6- من معالم المذهب الحنفي وآرائه
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 6/9/1438 هـ
تعريف:

من معالم المذهب الحنفي وآرائه


تفريغ نصي الفاضلة أمجاد عبد العال


قال الله العظيم في كتابه الكريم، بسم الله الرحمن الرحيم: (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم).
حديثنا بإذن الله تعالى، يتناول موضوع، المذهب الحنفي في أهم معالمه وآرائه. وهو يأتي في ضمن محاولة التعرف على سائر المذاهب الإسلامية، ومعرفة آرائها، وبيان وجه الاتفاق والاختلاف، بينها وبين مذهب الإمامية. في لمحة تاريخية، وجغرافية سريعة، عن هذا المذهب، يمكن أن نقول: إن البداية القوية التي ابتدأ هذا المذهب، كانت في زمن هارون الرشيد العباسي، عندما قرب إليه أبا يوسف القاضي، التلميذ البارز لأبي حنيفة النعمان.
وإن كان هناك علاقة قبل زمان الرشيد، في أيام المهدي، إلا أن البداية القوية، كانت في زمانه، عندما فوض الرشيد إلى أبي يوسف القاضي، التلميذ البارز كما ذكرنا لأبي حنيفة، فوض إليه الأمور الدينية، في المملكة الإسلامية كلها، وأبو يوسف أيضا قام بتعيين أهم تلامذة أبي حنيفة في أهم الأمصار الإسلامية، فجعل على الكوفة، وهي عاصمة الحركة الدينية في ذلك الوقت، جعل عليها الحسن بن زياد اللؤلؤي، وهو من تلامذة أبي حنيفة، وجعل على البصر زُفّر الهذيل، وهو أيضا من تلامذته، وجعل على الرقة، والرقة كانت في فترة من الفترات، بمثابة العاصمة الموسمية للدولة، جعل عليها محمد بن الحسن الشيباني، وهو أي قاضي القضاة في بغداد. ثم لم يعين قاض، ولا إمام جماعة، ولا ناظر مدرسة، إلا ضمن هذا الإطار. حتى قال ابن حزم الظاهري، وهو إمام المذهب الظاهري، قال: مذهبان كان بدو أمرهما بالرياسة والسلطان. مذهب أبي حنيفة، وأشار إلى اختصاص الرشيد بأبي يوسف، وقال: فلم يعين في شرق المملكة الإسلامية إلى غربها قاض إلا من الأحناف. يعني اخذ من أفغانستان، إلى المغرب، موريتانيا، كل هذه المنطقة، بشمالها وجنوبها، كانت ضمن مدى الدولة الإسلامية، وكان يعين عليها القضاة، ومن يرتبطون بالموضوع الديني من المذهب، طبيعي عندما يكون المذهب الرسمي، هو هذا، أوقاف تجري على طريقته، وإمامة الجماعة كذلك، والقضاء كذلك، وكل الأمور الأخرى، من الطبيعي أن يزداد أتباعه، وأن يزداد الطلاب الدارسون في مدارسه، والمعلمون لهذا المذهب. هاي مرحلة كانت قوية.
زادها قوة فيما بعد، تولي السلاجقة والغزنويين، في القرن الرابع الهجري، وما بعده، لبعض ولايات الإسلام، مثل خراسان، وإيران، وباكستان، وأفغانستان، وصولا إلى بغداد، في فترة من الفترات. هؤلاء السلاجقة الأتراك، والغزنوييون، كانوا أيضا يدعمون المذهب الحنفي.
في مرحلة ثالثة، المماليك، الذين جاؤوا في مصر، وبلاد الشام، دعموا المذهب الحنفي ضمن ظروف معينة، فزاد قوة، ولكن أعظم دعم، حصل عليه هذا المذهب، كان قبل حوالي 750 سنة، يعني تحديدا في سنة 700 هجرية، عندما بدأت الخلافة العثمانية. فالتزم الخلفاء العثمانيون، والسلاطين العثمانيون بالمذهب الحنفي، ونشروه في كل مكان، وصلت إليه يد الدولة العثمانية.
فإذا رحت إلى بلاد البلقان والجمهوريات الروسية، المستقلة أخيرا، حيث وصلت سلطة الأتراك في بعض الفترات في ذلك الزمان، تجد المذهب الحنفي هناك مذهبا موجودا. إذا وصلوا إلى الهند وباكستان وأطراف أفغانستان، بل داخل المنطقة العربية، العراق مثلا، اللي كان للعثمانيين سيطرة، تجد المذهب الحنفي واضحا. بل حتى عندنا هنا، في الخليج والمنطقة، أيضا، وإن لم يكن هناك سيطرة قوية للعثمانيين، إلا في بعض الفترات، على الحجاز، إلا أنه بمقدار ما كانوا يستطيعون، حاولوا أن يدعموا وأن يقووا هذا المذهب في الأماكن التي وصلوا إليها.
يذكر بعض الباحثين، أسبابا لتبني الدولة العثمانية للمذهب الحنفي. من الأسباب التي تذكر أن المذهب الحنفي، يسهل مشروعية الخلافة، والإمامة العامة، بالنسبة إلى العثمانية، بينما لا نجد ذلك في سائر المذاهب. كيف؟ الآن لكي يكون شخص خليفة للمسلمين، لا بد أن يجيب على سؤال شرعيته، من أين أصبحت خليفة للمسلمين؟ هذولا كانوا كدولة عثمانية، يعتبرون أنفسهم مو سلطة تركية، وإنما خلافة إسلامية، مو احتلال تركي كانوا ينظرون لأنفسهم. وإنما ينظرون إلى أن خلافة دينية، كما كانت الخلافات وأنواع الخلافة السابقة، فمشكلة الأتراك مع سائر المذاهب، في أن المذاهب يشترطون في الإمام العام والخليفة أن يكون من قريش، تبعا لما رووه عن النبي: "إن الأئمة من قريش"، يعني من كان إماما وخليفة، عاما، لا بد أن يكون من قريش، وهؤلاء ليسوا من العرب، فضلا أن يكونوا من قريش. فإذن لا يستحقون الإمامة، ولا يستحقون الخلافة. المذهب الحنفي لا يشترط في الإمامة العامة، أن يكون قرشيا أو عربيا، يكفي أن يكون مسلما صالحا، يقولوا: احنا مسلمون، ونحن صالحون.
فبالنسبة لهم، أن يلتزموا بالمذهب الحنفي، يجيب على سؤال مشروعيتهم ووجودها، بينما سائر المذاهب تعارض هذه المشروعية. هذا سبب يشير إليه بعض الباحثين. وسبب آخر قد يشير إليه باحثون آخرون، من أن طبيعة المذهب الحنفي لما كان لا يتقيد كثيرا بأمر النصوص، والأحاديث وإنما يعمل الرأي والاجتهاد، والمقاصد والغايات، لذلك حركته السياسية وحركته المالية والمعاملاتية ستكون أسرع وأسهل.
المذهب الذي يتقيد بالنصوص كثيرا، يضيق مساحة الحركة، المذهب الذي يخرج من هذا الإطار، ويعمل الآراء، يعمل بالقياسات، يعمل بالاجتهادات، يتحرر كثيرا وهؤلاء في الدولة يحتاجون إلى مساحة واسعة من الحركة، هذا الأمر يوفره لهم المذهب الحنفي، أكثر مما يوفره لهم مثلا المذهب الحنبلي. اللي كان مذهب نصي، وحديثي كامل. أو حتى المذهب المالكي، بل حتى المذهب الشافعي. يعني أفضل خيار لهم هو المذهب الحنفي. لذلك التزموا به ودعموه، واستقووا به وقووه. هذي إشارة سريعة إلى قضية المذهب في وجوده التاريخي وشيء من جغرافيته.
طبعا هنا، كل شخص، كل جهة، تقول: الزود عندي. الأحناف أكثر، لو الحنابلة، لو الشافعية، لو المالكية، هذا لا نخوض فيه، ولكن من الواضح أن انتشار المذهب لحنفي بتبع وصول الدولة العثمانية إلى مناطق واسعة في بلاد المسلمين، دعم وجود الأحناف. في الأماكن اللي الناس اقتنعوا بيه، اقتنعوا. في الأماكن اللي الناس ما اقتنعوا بيه، فرض كقانون. مثل مصر، كما ذكرنا في وقت مضى، وإن كان الأكثر هم شوافع في مصر، إلا أن القانون والأنظمة، كلها خاضعة للمذهب الحنفي.
ما هي معالم هذا المذهب وأبرز أفكاره؟
طبعا هم لما يتحدثون، يتحدثون أن مصادر التشريع والاستدلال عندهم: القرآن والسنة، والإجماع، والقياس، والاستحسان، والعرف، والشرع الأمم السابقة، ما لم ينهى عنه. هذي تذكر، لكن أهم المعالم، التي سنذكرها، هي المؤثرة، ونذكرها بمقدار ما يتسع المقام من جهة، وبما لا يخرج عن نمط المجلس من أنه حديث عام وليس تخصصيا. يعني هي مشكلة بعض هذه البحوث أنه هي في الأصل مباحث تخصصية درسية، ولكن نحن نحاول أن نزاوج بين الأمرين، حتى لا يخلو من الفائدة إن شاء الله، بعد الصلاة على محمد وآل محمد. اللهم صل على محمد وآل محمد.
أهم صفة، تذكر لهذا المذهب، هو عمله بالقياس، ولذلك سمي أساسا بمذهب الرأي، في مقابل قسم من المذاهب الأخرى، التي تتعبد بالنص، هذا لا، عنده مجال الرأي واسع، وعنده قياسات.
القياس، يمكن أن يكون بنحوين، النحو الأول: اللي هذا كان في القديم، وعلى أثر شدة الانتقاد، تم التخلي عنه. يقول هذا، هالنمط هذا الأول من القياس: قائم على استكشاف العلل للأحكام الشرعية، بالعقل وتأكيد الحكم من خلالها. يعني: يجي مثلا الشخص، أمام حكم من الأحكام الشرعية، مثل ما ذكرنا فيما سبق، نجاسة البول، على سبيل المثال: أيه أكثر نجاسة البلول، أم المني؟ يقول لك: بحسب بعض القياسات العقلية، البول أكثر نجاسة. فيرتب على هذا، بعض الأحكام، يعني مثلا: إذا كنا نقول، بأن المني نجاسته مخففة، يعني نحتاج إلى غسلة، بينما البول نجاسته مغلظة نحتاج إلى غسلتين. زين من وين جاء هذا من أن البول أكثر نجاسة من المني؟! يقول لك: أنا أستنتج من هذا، بعقلي، أن البول أكثر نجاسة من المني.
الزنا أو القتل، أشد؟ الآن لو تسأل واحد: أيهما أكثر وأشد، الزنا أو القتل؟ على طول راح يقول لك شنو؟ القتل أشد. قتل يعني إزهاق روح، وإماتة نفس، وإلغاء الحياة عنه. فأنا أرتب أحكام على ضوء ذلك. أشدد فيما يرتبط بأمور القتل. وأخفف فيما يرتبط بأمور الزنا بالقياس إلى القتل. لكن يجيك واحد ينقض عليك، يقول لك: لماذا إذن اكتفي في القتل بشاهدين، بينما لم يرض في الزنا إلا بأربعة شهود؟ وعلى هذا المعدل.
هذا المعنى تم الهجوم عليه، والانتقاد له، منذ الزمان الأول، يعني من أيام أبي حنيفة، هذه النقاشات التي تمت بينه وبين مثل الإمام الصادق (ع)، وتلامذة الإمام الصادق أيضا، وانتقد هذا التوجه، بل من غيره من المذاهب. يعني حتى علماء في مدرسة الجمهور، ومدرسة الصحابة انتقدوا هذا المعنى من القياس.
فهذا المعنى تراجع، وتم التخلي عنه. لُجِئ إلى طريقة أخرى من القياس. ما هي؟ يقول لك: احنا عندنا شيء، إذا ثبت له حكم، واكتشفنا أن علة الحكم، هي كذا، نقدر ننقلها إلى مكان ثاني. أجيب لك أمثلة حتى يتوضح. قال: (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع)، البيع غير جائز، وقت صلاة الجمعة، عندما تقام، زين. نحن نقول: لماذا حرم البيع عند النداء لصلاة الجمعة؟ يقول لك: حتى لا ينشغل الناس عن الصلاة، نكتشف هذا، زين، إذا مو بيع، إذا رهن، إذا مضاربة، إذا إجارة، شلون، يقول لك: نفس العلة موجودة، هذه سوف تشغلك عن الصلاة، فإذن يحرم التجارة، يحرم الإجارة، يحرم المضاربة، لأن العلة الموجودة في ذلك الحكم موجودة هنا، وهي الانشغال عن الصلاة، هذا يسمونه قياس. حكم موجود، علة الحكم موجودة، انجي نشيل العلة، ونطبقها في مكان آخر. هذا مثال.
مثال آخر: يقول: احنا اجينا، وشفنا أن العدة الواجبة على المرأة عند الطلاق لا تجب في غير المدخول بها، التي لم يدخل بها، امرأة عقد عليها البارحة، اليوم تطلقت، لم يحدث دخول ومقاربة جنسية بينهما. طلقها. الليلة تقدر تعقد على شخص آخر، ما تحتاج إلى عدة. لأنها شنو؟ غير مدخول بها. هذا الحكم موجود عند المسلمين جميعا، والإمامية كذلك.
اجينا ورحنا شفنا المرأة اليائس، امرأة تخطت الخمسين، انقطع عنها دم الدورة الشهرية نهائيا، دخلت سن اليأس، على المشهور في الخمسين، فطلقت ذاك الوقت، الحين تطلقت، تقدر العصر تتزوج زوج آخر، ما تحتاج إلى عدة. بينما لو كانت عمرها 40 سنة، تحتاج إلى عدة ثلاثة أشهر. وهكذا بالنسبة إلى الصغيرة التي لم يدخل بها، إذا واحد عقد على فتاة عمرها ثمان سنوات، يجوز العقد طبعا، لا يجوز المقاربة، في ذلك السن، بس أصل العقد ما فيه مانع، فلو طلقها، قال: هي شنو؟ لعبة جهال، من ثمان سنوات أنا أعقد عليها، فأنت طالق، طلقها، تقدر تروح بعدها بنص ساعة تتزوج، بمعنى: يعقد عليها. بعد نصف ساعة، ما تحتاج إلى عدة. طيب، هذولا الموارد الثلاثة، يقول: احنا اكتشفنا بعقلنا أن الجامع المشترك بين هذه الموارد الثلاث ما هو؟ عدم احتمال أن تحمل. لأن الفتاة الصغيرة عمرها ثلاث سنوات، ما راح يصير أصلا مقاربة، ما يجوز، فلا محل للحمل، هذي اللي ولو عمرها 20 سنة، 25 سنة، بس لم يدخل بها، فما في احتمال للحمل، الحمل خو ما يجي بالريموت كنترول، فلا يوجد احتمال للحمل، وكذلك اليائس، أيضا، المرأة اليائس، لا يوجد احتمال للحمل، فهالموارد الثلاثة لا يوجد احتمال للحمل، إذن نستنتج أن على عدم وجود، هذا كله دا نشرح فكرة القياس عند الحنفية، ما قاعدين نقول هذا الكلام صحيح ها، نستنتج من هالموارد أن علة عدم وجوب العدة على النساء، هذي الثلاث، هو عدم احتمال الحمل، فإذا شفنا مورد جديد، امرأة، عمرها ثلاثين سنة، متزوجة، لكن راحت سوت عملية، وقلعت الرحم، أصلا، شالت الرحم من خير شر، شالت المبايض، طيب، هذي مستحيل بعد تحمل، فالآن لو طلقت وهي مدخول بها، ومتزوجة، وليست يائسا ولكن أكيد ما تحمل، هل يجب عليها العدة، مقلوعة الرحم هل يجب عليها العدة أو لا؟ مثل أصحاب منهج القياس هذا، يقولوا لا يجب. ليش؟ لأن العلة في إيجاب العدة هو احتمال الحمل، وهذي ما موجودة احتمال الحمل، إذن لا يجب عليها العدة. هذا كلام أهل القياس، أهل الرأي.
أو مثلا، الخمر، الخمر لماذا حرمت؟ حرمت لأنها تسكر، فإذا كان كذلك، لو مو خمر، شيء آخر مسكر، يكون حراما، لأن علة التحريم موجودة فيه، وهو الخمر. هذي فكرة القياس الموجودة عندهم.
وقد عرفوا بها، ووسعوها، وعرضوها، ولهم فيها أمثلة كثيرة، الآن لا نتعرض إليها بكاملها. مثل علماء الإمامية، وغيرهم، علماء الإمامية، إذا واحد أراد أن يطالع بشكل تفصيلي، يقدر يرجع إلى المؤَلَّف القيم، للمرحوم آية الله السيد تقي الحكيم، الأصول العامة للفقه المقارن، كتاب جدا رزين وقوي ومفصل. في هالموضوع وفي غيره.
علماء الإمامية، بل غير علماء الإمامية، قالوا أنه لا بد من التفريق بين شيء نسميه: العلة المستنبطة، والعلة المنصوصة، العلة المنصوصة، شنو معناه؟ معناه أن الشرع يجي يخبرنا، ويقول لنا ترا فلان شيء علته، سبب تشريعه، هو كذا وكذا. مثل، كما جاء في الخبر الصحيح، عن الإمام موسى بن جعفر (ع)، الحديث يقول: "ما حرم الله الخمر لاسمها، وإنما حرمها لعاقبتها، فما كان عاقبته، عاقبة الخمر فهو حرام". الله ما عنده عداوة وي اسم الخمر. بحيث لو غيرت اسمه خلاص ينتهي الموضوع. وإنما هذي الخباثة وهذا الرجس لأجل العاقبة. لأجل ما تصنعه من سكر في الإنسان، فأي سائل أو غير سائل، لع عاقبة نفس الخمر، كذلك لو اجينا إلى شيء آخر، أيضا مسكر، يخربط الإنسان، يصنع نفس ما تصنع الخمر، يحرم ذاك وإن كان مو اسمه خمر. لو فرضنا مثلا، المخدرات، لو فرضنا بعض أنواع النباتات. تفعل نفس فعل الخمر، فإذن، كما أن حكم هذه الحركة، حكم تلك الحرمة.
هنا العلة شنو؟ منصوص عليها من قبل المشرع. ما عدنا اجتهاد احنا هنا، وإنما عدنا فقط تطبيق، نقول: ما دام العلة كما ورد في الخبر الصحيح، أو في القرآن الكريم، هي هذه العلة، وهي موجودة هنا: إذن حرام، موجودة هناك: حرام، موجود في المكان الثالث: حرام. وهناك علة أخرى، تسمى: علة مستنبطة. يعني أنا أقعد وأفكر: ليش هذا صار؟ طيب، فأستنتج بعقلي، أن هذا لأجل الحمل. زين. استنتجت بعقلي، هذا أنا من وين جايبنه؟ من عقلي، عقلي ممكن أن يخطئ وممكن أن يصيب، ليس إلا الظن. ما أقدر أجي أحط يدي على القرآن، وأقول: قسما بالله هذا اللي وصلت إليه هو الحق الذي لا ريب فيه، أما إذا جاني آية قرآنية، وقالت هذه هي العلة، خلاص، إذا جاءني خبر صحيح، عن معصوم، وقال: هذه هي العلة، خلاص. أما جهدي ونظري، هذا قد يكون صحيحا وقد يكون خاطئا. فلا معنى لأن أنقل هذا الحكم، من هالمكان إلى مكان آخر. مثلا: ذكروا في قضية الرضاع، الرضاع، لحمة كلحمة النسب. لو أن شخصا طفلا أرضعته امرأة، وهي ليست أمه، الرضعات المعينة، بالشروط المعروفة، 15 رضعة، أو يوم وليلة، ضمن شروط معينة، يصير أخ رضاعي لتلك الأخت البنت الحقيقية للأم. فيحرمان على بعضهما. زين.
أنا أجي أقول – كما هم أصحاب القياس – ليش هذا صار؟ لأنه دخل حليب هذه المرأة في داخل بدنه. طيب، فحرمت عليه. طيب، نجي إلى مسألة أخرى، وحدة جاءت وشفطت الحليب مالها، وخلته في كاس، ثم قام هذا الطفل وشرب الكاس، تحرم عليه أخته الرضاعية أم لا؟ أصحاب مثل أبي حنيفة، ومنهج الرأي، والقياس، يقول: إي. ليش؟ لأن علة التحريم هو دخول الحليب إلى داخل بدنه. فما كو فرق بين أن يدخل من خلال امتصاص الثدي، أو بين أن يدخل بالكاس، وبين أن يدخل في زجاجة الحليب، وبين حتى أن تزرقه بالإبرة. كله هذا داخل بدنه.
الذين لا يقبلون هذا، يقولون: لعل نفس الامتصاص، يعني جعل ثدي المرأة في فم الطفل، هذا هو إله مدخلية، مو فقط قضية الحليب. واحنا ما عدنا دليل على أنه فقط الحليب هو المؤثر في التحريم. فاحنا إذن نتوقف، ما نقدر نعمم الحكم إلى سائر الموارد. لكن أبو منهج الرأي والقياس، يقول: لا، السبب والعلة في تحريم الولد والبنت الرضاعيين، هو دخول حليب الأم في بدنه، وهذا دخل بأي نحو من الأنحاء، فإنه يحرم.
طبعا، كما ذكرنا، لا بد من التفريق بين العلة المنصوصة، حتى احنا الإمامية، نعمل بها، ولكن هذا ما يسمى قياس أصلا، وبين العلة المستنبطة، اللي أنا أفكر وأتأمل في الموضوع حتى أستنتج ويش العلة، ثم أوديها مكان آخر، هذا لا يقبل به علماء الإمامية، بل قسم من أتباع المذاهب الأخرى، غير الحنفي، أيضا لا يقبلون العلة المستنبطة. هذا واحد من المبادئ المهمة، التي اعتمد عليها المذهب الحنفي.

فالمبدأ الثاني بتبع التوسع في أمر القياس والاجتهاد وإعمال الرأي في مذهب أبي حنيفة، تم تضييق الاعتماد على النصوص عن النبي (ص)، وهذا أمر طبيعي ها، أنت كل ما تتوسع في جانب، تتوسع في جانب الرأي، لازم تضيق في جانب آخر. أتباع أبي حنيفة، يقولون: ما كو هناك موقف تجاه الحديث النبوي، من قبل أبي حنيفة، أنه معاند لرسول الله، طيب. أو أن تلامذته معاندون لحديث النبي، وإنما اشترط شروطا، هذي الشروط، تقلل بشكل طبيعي دائرة الاعتماد على الحديث. يعني في بعض كتب الحديث، كما سنأتي على ذكرها إن شاء الله في المستقبل، لما تشوف الأحاديث الواردة في باب الفقه، توصل إلى 600 حديث، و600 حديث مو كلها مسندة، وإنما بعضها مرفوعة إلى النبي، فهذا أيضا يقلص الدائرة.
هو أيضا أبو حنيفة وأتباعه أضافوا شروط جديدة، مثل يقول لك: إذا كان أمر مما تعم به البلوى، ولم ينقله إلا واحد من الصحابة ما نعمل بيه. مثلا: موضوع الوضوء، موضوع الوضوء، مسألة ابتلائية، عند كل المسلمين، شمعنى بس مثلا أبو هريرة جايب هالحديث هذا. يعني هذا حديث سري كان بين النبي وبين أبي هريرة. قضية موجودة وعامة البلوى، عند كل الناس. إنا النبي لازم يحشيها بشكل عام يعممها، أو يكثر السؤال عنها.
الآن، على سبيل المثال: أي واحد من المشايخ في هذه الأزمنة، يوميا يتلقى عشرات الأسئلة، عن المفطرات، مو أنه يجي واحد فقط يسأله، مع أن كل أهل البلد يصومون. يعني بس ذاك صارت إله هالمسألة. لا سيما إذا كان مما تعم به البلوى.
فلذلك يقول لك: أولا لازم يكون مسند إلى النبي، لأن قسم من أحاديث الفقه عند مدرسة الجمهور، ليست مسندة إلى النبي، وإنما قول الصحابي. وهذا سيأتي الحديث عنه. وهم يقولون: مو معقولة الصحابي يقول من نفسه، فلا بد أن يكون سمع من النبي، فيحتجون به.
لازم يكون مسند إلى النبي، وفوق هذا أيضا، إذا كان مما تعم به البلوى، وجابه راوي واحد، احنا ما نقدر نقبله. طيب، هذا ضيقت الدائرة، بدل مثلا، 600 حديث، صارت 300 حديث، وين، ويش تسوي فيها، في الصلاة، في الوضوء، في الصيام، في الحج، يعني تتحير ماذا تصنع بها. فتضطر هنا أن تُعمل ماذا الرأي والقياس والاجتهاد، وما شابه ذلك.
طبعا بعض المخالفين لأبي حنيفة، من المذاهب الثلاثة الأخرى، كانوا قساة في هذا الأمر، يعني مثلا عندما يأتي ابن خلدون، وهو مالكي المذهب، ابن خلدون توفي سنة 808، يقول: لم يصح في مقدمة ابن خلدون المعروفة، لم يصح عن أبي حنيفة عن رسول الله، سوى 17 حديث، جدا شيء مستغرب، 17 حديث. هذا يعني ماكو شيء أصلا. كم مسألة في الصلاة اللي بتستشهد فيها في هالأحاديث هذي!، وربما يكون كما قلت للخلاف المذهبي، في جانب. وأكو شخص أكثر منه قسوة عليه، في كلام لابن حبان، ابن حبان، يعد واحد من الرجاليين الكبار في مدرسة الخلفاء، وهو شافعي المذهب، توفي سنة 356، في كتاب: المجروحين، ذكر، المجروحين يعني اللي ما يؤخذ منهم. مو مجروح يعني قصوا ايده، ذكر أبا حنيفة هناك، وقال: لم يكن الحديث صناعته، مو شغله هذا، أبو حنيفة مو شغله هذا، حدث بمئة وثلاثين حديثا، مسانيد ما له حديث في الدنيا غيرها، طبعا مستقلنها، ليش؟ لأنه مثلا محدثون يتحدثون عن أربعين ألف، وخمسين ألف، وذلك فلان حفظ 500 ألف حديث، ونخلها وصفاها وطلع منها الصحيح ماله، شنو هذا 120، و130 حديث. ما عنده في الدنيا غير هالمية وعشرين، مية وثلاثين حديث يقول.
زين، حدث بمئة وثلاثين حديث، ما له في الدنيا حديث غيرها، أخطأ في مئة وعشرين حديثا. من 130، هذا كلام ابن حبان، ابن حبان، شافعي المذهب، وشديد كان على أبي حنيفة، وهذا واحد من الآثار التي ذكرناها من نتائج حصر المذاهب في الأربعة، أخذ من هذا كثير. أخطأ في 120 حديثا منها، إما أن يكون قلب إسناده، أو غير متنه، من حيث لا يعلم، إما في المتن عنده مشكلة، إما في السند عنده مشكلة. فلما غلب خطؤه على صوابه، استحق ترك الاحتجاج به في الأخبار. أصلا ما ناخذ منه كلام في الأخبار. بل أكثر من هذا، قال: ولأنه صاحب بدعة لم يجز الاحتاج به. حتى لو كان أحاديثه تمام ومضبوطة، هو مبتدع، في رأي من؟ ابن حبان. طيب. ما ناخذ بكلامه. قلت هذي من آثار ذلك القرار الفاسد. ومثل ذلك وقريب منه، ما ذكره ابن أبي شيبة، صاحب المصنف، توفي سنة 250 هجرية، عنده كتاب اسمه المصنف، مشهور، فيه أحاديث كثيرة، أحاديث الأحكام، فيه فصل خاص، بعنوان: هذا ما خالف به أبو حنيفة الأثر الذي جاء عن رسول الله، ورد فيه على 125 مسألة. يعني 125 مسألة خالف فيها في نظر ابن أبي شيبة. خالف فيها أبو حنيفة حديث رسول الله (ص).
طبعا كما ذكرنا قسم غير قليل من هذه الـأمور، تدخل ضمن الصراع المذهبي، وضمن تصفية الحسابات، ولا يمكن الاعتماد عليها كثيرا، ولذلك الأحناف ردوا على كلا الكلامين، يعني ما قعدوا ساكتين، طيب. بس القدر المتيقن، أنه بالفعل، أبو حنيفة، نظرا لتوسعه في باب الرأي من جهة، ولتكفيره الشروط للعمل، بالحديث النبوي، وحيث أن أصل هذه الأحاديث في مدرسة الخلفاء، المسندة هي قليلة، بالقياس إلى الفقه، فتضيقت جدا مساحة العمل عنده به. ولجأ أكثر إلى موضوع القياس واستنباط العلل. هذا معلم ثاني من معالم هذا المذهب.
الأمر الثالث ما يرتبط بالقرآن الكريم، إذا يذكر الأخوة، أنه احنا تحدثنا فد يوم، لما جاء أبو بكر القفال، وأراد أن يصلي أمام محمود الغزنوي، صلاة تجوز عند أبي حنيفة، بالصورة التي نقلها ذلك اليوم، من جملة ما ورد فيها، أنه قرأ القرآن، بترجمة فارسية، بدل ما يقرأ الفاتحة والسورة، قرأ: دبركسبز، يعني مدهامتان، يعن ورقتان خضراوان، هذا ليش؟ يقول: لأنه عند أبي حنيفة، المنظور إليه في القرآن الكريم، إنما هو المعنى وليس اللفظ. فإذا المنظور إليه، المعنى وليس اللفظ، آنئذ، بأي لفظ أديت المعنى، وبأي لغة، ما في مشكلة، شنو معنى هالكلام؟
أجيب لك مثال سريع، أنت تروح إلى السوق، تشتري مرايا، فأول ما تريد تأخذ المرايا، تقيسها، طولها، عرضها، تشوف صلابتها، تشوف لونها، تشوف جمالها، حتى تدفع فلوس، أنت هنا تنظر إلى المرآة. صحيح؟
جيت وأخذتها وعلقتها في البيت، الصبح تريد تروح العمل، تجي، توقف، تمشط شعرك، تلاحظ غترتك، غير ذلك، أصلا أنت غافل، عن طول هذه المرايا، وعن عرضها وعن لونها، أنت قاعد تطالع شنو في هالحالة؟ تطالع وجهك. كل نظرك متوجه إلى وجهك. أصلا ما ملتفت إلى المرايا، أمس لما رحت اشتريتها من البياع، كنت تطالع في طولها وعرضها وسماكتها، الآن أبدا لا تنظر إلى ذلك، هذا يسموه: أنت تنظر فيه أو أنت تنظر به. إذا قاعد تطالع وجهك، أنت تنظر بالمرآة إلى وجهك، إذا تروح تشتريها من السوق، أنت تنظر فيها.
القرآن يقول، حسب هذه النظرية، الألفاظ ما ننظر إليها، الألفاظ، وإنما ننظر بها إلى المعاني. فذاك الوقت مو مهمة الألفاظ، مو ضروري الألفاظ. الضروري والمهم ماذا؟ هو المعاني، لذلك يستدل ويقول: لذلك مثلا في الجماعة تسقط القراءة أصلا، ما يحتاج. ولذلك يقول، بناء على الرأي الموجود، يجوز القراءة بأحد القراءات العشر، مع أنها مختلفة، بحسب نظره. فإذن مو النظر إلى الألفاظ والكلمات، وإنما النظر إلى المعنى. إذا صار النظر إلى المعنى، المعنى هو المهم، بتجيب المعنى بالعربي، بالانجليزي، بالفارسي، ماكو فرق في هالحالة. ملاحظين شلون؟! طبعا هذا الرأي على مسلك الإمامية، رأي غير صحيح. بل على غير مسلك الإمامية.
نظرا لأن الإنسان، مخاطب بهذا القرآن، ذكرنا في أول المجلس، (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم)، هذا هالإشارة الخارجية، تشير إلى هذه الألفاظ بما فيها من سكنات والحركات والحروف والمعاني، وكل شيء، هذا، هذا، القرآن. مثل إذا ما تشير وتقول: هذه الكاميرا، مو أي كاميرا، هذه الكاميرا، هاي الكاميرا اللي إليها رقم متسلسل خاص. طيب.
هذا القرآن، الذي هو فيه ألفاظ وحروف وسكنات وعربي وو إلى آخره، هو هذا الذي يهدي، وهو هذا الذي ينبغي أن يكون هاديا إلى القرآن، وأئمتنا سلام الله عليهم، اهتموا بالقرآن، بكله، بلفظه، وبمعناه، وبتقديسه، ولذلك لا يجوز عندنا مثلا، القراءة بغير اللغة العربية في الصلاة، لمن كان قادرا عليها، ما ممكن. بينما هذا بالنسبة إلى مثل رأي أبي حنيفة، يجوز للقادر وغير القادر، وإن كان بعضهم، قال: رجع عن هذا الرأي، فإن كان حصل رجوع، فهذا شيء طيب.

مرات العرض: 3483
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2552) حجم الملف: 56025.59 KB
تشغيل:

5- أبو حنيفة النعمان إمام المذهب الحنفي.
7 - مالك بن أنس إمام المذهب المالكي.