2 أرضية نشوء المذاهب في الإسلام.
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 2/9/1438 هـ
تعريف:

أرضيّة نشوء المَذاهبْ في الإسلام

 

تفريغ نصيْ الفاضلة / أمْجاد عبد العالْ

تصحيح الفاضلة سلمى آل حمود

 

رُوي عن سَيدنا ومَولانا رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال فيْ خطبة الوداع: "أيها النّاس ما منْ شيء يُقربكم من الجَنة ويُباعدْكم عنْ النارْ إلا وقدْ أمرتُكم به ومَا من شيء يُقربكم من النار ويباعدكم عن الجنة إلا وقد نهيتكم عنه"(1).

حَديثنا بإذن الله تعالى يَكون بعنوان أرضيّة نشوءْ المَذاهب وخصُوصاً في الإسْلام. منْ الواضح أنّ هناك سؤالاً يتردد على الأذهان حاصلهُ أنّ الأمّة الإسلامية لما كان لها دين واحد، ونبي واحد، وكتاب سماوي واحد محفوظ إلى هذا الزمان، فما هو المُبرر الذي يجعل وجُود المذاهبْ فيها أمراً مشاهداً؟ كيف؟ عندما ننظر إلى سَاحة المسلمين، نجد هناك مذاهب متعددة. ذكرنا في ليلة مضت، عدد من الأسماء في مدرسة الخلفاء على الأقل والمذاهب الرسمية هي أربعة مذاهب، وفي الحالة الشيعية، عدة مذاهب ذاتْ أتباع، ويتبادر إلى الذهن هذا السؤال: أليس النبي واحداً؟ أليس القرآن واحداً وموجوداً؟ أليس الدين واحداً؟ فما الذي يجعل ويكون هذه المذاهب؟ ومن أين نشأت المذاهب المعروفة اليوم؟ أو تلك السابقة التي انقرضت واندثرت؟

للجوابْ على هذا السؤال، نَتحدث أولاً عن طبيعة نشُوء المذاهبْ بشكل عام، سواء في الحالة الإسلامية أو في غيرها، أيضاً في ديانة اليَهود توجد هناك مذاهب في الديانة المسيحيّة و توجد فرق ومذاهب، في الحالة الإسلامية هي موجودة أيضاً.

تكوّنْ المذاهبْ في الدياناتْ.

فنتحدث أولاً بشكل عام  حول تكون المذاهبْ في الدياناتْ. ويرجع الباحثون أسباب وأرضيّة نشوء المذاهب إلى عدة أمور.

 الأمر الأول: ما يرتبط بكميّة العلم التي يَحصل عليهَا الفئة القريبة من نبيْ ذلك الدينْ، اختلاف هؤلاء، تلامذة النبي، أصحاب النبي، الدائرة القريبة من النبي، اختلاف تلقيهم للمعلومات، وكمية أخذهم للمعارف يَجعل لهَؤلاء توجهات وآراء مختلفة.

لو جئنا مثلا إلى الحَالة الإسلامية، منْ الواضح أنّ أصحاب النبي صَلوات الله وسلامُه عليه وعلى أهل بيته اختلفوا في تلقيهم العلم عن النبيْ، فوُجد بينهم مثل علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي تكرر الحديث منه في أنّه أخذ العلم من رسول الله بقدر لمْ يأخذه غير علي ولا مثله. "سلوني عن طرق السماوات، فما من آية نزلت في ليل ولا نهار إلا وأنا أعلم فيمن نزلت ومتى نزلت ومن أرادت"(2)، أو "علّمني رسول الله ألفَ باب من العلم ينفتح لي من كل باب ألف باب"(3)، وأمثال ذلك. هذا نموذج وهُناك نماذج من أصحاب رسول الله (صَلى الله عليّه و آله) ربما لم يتيسر لهم أن يحفظوا مائة حَديث عن النبي(صَلى الله عليّه و آله).

بطبيعة الحال، عندما يختط علي لنفسه طريقاً، وهو مُزود بهذا المقدار العظيم من العلم، سيختلف عن طريق ذلك الصحابي الذي رَوى عن النبيْ أو سمعَ عن النبي 100 حديثْ أو 50 حديثاً. هذا سيكون على طريق وذاك على طريقٌ آخر. ولعله لهذا أشار الإمام الصادق (عليّه السلام) بقوله: فيما رُوي عنه أن رسول الله (صَلى الله عليّه و آله) أنال وأنال وأنال، وعندنا أصُول العلم وقواعده. بمعنى أنّه لو أردنا أنْ نمثل بمثال قريبٌ إلى الذهن: هذه النافورة التي يخرج منها الماء وفيها عمودٌ مائي ليخرج الماء، وهو مُتصلٌ بالأسفل، وفيه رذاذ و ماءٌ يتفرق، وهُناك ما ينتشر، فهذا قسم ناله قسم من الناس، وهناك العمود الرئيسي للماء الذي يتغذى من المنبع. فكأنما الإمام الصادق (عليه السلام) يقولْ: الذي حصَل عليه غيرُ أهل البيتْ هو مقدار قليل من علم رسول الله بالقياس إلى ما حصل عليه أهل بيت النبي (صَلى الله عليّه و آله).فأولْ سبب من الأسبابْ: هو أنّ كميّة العلمْ تنتج من اتجاهات مختلفة وطرقٌ شتى فهذا السبب الأول

الأمر الثانيْ: وأمّا السببْ الثاني الذي يذكر: هو فهمْ النصوص الدينية التيْ يأتي بها النبيْ أو الكتاب السماوي، فيأتي كل نبي بكتاب سماوي وأيضاً يكون له توجيهات عبارة عن سنته وأقواله، فينظر الناسْ إلى هذا الكتاب وآياته ويسمعون أحاديث النبيْ، وتختلف أفهام النّاس فيْ نظرهم إلى الكتابْ، وفي سماعهم لحديث نبيهم. لنأخذ على ذلك مثلاً في العقائد، ومثالا في الفقه. مثال في العقائد: عندما يقرأ الإنسان المسلم في القرآن الكريم: "بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ"(4) هذه الآية المباركة من الممكنْ أنْ تفهم بنحوين. النحو الأول: أنْ يأتي إنسان أو أن يأتي عالم فيقول: نعم، الله له يدان، واليد المعروفة هي هذه اليد الجارحة وهي عضو من أعضاء البدن، وهذه اليد الإلهية مبسوطة مفتوحة، فإذن لله يدان وأنّ يديه مفتوحتان. هذا فهم.

يجي عالم آخرْ، ويقول: قامتْ الأدلة على أن الله تعَالى ليس جسماً ولا يتركب من أعضاء، فلا يمكنْ لنا أن نقول أن هذه الآية "بل يداه مبسوطتان" أيّ لا يمكن لنا أنْ نقول أنها تشير إلى اليد بمعنى العضو، وإنما هي عبارة عن معنى كنائي  ومجازي وهو يشيرْ إلى سَعة عطاء الله عزّ وجلْ، إذ يشير إلى قدرة الله وتصرفه، وأنّه لا شيء يمْنع من تصرف الله سُبحانه في الكون. هناك فرقٌ كبير بين المعنى الأول وبين المعنى الثاني. المَعنى الأول ينتهي إلى التجسيم و إثبات اليد، و حتى لو نقول: يد مُتناسبة مع الله، بالتاليْ سينتهي إلى تركّب الله من الأعضاء والكلام ذاته سيُقال الكلام الوجه، "وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ"(5)، والكلام ذاته فيْ سائر المواردفي قوله تعالى: "يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ"(6)، وفسّرت بساق الله، فصار هذا الإله مُركب من أعضاء ومن أجزاء. الطرف يقولْ: هذا مَعنى التجسيمْ، مَعنى التشبيه، وتعَالى الله سُبحانه وتعالى عنْ ذلك، وإنمَا هي إشارة إلى كرم الله وإنفاقه وإعطاء الله وهيمَنته. فإذنْ أصبح لدينا تباينْ في طريقة الفهم وليسَ فقط في كمية العلمْ التي يأخذها الأتباع والأصْحاب وإنما في فهم هذه النصوص.

مثالٌ منْ الفقه، إذا أصَاب القذر بدنْ أحدُكم فليغسله بالماء كما ورد في الرواية، أيّ أنّه صارتْ نجاسة على بدْن الإنسانْ، فليغسله بالماء، فيأتيْ عالم فيقول: أنّ معنى هذا الحديث هو أنّ تطهيرْ النجاسات يتوقف على غسلها بالماء، ليس إلا و لا تطهر بغير الماء. لماذا؟ لأن الحديث يقول: فليغسله بالماء. ثمّ يأتيْ عالمٌ آخر يقول: لا، الغرض من هذا الحديث، هو أنْ تقلع النجاسة وأن تزال. ذلك الزمان كان عندهم الماء مزيلٌ للنجاسة، فإذا صَار لدينا ديتول نسْتطيع أن نقلع النجاسة، ديتول يزيلها ويعقم المكان، فإذن ليس هُناك شرط في الماء، وإنما الغرض هو فقط اقتلاع النجاسة. فالطرف الأول يقول: لا، كان بإمكان النبي (صلى الله عليه وآله) وهُو الفصيح البليغ أنْ يستخدم غير هذا التعبير، فيستطيع أنْ يقول: إذا أصَاب القذر بدنْ أحدكم فليقلع النجاسة. فلماذا قال: فليغسله بالماء؟! يستطيع أنْ يقول: فليزل النجاسة، لماذا يقول: فليغسله بالماء؟! فإذا كان هُناك قماشٌ موجود يُمكنْ أنْ يقلع النجاسة وإزالة النجاسة بالقماش. فأنت ترى هنا أنّ نصاً واحداً يأتي شخص ويفهمه بطريقة ويأتي شخصٌ آخر ويفهمه بطريقة أخرى و هذا موجودٌ في موضوع العقائد، وهو موجودٌ أيضاً في الفقه. هذا سبب ثاني.

فالسبب الأول: أنّ كمية العلم وحجم العلم، الذي يتلقاه تلامذة النبي والرسُول مختلف بينهم. فهذا عالم جداً، وذاك متوسط العلم، وذاك بسيط العلم، فإذا اختط كل واحد منهم لنفسه طريقاً اختلف عن الطريق الآخر.

الأمر الثاني: في نفس العلم المأخوذ، فهذه النصوص من القرآن الكريم، أو من لسان رسول الله صلى الله عليه و آله، فكيف أفهمها أنا؟ وكيف تفهمها أنت؟ هذا أمرٌ ثاني وسبب ثانيْ.

الأمر الثالث: يذكر أيضاً وهو أنه أحياناً تتدخل الأهواء، طلب الرئاسة، دعم هذه السُّلطة لهذا التوجه، تقديم هذا على ذاك منْ غيرُ مبرر، حتى لو عرفَ الإنسانْ أنّ الحق مع هذا الطرف لمصلحة فيقدم ذلك الطرف، ويتغافل عن الحق ويتجاوزه "وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ" (6). هذه الأسباب الثلاثة تذكر، وقد يكون هناك أسباب أخرى. لكن لا نتوقف عند هذا الموضوع. فدعونا نذهبْ إلى الحالة الإسلامية في زمان رسول الله، وبعد رسول الله، ولذكره صلوا عليه، اللهم صل على محمد وآل محمد. اللهم صَل على محمد وآل محمد. اللهم صَل على محمد وآل محمد.

في زمان وجود النبي (صلى الله عليه و آله) كان هو صَاحب البلاغ المبين، ولذلك لم يكنْ هُناك تيارات أو اجتهادات فقهية أو عقائدية وحَتى إذا أبدى بَعضهم كمَا حصَل بالفعل في بعْض الآراء، إذ لم تكن تأخذ مدىً اجتماعياً. حتى إذا اعترض أحدَهم على النبيْ في هذه القضيّة أو تلك، إذْ لمْ تكن تأخذ أبعاداً اجتماعية، إلا لو استثنينا ما حصل في قضية يوم الخميس عندما طلب النبي الدواة والكتف، وخالفَ بعضْ أصْحاب رسول الله هذا الأمر، فهذا كان له آثار، بَطبيعة الحَال له امتدادات.

اتجاه الأجيالْ بَعدَ رسول الله صلى الله عليه وآله.

فبعد زمان رَسول الله صلى الله عليه وآله، يُلحظ أنه تشكل توْجهان في داخلْ الأمة الإسلامية، بدأ هذان التوجهان من ذلك الوقت، وسارا في عمق تاريخها فيما بعد، وأثّر كل اتجاه في الأجيال اللاحقة التي تلت بَعده.

 الاتجاه الأول: ما يُمكن أن نسَميه كما سماه باحثون: بمَدرسة النص.

والاتجاه الثاني: سماه الباحثون: مدرسة الرأي.

مدرسة النص: ما معناها ؟ تعْني تعبّد هَؤلاء الناس بحديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالنصوص الواردة في القرآن الكريم، وعدم تجَاوزها وعدم تأويلها والدوران حَولها، وكان في طليعة هذه المدرسة وهذا الاتجاه أميرْ المؤمنينْ علي بن أبي طالب صَلوات الله وسلامه عليه.

هذا التوجه له ميزاتْ، أيْ أنّه من كان معَ أمير المؤمنين (عليه السلام) من الأصْحاب في نفس هذا التوجه، كانوا يؤمنون بأمور متعددة، و واحد من الأمور هي أنّ ما جاء في القرآن الكريم وما روي عن رسول الله (صلى الله عليه و آله) كافٍ للبشرية في حَياتها الدنيوية والأخروية، وهذا ما يثبته القرآن الكريم الذي تحدث عن نفسه بأنه تبيانُ كل شيء. وبأنّ فيه تفصيلٌ لكل شيء وبأنّه ما فرّطنا في الكتابْ من شيء، هذا بالإضافة إلى حديث رسول الله (صلى الله عليه و آله) هو كافٍ لحياة الناس.ين قوسين): لا بدْ لنا أنْ نشيرْ إلى المَقصُود منْ كل شيء، و ماذا يعني؟ فليس كلْ شيء على نحْو الإطلاق، بمَعنى أنه حتى فرْش هذا المسجد مثلاً فإنّ لونُها موُجود في القرآن، وأنّ هذه الكاميرا هندستها مَوجودٌ في القرآن، فهذه دعوة مجانبة للصواب وإنما المقصود ما هُو المطلوب من القرآن ومن السنة النبوية؟ المطلوب منها هو: أن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، وهي حياة الإنسان وسعادتها الدنيوية و فلاحها  الأخروي، توجيهاتها وتشريعاتها مَوجودٌ في القرآن وفي سُنّة رسُول الله، أما في مثل هذه التفاصيل كمساحة منزلكمْ؟ و كم منْ شجرة في الحديقة الفلانية، وكم لون في المسجد؟ فهذه لا ترتبط بالقرآن الكريمْ حتى تكون في القرآن، القرآن أتى لكي يهدي للتي هي أقوم، و كل ما كان مؤثراً في هذه الحياة للتيْ هيَ أقوم، فتجد أصُوله في القرآن وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وآله. يعتقد أصحابْ هذا المنهج أنّ حَاجة الإنسان بهَذا المَعنى مَوجودة في القرآن الكريم وفي سُنة رسول الله (صلى الله عليه وآله). وإلى ذلك ما ذكرنا أول المَجلس من حديث رسول الله في خطبة الوداع: " ما منْ شيء يُقربكم من الجَنة ويُباعدْكم عنْ النارْ إلا وقدْ أمرتُكم به ومَا من شيء يُقربكم من النار ويباعدكم عن الجنة إلا وقد نهيتكم عنه"، فهذا أولُ شيء من ميزات هذا التوجه: وهو اعتقاده بأن في قرآن الله وسنة رسول الله وفاء بحاجة الإنسان وليست هناك حاجة في ضمن هذا الإطار لابتداع أساليب جديدة للأخذ بالآراء والقياسات فلا نحتاج، لأنّ أصول هذه الحياة السعيدة موجودٌ في القرآن وسنة النبيّ. وتترتب على هذا خصلة ثانية: وهي أنّهم اهتموا بالقرآن وبسنة رسُول الله. ولذلك من يدّعي مثلاً أن أتباع أميرْ المؤمنين يؤمنون بتحريف القرآن مجانب للصواب، لأنّ أول مهمة قام بها أمير المؤمنين (عليه السلام) هي أنّه أنجز مهمته القرآنية، غير أنّنا نعتقد أن القرآن كان على عهد رسول الله (صَلى الله عليه وآله) ثمّ  أتى الإمام و تمّم ذلك بأن اعتكف بعد وفاة رسول الله، وعكف على القرآن حتى يخرج للناس هذه النسخة النهائية حسب التعبير، التي كانت على عهد رسول الله، وهذا بحث يطول و يحتاج إلى بحث خاص.

وكذلك كان اهتمامهم بسُنة رسول الله حفظاً ورواية وتدويناً وكتابة، وكان هناك عناية بأن يُحفظ حديث رسول الله، وأنْ يروى في زمان الإمام أمير المؤمنين بعد النبي، وكان يتناقل الحديث في ضمن هذه الدائرة على عكس الدائرة الأخرى كما سيأتي ويتبين.

وكان هناك أوامر صارمة من قبل أمير المؤمنين (عليه السلام) بأن يكتبوا ويقيدوا العلم بالكتابة وهناك فصلٌ خاصْ لمن أرادَ أن يُراجع هذا الأمر في قضية كتابة الحديث وتدوينه، وهذا أمر ثاني وترتب على هذا الأمر الثاني بأن لا يقول أتباع هذا الخط رأياً في مقابل نصٍ ثابت عن رسول الله فضلاً عن نصٍ ثابت في القرآن، وافتخر هَؤلاء أصحابْ هذا الاتجاه بأنّ لديّهم العلمْ الكثير من لسان رسول الله (صَلى الله عليه وآله) وأنهم يتوارثونه، ويخزنونه، كما يخزن الناس فضتهم وذهبهم. هناك حديثٌ أنقله لكم بنصه عن الإمام الباقر (عليه السلام) فيقول: "يا جَابر، لو كنّا نفتي الناس برأينا وهوانا، لكنّا من الهَالكين، ولكنّا نفتيهم بآثار منْ رسُول الله (صَلى الله عليه وآله) وأصُول علم عندنا نتوارثها، كابراً عن كابر، نكنزها كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضتهم"(7). كيف عناية أولئك على أموالهم يحفظونها، ويتوارثونها، نحن نكنز العلم عندنا ونتوارثه. وفي قضية، مثلاً اشتهر توارث كتاب علي بن أبي طالب إلى فترات أخرى نحن نجد  منها: ما ورد في زمان الإمام الباقر (عليه السلام) إذ سأل أحدهم  الإمام الباقر عنْ مسألة فقال: هلم إلي ( تعال)الإمام الباقر يعرف المسألة ولكنْ أراد التنبيه على قضية أخرى، فيقول: فأخرج كتاباً عظيماً أيّ الإمام الباقر، فجعل ينظر فيه حتى أخرج المسألة، وقال: هذا خط علي وإملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) كتابٌ عظيم، وكان الإمام يعرف المسألة، ولكن كان يريد أن يبين له هذا المعنى فيتحدثون عن الجامعة، وما أدراك ما الجامعة، جلدُ ثور في سبعين ذراع فيه، حتى أرش الخدش.(8) وما شابه ذلك أيّ بالمعنى شيءٌ مفصلٌ من الأحكام، فهذا كان محل افتخار لهذا الخط، بأنّهم يحفظون علم النبي ويكتبونه ويتوارثونه ويخلفونه لمن بعدهم. هذا الاتجاه الأول، والخط الأول.

الخط الثاني: ما يسمى بمدرسة الرأي. مدرسة الرأي يتحدث الباحثون عنْ أنّ رأسها كان الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، وهذا الاتجاه له أيضاً مواصفات: الخليفة عمر علم ابن مسعود، عبد الله بن مسعود، هذه النظرية، هذه الفكرة، عبد الله بن مسعود، أُرسل من قبل الخليفة الثاني إلى الكوفة معلماً ووزيراً، وهناك نشرْ لهذه النظرية، عبدالله بن مسعود نشر هذه النظرية، وتعلم عليه إبراهيم النخعي. إبراهيم النخعي صَار عنده تلامذة: ربيعة، حماد، وهؤلاء درسَ عليهم أبو حنيفة النعمان الذي أصبَح صَاحب مذهبْ فقهي مَعروف بأنّه يستعمل الرأي والاجتهاد بشكل كبير جداً، وسوف نتعرض إليه في المستقبل إن شاء الله. فهذا التسلسل أصبح من البداية  إلى أن وصل إلى الكوفة، و أصبح في الكوفة جيلان، ثم تبلور في مذهب أبي حنيفة النعمان.

الاتجاه الأول كان اتجاه أهل البيت (عليهم السلام) منْ أمير المؤمنين ثمّ أولاده المَعصومون سلام الله عليهم أجمعين، وسَينتهي إلى الإمام الصادق، ويتشكلْ بذلك المذهب الإمام والجعفري، الذي سوف نتحدث عنه أيضاً إن شاء الله.

هناك (بين قوسين) في مذهب النص، كان في طرف مدرسة الخلفاء أيضاً رائداً من رُواده، و يُنقل أنّ عبد الله بن عمر بن الخطاب كان من اليوم منْ أتباع النصُوص وإن كانَ حجم الذي أخذه ليسَ بمثلْ ذلك المقدار الذيْ عند علي بن أبي طالب، ولا بالاتجاه ذاته، ويحتاج حديث في هذا. ولكنْ يُمكن لهَذه الفكرة أن تفسر لنا بعض مخالفات عبدالله بن عمر لوالده عمر بن الخطاب مثل ما ورد منْ مخالفته له في مُتعة النساء وفي بعض الموارد. الآخر هو الذيْ قال فيها عبدالله بن عمر، سمعنا رسُول الله يقول كذا أرأيت لو نهى عنه والدي أتبع والديْ أم أتبع رسول الله. قد يكون جذر هذا راجع إلى هذه النقطة الآن لا نتحدث فيها.

الاتجاه الثاني: الذي هو مدرسة الرأي كما ذكرنا، هذه المَدرسة وهذا التوجه لم تكنْ العناية الكافية فيه بتدوين أو نشر حديث رسول الله (صَلى الله عليه وآله) إلا في وقتٍ متأخر جداً، تعلمونْ أنّ تدوين الحديث والسنة النبوية بشكلٍ رسمي إنما كان في زمان عمر بن عبد العزيز الخليفة الأموي سنة 99 هجرية، أيّ بين وفاة رسُول الله سنة 11 وبين 99 هجرية 88 سنة، وطيلة هذه الفترة لمْ يكن هناك قرارٌ رسمي بتدوين السنة النبوية، بل الآثار تدل على أنّه كانَ هناك قرار بمنع التدوين.

 الروايات كانتْ كثيرة من حديثْ حَول إحْراق بعض الأحاديث، وإتلاف بعضها الآخر، ومنع الصحابة من التحديث، وحتى لو تم إنكار بعض هذه الأحاديث كما هو الحال عند بعض محدثي مدرسة الصحابة حيثُ ينفون صحة بعض هذه الأحاديث لكنْ الشواهد التاريخية تدل على أنّه كان هناك إغفالٌ و منعٌ للتدوين ونشرْ السنة النبوية هذا من جهة، من جهة أخرى فإنّه توسع هذا الاتجاه في إعمال الرأي إلى أن وصل إلى ما يسمى اليوم بالاجتهاد في مقابل النص. أيّ الاتجاه الأول في مدرسة النص التي كان على رأسها أمير المؤمنين (عليه السلام)، إذا جاء حديث من أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) يخضع له الجميع ويقبلونه ويسلمون في قوله تعالى: " فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا" (9). الاتجاه الآخر لم يكن كذلك، كان أيضاً عنده شيء من إبداء الرأي، فأنصار هذه المَدرسة بعض الأحيان لتوجيه هذا الكلام يقولونْ: هؤلاء لم يكونوا يعملونْ بالنصوص وإنما كانوا يعملون بروح القانون، وأحياناً  يقول لك أن هؤلاء كانوا بدل أن يعملوا بالحرف هذا والنص هذا ينظر إلى الظروف الزمانية والمكانية المتغيرة فيحكمها لكن النتيجة هي واحدة.

صُور استحداثْ وتغييرْ النصوصْ والأحكامْ.

النتيجة أنّ حَديثاً من أحاديث رسُول الله صلى الله عليه وآله تم تعطيله وأنّ اجتهاداً من قِبل بعض أصحابه إذ قدم على ذلك الحديث وقد تعرض الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين، رحمَهُ الله صَاحب كتاب المراجعات وكتاب النص والاجتهاد. في كتابه النص والاجتهاد توجه إلى موارد كثيرة جداً إذ تم فيها إلغاء الحديث النبوي وإنشاء حكم جديد، على سبيل المثال: واحد من الأمور في الحج. كما تعلمون أن هناك حج تمتع، وكان في زمان رسول الله (صلى الله عليه وآله) معمول بحج التمتع، و يتكون من جزأين: الجزء الأول: عمرة التمتع، ثم يتحلل الإنسان ويمارس أموره الاعتيادية، يستطيع أن يتطيب، وأن يتزين، وأن يقص شعره، وأن يقارب زوجته، وأن،،، إلى غير ذلك، ثم ينشئ إحراما للحج بعنوان: حج التمتع، وخلال هذه الفترة تُعَد مثل فترة استراحة، ولذلك سُمي بحج التمتع إذ يتمتع الإنسان في هذه الفترة الفاصلة بين العمرة وبين الحج، ويتحلل من محرمات الحج. وهذا كان موجود، وعُمل به لكن الخليفة الثاني بناء على ما ارتآه هوفقد ألغى هذا الأمر. أنقل لك الحديث من صحيح مسلم: في الحديث عن أبي موسى الأشعري، أنه أي أبو موسى، كان يفتي بالمتعة بالحج، يقول للناس: حجوا حج التمتع. فقال له رجل: رويدك، ببعض فتياك، فإنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين. يعني: عمر!  فلماذا أنت تفتي بالناس بمتعة الحج، أما تدري أن الخليفة أحدث حكماً آخر؟ ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعد أما تعلم ما حدث؟ حتى لقيه أيّ أنّ أبو موسى لقيَ الخليفة، فسأله بلغني هذا الأمرْ، فقال عمر قد علمت أن النبي قد فعله وأصحابه، أعلَم بأن النبي عمل حج التمتع، وأصحابه أيضاً عملوه، ولكن كرهت أن يظلوا معرسين بهن في الأراك، ثم يروحون في الحج تقطر رؤوسهم. أيّ رأيت أنه من غير المُناسب بأن تكون محرماً للتو، وتطوف، وفي حالة عبادية، إذ تنتهي من هذا ثمّ تذهب إلى زوجتك، وتقاربها ثمّ تأتي مُغتسلاً في كل حين، ورأسك يقطر ماء، ثمّ تأتي للحج مرة أخرى فعليك التعقّل، (فكرهت أن يظلوا معرسين بهن في الأراك) أيّ في هذه الأماكن التي فيها شجر الأراك، إذ أنه في ذلك الوقت لم تكن هناك مساكن ومباني ثم يأتون إلى الحج بعدَ أنْ قارب زوجته ثمّ يذهب ليحرم، و رأسه لا يزال رطباً من ماء الاغتسال. هذا الأمر يُعتبر رأي أيّ أنه أنت لا تتذوق هذا الأمر، لكنّه شرَعه الله سبحانه وتعالى وفعله رَسُول الله، هذا الاتجاه وهذا الخط كان بالنسبة له كقضية الرأي، حتى نفس عبارة صحيح مسلم: فإنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك! أيّ لا تعلم ما لجديد الذي استحدثه بينما كان هذا هو السائد.

وهناك الكثير في قضية المؤلفة قلوبهم، فقسم من مصارف الزكاة كانت تعطى لمن تُؤُلِّف على الإسلام في زمان النبي (صلى الله عليه وآله) و كان موجوداً ومذكوراً في القرآن الكريم، وفي زمان الخليفة الأول أيضاً كذلك، فلما جاء الخليفة الثاني، قال: نحنُ لا نحتاج لأن نعطيهم لأن الإسلام الآن صار عزيز، وفي ذلك الزمان كان ضعيفاً، الآن لا نحتاج إلى أنْ نعطيهم. هذا حكمٌ وتشريعْ، و لو كان الأمر مربوط بالزمان يُفترضْ أن يُقيد في القرآن الكريم، أنّه إذا أصبحتم أقوياء فأبعدوهمْ وإذا صرتم ضعفاء فأعطوهم، أو أن يقول النبي ذلك، لكنّه لم يقل.

قضية منع القرابة من الخمس، أيضاً فعلوا الشي ذاته، إذ كان على زمان رسُول الله صلى الله عليه وآله ولكن عندما جاء في عهد الخليفة صار هناك منع وأمثال ذلك كثير من متعة النساء أيّ النكاح المؤقت، أيضاً كذلك. موضوع الطلاق بالثلاث، كان على عهد رسول الله والخليفة الأول إذ أنّ الطلاق ثلاثا لا يقع لكن الخليفة الثاني، رأى أن الناس تساهلو بالموضوع، فدعونا لمنْ يطلق ثلاثاً بأنْ نورطه و نقول له: انتهى و صارت بائنة منك. لعلهم يتأدبوا. هذا، بناءً على أن النبيّ لم يكن يجعله ثلاثاً وأنّ هذا كان معروفاً، إذ أصبحَ هذا تغييراً لحكم حتى أضيفت أشياء و حذفت أشياء: (حي على خير العمل) التي كانت في الأذان موجودة بناء على أن رأي أتباع هذا المنهج يقولون أنّه إذا الناس قالوا: حي على خير العمل يتركون الجهاد ويذهبوا إلى الصلاة، ونحنُ نحتاج إلى تعبئة عسكرية! إذ أنّهم ألغوا (حي على خير العمل) و فيه تغيير لصيغة الأذان وصفاته و في مقابل هذا مثلاً كانت إضافة شيئاً من التغيير مثل: الصلاة خيرٌ من النوم، في الصباح.

فمسَاحة الرأي والاجتهاد في مقابل النصُوص والأحْكام عند هذا التوجه كانت مسَاحة واسعة، ومهدت إلى كما ذكرنا أن يكون هناك خطٌ فقهي وهو: خط الرأي في الأمة في مقابل خط النص. ونحن نعتقد أن الحريْ بالاتباع والصحيح هو ما كان عليه آل محمد. اللهم صل على محمد وآل محمد.

وأنّهم ورثوا هذا العلم من جدهم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأنّهم كان بإمكانهم لو كانْ الأمر صحيحاً لكان بالإمكان أن يبدوا آراءهم، ولكنْ لا يمكن لهم لأنه يمكن أن يُسأل هذا الإنسان: أالله أذن لكم؟ لتأتيْ و تقول: هذا حرام حسب رأيي، بينما يكون النص مخالفاً لذلك، أو تقول هذا حلال حسب رأيي بينما النص يكون مخالفاً لذلك. فهل أذن الله تعالى لك أن تكون مشرعاً في مقابل تشريع الله عز وجل؟ و في مقابل حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله). فيأتي أحدهم ويقول: ما هو رأيك؟ يقول: لسنا من أرأيت في شيء، أو لا نفتي الناس برأينا، ولو أفتيناهم برأينا لكنا من الهالكين.

ولأجل أنّ هذا الخط كانَ يحفظ أصُول الإسلام وسنة النبي، وجدنا أنّ النبي (صلى الله عليه وآله)، أوصى بهم في الحديث المعروف بحديث الثقلين: إنّي تاركٌ فيكم الثقلين ما إن تَمَسَّكم بهما لن تضلّوا بعدي: كتابَ اللَّه وعترتي أهلَ بيتي، لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوضَ»(10) وهذا صحيحٌ عند جميع المسلمين بلا استثناء. فقد ورد بطرق صَحيحة عند مدرسة الخلفاء، وطرق متواترة عند مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) لأن هذين همَا الحافظان للأصول، كتاب الله وسنة، وعترة النبي (صلى الله عليه وآله) التي تجسد فيها وتجمَّع فيها سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكانوا يكتنزونها، ويتوارثونها، ويحافظون عليها، كما يحافظ سائر الناس، على ثرواتهم.

  

الهوامش:

(1). "المكتبة الشيعية" شرح أصول الكافي - مولي محمد صالح المازندراني - ج ٨ - الصفحة ٢٣٥

(2). "المكتبة الشيعية" موسوعة الإمام علي بن أبي طالب (ع) في الكتاب والسنة والتاريخ - محمد الريشهري - ج ١٠ - الصفحة ٥٤

(3). " الكتبة الشيعية" بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٢٦ - الصفحة ٢٩.

(4). سورة المائدة آية 64.

(5). سورة الرحمن آية 27.

(6). سورة النمل آية 14.

(7)." المكتبة الشيعية" بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٢ - الصفحة ١٧٢

(8)."مركز الهدى للدراسات الإسلامية" مصادر علم الأئمة من أهل البيت (ع).

(9). سورة النساء آية 65.

(10). حديث الثقلين تأليف قوام الدين محمد الوشنوي القمي.

 

مرات العرض: 3391
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2557) حجم الملف: 53491.95 KB
تشغيل:

دين واحد واتجاهات فقهية وعقدية متعددة 1
3-كيف ومتى أغلق باب الإجتهاد في الأمة ؟