثة عشر سنة حينما كان في مكة المكرمة فكانت الحرب الغير عسكرية بينهما قائمة، فكانت هناك المعاداة من قبل القرشيين والزعامات القرشية والعوائل القرشية الكبيرة مع الرسول صلى الله عليه وآله ، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وآله إلى المدينة المنورة استمرت قريش في المعادة والحروب العسكرية مع النبي صلى الله عليه وآله إلى أوائل السنة السابعة للهجرة.

   فموقف قريش لم يكن موقفا إيجابياً في العموم ، فما يقارب من العشرين سنة هي المدة التي قاومت وحاربت وواجهت فيها النبي صلى الله عليه وآله ودعوته وحاولت القضاء عليه، ولذلك يتعجب الإنسان عندما يجد روايات في مصادر بعض المذاهب الإسلامية فيها مدح عظيم لقريش، فمثل ما رووه عن النبي صلى الله عليه وآله ، ونحن نعتقد أنه لا يمكن أن يصدر من رسول الله صلى الله عليه وآله كقولهم: ( قدموا قريشًا ولا تتقدموها فإنهم لن يسوقوكم إلا إلى الهدى) فمثل هذا الكلام، أين كانت قريش خلال هذه العشرين سنة تسوق الناس؟ هل صار عندها انقلاب كيميائي أو فيزيائي من حالة العداء والحرب الطاحنة التي خاضتها مع رسول الله صلى الله عليه وآله إلى أن أصبحوا أئمة هدى وأعلام تقى وغير ذلك؟ مالذي حصل وما الذي تغير؟

أوضح من هذا كلام أمير المؤمنين عليه السلام ولو أن هذا الكلام جاء فيما بعد، لكن هو ينبئ عن موقف الإمام عليه السلام، كان يقول: ( اللهم إني أستعديك على قريش ) يا رب كن لي عونًا على قريش، وكلمة أستعديك تعني أستغيثك وأستعينك فهؤلاء أعدائي، (للَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلَى قُرَيْشٍ وَ مَنْ أَعَانَهُمْ فَإِنَّهُمْ قَدْ قَطَعُوا رَحِمِي وَ أَكْفَئُوا إِنَائِي وَ أَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي حَقّاً كُنْتُ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِي وَ قَالُوا أَلاَ إِنَّ فِي اَلْحَقِّ أَنْ تَأْخُذَهُ وَ فِي اَلْحَقِّ أَنْ تَمْنَعَهُ فَاصْبِرْ مَغْمُوماً أَوْ مُتْ مُتَأَسِّفاً فَنَظَرْتُ فَإِذَا لَيْسَ لِي رَافِدٌ وَ لاَ ذَابٌّ وَ لاَ مُسَاعِدٌ إِلاَّ أَهْلَ بَيْتِي)

   فعندما وصل إليه خبر أن الجماعة في أثناء السقيفة احتجوا بأنهم من شجرة النبي صلى الله عليه وآله من شجرة واحدة وهي شجرة قريش والنبي من هذه الشجرة، تبسم الإمام وقال: ( احتجّوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة )، فالشجرة بذاتها ليست مهمة وإنما أهميتها لأجل ثمرتها وهي علي بن أبي طالب. وهكذا الكثير من الكلمات له صلوات الله وسلامه عليه.

   يكفيك في ذلك الخطبة الشقشقية المعروفة وكان يرد عليهم يقول ( فإن أقُل ) أي إذا أتكلم وأُطالب بحقي ( يقولوا حرص على الملك )، بمعنى هذا علي بن أبي طالب كيف يكون زاهدًا وهو يطالب بالملك والرئاسة فهذا إنسان دنيوي ليس زاهداً فهو حريص على الدنيا، (وإن أترك يقولوا جبن من الموت ) وإذا أتركه وأسكت لا يتركوني، بل سيقولون هذا إنسان جبان ولا يطالب بحقه.

   فهذا اللسان نحن نلاحظه في كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وفي مواجهته لهم ومواجهتهم إياه، وفي كلام أمير المؤمنين عليه السلام، هناك حديث لو تمّ وهو موجود في مصادر العامة في الحديث عن الأئمة وأن عددهم اثنا عشر، يقول الراوي ( قال كلاماً ما سمعته، فصححه له أحدهم وقال من قريش) إذا تمّ هذا الحديث من ناحية السند فغايته غايةً أخرى، وهي أنه لا يأتي بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله فيما بعد ويقول ( لو كان سالم مولى حذيفة حيًا لاستخلفته ) نقول له لا، لأن الخلافة لا تكون إلا للعرب القرشيين، والذي سيتبين أنهم من أهل البيت، لأن أهل البيت كلهم قرشيون، فلا تأتي بأحد من الموالي وتقول لو كان سالم مولى حذيفة وهو غير عربي وغير قرشي، لا تقول بأنه هو اللائق بالخلافة، لأن هذا ليس بصحيح. فحتى لو ثبتت هذه الكلمة فيه ( الأئمة اثنا عشر كلهم من قريش) فلا تنطبق إلا على أئمة أهل البيت عليهم السلام.   هذا الخط أتى وضِمن عملية معينة استطاع أن يسيطر على الأوضاع وأن يأخذ الخلافة وأن يجري الخلافة ما أرادوا بالنحو الذي أراده.

   موقف النبي وأهل البيت عليهم السلام من الأنصار:

   بعكس ما كان في أمر قريش، حديث رسول الله صلى الله عليه وآله عن الأنصار هو حديث إيجابي يتضمن المدح والثناء عليهم، فهناك مورد وهو مقبول في الجملة وموجود أيضا في مصادر المدرسة الأخرى، وذلك عندما صارت قضية غزوة حنين، النبي صلى الله عليه وآله ربح غنائم فيها، فلما صار هذا الأمر جمع النبي صلى الله عليه وآله أصحابه من الأنصار والقرشيين المكيين، وقسم الغنائم بينهم حيث أعطى المؤلفة قلوبهم – وهم جماعة جاؤوا مع النبي لأجل الأموال -فأعطاهم أموال كثيرة، والأنصار لم يحصل لهم مثل هذا المقدار الذي حصلوا عليه هؤلاء فحزّ في نفوسهم، فبعض المنافقين في هذه الأثناء تحركوا وقالوا: محمد لما رأى جماعته واجتمعوا حوله أعطاهم الغنائم وأخرجكم من هذه القسمة، فحزّ ذلك في نفوس بعض الأنصار، فجاء بعضهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وذكروا له أن بعض أهل المدينة عندهم شيئ في أنفسهم من هذه القسمة.

فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وآله، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال: يا معشر الأنصار مقالة بلغتني عنكم ، وجدة وجدتموها علي في أنفسكم، ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله ، وعالة فأغناكم الله ، وأعداء فألف الله بين قلوبكم ، قالوا : بلى، الله ورسوله أمن وأفضل ، ثم قال: ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟ قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ولرسوله الفضل، قال صلى الله عليه وآله : أما والله لو شئتم لقلتم ، فلصدقتم وصدقتم: أتيتنا مكذباً فصدقناك ، ومخذولاً فنصرناك ، وطريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك ، أوجدتم يا معشر الأنصار في لعاعة[1] من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا ، ووكلتكم إلى إسلامكم ، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير ، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم ؟ فوالذي نفس محمد بيده ، لولا الهجرة لكنت أمراً من الأنصار ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار. فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم ، وقالوا: رضينا برسول الله قسماً وحظاً[2].

فلا شك أن هؤلاء عادت إليهم روحهم الدينية والإيمانية ورأوا أن تصرف رسول الله صلى الله عليه وآله في محله وأن ذلك الطرف عُلقته بالدين في هذه الغنمة والسيف والدرع والسلاح، بينما عُلقة هذا محبته لرسول الله وإيمانه الحقيقي، فرجعوا وثابوا إلى ما كانوا عليه.فالنبي صلى الله عليه وآله بدأ يدعوا لهم ويتحدث عنهم وقال: ( اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار ولأبناء أبناء الأنصار، الأنصار كِرشي وعيبتي، لو سلك الناس واديًا وسلكت الأنصار وادياً لسلكت شِعب الأنصار)

   هذا نوع من التأييد لموقفهم هذا في مقابل أولئك المكيين الذين جاؤوا من أجل المادة والأموال والغنائم وأن هؤلاء إنما جاؤوا لنصرة الدين والإيمان، الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أيضًا مدح الأنصار حيث قال: ( إن الأنصار ربّوا الإسلام كما يربّى الفلو في الغنم، بأيديهم السبطة ولسانهم المنطلق ) يعني هؤلاء كان لديهم عطاء مادّي وجهاد بأيديهم وكان لهم دعوة للإسلام أيضًا.

التيار القرشي ( المتربص للدوائر والناكص عند النزال والفار من القتال ) يتولى زمام الأمور:

   العجيب في الأمر أن القضية انعكست، فذاك التيار القرشي المحارب لرسول الله صلى الله عليه وآله عشرين سنة من الزمان والذي تصفه الزهراء في بعض كلامها تقول: ( و أنتم في رفاهية من العيش وادعون، آمنون، فاكهون، تتربصون بنا الدوائر وتنكصون عند النزال وتفرون من القتال) هذا حال التيار القرشي، جماعة يستلمون الأشياء جاهزة، وأما أهل البيت وأنصارهم يخوضون في لهوات الحرب، حيث تقول في وصفهم: ( قذف أخاه في لهواتها فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه ويخمد لهبها بحد سيفه) نحن كنّا مقدمين في النزال والقتال بينما أنتم كنتم وادعون وهانئون وآمنون في رفاهية من العيش، ولا يوجد لديكم نزعة للقتال أو الحرب أو التضحية.

   مع ذلك نفس هذه الجماعة هي التي استلمت كل الجزاء وصارت الخلافة والأموال والمناصب بأيديهم وما شابه ذلك، وليس أنهم طردوا أهل البيت فقط بل، حتى الأنصار الذين يوصفون بهذا الوصف، فأول شيء مكروا بهم جماعة السقيفة وقالوا لهم: ( نحن الأمراء وأنتم الوزراء)، فأخرجوهم فارغي الوفاض ولم يحوزوا على شيء، وتطور الأمر إلى ما هو أسوء من ذلك، ففي أيام معاوية بن أبي سفيان كان شتم الأنصار قائمًا على قدم وساق.

   هؤلاء الأنصار الذي يقول فيهم النبي صلى الله عليه وآله: ( الأنصار كرشي وعيبتي، ولو سلك الناس واديًا، وسلك الأنصار واديًا، لسلكت شعب الأنصار) هؤلاء أصبحوا محل تهجم من قبل معاوية مباشرة من جهة ومن قبل الجهاز الإعلامي التابع له من جهة أخرى.

   فمعاوية عندما جاء إلى المدينة في أواخر عهده حتى يهيئ موضوع خلافة ابنه يزيد، كان يتوقع أن الناس كلهم يخرجون لاستقباله باعتباره خليفة المسلمين، فرأى أنه لم يُستقبل بذلك الاستقبال الحسن، لم يخرج له أحد لاسيما كبار القوم من الأنصار، فخرج له مثل النعمان بن بشير الأنصار مع بعض الأشخاص، لكن عامّة الأنصار كان موقفهم سلبياً منه، هناك معاوية اغتاظ وسأل بعض من رآه عندما دخل المدينة لماذا لم يستقبلني رؤساء وشيوخ؟ فأحد هؤلاءالأشخاص أراد أن يعتذر عذراً، فقال له : هم ضعفاء وليس عندهم دوابّ يعني هم يريدون أن يخرجوا لك إلى خارج المدينة إلا أنهم لا يملكون دوابّ لذلك، وهؤلاء وضعهم المادي ضعيف، وهذا يكشف أيضاً عن خطة إفقار الأمويين لمن كان يخالفهم.

   معاوية أراد أن يهزأ بهم فقال: ( فأين نواضحهم ) يقصد أن هؤلاء الأنصار ليسوا في مستوى رئاسة ولا مشيخة، وإنما مستوى أن يأتوا بالماء من العين إلى البيوت على النواضح - البعير الذي ليست فيه فائدة لأي شيء فيجعلوه لسقي الماء- وهذا الإنسان الذي ليس له عمل يصير آمراً لهذا الناضح، هنا قيس بن سعد بن عبادة الذي هو من رجال الأنصار الكبار ومن أولياء أمير المؤمنين المخلصين استُثير في هذا، فقال يا معاوية: ( نواضحهم نحرت في يوم بدر وأحد عندما قاتلوك عليها أنت وأباك وكنتم مشركين وهم مؤمنون فأظهر الله هذا الدين وأنتم كارهون ) هذه النواضح التي تسخر منها هي كانت أسلحتهم ضدك وضد والدك لنشر الإسلام، فإذا كان خليفة المسلمين يتحدث مع أنصار رسول الله صلى الله عليه وآله بهذا المنطق من التحقير، وأسوء منه ما أوعز إلى الأخطل النصراني - شاعر وسكّير- لكي يهجو الأنصار ويسبّهم، هذا كان لسانه لسان هجّاء وبدأ هجاءه على الأنصار، ومما ورد في قوله مثلاً:

لعن الإله من اليهود عصابةً *** بالجزْع بين صليصل وصرارِ[3]

خلّوا المكارم لستم من أهلها *** وخذوا مساحيكم بني النجار

ذهبت قريشٌ بالمكارم والعُلى *** واللُؤم تحت عمائم الأنصارِ

   يعتبر الأنصار أنهم يهود، وهو مسيحي ولكن شُجّع من قبل الخلافة الأموية لهجاء الأنصار، وأنتم أيها الأنصار لستم بأهل مكارم، بل أنتم من أهل الفلاحة فقط ولستم أهلاً للرئاسة. فالعلى والكرامة لقريش وأما اللؤم فهي من تحت عمائم الأنصار، حتى أنهم قالوا أنه استثار الأنصار ولاسيما من كان مؤيداً بعض الشيء لمعاوية.

   النعمان بن بشير كان معهم، وصار فيما بعد والياً للكوفة، ولعله هو وعدد بسيط من الأنصار الذين بقوا مع الأمويين، فيقولون أن النعمان بن بشير جاء إلى معاوية ورفع عمامته وحسر عن رأسه، وقال له: (ماذا ترى؟ فردّ معاوية قائلاً: ماذا أرى؟ قال: أترى لؤماً هنا؟ قال معاوية: لا أرى إلا العزة والكرم، فقال: ما يقول صاحبك؟ هذا الأخطل يقول: اللؤم تحت عمائم الأنصار، فلابدّ أن تكفّه، قال معاوية: قد وهبتك لسانه - أيْ إقتصوا منه- ( إلا إذا استجار بيزيد، ثم دسّ إلى يزيد أن أجِرْهُ، وأجاره ).

   إيهًا بني قيلة: العتاب الشديد من الزهراء عليه السلام للأـنصار

   هذه الفئة التي كان لها الدور الأكبر في نصرة الإسلام، تخاطبها سيدة النساء عليها السلام تقول: ( إيهًا بني قيلة! - أم الأوس والخزرج- أَأُهضم تراث أبيَ؟- أمامكم يأخذون هذا الإرث علناً جهاراً - وأنتم بمرأى ومسمع ومنتدى ومجمع، تشملكم الصرخة وتصلكم الدعوة، لا نبرح أو تبرحون - كنتم تساندونا في هذا الخط - معروفون بالخير والصلاح والنخبة التي انتخبت والخيرة التي اختيرت، قاتلتم العرب، وتحملتم الكدّ والتعب، وناطحتم الأمم، وكافحتم البُهم، نأمركم فتأتمرون، حتى إذا دارت بنا رحى الأيام ودرّ حلب الأيام ) فتوفي رسول الله صلى الله عليه وآله في الوقت الذي حصل فيه الانتصار، فالمفترض الآن تجعلوا أيديكم بأيدينا، ولا تتراجعوا فالأمر بيدكم.

   فكان هناك عتاب شديد، ( فأنّى حِرتم بعد البيان؟ ) فلو كان أحدكم لا يعلم فهو معذور ولكن البيان واضح، والكلمات النبوية واضحة، والموقف واضح، لم هذا التحيّر؟

( وأسررتم بعد الإعلان ونكصتم بعد الإقدام - كانت مواقفكم المقدامة في المعارك واضحة جدًّا، فإذا بكم تتراجعون! – ( وأشركتم بعد الإيمان، ألا تقاتلون قومًا نكثوا أيمانهم وهمّوا بإخراج الرسول وهم بدأوكم أول مرة، أتخشونهم فالله، أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين) ثم تقول: ( أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض - أيْ تنازلتم وتهاونتم - وأبعدتم من هو أحق بالبسط والقبض - وهو أمير المؤمنين عليه السلام- وركنتم إلى الدعة ونجوتم بالضيق والسعة، فمججتم ما وعيتم – أي مثل الذي في فمه شيء وثم يلقيه - ودسعتم الذي تسوغتم- أيْ يأكل ثم يتقيأ، بينما تلك المواقف التي عملتموها الآن أرجعتموها ولم تكملوها.

   فكان هناك موقف صريح وواضح من قبل سيدة النساء فاطمة عليها السلام في تشخيص هذه الفئات المتعددة، في نفس الوقت الذي حمّلت فيه المسئولية الاتجاه القرشي وواجهتهم بالحجج والبراهين، واتهمتهم بأنهم يدبرون هذا الأمر عن عمد في ذلك، ومخالفين لكلام رسول الله صلى الله عليه وآله ولبصائر القرآن، عرّجت على موقف الأنصار وأدانت هذا الموقف وبينت أنه لم يكن متوقعًا منهم هذا الأمر، مع أن مواقف الأنصار بالإجمال فيما بعد قد تغيّرت ولعل هذا أيضًا جزء منه راجعًا لتأثير خطبة السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام.

          الحالة المدنية فيما بعد من أهل البيت ولو على مستوى التعاطف النفسي والموقف القلبي كان موقفًا إيجابيًا، بخلاف الموقف القرشي الذي استمر عدائياً وواضحاً وصريحاً في مواجهتهم من الخلافة إلى من كان من أتباعهم، لاحظ الفرق بين عمرو بن سعيد الأشدق الأموي وبين النعمان بن بشير الأنصار كلاهما مع الأمويين، النعمان بن بشير الذي كان في الكوفة عندما ذهب إليها مسلم بن عقيل ، قال له: أنا لا أريد أن أتورط معك ولا أريد قتالك، فهذا ليس مثل موقف زياد بن أبيه أو عمرو بن سعيد بن العاص ومن شابه من هؤلاء الذين تورطوا في قضايا قتل وفتك وغيره.

   النعمان بن بشير مع أنه كان من ضمن الموقف الأموي و هذا مدان ومرفوض إلا أنه بالقياس مع عمرو بن سعيد الأشدق، كان ألين ولقد وجدت النساء الفاطميات في رجوعهن من الشام إلى المدينة برفقة النعمان بن بشير شيئًا من الراحة والاستراحة، بخلاف ذهابهن إلى الشام الذي كان متعبا ومكربا ومجهدا،

 

[1] )  قليلة البقاء كالنبْت الأخضر

[2] ) سيرة ابن هشام ص 499- 500

[3] ) منطقتان في المدينة

مرات العرض: 3397
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2573) حجم الملف: 46281.81 KB
تشغيل:

الاماام جعفر الصادق والقيادة الاجتماعية للمذهب
وليد الكعبة : بحث تاريخي في الروايات