دين واحد واتجاهات فقهية وعقدية متعددة 1
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 1/9/1438 هـ
تعريف:

دينٌ واحد واتجاهَات عقديّة وفقهيّة مُتعددة.

تفريغ نصي الفاضلة: ( أمْجاد عَبد العال).

تصحيح الأخت الفاضلة سلمى آل حمود

قال الله العَظيم في كتابه الكريمْ، بسم الله الرحمن الرحيم: " إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ" سورة الأنبياء آية "92". آمنا بالله، صَدق الله العلي العظيم. 
سوف يكون حديثنا - بإذن الله تعالى - تحتَ عُنوان: (من تاريخ المذاهبْ في الإسْلام)، وهي مُحاولة للتعرّف على المذاهب الإسلامية فيْ جَانبها الفقهي، وربما الكلامي والعقدي، ومُحاولة أيضاً للتعريف بالمذهب الإمامي الذي نلتزم به.
ننطلق في ذلك منْ أن الحَاجة التي نراها في عالم المسلمين اليوم، هي حاجة: تعرّف المسلمين إلى بَعضهم، تعرّف المسلمين في مذاهبهم على المذاهب الأخرى؛ لأنّ المعرفة عدو الجهل، والجهل طريق إلى الجهالة وإلى السلوك السيء.
المعروف، أنّ الناس أعداء ما جهلوا، ولذلك كلما ازداد الإنسان معرفةً بهذه الفئة أو تلك، أصبح بإمكانه أنْ يتفهم لمَاذا هم يفعلون هكذا ولا يفعلون كذا. للأسف الشديد، فإنّ أبناء الأمة الإسلامية اليوم و في الغالبْ يعيشون جهلاً كبيراً ببعضهم. وهذا ينتج بأنْ يستطيعْ الانتهازيون، والسياسيون المرتزقة، وأرباب الفتن، أنْ يُحرشوا هذه الفئة على تلك الفئة، وتلك الفئة على هذه الفئة.
أما لو عرَف الناس ما الذي يؤمن به هذا الفريقْ وما لا يؤمنُ به ذلك الفريق، لمْ يعُد بإمكان هؤلاء الانتهازيين أن يُحرّشوا وأن يحرضوا، وأن يُلقوا حبال الفتنة ونيران الفرقة فيما بين أبناء الأمة.
لذلك، نحنُ نحاول خلال هذه الأيام القادمة أنْ نتعرّض إلى بعض المذاهب الفقهية في الأمة، بعض أئمة المذاهب، بعض المواقف التي اتخذوها، إلى قسم من التيارات والاتجاهات الكلامية، بقدر ما ينفع للمستوى العام من الناس.
فائدَة التعرُّف على المذاهبْ الأخرى.
جهة أخرى، أنّ تعرُّف أبناء المذاهب على المَذاهب الأخرى يصنع فوائد علميّة، سواء على مُستوى العلماء أو على مستوى عامة الناس. فعندَما يأتي الإمامي ليتعرّف على أدلة المذهب الحنفي، أو المذهب الشافعي، أو غيره من المذاهب أو بعكس ذلك. فإن هذا المثقف أو العالم يُضيف إلى علمه شيئاً آخر و زاوية جَديدة من النظر وكثيراً ما انتفع بذلك.
أما التفكير على نحو: أنّ الطرف الآخر لا يوجد عنده إلا ضَلالات، وإلا خُرافات، وإلا أفكار باطلة، فهَذا عين الجهل. وهو: أنْ يتصور الإنسان أنّه هُو فقط من يفهم و هو فقط من يعرف، وأنّ باقي الناس لا يعرفون شيئاً، لا يفقهون شيئاً، لا يبصرون شيئا، فهذا هو عين الجهل.
ولذلك وجَدنا أنّ بعض أعاظم علمَاء الطائفة، ونشير بالذكر خصوصاً إلى السيد البروجردي - رُضوان الله تعالى - السيّد حسين الطباطبائي البروجردي وهو أحد كبار مراجع الدين في زمانه الذي كان قد نهج منهجاً في الحَوزة العلمية، يقول فيه: أنّ على طلاب العلم وهم إماميون، أنْ يتحركوا باتجاه التعرف على سائر المذاهب. ففي هذه المسألة الفقهية، ماذا قال الأحناف؟ ماذا قال الشوافع؟ ماذا قال الحنابلة؟ ماذا قال الموالك؟ ما هي أدلتهم؟ هل أدلتهم تامة أو غير تامة؟
ولذلك أعاد - مثلاً - السيد البروجردي طباعة كتاب (الخلاف) لشيخ الطائفة الطوسي. وكتابْ الخلاف يَعرض فيه شيخ الطائفة الطوسي - أعلى الله مقامه - أدلة المذاهبْ الأخرى وأقوالها. بل شجّع السيد البروجردي على مُطالعة طلابْ العلم لبعض الكتبْ التي ألّفها أرباب المذاهب الأخرى، مثل: بداية المُجتهد ونهاية المقتصد، لابن رشد. وهو فقيه غير إمامي، وإنما يعرض إلى أدلة المذاهب الأخرى، المذاهب الأربعة.
فتوى جَواز التّعَبد بالمذهبْ الإماميْ والزيديْ.
هذا المنهج بتقديرنا، هو الذي انتهَى بمثل شيخ الأزهر الشيخ محمود شلتوت إلى إصدار الفتوى المَعروفة عنه: بجَواز التعبد بالمَذهب الإماميْ والمذهبْ الزيدي. وهذا سيتبين - إن شاء الله - إذا تحدثنا عن مَوضوعْ إغلاق بابْ الاجتهاد، وكيف تم، وما هي الظروف الذي أنتجته. سيتبين لنا أنّ قيام المؤسسة الدينية الرسمية العليا فيْ عالم المُسلمين زمان الشيخ شلتوت بإصدار هذه الفتوى يُعتبر شيئاً كبيراً جداً، ومَا ذاك إلا منْ المَنهج الذكي والواعيْ الذي اتبعه السيد البروجردي رُضوان الله تعالى عليه، وهذا ما كان يحصل إلا على أرضيّة التواصل العلمي والمعرفي بين المذاهب.
يَنقل الشيخْ محمد جَواد مغنية، رُضوان الله تعالى عليه - وهُو عَالم كبير وفقيه من الفقهاء، وفوق ذلك هو كاتب متألقْ. ففي سنوات السبعينات الميلادية، والثمينات الميلادية، والتسعينات الميلادية، كانت تقريباً كُتُب الشيخ محمد جواد مغنية في السّاحة الثقافية الشيعية هي بالمركز الأول، وقد كان كاتباً بارعاً جداً، وغزير الإنتاج. وقد تحدثنا عنْ حَياته فيْ هذا المكان قبل مُدة من الزمان – حيثُ يقول: التقيت بالشيخ مَحمود شلتوتْ وهو شيخ الأزهر، الذي أخرَج هذه الفتوى المَعروفة، فسألته عن ظروف خروج هذه الفتوى: ما الذي دفعك؟ ومَا هيَ الأسبابْ التي جَعلتك تتحرك باتجاهها. فقالْ: أنا لمْ يكنْ دافعي دافعاً سياسيًا، افترض - مثلاً – أنّه: حَتى نصنع وحدة سياسية بين المذاهب ولا لأمور شخصية، وإنمَا كنت عندما أريد أنْ أنظرْ إلى مَسألة من المَسائل الفقهية، أراجعْ كتبْ المذاهب الأربعة، وأرجع أيضاً إلى الكتبْ منْ مذهبْ الإمامية، وأنظرْ كيف ناقش العلماء هذه المسألة. فرأيت في هذه الكتب، قواعد متينة، وأدلة قوية، وكلاماً منطقياً في عَديد من المَسائل التي راجعتها فرأيت أنّه: ما الذي يَمنع؟ ما دام هذا المذهب قائماً على براهين، وعلى أدلة، وعلى قواعد محكمة، ومُؤسسة في علمْ الأصُول وغيرُها، وتُطبق هنا فيْ الفقه، فما الذي يمنع من التعبد به والاستدلال به، فأصبحَ الجو مُهيأ لإصدار مثل هذه الفتوى.
إذنْ قضيّة تعارف أربابْ المَذاهب على المذاهب المختلفة، فيه فوائد نافعَة لعامة الناس، بل فائدته تشْمل أيضاً من العُلماء والفقهاء والأئمة، أيّ أئمة الدينْ بلْ في كثير من الأحيان هذا التعارف وهذا الجَو الهَادئ من التواصل، قد يؤثر أيضاً حتى فيْ الحَالات السيَاسية، فيكونوا الزُّعماء عندئذ في حَالة مسترخية، وفي حالة متواصلة.
ينقل الشيخ جعفر السبحاني - أحدْ الفُقهاء المُهمين في قمْ، ولهُ كتاباتٌ كثيرة جداً، وهُو ومَعروف - في كتابٌ له اسمه: آراء ومقالات عنْ السيّد البروجردي، وهو منْ تلامذته أيضاً – أي هُو تلميذٌ مباشر للسيد البروجردي - يقول: في إحدى السنوات، زار الملك سعود وهو ملك السعودية، إيران  في زمان السيد البروجردي. وفي تلك الزيارة أرسل بهدية سنية وفخمة إلى السيد البروجردي. أي الملك سُعود أرْسل حَقيبة مملوءة بالهدايا إلى السيد البروجردي في قم
السيد البروجردي كانتْ حالة الزعامة واضحة عنده، فلمّا استلم السيد البروجردي هذه الهدية، كتب رسالة سلّمها أو سُلِّمت إلى السفير ذلك الوقتْ جاء فيها هكذا: بعد التحيات وبعد الاحتفاء، قال: أنا وَصَلتني هدية قيمة من جنابكم. تحتوي على كثير من الهدايا الجَيدة، وموقعي الديني لا يَسمح لي بتلقي الهدايا من الزعماء والعظماء، ولكنْ لأن هذه الهدية، أي الحقيبة يوجد بها قطعة من كسوة الكعبة المشرفة، وفيها نسخة من القرآن الكريم، فأنا أستلم هاتين وأتبرّك بهمَا، وأشكركم على ذلك، وأهدي لكم باقي هذه الحقيبة.
فهاتان باعتبار أنّ فيهمَا حَالة معنوية: قطعة منْ كسوة الكعبة و نسخة قرآن كريم سأقبلهما، وأشكرْكم على ذلك والباقي أهديكم إياه وأرفق بذلك صُورة عن حج رَسُول الله، صُورة روائية بحسب ما ورد في كتبنا الإمامية: أن النبي (صلى الله عليه وآله) كيف حج؟ ولأنكم تتولون أمرْ الحج، فأهدي لكم طريقة حج رسول الله محمد (صلى الله عليه و آله) وأرسل الجميع، وقيل: أنها وقعت موقعاً حسناً في وقته.
مثل هذه الأمورْ، من الممكنْ أنْ لا تحْصل إلا إذا تم التآلف والتعارف والتواصلْ في أرضيّة معرفية، أما أرضيّة تعتبر أنّ هؤلاء دين، وأولئك دين آخر فهذا ليسَ بمذهب. إذ أنّ هُناك قسم من الناس الآن يقولون: دين الشيعة و دين السنة، وهُناك متطرفون ومُتعصبون من هذا الفريق، فيقول: دينْ السنة لأنّهم لديهم دينٌ خاص، وهناك فريق متعصب من ذلك الطرف، فيقول: دين الشيعة الإمامية إذ أنّ لا دين لهمْ. بينما نحن ينبغي أن ننهج هذا المنهج.
حَديثنا فيما يرتبط بالمذاهب - قدر الإمكان - سوف يكون محاولة تعرُّف وتعريف. فهؤلاء أبناء الأمة: الحنبلي، والشافعي، والمالكي، والحنفي، والجعفري، والأباضي، والزيدي، وغيرهم، أبناء هذه الأمة و أبناء هذا الدين، هم شركاؤنا في هذا الدين فينبغي أنْ نتعرف عليهم و أنْ نتعرّف على ما عندهم، وينبغي أيضاً أن يتعرفوا على ما عندنا
التعرّف لا يعني بالضَرورة أن يقبل. فهناك مسألة مهمة ينبغي أن نلفت النظر إليها: فأنت الآن عندما تأتي وتدرس - مثلاً - في العلوم، في الفيزياء، في الرياضيات، في الكيمياء، تدرس نظرية من النظريات. فالمرحلة الأولى: هي أن تفهم هذه النظرية، ماذا قال أربابها؟ ماذا قالوا عن هذه النظرية؟ افهمها
بعد ذلك، إذا فهَمتها تقولْ: أنَا أقبل هذه النظريّة أو لا أقبلها، أقبلها لهذا السَبب، ولا أقبلها لذاك السبب. أما أنْ تحكمْ من البداية، وأنت لا تعرفها، ولم تدرسها، ولم تطالعْ فيها، وتقول: هذا باطل، هذا ضلال! فهذا لا ينبغي. فهناك قسمٌ من الناس هكذا، بعض الكلمات سريعة لديهم وعندما تسأله: لمَاذا لا تقرأ لهذا الفريق؟ يقول لك: ما بني على باطل، فهو باطل! فهذا جهل. تعال وانظر، تعرَّف، تعلم، ثم انقد. فهناك فرقٌ كبير بين مثل شيخ الطائفة الطوسي - رُضوان الله تعالى عليه - الذيْ في كتاب الخلاف كان البعض يقول فيه: إن إحاطته بمذاهب غيره لا تقل عن إحاطته بمذهب جعفر بن محمد. فكما أنّه محيط بالمذهب الجعفري، كذلك هو مُحيط بأقوال وآراء الشافعي، والمالكي، وسفيان الثوري، وابن عيينة، وفلان وفلان وغيرهم. فهذا ينبغي أن يكون منهاجاً لنا
هذا في أهمية الموضوع، وفي الحَاجة إلى الحَديث في هذا البابْ. وبطبيعة الحال، لا بُد أنْ يكون لنا، حَول نفسْ المذهب الآخرْ، حول أئمة هذه المذاهبْ، في القسم الآخر، إن شاء الله منْ حَديثُنا، سَوف يكونْ لنَا حديث مُفصل حَول نشوء المَذهب الإماميْ، وتاريخه منذ بدايته إلى أزمنتنا الحَاضرَة، وإلى أركانه الأصلية،
بعضْ العناوين الهامّة.
على سَبيل المدخل، نعنون بعض العَناوين، العنوان الأول: دينٌ واحد. العنوان الثاني: طائفتانْ رئيستان. العُنوان الثالث: ثلاثْ مدارس عقدية وكلامية. العنوان الرابع: أربعة أو خمسة مذاهب فقهية 1،2،3،4 أو 5
العنوان الأول: الدين الواحدْ إذ لا بُد أن نقرر هذا المعنى: من أنّ الجَامع الذي يجمع أمة الإسلام هو دين الإسلام، ودين الإسلام يرتكز على ثلاثة أضلاع، وهذه الأضلاع موجودة في كل المذاهب. الضلعْ الأول: الإيمان بالله عز وجل وهو التوحيد، الضلع الثاني: الإيمان بنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله. والضلعْ الثالث: هو الإيمان بيوم القيامة والمعاد. هذه الأضلاع الثلاثة، هذا المثلث الذي يشكل جوهر الدين بل جوهر الأديان السماوية، وقد ذكرنا في سنة مضت، عند حديثنا عن قصة الديانات: أنّ الَعناصر المشتركة في العقائد في كل الديانات هي هذه الثلاثة: الإيمان بالله، والإيمان بالنبي المرسل لهؤلاء القوم، والثالثة: الإيمان بيوم القيامة وما يحصل فيه من جزاء ومجازاة
هذا أيضاً بالنسبة إلى الإسلام وبالنّسبة إلى مذاهبه. فلا يوجد أحد ينطبق عليّه عُنوان: المسلم، إلا وهُو يؤمن بهَذه الأضْلاع الثلاثة ولا يمكن أنْ يَنطبق عليه هذا العنوان لو أخل بواحد منها. والحمد لله، فكل المذاهب الإسلامية - ولا سيما التي لها أتباع في هذا الزمان - هي مؤمنة بهذه الأضلاع الثلاثة فهي على دين واحد.
وأعود لكي أكررْ ما سَبق أنْ قلته وهو: أننا نجْد من المُتطرفين في كلتا الطائفتين من يقول هذا دين الشيعة، أو هذا دين السنة، وهذا كلام باطل لا أصلَ له. فالدين واحد، وهُو لله عزّ وجلْ. وجَميع أبناءْ المذاهبْ يُؤمنون بهَذه الأضْلاع الثلاثة فيْ الجملة، وهو مُحقق للدين والإيمان
فأحياناً تأتيْ وتقولْ: أنْ هُناك اختلاف في صفاتْ الله وفي الإيمان بهَا وفي طريقتها، واختلاف في الإيمان بالنبيّ صلى الله عليه وآله وحُدود عصمته وعلمه وتشريعه، واختلاف فيْ الإيمان بيوم القيامة. فهذا مَوجودْ حتى في داخل المذهب الواحد، فهناك نظريات وآراء. لكن هذا لا يخدش أنْ يكون أتباع المَذهب الواحد ولا أتباع المذاهبْ المُختلفة أبناء دين واحد. هذا العنوان الأول.
العنوان الثاني: طائفتان، فرقتان، جَماعتان رئيسيتانْ، لا ريبْ أنّ الأمّة بَحسب تاريخُها وبحسب واقعها المعاصر، تنقسم إلى قسمين، من يُطلق عليهم أهل السنة أو أتباع مدرسة الخلفاء، ومن يطلق عليهم شيعة أهل البيت أو الشيعة بشكل عام. وأعظم هؤلاء وأوضحهم، الإمامية أو الجعفرية. فما هو الشيء الذي يقسم بين هذين الفريقين؟
هُناك اجْتهادات لا ترجعْ إلى دقة، مثل: أن يقول لماذا هذا شيعيْ؟ وهذا سُني؟ ما هو جوهر الخلاف؟ فيأتي لك بمسائل فقهية. فيقول لك مثلا: هذا يؤمن بالتَّقِيَة، وذاك لا يؤمن بالتَّقِيَّة، أو التُقْيَة، حسب تعبير بعضهم. هذا يؤمن بالنكاح المنقطع: المُتعة، وذاك لا يؤمن. هذا يؤمن - مثلاً - بالجمعْ بين الصلاتين، وذاك لا يؤمن بالجمع بين الصلاتين، وعلى هذا المعدل. هذا رأيه في الصحابة بشكل، وذاك بشكل آخر. وهذه كلها ليست فارقاً أساسياً؛ لأننا وجدنا – مثلاً - من أبناء السنة، بحسب التصنيف، من يقبل النكاح المنقطع ويعتبره شرعياً ويدافع عنه. مثل: عبد الله بن عمر الذي كان يُنكر على أبيه منع ذلك. فهل هذا يعني أنه انضم إلى هذه الفئة؟ وهناك من يؤمن بالجمع بين الصلوات، وهناك وهناك.
فما هُو الفارقْ الرئيس؟ الفارق الأساسْ والرئيسْ هُو هذا أيها الأحباب: أنّ المرجعية الدينية للشيعة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) هم علي بن أبي طالبْ وأبناؤه عليهمْ السلامْ. بينما المرجعيّة الدينية لأهل السنة بعد النبي (صلى الله عليه وآله) هم صحابة النبي وعلى وجه الخصوص الخلفاء. ومن ذلك تكونتْ المدارس الفقهية، ومن ذلك حصلت كل الاختلافات.
الجوهر الأساسي هو هذا: أن الشيعة يعتقدون بأن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يترُك الأمة بلا وصيّة وبلا إمام وبلا تعيين طريق، والطريق كان قد عُيِّن في علي بن أبي طالب (عليه السلام) ثم فيْ أبنائه من بعده. أما غير الشيعة فيقولون: النبي لم يوص، والذي حصل هو: الحالة الطبيعية. الأمة اختارتْ لنفسها عدداً من أصحابْ رسول الله ووفقت في ذلك، والأمور كانت طبيعية و لم يحصل أي شيء خلافا للدين ولا خلافا لإرادة رسول الله (صلى الله عليه وآله)! فهل هُناك مرجعيّة دينية لعليّ وأبنائه أو أنّ المرجعية الدينية هي بعد النبي لأصحابْ رسول الله، وبالذات للخلفاء؟ لو هذان الطرفان اتفقا عليها، لحُلَّت كل المشاكل
أيّ لو أن أهل السنة قبلوا بمرجعية عليّ وأبنائه، لانتهت المشكلة. ولو أنّ الشيعة قبلوا بمرجعية الخلفاء والصّحابة دون علي وأولاده، لانتهت المشكلة، وأما باقي الاختلافات، فهي: اختلافات فرعية وتفصيلية ناشئة من هذا الخلاف الجَوهري والرئيسي. فإذن هناك طائفتان، فئتان، الذي يفرقهما هو هذا الذي ذكرنا. ولكن يجمعهما الإطار الأصلي، وهو إطار: الدين الواحد، والأمة الواحدة، " إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ" سورة الأنبياء آية 92
ثلاث مدارس عقدية أو كلاميّة، قد نشير إليها فيما بعد. أما الآن، فعلى سَبيل العرض السريع فقط. وهي: أنّه تكونت فيما بعد ثلاثة مدارسْ كلاميّة وعقائدية ترتبط في قسم منها بالنظر إلى صفات الله عز وجل. فنحنُ إذا أتينا وآمنا بالله باعتبار أن هذا هو الضلعْ الأول للإسلام،  فالله سُبحانه وتعالى، ما هي صفاته؟ ما هي أفعاله؟ هل يمكن أن يُرى أو لا يمكن؟ يُرى في الدينا، أو في الآخرة، أو لا في هذا ولا في ذاك؟ هل العدل بالنسبة له هو القانون، أو فعله هو العدل؟ هل أنه يفعل على طبق العدل؟ جعل على نفسه أن لا يفعل إلا عدلاً، أو لا عكس ذلك؟ هل كل شيء يفعله هو العَدل حتى لو كان بنظرنا ليسَ مطابقاً لموازين العدل؟ الموجود عند الإمامية: فكرة العدل الإلهي، وأيضاً عند المعتزلة.
فمن هذا وأمثاله: الإنسانْ نفسه، حُدود اختياره، حدود إرادته، كيف هُو في أعماله؟ هل هو مسير؟ أو هو مخير؟ هل أفعاله مخلوقة بالكامل له؟ أو مخلوقة لله عزّ وجلْ؟ هل يُحاسب عليها؟ أو لا يُحاسب؟ فهذه تأتي وتشكل إجابات متعددة هي التي نتحدث عنها في المدارس الكلامية.
المدارسْ الاسلاميّة الثلاث
فتكونتْ على أثرْ ذلك ثلاثة مدارس، المدرسة الأولى: المُعتزلة. وقد نشير إليها فيما يأتي من الأيام. وهم الآن لا يوجد لهم حضور شعبي بين أبناء السنة. كنظرية، وأفكار، وكتب، هم موجودون بشكل مفصل، وعند بعض المثقفين بنحو محدود جدا، أما في عامة جُمهور المسلمين، فلا أثر شعبي لهم. والذي له الأثر الشعبي عند أهل السنة، هم: الأشاعرة، أي النظرية الأشعرية. فتقريباً أكثر من 85% من عالمْ التسنن يرجع إلى العقيدة الأشعرية، وإن كان هناك أهل الحديثْ الذين يصطلح عليهم الآن بالسلفيّة، أو أهل السلف. فهم – أي السلفيّة - وإنْ يعارضونْ هذه المدرسة – الأشعرية - ويقولون: نحنُ أكثر، ونحن الأصلْ، وغير ذلك. ولكن تبقى حُدود دائرة هؤلاء مَحدودة ولا تنافس الأشاعرة. أما ما هو فرق هذه عن تلك؟ وتلك عن هذه؟ يأتي بحثه. وهناك المدرسة الثالثة: وهي المدرسة الكلاميّة لشيعة أهل البيت صَلوات الله وسلامه عليهم. فعندهم نظرياتٌ متقنة ومبرهنة، وهي خاصة بهم. هكذا أصبحَ عندنا رقم 3. رقم 4، وننهي به الحديث، هو:

المذاهب الأربعة، أو بضميمة الإمامية، يكون الخامس، أو يمكن توسعة الدائرة إلى 7، بل إلى 8، بل إلى 9
مذاهبْ مختلفة للدينْ الإسلاميْ.
الآن في الواقع الحاضر، في بلاد المسلمين، في أتباع مدرسة الخلفاء، في أهل السنة، المذاهب التي تم حصر الاجتهاد بها - وهذه قصّة وحكاية وتاريخ سوف نتعرض له أيضاً إن شاء الله: كيف انتهت المدارس الفقهية السنية إلى أنْ صَارت 4، وعلى أي أساس؟ - الآنْ الواقع الموجود هو هذا: أربعة مذاهب: المذهب الحنبلي، والشافعي، والحنفي، والمالكي فقط.
والحُضور الجَماهيري هو لهذه، مع أنّ هناك مذاهب أخرى اندثرت وانقرضت، وليس لها الآن وجود شعبي في الوسط السني. أضف إليها أيضاً، المذهب الإمامي الجعفري، الذي هو مذهب الشيعة - إذا أطلق الشيعة قصد به عادة الإمامية الجعفرية - وسوف يكون لنا حديث عن هذه المذاهب، وعن أئمتها، ثم نعطف بالحديث على المذهب الإمامي الجعفري.
طبعاً هناك أيضاً مذاهب أخرى لا تنتمي إلى هذه الأربعة، ولا إلى الجعفرية والإمامية، مثل: الأباضية في عمان وفي بعض أنحاء المغرب العربي، فهو أيضا مذهب من المذاهب، ولهم فقه، وفكر.
وهناك أيضاً المَذهب الزيدي الذي ينتمي إلى زيد بن علي ين الحسينْ، وهو يُحسب من الشيعة بشكل عام، ولكنْ ليس من الإمامية، وإنما من الشيعة عموماً. أيضاً له حديث خاص.
وهُناك المذهب الظاهري، الذي هُو محسوب على المدرسة السنيّة ولكن لا يوجد له أتباع إلا بعدد ضئيل جداً، لا يكادون يذكرون
وقد يُحسب الإسماعلية أيضاً - في بعضْ فرقهم - على المذهب الشيعي بشكل عام، تلك الفئة التي تلتزم بالعبادات والأعمال الدينية. وهذه كلها أيضا تحتاج إلى حديث، وإلى بحث. وكل هؤلاء فيما نعتقد، يضمهم هذا العنوان الكبير، عنوان" إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ" سورة الأنبياء آية "92
يَضمهم عنوان: الدينُ الواحد. بل حَتى على مُستوى القرار السياسي الناضج، كانوا قد اعتبروا جزءا من هذا الدين. في 2005، عقدت قمة إسلامية في مكة المكرمة، حين كانت الظروف جيدة ومناسبة، ولعلّ كونها في مكة المكرمة، بجوار بيت الله الحرام، أعطى هذه الروح لها، وذلك عندما قرر زعمَاء العالم الإسلامي أنّ المذاهب الإسلامية الثمانية: المذاهب الأربعة، والمذهبين الشيعيين: الزيدي والإمامي، والمذهب الأباضي، والمذهب الظاهري، هم من الأمة. ولا يجوز تكفير أحدهم للآخر. ولهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين. حينها احتج الشيعة الإسماعيلية على استثنائهم من هذا التصنيف وإخراجهم منه. ولكن بشكل عام، هو هذا كان حتى على مستوى القرار السياسي، ويا حبذا أن ترجعْ الأمة إلى مثل هذه الروح، بحيث يكون الدين هو الذي يربط حبات مسبحة الإسلام
هذا الدين الذي لو انقطع، لو انفصَم، لو تحَطم، فهذه الحباتْ التي تشكل المذاهبْ والاتجاهات، تنفرط يميناً وشمالاً. لكنْ الدين بذلك المعنى: مثلث الأضلاع: الإيمان بالله، وبالنبي، وبالمَعاد، هو الذي يحفظ هذه المذاهب، ويحفظ أتباعها، وينبغي الحفاظ عليه كناظم أعلى للأمة، والدفاع عن الدين هو الأساس، كما صنع سادتنا وقادتنا من أهل بيت رسول الله (صلى اللخ عليه وآله) الذين جعلوا حياتهم وقفا على نصر الدين.

مرات العرض: 3389
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2569) حجم الملف: 50293.41 KB
تشغيل:

من معالم المذهب المالكي وآرائه 8
2 أرضية نشوء المذاهب في الإسلام.