عوامل الكسل في العبادة وعنها 30
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 24/5/1439 هـ
تعريف:

28 عوامل الكسل عن العبادة وفيها

 

كتابة الأخت الفاضلة أمجاد عبد العال

جاء في الدعاء المشهور والمعروف بدعاء أبي حمزة الثمالي، والمنقول عن سيدنا ومولانا زين العابدين، هذه الفقرة: "اللهُمَّ إِنِّي كُلَّمَا قُلْتُ قَدْ تَهَيَّأْتُ وَتَعَبَّأْتُ وَقُمْتُ لِلصَّلَاةِ بَيْنَ يَدَيْكَ وَنَاجَيْتُكَ، أَلْقَيْتَ عَلَيَّ نُعَاسًا إِذَا أَنَا صَلَّيْتُ، وَسَلَبْتَنِي مُنَاجَاتَكَ إِذَا أَنَا نَاجَيْتُ. مَالِي كُلَّمَا قُلْتُ قَدْ صَلُحَتْ سَرِيرَتِي، وَقَرُبَ مِنْ مَجَالِسِ التَّوَّابِينَ مَجْلِسِي عَرَضَتْ لِي بَلِيَّةٌ أَزَالَتْ قَدَمِي وَحَالَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ خِدْمَتِكَ سَيِّدِي. لَعَلَّكَ عَنْ بَابِكَ طَرَدْتَنِي، وَعَنْ خِدْمَتِكَ نَحَّيْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ رَأَيْتَنِي مُسْتَخِّفًا بِحَقِكَ فَأَقْصَيْتَنِي أَوْ لَعَلَّكَ وَجَدْتَنِي فِي مَقَامِ الكَاذِبِينَ فَرَفَضْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ رَأَيْتَنِي غَيْرَ شَاكِرٍ لِنَعْمَائِكَ فَحَرَمْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ فَقَدْتَنِي مِنْ مَجَالِسِ العُلَمَاءِ فَخَذَلْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ رَأَيْتَنِي فِي الْغَافِلِينَ فَمِنْ رَحْمَتِكَ آيَسْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ رَأَيْتَنِي آلَفُ مَجَالِسَ البَطَّالِينَ، فَبَيْنِي وَبَيْنَهُم خَلَّيْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ لَمْ تُحِبْ أَنْ تَسْمَعَ دُعَائِي فَبَاعَدْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ بِجُرْمِي وَجَرِيرَتِي كَافَيْتَنِي أَوْ لَعَلَّكَ بِقِلَّةِ حَيَائِي مِنْكَ جَازَيْتَنِي".

نفتتح بهذه الفقرات من دعاء أبي حمزة الثمالي حديثنا عن موضوع الكسل في العبادة. وهو أحد أنحاء تجلي هذه الصفة السيئة، والخلق الذميم. أعني به: الكسل. فبعد أن تحدثنا عن الكسل في أمر المعاش والارتزاق، وتحدثنا عن الكسل في طلب العلم والمعرفة، نتناول هذا اليوم شيئا من الحديث عن الكسل في العبادة.

في البداية نشير إلى أن هذا الدعاء قد رواه أحد الروات الثقات، والأصحاب الأجلاء، الذي شُبه في لسان الإمام الصادق (ع)، بأنه كسلمان في زمانه. ففي الحديث، عن الصادق (ع)، شبهه، أي شبه أبا حمزة بسلمان المحمدي، ومن المعروف رتبة سلمان في علمه وفي عمله. بينما شبهه الإمام الرضا (ع)، في حديث آخر، بأنه كلقمان في زمانه؛ وعلل ذلك بأنه: "وَذَلِكَ أَنَّهُ خَدَمَ مِنَّا أَرْبَعَةً": علي بن الحسين، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد وموسى بن جعفر. أي: أدرك أربعة من الأئمة، وانتفع من علمهم، وأخذ من هداهم. وتوفي سنة 150ه. أي في بداية زمان إمامة الإمام الكاظم سلام الله عليه.

وكان على خط أهل البيت - كما هو معروف - ثلاثة من أبنائه، استشهدوا إلى جانب زيد بن علي بن الحسين، وهو الشهيد: زيد. فثلاثة من أبنائه، منهم: حمزة الذي يكنى به. وإلا فهو اسمه: ثابت بن دينار الثمالي، نسب إلى ثمالة، وهي منطقة في الكوفة. وابنه حمزة، بالإضافة إلى أخويه - أي أخوي حمزة - شاركا في نهضة الشهيد زيد بن علي بن الحسين، واستشهدوا معه. أي ثلاثتهم كانوا شهداء، إلى جانب الشهيد زيد، ابن الإمام زين العابدين. وهذا هو الراوي لهذه الرواية، لهذا الدعاء. وينقل الكثير من المؤرخين أحاديث بينهم وبين الإمام زين العابدين، بعضها يتصل بقضية كربلاء وما بعدها من القضايا، لكنا الآن لا نذهب بعيدا في شرحها.

أما هذا الدعاء، فهو من أنماط الأدعية التي سلكها الأئمة المعصومون (ع) في الجهر بها إلى الله، وتعليم أصحابهم إياها. والتي تحتوي بالإضافة إلى التضرع إلى الله والتعبد، على معارف دينية وأخلاقية، وهذا أحد أنحاء وأساليب الأئمة (ع) في بث المعرفة والوعي الديني. فالدعاء ليس عند الأئمة مجرد: يا رب اعطيني هذا، واصرف عني ذاك، وإنما بالإضافة إلى ذلك، هو معارف توحيدية، معارف أخلاقية، معارف دينية، وقد ذكر الذين تحدثوا عن أدعية الأئمة (ع)، هذا المعنى بشكل واضح. ومن ذلك، هذه الفقرة.

فالإمام (ع)، أولا يذكر حالة تعرض للإنسان، ويصفها أولا، ثم يذكر العوامل التي قد تسببها، وهي حالة: الكسل والفتور في العبادة، وعدم القيام بحق الله عز وجل، وهو الحق الأعظم. فإذا كان القرآن الكريم، يقول: (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، أي هدف خلقة الإنسان، وثمن خلقة الإنسان، وغاية خلقة الإنسان: هو أن ينشغل بالعبادة. والمراد بالعبادة هنا: معناها الشامل. فأحيانا ذهابك للعمل، مع أنك تكسب المال، إلا أنه عندما يكون بنية الاكتفاء والصرف على العيال، والتمتع بخيرات الله ونعمه، يكون عبادة. أي إذا كان نفس هذا السعي الدنيوي بهذه النية، يصبح عبادة.

عندما تذهب إلى النزهة أحيانا، فبإمكانك أن تحولها إلى عبادة، وذلك عندما تنوي أنك تتنزه؛ لكي تستقبل أمر الحياة بنفس مفتوحة، وأمر أهلك بأخلاق منشرحة، ومع إخوانك بصدر واسع، ثم تقبل على هذه الحياة. فمثل هذه النزهة، والضحكة، والمزحة، بإمكانك أن تحولها إلى عبادة. مثلما أن العبادات بالمعنى الاصطلاحي الخاص، مثل: الصلاة، والصيام، هي عبادة. تلك الأمور بإمكانك أن تجعلها عبادة. وهذا صريح أجوبة المعصومين (ع).

فقد جعل ذلك حتى في المقاربة الزوجية: صدقة، وعبادة، وثواب، إذا أراد الإنسان من ذلك إعفاف نفسه عن الحرام. فإذا كانت غاية خلقة الإنسان العبادة، بهذا المعنى الشامل، فمن المطلوب منه أن لا يفتر فيها، وأن لا يتكاسل عنها، وأن لا يتثاقل عن أدائها.

وهنا الحديث، وبشكل أخص، يشير فيه الإمام (ع) إلى حالة تعرض للإنسان، وهي: الكسل في العبادة بالمعنى الخاص: يريد أن يصلي، فيعرض له النوم. لكن لتكن ثمة جلسة ومباسطة، فلا مشكلة. أما ركعتان، تحتاجان إلى خمس دقائق، فبالنسبة إليه، فيها 20 مرة تثاؤب. بينما جلسة وضحكة وإلى آخره، فلا مشكلة فيها، ويمكنه أن يبقى فيها ساعتين. أما دعاء، مناجاة، وليس مقصود بها خصوص الدعاء الجماعي، لا. حتى الدعاء الفردي. فأحيانا الإنسان قد يتأثر في الدعاء الفردي، أكثر مما يتأثر في الدعاء الجماعي. وأحيانا عكس ذلك. فتراه قد يأتي لكي يقرأ، فإذا به يمل، وإذا به يتثاقل.

الإمام (ع) يصف هذه الحالة، يقول: ""اللهُمَّ إِنِّي كُلَّمَا قُلْتُ قَدْ تَهَيَّأْتُ وَتَعَبَّأْتُ"، أي: تجهزت، واستعديت، "وَقُمْتُ لِلصَّلَاةِ بَيْنَ يَدَيْكَ وَنَاجَيْتُكَ"، فهذا كله استعداد، تعبئة، تهيئة. أذهب إلى البيت الحرام، يعني، أنا الآن آت إلى مكة المكرمة، بجوار الكعبة، فلأحيي الليل بالعبادة، لكن لا ألبث أن أذهب إلى هناك، فأصلي ركعتين، وأتعبد، حتى أكلُّ! أريد أن أبدأ مناجاة، أقرأ سطرين، ثم بعد ذلك أنشغل بهاتفي وما فيه من أمور! أو أبدأ بالتفرج هنا وهناك على الطائفين والراكعين! وأحيانا لا، الإنسان بينه وبين نفسه، "أَلْقَيْتَ عَلَيَّ نُعَاسًا إِذَا أَنَا صَلَّيْتُ، وَسَلَبْتَنِي مُنَاجَاتَكَ إِذَا أَنَا نَاجَيْتُ"، هذا هو ظاهر الأمر، أن النعاس ألقي علي، فما هو السبب؟ لذة المناجاة لا تكون عندي حتى أستمر فيها، فلماذا هذا؟ ما هي العوامل؟

"مَالِي كُلَّمَا قُلْتُ قَدْ صَلُحَتْ سَرِيرَتِي، وَقَرُبَ مِنْ مَجَالِسِ التَّوَّابِينَ مَجْلِسِي عَرَضَتْ لِي بَلِيَّةٌ أَزَالَتْ قَدَمِي وَحَالَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ خِدْمَتِكَ سَيِّدِي"، هذا توصيف للحالة. فما هي العوامل؟ لاحظوا تعبير الإمام (ع) في جهتين، الجهة الأولى: تعبير، لعل، لعل. وهذا يعلمنا عدم الجزميات، مع أن الإمام (ع) يعرف بالنسبة إلى هذا الشخص ما هي مشكلته تحديدا، ولكن يطرحها بصورة: لعله، أي: ربما. أما نحن فطريقتنا ماذا؟ أي خبر، انظر أنت، وامتحن نفسك مع نفسك ومع غيرك، لما تقول: فلان حدث قد وقع. فلان كان – مثلا - مستقيما، أصبح منحرفا. ففورا لديك جواب، وجواب جزمي وحتمي وليس من جواب آخر أصلا. فلان واحد قال هذه الكلمة، ففورا لديك جواب جزمي وحتمي، وليس من محل إلى: لعل، ولا مجال للتردد.

فالإمام كأنما يريد أن يعلمنا، أنه: إذا أردنا أن نحلل ظاهرة أو قضية، أن نضع احتمالات لها، ولا نطرح هذه الاحتمالات على أساس أنها جزمية، فنقول: ليس هناك غير هذا، فإما هكذا أو هكذا، إما جاهل أو مغرض. ونقفل الباب. إما هذا السبب أو ذاك السبب! من أين؟ هل نحن أحطنا علما بكل الأسباب والعوامل والجهات حتى نأتي ونقول: هذا هو فقط لا غير، أو إما هذا أو إما ذاك.

لعل - والله العالم - الإمام عندما يريد أن يبين لنا بهذا الأسلوب، أسلوب لعل، هو يريد أن يقول لنا: أنتم - يا أيها الناس - مع قلة علمكم، ونقص معارفكم، وعدم إحاطتكم بالأشياء، لا تجعلوا الأمور عندكم جزمية. لا تقولوا: بيس هناك إلا هذا السبب، ولا توجد إلا هذه الجهة. فما يدريكم أنه ليس هناك إلا هذا السبب، وما يدريكم أن هذا الترديد إما هكذا وإما كذاك، وانتهى. هل نحن عالمون بالغيوب؟! هذا واحد من الأمور.

الأمر الآخر: والله العالم، أن هذه الطريقة، "لَعَلَّكَ عَنْ بَابِكَ طَرَدْتَنِي، وَعَنْ خِدْمَتِكَ نَحَّيْتَنِي،"، أَوْ لَعَلَّكَ رَأَيْتَنِي آلَفُ مَجَالِسَ ..."، ستلاحظون 11 فقرة، أي 11 عاملا من العوامل، جاءت كلها بصيغة لعل. وهذا قد يعلمنا شيئا آخر، وهو أن الظواهر، سواء النفسية أو الاجتماعية، لا تعلل بشيء واحد، ولا تتأثر بشيء واحد، وقد يكون لها جهات متعددة.

فظاهرة معينة، قد يكون فيها جهة اقتصادية، وقد يكون فيها جهة اجتماعية، وقد يكون فيها جهة نفسية، وقد يكون فيها جهة نظرية وعلمية، وقد يكون فيها جهة شخصية خاصة بهذا الإنسان؛ لذلك – ربما - الإمام (ع) عدَّد عوامل مختلفة، وأوصلها إلى أحد عشر عاملا في هذه الظاهرة، ظاهرة أنه: لماذا أكون كسولا عن العبادة أو في العبادة؟

لأن الإنسان – أحيانا – لا يقوم أصلا وراء العبادة. فزيد من الناس، يقول لك: أنا من سنتين، لم أذهب إلى المسجد لصلاة الجماعة، كلها صلواتي فرادى، وهذا كسل عن العبادة. مثلا: أنا مقتصر فقط على الفرائض، هذا كسل أيضا عن العبادة.

وهناك - أحيانا - كسل في العبادة، مثلا: نفس الصلاة التي أصليها، أقرأها بتثاؤب يرقع تثاؤب، أو: ترى من يصلي مشغول بكل شيء إلا بالصلاة. فمرة يعدل لحيته، ومرة يعدل عقاله، ومرة يجر غترته، وأخرى يحك فخذه، وثالثة كذا، ورابعة كذا، وهذا شيء من الكسل والتثاقل في داخل العبادة، فليس فيها توجه، ولا التفات.

فالإمام (ع) يبين أحد عشر جهة. ولأن الوقت غير كاف، سنتعرض إليها بشكل سريع: "لَعَلَّكَ عَنْ بَابِكَ طَرَدْتَنِي، وَعَنْ خِدْمَتِكَ نَحَّيْتَنِي"، وهذه عقوبة من العقوبات، نعوذ بالله منها. فإذا رأى إنسان نفسه غير مقبل على باب الله عز وجل، وغير طارق لبيت من بيوت الله، وغير قائم، وغير موفق للنوافل: لصلاة الليل، للدعاء، للمناجاة، للتوسل، فليعلم أنه يُحتمل أن يكون هذا عقابا من الله. أقول: يحتمل.

يقال: أن رجلا من بني إسرائيل، كان مستقيما وصالحا وعابدا، ثم على أثر تأثر بالدنيا والشهوات، ترك هذا المشوار، وأصبح في الاتجاه المخالف. لكن لم بتغير عليه شيء، يعني أمواله التي كانت عنده، إذا ما زادت، لم تنقص، والتنعم الذي هو فيه، لم يتبدل. فجاء إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل، وقال له: أنتم تقولون أنه: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا)، أين؟ فلم يتغير علي شيء، نفس الراتب الذي أتقاضاه، إذا ما زاد، لم ينقص. ونفس اللذات، نفس النعم، فأين مقالتكم؟ فقال له: الله الآن يعاقبك. فقال له: وكيف يعاقبني؟ فجاء الوحي من الله عز وجل إلى ذلك النبي: أن أخبر فلانا كم عاقبتك ولم تشعر! ألم أسلبك حلاوة ذكري، ولذة مناجاتي. وهذه عقوبة.

عقوبة، لا يعني أني يأتي الله ويصفعك على وجهك. يكفي أنه يجعلك لا تقبل على الدعاء، على المناجاة. لا تقبل على الله، بل تقبل على أعداء الله. لا تطلب من الله، بل تطلب من خلق الله. لا ترتاح إلى ذكر الله، بل تجلس إلى عامة الناس وتكلمهم في نكات وهرج وتعليقات وسخرية، فأنسك بهذا. أما إذا أنت منعم من الله، فأنسك بمناجاة الله عز وجل، وأنسك بذكر الله عز وجل، فإذا ما كان هكذا، فاحذر أن يكون ذلك عقوبة.

فلذلك واحد من الأسباب التي قد يتورط فيها الإنسان: أنه مطرود من رحمة الله عز وجل، مطرود من باب الله، مطرود من خدمة الله. فخدمة الله شرف، والناس، أو الدنيا، يتشرفون – مثلا - بخدمة هذا الرئيس، وهذا السلطان، فإذا جاؤوا مكانا، قالوا فيه: أنا نائب الرئيس الفلاني، فتمشي أموره. أنا نائب السلطان الفلاني، أنا نائب الملك الفلاني، أنا نائب السياسي الكذائي، فتمشي أمورهم.

أنا خادم زيد وعبيد، فكيف يكون خادم الله عز وجل؟ فإذا نُحِّيَ عن هذه الخدمة، عن هذه العبادة، فيقال له: أنت لست عبدي، لست بخادمي، لست قريبا مني. أنت مطرود عن بابي. فهذا شيء يحصل للإنسان، فيتثاقل عن العبادة، ويتكاسل عنها.

"أَوْ لَعَلَّكَ رَأَيْتَنِي مُسْتَخِّفًا بِحَقِكَ فَأَقْصَيْتَنِي"، الاستخفاف: درجة أسوأ من العصيان. فالاستخفاف بحق الله عز وجل، درجة أسوأ من عصيانه؛ لأن العصيان - أحيانا - يكون بدون الاستخفاف، وأحيانا مع استخفاف. فإذا صار العصيان مع الاستخفاف، فعقوبته أكبر. لذلك في بعض الأحيان، لدينا أدعية، ورد فيها: "إِلَهِي مَا عَصَيْتُكَ حِينَ عَصَيْتُكَ وَأَنَا بِرُبُوبِيَّتِكَ جَاحِدٌ، وَلَا بِعَظَمَتِكَ مُسْتَخِفُّ، وَلَكِنْ بَلِيَّةٌ عَرَضَتْ لِي"، أي: شهوة صارت عندي، "وَغَرَّنِي سِتْرُكَ المُرْخَى عَلَيَّ". فأنا لا أستخف بعظمتك يا رب، ولا أنزلك عن مقامك. فمقامك محفوظ، وعظمتك في محلها. لكن أنا من زلقت قدمي، وراحت وراء الشهوة، وأنا أستغفرك يا رب.

فهذا يختلف عن أن تجعل ربك أهون الناظرين إليك، وأن تستخف برقابته عليك. لذلك عندنا في الروايات عقوبة تارك الصلاة أعظم من عقوبة الزاني. وليس معنى هذا: أن الزاني ليس له عقوبة. لا. لكن، الزنى – نعوذ بالله – فيه جهة شهوة، وتحريك للنفس. فالزاني يعلم أنه يعصي ربه، لكن خضع لشهوته. أما الصلاة فليس فيها هذه الشهوة، خلاف الزنا، ففيه بغض شهواني، يجعل الزاني يذهب وراءه، فيعاقب بلا إشكال. أما الصلاة فليس فيها هذا الجانب.

فإذا أحدهم ترك الصلاة، غالبا يتركها مستخفا بحق الله عز وجل. فلا أحد يعطيه أموالا على ترك الصلاة، ولا هو يستمتع جنسيا إذا ترك الصلاة، ولا يحصل على أكل جراء تركها، ولا غير ذلك. فهذا لم يتركها إلا لاستخفافه بها؛ لذلك عقوبته كانت أعظم.

"أَوْ لَعَلَّكَ رَأَيْتَنِي مُعْرِضًا عَنْكَ فَقَلَيْتَنِي". القلى، يعني: الكره والبغض. أنت تبغض إنسانا، أي: تقلاه، ولا تحب جواره، ولا أن يتقرب إليك. وللإنسان العاصي - نعوذ بالله - مراحل. نقرأ قسما منها في دعاء الافتتاح،، والقسم الثاني، هنا: "إِنَّكَ تَدْعُونِي فَأُوَلِّي عَنْكَ وَتَتَحَبَّبُ إِلَيَّ فَأَتَبَغَّضُ مِنْكَ وَتَتَقَرَّبُ إِلَيَّ فَأَتَبَعَّدُ عَنْكَ"، وهذه هي المرحلة الأولى. وهي مرحلة سيئة ولكن ليست بخطورة المرحلة الثانية، التي تستمر مدة. فالله لا يبتعد عن الإنسان من أول يوم، بل يظل يدعوه. وليس من أول يوم يعصيه، يهمله ربه، وإنما يظل يحاول فيه، ويقربه، ويدنيه، ويستدعيه، ويقبل توبته، ويحاول توفيقه، إلى أن يصل إلى مرتبة ما، ذاك الوقت، يسقطه من حسابه، إذا استمر هذا الإنسان غير مبال لنداءات ربه، فيقول له: كم أنت عصيتني، فقط تعال وقل أستغفر الله، وتنتهي أمورك. تعال واجعل عينك تدمع، وتنتهي أمورك السابقة، تعال واجعل قلبك يخشع، ولا يحتاج الأمر أن تتكلم بكلمة، ثم أمورك مرتبة. مع ذلك، ذاك يستمر في غلوائه، وذاك الوقت يقول له الرب: أنا أبغضك، اذهب، وكلتك إلى نفسك. نعوذ بالله من هذه المرحلة. هنا يصبح: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ. قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا. قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ۖ وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ).

من العوامل أيضا، ما ذكره الدعاء: "أَوْ لَعَلَّكَ وَجَدْتَنِي فِي مَقَامِ الكَاذِبِينَ فَرَفَضْتَنِي"، فأولا، في مقام الكاذبين، المقام غير نفس الكاذبين. فالمقام الموضع، مثلا: عندنا "يخشى ربه"، و"يخاف ربه"، (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ). ويظهر من هذا شيء من الاختلاف. فمقام الكاذبين، هو مرة إنسان يكذب صراحة، ومرة يكون مقامه مقام الكاذبين، أي يدعي أنه عبد مثلا، وهو فرعون متجبر. فأين عبوديتك؟ أنت المفروض مقامك: مقام العبد، فلماذا تتجبر؟ لماذا تتنمر؟ لماذا تتكبر؟ فهذا المقام الذي أنت أقمت نفسك فيه، مقام كذب؛ لأن المفروض أنك عبد، وأنت تتعامل مع الآخرين كأنك جبار. مقام الكاذبين، هو عندما يأتي إلى إنسان من يقول له: أنا ليست لدي مصلحة، أنا أريد مصلحتك، أريد أنصحك. وهذا يكذب. هو يريد أن يحفر له حتى يسقط. فلو يرجع إلى نفسه، يجد أنه كاذب، ولا يريد مصلحة ذاك، بل يريد أن يفسد بين أخوين، أو بين زوجين، وأن هذا الكلام الذي قاله: أنا ليست لدي مصلحة، ولا عندي قصد، غير صحيح. فهو له مصلحة وعنده قصد، وقصدان، ليرجع إلى نفسه لير أن الأمر كذلك.

فإذا أقام الإنسان نفسه مقام الكاذبين، يرفضه الله سبحانه وتعالى. أنا آتي مثلا وأقول: أنا عبد الله، أنا المؤمن، أن الكذا. ثم أين مظاهر عبوديتي، أين مظاهر إيماني، أين مظاهر إخلاصي. أكذب. لذلك يستحب للإنسان أن يقلل من ادعاءاته، فلا يقول: أنا العبد، المؤمن، المخلص، التائب، الكذا، الكذا؛ لأنه قد يكون في هذا المقام، مقام الكاذبين.

"أَوْ لَعَلَّكَ رَأَيْتَنِي غَيْرَ شَاكِرٍ لِنَعْمَائِكَ فَحَرَمْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ فَقَدْتَنِي مِنْ مَجَالِسِ العُلَمَاءِ فَخَذَلْتَنِي"، والمصداق الأكبر للعلماء هم: أئمة الهدى (ع). فإذا فُقِد الإنسان من مصاحبة الأئمة، من مجالستهم، فحتى لو أوتي علما عظيما، يكون مخذولا؛ لأن هذا العلم ما لم يخرج من محمد وآل محمد (ص)، لن يكون هاديا تمام الهداية إلى الجنة. فهم المصادق الأعظم له، ثم المصداق الآخر: العلماء.

والعلماء ليسوا مثلي وأمثالي، وكل من وضع على رأسه عمة، لا. وإنما من يقول عنهم الحديث: "مَنْ يُذَكّركُم اللهَ رُؤْيَتُهُ". فبمجرد أن تراهم تتذكر الله سبحانه وتعالى. وهذا من أين لنا أن نحصل عليه؟! وأين نلقاه؟! "مَنْ يُذَكّركُم اللهَ رُؤْيَتُهُ وَيَزِيدُ فِي عِلْمِكُم مَنْطِقُهُ". لا أن يأتي ويعلمني أن أسب فلانا، وألعن فلانا، وأتكلم على فلان، وأصيغ ضد فلان. بل من يزيد منطقه في علمي، "وَيُرَغِّبُكُم فِي الآخِرَةِ عَمَلُهُ". أي من يوجهك إلى الآخرة، ويذهب بك من هذه الدنيا إلى تلك الأخرى. فنسأل الله أن يعيننا حتى نحصل على هؤلاء العلماء فنجلس معهم. وإلا إذا لم يلطف بنا الله سبحانه وتعالى، نكون مخذولين. فنحن نحتاج – وأتكلم عن نفسي لا عنكم - إلى أن نجلس مع هؤلاء العلماء الذين إذا لم نجالسهم ننخذل في حياتنا الإيمانية.

"أَوْ لَعَلَّكَ رَأَيْتَنِي فِي الْغَافِلِينَ فَمِنْ رَحْمَتِكَ آيَسْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ رَأَيْتَنِي آلَفُ مَجَالِسَ البَطَّالِينَ، فَبَيْنِي وَبَيْنَهُم خَلَّيْتَنِي"، أي: مجالس أحاديث الغيبة، والنميمة، والمزح غير المفيد، والكلام غير النافع، وتضييع العمر في قيل وقال. هذه هي مجالس البطالين، نسأل الله أن يباعدنا عنها.

وأنت تلاحظ هنا - وأنهي به الحديث - أن الإمام (ع) يحمل الإنسان نفسه كل هذه المسؤولية. فلا يقول: أنت يا ربي صنعتني هكذا، وإنما أنا في مجالس البطالين، فأنت أيضا تركتني معهم، أنا يا رب كنت غير مستأهل للرحمة، فأنت أيضا حجبت رحمتك عني، وليس أن هناك أمرا جبريا علي. فأنا من قمت بالمقدمة، فترتبت عليها النتيجة. "رَأَيْتَنِي غَيْرَ شَاكِرٍ لِنُعْمَائِكَ"، فهذا ينتج نتيجة. "رَأَيْتَنِي آلَفُ مَجَالِسَ البَطَّالِينَ"، ينتج نتيجة. "رأيتني غير شاكر لنعمائك"، ينتج نتيجة. فالمسؤول الأول عن هذه النتائج، هو أنا الداعي، وهذا من أساليب التربية في الدعاء.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من العاملين لرضوانه وجنانه، وأن يجنبنا مسالك البطالين الكسالى، إنه على كل شيء قدير. وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.

 

مرات العرض: 3436
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2564) حجم الملف: 36269.03 KB
تشغيل:

الكسل في أمر المعيشة 28
كيف نواجه الكسل في الحياة 31