3-كيف ومتى أغلق باب الإجتهاد في الأمة ؟
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 3/9/1438 هـ
تعريف:
   

كيفْ ومَتى أُغلق باب الاجْتهاد في الأمّة؟

 

 تفريغ نصيْ: الفاضلة أمجَاد عبدْ العال

تصحيح الأخت الفاضلة سلمى آل حمود

قال الله العَظيم في كتابه الكريمْ بسم الله الرحمن الرحيم: "فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ" سورة التوبة آية (122). حديثنا بإذن الله تعالى، سيكونْ حول موضوع يبدأ بسؤال عن: كيف ولماذا تم إغلاق باب الاجتهاد في الأمة؟ بحيث أصبح ممنوعاً، بعد سَنة الأربعمائة الهجرية تقريباً، حيثُ أصبح ممنوعاً بشكل رسميْ، وحُصرَ الاجتهاد ضمن مدرسة الخلفاء فقط. هذا القرار الذي اتخذ في وقت من الأوقات ضمن ظروف استثنائية خاطئة، إذ لا يزال يحكم القسم الأكبر من هذه الأمة. وله مفاعيل متعددة، منها: أنه لا يعترف بغير أربعة مذاهب في هذه الأمة. وفي داخل هذه المذاهب، لا يمكن لأحد أنْ يتجاوز الإطار الفقهي الذي سنّهُ فقهاء تلك المذاهب. فلا يستطيع مثلاً أحد أنْ يتخذ رأياً فقهياً مخالفا لهؤلاء الأئمة للمذاهب.

كيف حصَل هذا؟ بالرغم من أنّ القرآن الكريم يهتف بالناس "فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ"؟ في الجواب على هذا السؤال، سَوف يتبين أن من الأخطاء الكبيرة، والآثار المدمرة لتدخل السياسة في دين الناس، ولإجبار السلطان الناس على أن يتخذوا منهجاً خاصاً في الدين، لأنهُ يرتضيه، مع أن قضية الدين والتعبد به هي قضيّة خاصة بالإنسان.

ربما كان للحَاكم والسلطان حقٌ في أن يقرر ما يرتبط بالأمور العَامة منْ قوانين أيّ قضايا يرتبط بها النظام الاجتماعي، ولكن أنْ يأتي لكي يتدخل في اختيار طريقي إلى الجنة! فهذا شيءٌ ليس من حقه. أنا أعتقد أن هذا الطريق بهذا الاتجاه هو الذي يؤدي إلى الجنة و هو الذي يرضي الله عز وجل، و السلطان يعتقد أن طريقاً آخر هو الذي يؤدي إلى الجنة، فليلتزم به هو و ليمارسه على نفسه. أما أنْ يُجبرني أنْ أسلك نفس ذلك الطريق، وأنا لا أعتقد بأنه طريق مؤد إلى الجنة، فهذا أمرٌ ليس من حقه. لكن للأسف، الذي حصل هو هذا في الأمة.

حاكم، في ما قبل 1000 و عدة سنوات اتخذ قراراً بأنْ لا يُمكن الاجتهاد بعد الأئمة الأربعة المَعروفين، وبأنّه لا يجوز التعبد بغير هذه المذاهب، وبأنه لا يُعترف بمذهب غيرُ هذه المذاهب. وبقي هذا القرار الخاطئ الذي اتخذه سلطان في زمن حاكماً إلى يومنا على المُسلمين إذ تغيرت الدول و زالت الحكومات كالدولة العباسية التي كان هذا خليفة لها فطارت في الفضاء، ولكن لا يزال هذا القانون باقياً مستمراً.

بدايَة إغلاق بابْ الاجتهاد فيْ الأمّة.

 فلننظرْ كيف حصَل هذا الأمر. من الواضح الآن، أنّه لا يُعترَف في الأمة الإسلامية بغير مذاهب فقهية أربعة ، هي: المذهب الحنفي، والمالكي، والشافعي، والحنبلي في وسط مدرسة الخلفاء، وما عداه من المذاهب فإنهم اعتبروها مذاهباً غيرُ رسمية و غيرُ مشروعة، سواءً كانت تنتمي إلى نفس مدرسة الخلفاء ككثير من المذاهب التي انقرضت وانتهت، أو لا تنتمي إليهم: كالإمامية، والزيدية، والأباضية وأمثالها.

لنأتي إلى القضية التاريخيّة بشَكل مُتدرج، ففي بدايات القَرن الثاني الهجري أي من بعد سنة 100 للهجرة تقريباً، بدأ بُروز عددٌ من الفقهاء أصحاب مناهج فقهية وطرق إذ عُدّ منهم الحسن البصري، و عُدّ منهم ابن أبي ليلى، و عُد منهم سفيان الثوري، و عُد منهم أبو حنيفة فيمَا بعد، وغيرهم أيضاً كانوا مَوجودين، وفيما بعد نجد مثل الليث بن سعد والأوزاعي وغيرهم، بمعنى أنّه إلى سنة 180 هجرية و نهاية القرن الثاني كان هناك عدد وافر من المَذاهب وأئمتها.

كان أول تدخُل للسلطة السياسيّة في أمرْ المذهب في بداياتْ زمان العباسيين، نعم الأمويون كانوا يشجعون بعض التوجهات، لكن أول محاولة في تدخل الأمر السياسي، والسلطان والحاكم في المذهبيات بشكل رسمي كان زمان المنصور العباسي، المنصور العباسي حيثُ تولى الخلافة، سَنة 136 هجرية.

تسلم المنصور الخلافَة وهُو مسكون بضدية الطالبيينْ والهاشميينْ، لماذا؟ لأن أصل الثورة على الأمويين كانت بواسطة الفرع العلوي عن طريق أبو هاشم بن محمد بنْ الحنيفة وسلسلته هم الذين بدأوا بالحركة ضدَّ الأمويين، ثم سرقها العباسيون في وقت متأخر، وكانتْ الدعوة إلى (الرضا منْ أهلُ البيتْ) بهذا العنوان، عنوانٌ من دون اسم معين. وقبل سقوط الدولة الأموية، بايع هؤلاء جميعاً محمد بن عبدالله بن الحسن المعروف بالنفس الزكيّة، فبايعوه على أنه هو الإمام وهو الخليفة، ومنْ جُملة الذين بايَعوه كان المنصور العباسي. فالآنْ في عُنقه حسب تعبيرهم بيعة لشخص وهُو مطالبٌ بها. جاء العَباسيون ضمن مسار مُعين وسَيطروا على هذه الحركة وأخذوا الدولة. الآن هو مُطالب ببيعة لمحمد النفسْ الزكيّة، وللعلويين، إذ هو الآن ضد هؤلاء، فرأى أنّه من اللازم إسقاطهمْ و إجلائهم. هذه الحالة جعلته دائماً في موقف الضد منْ الاتجاه العلوي، الاتجاه الطالبي، الاتجاه الهاشميْ، و كل من كان ينتمي إلى علي بنْ أبيْ طالب بالنسبة إلى المنصور كان يُعتبر في جهة الأعداء. وفي الجهة المُقابلة برَز الإمامْ الصّادق (عليه السلام) بمَذهبه في سنة 136 هجرية، وذلك يعني بأنّ الإمام الصّادق (عليه السلام) مضى من عهد إمامته حوالي 22، 23 سنة. ثمّ انتشر علمه بشكلٌ واسع جداً، وبرز كعَالم من أكبر علماء الأمة.

مُحاولاتْ الدّولة العباسية لمُواجهة الفقه الجعفريْ.

فجَاء المَنصور وطلبَ من أبي حنيفة النعْمان إمام المذهب الحنفي الذي كان يُعد أيضاً في ذلك الوقت من العلماء الكبار، طلبَ منه هذا الأمر حيثُ أنّ أبو حنيفة نفسه ينقل هذه الرواية وينقلها اتباعه في كتبهم، قال: "دعاني المنصور وقال لي إن الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد، فهيئ لي من مسائلك الشداد الصعاب" (كتاب مرويات الإمام الصادق). يعني أنّه نريد أن يأتي ونسأله عن مجموعة مسائل لنحرجه فيها، ونكسر هذا الإعجاب والافتتان به. فلما وصل المنصور إلى المدينة، في إحدى سفراته التي كان معه أبو حنيفة ودخل عليهم الإمام الصادق عليهم السلام.

فيقول أبو حنيفة: فدخلني من الهيبة لجَعفر أكثر مما دخلني من الهيبة لأبي جعفر. يعني ملأت نفسي هيبة الإمام الصادق، جعفر بن محمد أكثر مما امتلأت هيبة من الخليفة أبو جعفر المنصور، فلما استقر بنا المجلس، قلت له: عندي مسائل. قال: سل. فبدأت أسأله في الفقه، فكان يقول لي: أنتمْ في العراق، لأنّ أبا حنيفة كان يعد من فقهاء العراق بالكوفة، فيقول أنتم في العراق تقولون كذا في المسألة، وأهلُ المدينة الذين يتبعون النصوص وسيأتي حديث عن هذا، أيّ يقولون كذا، ونحن أهلُ البيت، نقول: كذا.

يقول أبو حنيفة: فرُبما وافقنا وخالفهم، وربما خالفنا و وافقهم، ورُبما خالفنا معاً. حتى إذا انتهت مسائلي، قال لي أبو جعفر المنصور: كيف رأيت؟ قال: قد روينا أو رُوِّينا، يعني نقل إلينا، أن أعلمْ الناس أعلَمَهم باختلاف الناس. ومعنى ذلك أنّ هذا جعفر بن محمد يعلم ليس فقط عن رأيه، وإنما يعلمْ عن رأي أهل المدينة، و يعلم عن رأي أهل العراق، وعنده رأيه الخاص. فهذا يتبين أنّه لديه إحاطة علمية بكل الآراء فهو أعلم الناس. هذه أول محاولة، شهدناها بشكل رسمي حيثُ قامت بها السلطة العباسية لمواجهة الفقه الجعفري، الإمامي، ولتأييد من ترى.

المحاولة الثانية، كانتْ بشكل أكثرْ تقدماً مع الإمام مالك بن أنس وهو إمام المذهب المالكي. في إحْدى سفرات المنصور إلى المدينة، وذلك لأنّ مالك لم يخرُج من المدينة، إذ حصل لقاء بينهما،  فيقول المنصورْ لمالك: هنا رُوايتان، ولكن إحدى الروايتين أظرف منْ الأخرى في نمط العرض! وأنا أنقل إحدى الروايتين. قال المنصور لمالك: أنه لم يبقَ من علماء هذه الأمّة إلا أنا وأنت. أيّ بمعنى أنه كل هؤلاء العلماء الذين ذكرنا أسماؤهم الآن وغيرهم لم يكونوا علماء في نظر المنصور! فالعَالمان الوحيدان في الأمة، هو المنصور ومالك، فيقول: وأنا قد شغلتني أمور الخلافة، فلا أستطيعْ أن أكتب كتباً، فاكتب لنا كتابا ووطئه للناس، ولذلك سُمي كتاب مالك باسم: الموطأ، وطئه للناس، يعني: سهله واجعله يسيراً ليفهمه الناس، وتجنب فيه شدائد فلان ورخص فلان، في بعض الروايات، في، نقلها صاحب مستدرك الوسائل، ولا تروي فيه عن علي بن أبي طالب. وبالفعل، مالك/ في الموطأ، لم يرو عنْ علي (عليّه السلام)، وهذا ما سنتناوله في الحديث عنه، فعند استعراض شيءْ عن المَذهب المالكي مثلاً سيرة إمامه، ومعالم مذهبه في الموطأ فإنّه لا تُوجد رُواية عنْ الإمام علي (عليه السلام) أصلاً.

فقال له المنصورْ: إذا كتبته أنتْ فسنحْمل الناسْ عليه وعلى الأخذْ به، قيل هنا أنّ مالك قال له: أنّ أصحاب النبي صلى الله عليه و آله قد تفرقوا في البلاد وعلّموا الناسْ من علمُهم. فلا يُمكن أنْ نجبرُهم على اتجاه واحد. في نقل آخرْ: أنّه قال له: أنّ الناس لا يقبلوا منا. أيّ أنّ أهل العرَاق لا يقبلونْ كلامنا، فأهل الكوفة في ذلك الوقت كان لديّهم مدرسة خاصة و هيَ مدرسة، الرأي، هي الشائعة، فما يمكن يقبلون منا. وربما فيها إشارة إلى حالة التشيع، باعتبار الكوفة كانت محسوبة شيعية الولاء. فقال له المنصور: إذن نَجْلدهم بالسياط، فكيف لهم أنّ لا يأخذوا بهذا الكتاب؟! (العن والديهم) حسب التعبيرأيّ  نجلدهم بالسياط، فقال له: لا تفعلْ.

لكن المنصور، واصل هذا المشوار ودعَّم قضية الموطأ، ونشر الكتاب، يعني أنّه: كتبَ ونشرَ وكان يحظى برعاية الدولة، وأصبح لمالك وجودٌ قوي في المدينة، وسيأتي الحديث عنه إن شاء الله في وقت لاحق. فهذه أيضاً مُحاولة أخرى.

المحاولة الأوضحْ، كانتْ في زمانْ هارون الرشيد وهو هارون العباسي، وذلك قرّب أكبرْ شخصية في المَذهب الحنفي بعد أبي حنيفة. أبو حنيفة، توفي سنة 150 هجرية، فلما جاء الرشيد لم يكن أبو حنيفة موجوداً، فقرّب إليه أحد أهم تلامذته، وهو أبو يوسف القاضي، وجعله قاضي القضاة وقرّبه تقريباً إليه، فملك أبو يوسف قلبَ هارون حتى قال هارون: لو كان يحق لي أن أدخلك في نسبي لأدخلتك في نسبي. أيّ مثل ما أدخلَ معاوية عبيد، وهو زياد ابن أبيه فجعله زياد بن أبي سفيان فأدخله في نسبه. فيقول: لو يحصُل أن أدخلك في النسب معي لفعلتْ هذا الأمر، ولكنّه لا يحصل. وهذا يبين لنا شدة العلاقة. ولماذا كُل ذلك؟ إن شاء الله سيأتيْ الحديث عنه مُستقبلا.

فعينه قاضياً، وأطلَق في يده كل الأمور الدينية، فلمْ يكن يُعين قاض إلا بأمره وإذنه ورضاه، ولم يكن يُعطى مُدرساً مجالاً للتدريس إلا بأمره، وهذا أبو يوسف، حسب التعبير أيضاً لم يُسرّها في نفسه، وإنما لم يكن يقبلْ أن يعين أحد إلا حنفيْ المَذهب. لا مدرس، لا قاضي، لا إمام جماعة، لا صاحب مؤسسة دينية، فكل ذلك كان يشترط أن يكون حنفي المذهب. وإلا فإنّه لا يعين، فانتشرت الحالة المذهبية بشكل واسع. إلى هنا، ما كان هناك منع لباقيْ المذاهب فكل (واحد يحصّل نصيبه) حَسب التعبيرْ، ولكن هناك مذهباً من المذاهب يحظى بدعم من قبل الدولة وهذا بعض الشر أهون من بعض كما يقولون.

نشأة المذاهبْ في مُختلف الأماكنْ.

استمرّت هذه الحَالة، وكانت هُناك مَذاهب كثيرَة كانت تنشأ، وبعْضُها كان له وجودٌ كبير مثلاً: مذهب الأوزاعي، قيل أنّه بلغَ في فترة من الفترات، أنّه صار هو مذهبْ أهل الشام قاطبة، إلى أنْ جاء فيما بعد أحد القضاة وهو قاضي شافعي، وبدأ يكتسح وجُود المذهب الأوزاعي بالتدريج. إلى أنّ زال.

مذهبْ الليث بن سَعد، كان في مصر و انتشر انتشاراً عظيماً جداً بحَيث لم يكن أحداً ينافسه إلى أنْ تغيرت المُعادلة. فهناك مذهب إسحاق بن راهويه، مذهب ابن جرير الطبري وغير هؤلاء، إذ كان عدد المذاهب كبيراً جداً ولكن الدولة السياسة كانت تقتضي أنْ تدعم هذا المذهب، ولا تهمها بقية المذاهب. فكانت تعطي إمكانات، أموال، تفسح إله فرصة، تقضي بقضائه، تعين بتعيينه، تعزل بعزله واستمر هذا الحال إلى زمان القادر بالله العباسي حيثُ تولى الخلافة سنة 381 هجرية، وهو يعد تقريباً أطول خليفة عباسي. كانت خلافته حوالي 41 سنة، و استمر في خلافته إذ أننا نعلم أن بعض الخلفاء العباسيين يكونون بالليل خلفاء، ثم يعزلونهم في الصباح، فبعضهم حكم ستة أشهر، بعضهم سنة، بعضهم يخرج بعيون، بعضهم لا يخرجْ بشيء. ولكن هذا القادر بالله العباسي، استمر 41 سنة من الزمان، في ذاك الوقت كانت الدولة الإسلامية قد انتقصت أطرافها، فكان في بغداد عنوانٌ للخلافة، وإلا كان الحاكم الفعلي لبغداد والري وأصفهان وشيء من الشام، كانوا بنو بويه. في تلك الفترة، شمال سوريا و بنو حمدان في مناطق متفرقة وكانت الدولة مقسمة، سيأتي إن شاء الله حديث حول هذا الموضوع في فترة لاحقة.

فأتى القادر العباسي واتخذ أسوأ قرارْ يمكن لحَاكم سياسيْ أنْ يتخذه فيوقف مسيرَة أمة في الفقاهة والمعرفة والعلم. أمة تتحرك باتجاه العلمْ، فيقول: إلى هنا و كفَى ولا نريدُ علماً بعد اليوم. تتصور مثلاً لو أن حاكماً أتى وقال: لا نريد أي علم طبيْ إلا ما وُصل إلينا في سنة 400 هجرية، بعد هذا كل نوع من الاجتهاد الطبي ممنوع و كل نظرية طبية جديدة ممنوعة، كل عملية جراحية غير التيْ كانت تُجرى في السابق مَمنوعة! فكيف سَيكون حال الطب في تلك الأمة. و لو أنّ واحداَ من السياسيين أتى وقال: نحنُ الآن في سَنة 400 هجرية، ولدينا هذا المقدار من الفلك، ولدينا اسطرلاب و لدينا كذا كذا، فممنوعٌ أنْ يكون هُناك اكتشاف، وممنوع أن يجتهد إنسان في الفلك، ممنوع أن تكون هناك أبحاث جديدة في الفلك، فتصور هذه الأمة، و ما الذي سيحصل لها، إذن هذا هو بالفعل الذي حَصَل في فقه الإسلام.

أتى هذا القادر العباسي، وأوقف الحَركة الفقهية فيْ الأمّة الإسلامية، قال: كفى! فكل المذاهبْ مَمنوعة إلا هذه الأربعة! وداخل هذه المذاهب أيضاً و ممنوع أن يُجْتهد في المذاهبْ، يعني لا يوجد أحداً من المَذهب الحَنفي يستطيع أن يقول: أنا رأيي مخالف لرأي إمام المذهب والدليل على ذلك كذا. كيف تخالف إمام المذهب و أنت تأكل العسل؟! إذا تريد أن تُعبر عن رأيك فعليك أن القول: أنا أرجح رأي الشافعي على مالك، في هذه المسألة، و رأي أحمد بن حنبل على الشافعي، أما أنت تحضرْ رأيٌ من عندك وتنتقد هؤلاء الأربعة  فهذا شيءٌ ممنوع و ليس لك حق في ذلك. فلك أن تتصور أي كارثة حلت بالأمة على أثر ذلك.

إستمرار الحركة الاجتهادية في المذهبْ الجَعفري

الحَمد لله، المَذهب الجَعفري والإماميْ لمْ يَعترف به فيْ ذلك الوقت، وبالتالي لم يلتزم بقانونهم في منعْ الاجتهاد وفي إغلاق بابه. فإلى اليوم وإلى غداً أنت تجد في كل برهة زمنيّة يوجد هناك فقهاء ومُجتهدون ومُجددون وأصْحاب آراء عالية، وأعلم ممَن سبقهم، أساساً العلم هو هذا طريقته. العلم كلما مرّ الزمان به زاد حَجمه، فليس من المعقول أنْ يكون السابق أعلم من اللاحق. فلنفترض في سنة 1000 هجرية أن نأتيْ و نقول هذا أعلم من شخص كان في سنة 1400، فهذا ليس معقولاً هذا! لأنّ هذا الذي يعيش في سنة 1400 إذا كان عنده مستوى من الذكاء وعنده ملكة الاجتهاد يكون قد قرأ كل ما أنتجه ذلك العالم، وقرأ مئات النظريات بعده، فتوسع حجمه العلمي، فهلْ هناك عاقل يقول: أنّ الطبيب الذي كان في سنة 200 هجرية هو أعلمْ منْ الطبيب اللي في 2017! فهذا غير معقول أبداً لكن هذا بالفعل الذي تقرر في هذه الأمة للأسف.

أتى هذا القادر العباسي، القادر بالله حسب التعبير، لأنهم جميعهم يضعون في اسمائهم (بالله) كالمستكفي بالله، المُتوكل على الله، بقيَ فقط: أعوذ بالله، فيُقال الخليفة أعوذ بالله فهذا ما بقيْ. حتى قيل أن أحدهم قال لبعض جلسائه من الخلفاء أول ما تولى أنّه: لكل واحداً سبقني كان له لقب فواحداً كان المتوكل على الله، وآخر الهادي بالله، والآخرْ القادر بالله، وغيرُه المستكفي بالله، فكل واحداً منهم اقترح اقتراح، فقيل له: أنّه أفضل شيءٌ لك هو أعوذ بالله.  فلتسَمي اسمك الخليفة أعوذ بالله.

الوثيقة القادريّة.

الشاهد: هذا القادر بالله العباسي، عندما أتى كان غريبَ الأطوار، لأنه جَعَل نفسه أولاً خليفة، وأيضاً جعل نفسه مرجعاً دينياً حسب التعبير. وكان شديد الوطأة على الاتجاهاتْ العقلية. أيّ شيء فيه تعّقل يرفضه، وأي شيء فيه نصوص وحرفية، وحالة من التعصّب يكونْ هو وراءه. ولذلك عمل عدة أمور، الأمر الأول: كتب وثيقة وهي الآن معروفة بالوثيقة القادريّة. هذه كتب فيها العقائد التي يلتزم بها أهل الحديث مثل: من يتكلم في الصحابة بكذا وكذا نصنع فيه كذا، وكذلك مثل: البراءة منْ أهل الاعتزال والرفض باعتبار أنّ لديهم توجهات عقلية، و مثل البراءة من كل من يحكم الرأي والاجتهاد، وبالإضافة إلى ذلك جملة أمور كان قد أودعها في هذه الوثيقة، وكانت تقرأ في المساجد حيثُ يذكر بعض المؤلفين شيئاً من هذه أنقل لكم أنّه وصل به الحال إلى أنه استتاب المعتزلة: إما أنْ تتوبوا أو كذا وكذا نصنع فيكم، بل وغيرهم، فأظهروا الرُجوع وتبرأوا من الإعتزال ونهى الناس عن الكلام والمناظرة، فلا تتناقشوا في العقائد ولا مناقشة، ولا الاستدلالْ بدليل، وأريد كلام، وهذا يقول وذاك يقول! فلا نريد شيئاً من هذا كله حتى أنّه أخذ خطوطهم بذلك، وأنهم متى خالفوه حل بهم من النكال والعقوبة ما يتعظ به أمثالهم. هذا مثلاً يُنقل في حكمه.

ينقل أيضاً عنه: أنه بعدَ ما دوّن هذه الوثيقة وعممها وصارت مثل مرسوم يُتلى، طلب من (حسب ما ذكر) ياقوت الحموي، ياقوت الحموي كان متعصباً أيضاً مع أنّ كتابيه: مُعجم البلدان و كتاب الجغرافيا كانا يتميّزان بجانب مذهبي، فيرتفع عنده المؤشر إلى أعلى و يقول: هذا القادر، طبعاً هذا القادر بالله عند بعضْ المتعصبين إمام من الأئمة، لماذا؟ لأنه بالتالي عَمل ما يريدونه من منع من يخالفهم، تهديد من يعارضهم، أي واحد عنده اتجاه عقلي يجب أنْ يقمعونه ويكبتونه، فهذا ما يريدوه. ولذلك تجد كتابات مثلاً الذهبي، وابن كثير، وبعض المتأخرين عنه كانوا يرفعونه إلى أعلى الدرجات.

فأقدم هذا الرجلْ على هذه الخُطوة حتى قالوا: أنّه طلب من أربعة فقهاء: شافعي، وحنفي، ومالكي، وحنبلي، أن يكتبوا مُختصرا في الفقه، فكتبَ كل واحد منهم مُختصرا في الفقه، وأقرّ هذه الكتب ومنع أي كتاب آخر وأي إمام فقهي آخر، وأي مذهب آخر، وعمم ذلك بشكل رسمي أنّه ممنوع أن يُفتى بغيرْ هذه، و ممنوع أنْ يُتعبد بغير هذه، و ممنوع أن يتدين بغير هذه. فأي شخصْ إنْ أراد أن يدرس في مكان فله أن يدرس وفق واحد منْ هؤلاء الأربعة أو يخرُج خارجاً. فإمام الجماعة إما أنْ يتبع واحداً من هؤلاء الأربعة أو يخرج خارجاً، والقضاة أيضاً إما واحد من هؤلاء الأربعة إما أن يتبع واحداً من هؤلاء الأربعة أو يخرج خارجاً وعلى هذا المعدل. وكانت الأزمة في الوسَط السُّني في مدرسة الخلفاء أزمة كبيرة لماذا؟ لأن هذه المذاهب في بعضها مذاهب عريقة وضخمة وكبيرة. محمد بن جرير الطبري، صاحب كتاب التاريخ، وصاحب التفسير، كان إمام مذهبْ يقرّ له أتباعه بأنه رجل فقيه في القمة. لكنّه حُذف، المهم إما الأربعة ومن عدا ذلك لا يوجد أحد.

هناك شيءٌ آخر ينقل و أنقلهُ باختصار: لا يوجد لدينا وقت كافي كمَا إني مُستوحشٌ هذه الليلة لأننا لم نعمل صَلوات على مُحمد وآل محمد. اللهم صَل على مُحمد وآل محمد. اللهم صَل على مُحمد وآل محمد، اللهم َصل على مُحمد وآل محمد. نقل المحقق سيد عبد الرزاق المقرم، أعلى الله في الجنان مَقامه، وهو رجل فقيه وباحث تاريخي مهم، في مقدمة تقريرات الإمام الخوئي أعلى الله مقامه في كتاب الاجتهاد والتقليد. فكتب مقدمة: أورد فيها موضوع منع الاجتهاد وحصَر الاجتهاد. الآن إشارة لمن أراد أن يطلع على هذا الموضوع، هناك كتيب مهم جداً، ألفه الشيخ أغا بزرك الطهراني رحمه الله صاحب الذريعة وهو كتيب حول هذا الموضوع، فسأله أحدهم مسألة، فدون رسالة وهو كتيب جميل لمن أراد الاطلاع.

من جملة ما ذكره السيد المقرم ناقلاً عن الشيخ عبد الله الأفندي أحدْ تلامذة العَلامة المَجلسي رَحمه الله: أنّه في زمان القادر بالله طلب من أئمة المذاهب المعروفة مَبالغ ماليّة للخلافة وللدولة. فأي شخص يُريدْ أن يجعل مذهبه رسْمي فلا بُد أن يقدم 80 ألف دينار إلى الحُكومة. فحسب النقل، أئمة المذاهب الأربعة الذين كانوا في ذلك الوقت قدموا 80 ألف. والجعفرية، كان في زمان الشريف المرتضى يقول الناقل: نظراَ لقلة مالهُم لم يقدموا ذلك المبلغ المالي، حتى إن الشريف المرتضى تبرّع بنصف المَبلغ وأراد أنْ يجمع النصف الثاني من الناس فلم يستطيعوا  أنْ يجمعونه، فرفض الاعتراف بالتشيع.

عدمْ توافقْ القرائنْ التاريخية مع ضُعف الوضع المادي للشيعة.

أعتقد أن هذا النقل قد لا توافقه القرائن التاريخية لعدة جهات، أنا أشير إلى بعضها سريعاً واحد من الأشياء: شخصيّة القادرْ بالله العباسي لمْ تكن مؤهلة لقبول مَذهب التشيع ولو أعطوا 800 ألفْ دينار وليس فقط 80ألف دينار. الرجل كان مُتعصباً طائفياً، ومُتعصباً منهجياً فهو ضد أي اتجاه عقلي في الإسلام، وحتى المُعتزلة الذينَ هم من مدرسة الخلفاء من السّنة كان يتبرأ منهم، وكتب ضدهم، وكان يُعاقبهم ودعاهم إلى التوبة وإلا كذا وكذا. الشيعة أيضاً عندهم الاتجاه العقلي واضح و خصوصاً في العقائد فالاتجاه العقلي عند الشيعة واضح. ياترى هذا الذي كان يعاقب المعتزلة وهم مصنفون مذهبياً على مدرسة الخلفاء لأنّ عندهم اتجاهاً عقلياً، أتراه سَوف يقبل بالشيعة الذين المصنفين على غير ذلك المذهب، وعندهم الاتجاه العقلي، فهل يقبل بهم؟! هذا غير ممكن. وكان لديه أيضاً الحالة الطائفية واضحة، وكان في وثيقته تلك يدعو إلى البراءة من الرفض، والرفض هذا عنوان للتشيع في أزمنة العباسيين. فإذن شخصية هذا الرجل لم تكن مؤهلة ليعترف بهم لو دفعوا له 80 ألف دينار. الآن في بعض الأماكن تستطيع أن تعمل هذا الشي في موضوع آخر ولكن في العالم الإسلامي وما به من التعصب، لو تطعمهم العسل المصفى لا يقبلونك، فما هي  80 ألف دينار! هذا لديه خلاف منهجي معك في الأساسو يعتبرك خارج الدين، فهذه نقطة. النقطة الأخرى: ليس صحيحاً أنّ الشيعة في ذلك الزمان كانوا ضيعفي الحَال إلى هذا المقدار وهو أنّ 40 ألف دينار لم يكن عندهم حتى يعطوها الشريف المرتضى ويُسلمها إلى ذلك، وهو نفس الشريف كان ثرياً وغنياً وكان يلقب بالثمانيني، أي أن ثروته كانت أيضاً 80 ألف كما قالوا، وعنده أملاك وعنده كذا. نقابة الطالبيين كانت صدر مموليهم، بنو بويه في تلك الفترة، سلطنة الإسلام، نفس بغداد، كانت في الواقع تحت سيطرة بني بويه، ولكن الخليفة الرّمزي والاسمي كانَ الخليفة العباسي، هؤلاء بنو بويه قطعاً كانوا شيعة، إما إمامية أو زيدية والخلاف في هذه النقطة، وكان عندهم من الأموال ما شاء الله. هذا وزيرهم الصاحب بن عباد، مئات الألوف من الأموال كان عنده كما يذكر في أحواله في تلك الفترة توفي سنة 385 هجرية. فلم تكن حالة الشيعة بهَذا المقدار من الضعف كما يزعم. وهذا يبين أنّ القضيّة لم تكن راجعة إلى أنهم لم يكونوا أصْحاب أموال؛ لذلك لم يعترف بهم. لا، بل القضية كانت أكبر منْ هذا. هذا الذي منع سائر المذاهب السنية أن يقبلوا بالشيعة ولو أعطوهم 80 ألف وهو مخالفين معهم مذهبياً ومنهجياً وهو عنده حالة طائفية، لم يكن الأمر هكذا.

لذلك ما نقله في مقدمة تقريرات الإمام الخوئي رَحمه الله في هذا القسم الثاني رُبما قد لا تساعده القرائن التاريخية، هذا طبعاً ليس رأي السيد المرحوم السيد الخوئي، وإنما السيّد المُقرم، نقله عن الشيخ عبد الله الأفندي تلميذ العلامة المجلسي رحمة اله عليهم جميعاً.

الشاهد: فإذن هذا ما حصل، واستقر الوضعْ على أنّه لا يتعبد بغير هذه المذاهب، ولا، ولا...، إلى أنْ تمّ الأمر فيما بعد بافتتاحْ المدرسة المستنصرية، المدرسة المستنصرية في بغداد، مثل الحوزة العلمية تقريباً. الآن عندما تقول الحوزة العلمية في النجف، شخصية الحالة العلمية، الحوزة العلمية في النجف، الحوزة العلمية في قم. المدرسة المستنصرية في بغداد، كانت هكذا، بالنسبة إلى أتباع مدرسة الخلفاء. فلما افتُتحت، مع أن المشرف والمهندس والقائم عليها كان مؤيد الدين بن العلقمي، وسيأتي لنا حديث عنه إن شاء الله، وهو مَحسوبٌ على الشيعة، وهو الذي أشرف على تأسيسها وعلى عمارتها. عندما افتتحت، صدرَ القرار بأنْ لا يكون فيها إلا أربع جهات، هذه االأربع جهات هي أربع زوايا،د لأربعة مذاهب فقط لا غير، وأن لا يدرس فيها غير هذه المذاهب.

وفي أثناء التدريس، لم يكنْ لأحد حق بأنْ يُبدي رأيهُ الشخصيْ إذ يلزمه أن يقرر ما كتب، مثلاً: أنت تُدرّس الفقه الشافعي، إذن اشرح هذا الموجود ولا تقول أنا رأيي كذا، أو مخالف أو موافق، أو تدرس الفقه الحنفي، كذلك. ومنع أن يُبدي العلماء آراءهم في هذه الجهة، اللي صارت كلام في البداية، لكن التوجه الرسمي، قال: من يُريدْ فهذا هو ومن لا يرغب يُفصَل أصلا عن التدريس، ويُقطع عنه الرزق، فخضع الجميع.

ثمّ أتى الظاهر بيبرس فيْ مصْر وكان المَذهب الشائع فيها في تلك الفترة هو الشافعي، فصار عنده مشكلة مع القاضي الشافعي، فقرّر أنْ يُضاف إليه أربعة، ثلاثة فقهاء، حتى يصير فقط هؤلاء الأربعة ضمن حكاية طويلة.

نحنُ نعتقدْ أنّ هذا التوجه توجه غيرُ صَحيح، القرآن الكريم ينادي في الناس و في المسلمين، يقول: " مَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً ۚ". سورة التوبة آية (122)، فمنْ غير الممكن أن يخرجْ كل الناس  لطلب العلم، فبالتالي تتوقف الحياة هذا صَانع، وذاك نجّار، وهذا زرّاع، وهذا بقّال، فلا يُمكن أن يخرجوا جميعهمْ كل الناس لطلبْ العلم، ولكن لا بد أن يخرج فئة منهم، "ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ منهم طائفَة ليتفقهوا في الدين" سورة التوبة آية (122)، ماذا يفعلْ هؤلاء؟ يتفقهوا في الدين، يتفقهوا ليصلوا إلى معرفة الدين بفقاهة، ومعرفة عميقة، "وليُنذروا قومَهم إذا رَجَعوا إليهمْ" سورة التوبة آية (122)،  وهذا خطاب دائم، في تلك السنة، وهذه السنة، وبعد 100 سنة، وبعد 1000 سنة. أن لا يأتيْ أحدهم ويَقول: أنت لا تتفقه! فقط اقرأ الذي كتبه زيد قبل 400 سنة أو أكثر من 400 سنة، و فقه أبي حنيفة، كان سنة 150 هجرية، أي من 1000 وحوالي 2080، 290 سنة، ومن بعده أيضاً هكذا فيقول توقف عند هذا! اقرأه، افهمه ولا تبدي رأياً ولا تنتج علماً، و دُر حول هذا الموضوع. لمْ تَكُنْ هذه إرادة القرآن الكريم، نحن نعلم أنّه كان في هذه الأمة و في كل دور من أدوارها كان هُناك عُلماء فقهاء خبراء بالدين. لكنْ عنْدَما يأتي جيلْ آخر سيأتي بشيء أكبر. في زمان أمير المؤمنين (عليّه السّلام)، كان بعض أصحابه فقهاء لكن الذين جاؤوا في زمان الصّادق ، تجاوزوهم في مَعارفهم وعلمُهم. الذين جاؤوا في زمان الشيخ الطوسي تجاوزوا من كان في زمان الإمام الصّادق(عليّه السّلام) منْ العُلماء والفقهاء. الذين في زماننا من الفقهاء والمجتهدين أكثرْ بكثيرْ وأعلمْ بكثيرْ، و ممكن كانوا في زمان الأئمة (عليّه السّلام)، وهذه طبيعة الحياة، العلمْ كلمَا تقدّم زادتْ المعارف فيه وزاد علم حامليه. وإلا كان في زمان الأئمة (عليّهم السّلام)فقهاءٌ علماءْ، لكنْ لمْ نتوقف عندَهم.

الفقيه حَبيب بنْ مُظاهر الأسديْ.

هذا حبيبْ بنْ مُظاهرالأسدي رضوان الله تعالى عليه، وكان من خواصْ أصْحاب أميرْ المؤمنين (عليّه السّلام)، اختصّه أمير المؤمنين بعلم خاصْ، فعلم المستقبل و بعض المغيبات التي تحتاج إلى نفسية خاصة ولا يقدر عليها جميعْ الناس، فنرى قسم من الناس إذا وصله خبر غريب، يركض بسرعة ليخبر عنه فيتبين أنّه ليس لديه ثقل أو حكمة، فكيف لو علم بخبر يقيني يَحدُث بعدَ عشرْ سنوات، بعد عشرين سنة فهذا سيفرح. أمير المؤمنين(عليّه السّلام) ائتمن بعض الناس ممن كانت لديهم عقليات ناضجة ونفسيات راكزة على بعض العلوم المستقبلية، منهم حبيب من مظاهر الأسدي، إذْ أخبره كيف ستكون شهادته وكيف ستكون شهادة ميثم التمار، بل أخبره إخبارات أخرى لم نعرف عنها نحن، لأنه لم يخبر عنها، وإنما وصلنا خبرْ عن كيفية شهادته وعن شهادة ميثم، بمناسبة: وإلا ما كان أيضاً يخبر عن هذا الموضوع. رجل كان فقيهاً عالماً كبيراً في بعضْ روايات المُقاتل أن الإمام الحسين (عليّه السّلام)عندما وصل إلى كربلاء، أرسل إليه رسالة، إلى الفقيه: حبيب بن مظاهر ذلك الرجل الفقيه. وإذا تمّ هذا من حيث السند وهو تلقيب الإمام له والإمام مَعصوم، ويعرف أقدار الناس بشكل دقيق إذْ يلقبه بأنه الفقيه، فهذه منزلة جداً عظيمة، وأضاف إلى هذه المنزلة العلمية العظيمة منزلة عملية وجهادية وفدائية كبيرة. كما تعلمونْ أنّه كلما تقدّم عمرالانسان وامتد به الزمان تكونْ مبادرته أقل، وحركته البدنية تكون أثقل و تطلعاته وطموحاته تكون أقل إذْ ينشغل بعد بنفسه، وأمراضه وحاله لكنْ هذا حبيب بن مظاهر ليس هكذا، فهو متصدي في الكوفة لمّا جاء مسلم بن عقيلْ، وكان ضابط ارتباط بينه وبين شيعته، حتى إذا حدَث ما حدِث، اختفى إلى أنْ جاءت رسالة الإمام (عليّه السّلام) بمجرد أن جاءت، نهَض مبادراً إلى كربلاء وقضى ما كان عليه فداءً وجهادْ، ووقف ذلك المَوقف العظيمْ الذي خلدَه التاريخ هو وأصْحابه مما كانَ على مَنهجه قضوا كراماً.

مرات العرض: 3406
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2563) حجم الملف: 56733.33 KB
تشغيل:

2 أرضية نشوء المذاهب في الإسلام.
4- آثار منع الإجتهاد وحصر المذاهب في الأمة.