سلسلة الأمراض الأخلاقية
من يحسد من؟ ولماذا؟
كتابة الأخت الفاضلة أمجاد عبد العال
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أبي القاسم المصطفى محمد
وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين المعصومين المكرمين
السلام عليكم أيها الأخوة المؤمنون ورحمة الله وبركاته
قال الله العظيم في كتابه الكريم، بسم الله الرحمن الرحيم: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۖ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)، آمنا بالله، صدق الله العلي العظيم.
تقدم لنا حديث عن موضوع الحسد. هذا المرض الأخلاقي الذميم الذي نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينجينا من التورط فيه. وذكرنا أيضا: أن الحسد بما هو صفة أخلاقية ذميمة، لا تؤثر في المحسود. بمعنى: لو أن الحاسد تمنى زوال صحة إنسان، فلا يتأثر ذلك الإنسان بمجرد تمني الحاسد زوال صحة المحسود. ولو أنه حسده على ثروة لديه، فإن مجرد هذا الحسد لا يؤثر في أن يفقد المحسود ثروته. ولذلك، فمن الخطأ ما انتشر واشتهر بين قسم من الناس. مثلا: أن يتزين، فيقال له: لا تتزين، حتى لا يحسدك أحد. يرِي الآخرين صورة ابنه الصغير، أو ابنته الصغيرة، الجميلين، فيقال له: لا تريهما أحد، سيحسدونهما. وإذا حسدوهما، يحدث كذا وكذا. أو فلانة حسدت فلانة على جمالها أو على زوجها، أو على كذا، فانتكست أوضاعها. حسبما قال أحدهم: بمجرد أن قلت لشخص أن حياتنا الزوجية حسنة، حسدنا! فصرنا ندخل في مشكلة ونخرج من أخرى. هذا لا أصل له، ولا شيء علمي يعضده. حسدني على حسن علاقتي بكذا، فخرجت من مشكلة ودخلت أخرى. لا يوجد أي برهان علمي ولا شرعي على هذا المعنى.
الحسد، أحيانا يؤثر على الحاسد نفسه، بأمراض نفسية، بانهدام الصحة، وهذا سنتعرض له. أما أن يؤثر على المحسود، فلا يوجد دليل علمي على هذا المعنى. يبقى موضوع العين، وهذا يحتاج إلى حديث مفصل. إن شاء الله نتعرض إليه، ونعرض إلى وجهات النظر المختلفة فيه: بعضها القائل بالتأثير، وبعضها القائل بعدم التأثير، وما هي أدلة كل طرف. سيأتي لنا حديث في هذا الموضوع. وهذا يختلف عن موضوع الحسد.
الحسد – كما ذكرنا في حديث سابق – هو: عبارة عن تمني شخص زوال نعمة شخص آخر. يرى عنده مالا، فيتمنى أن يزول هذا المال، سواء وصل إليه ذلك المال بعد أن زواله، أم لم يصل. وبينا درجات الحسد في وقت سابق. هذا كله كان حديثا سابقا. وحديثنا اليوم يتناول موضوعين. الموضوع الأول: من يحسد من؟ والموضوع الثاني هو: دوافع الحسد. لماذا ينشأ الحسد عند بعض الناس؟ ما هي عوامله؟
بالنسبة للموضوع الأول، وهو: من يحسد من؟ فهذه الخصلة – أي الحسد – قد تكون موجودة في الجهلة، وقد تكون موجودة في العلماء. عالم جليل كبير، مع ذلك حسود. هذا يحدث. توجد في الفقراء، وتوجد أيضا في الأغنياء. قد يكون الحاسد فقيرا لا يملك ثروة، وقد يكون مليونيرا، ومع ذلك هو حسود لمن هو أعلى منه وأغنى. توجد أيضا في الأرحام والأقارب، وليس الأباعد فقط. بل لقد ذكروا في بحث هذا الموضوع: أن الحسد بين المتشابهين أكثر منه بين المختلفين، وفي الأقربين أكثر منه في الأباعد.
في المتشابهين، يعني مثلا: بقال قد لا يحسد لاعب كرة، ولكن يحسد البقال الآخر، صاحب الدكان الذي يعمل نفس عمله، ويبعد عنه مثلا 500 متر. هذا الذي يشبهه في عمله، حسده له أكثر من حسده لغير المتشابه معه. فلا يحسد لاعب الكرة، ولا البطل الأولمبي ولا ذاك الرياضي؛ لأنه لا يوجد جامع بينهما. ولكن من الممكن أن يحسد صاحب البقالة الذي يشترك معه في العمل، ولا سيما إذا كان مشاركا له في المنطقة.
العالم قد لا يحسد مثلا المهندس الكهربائي، ولكن قد يحسد العالم من جنسه ومن صنفه. على سبيل المثال، زيد من الناس عالم في منطقة، اكتسب فيها وجوه الناس، وتوجه إليه أبناء المجتمع، وأصبحت له مكانة وموقعية. وهذا الآخر في نفس المنطقة أو منطقة قريبة، ربما يرى نفسه أفضل علما منه، ومع ذلك لم يحصل على تلك المكانة والمنزلة بين الناس. فهذا الثاني حسده لذلك العالم الأول أكثر مما يحسد مهندسا كهربائيا؛ لنفس السبب؛ لأنه متشابه معه في العمل.
وهكذا، افترض فيما يقال في قضية الضرائر والزوجات، بل حتى في غيرهن. امرأة – على سبيل المثال – هي مع أخرى وزوجهما واحد. هذه لها مكانة، وتلك تحسدها على هذه المكانة. في داخل الأسرة، هذه امرأة تتمتع مثلا بميزة جمالية استثنائية، بينما باقي النساء في نفس الأسرة، لسن على نفس المستوى من الجمال. ومع أنهن أرحام ربما، بنات عمومة، أو بنات خؤولة، أو بنات أسرة واحدة، لكن من الممكن أن تحسد إحداهن الأخرى نظرا لجمالها المتميز.
في داخل العمل، هذه ممرضة وهذه ممرضة، لكن لنفترض أن الأولى تقدمت لسبب من الأسباب؛ إما لحسن دوامها، أو خفة يدها، أو لمسارعتها للعمل، فترقت. وتلك الأخرى لم يحصل لها نفس الأمر. هذه فتحسد الأولى أكثر من أن تحسد المدرِّسة في المدرسة الفلانية.
لذلك يقولون: الحسد في المتشابهين والمتشابهات الذين واللاتي يشبهون ويشبهن بعضهن البعض، إما في البيئة الاجتماعية، أو في العمل، أو في النسب، أو في المهنة والوظيفة، هذا الحسد فيمن يشبه نفسه وقريب منه، أكثر مما يكون بين غير المتشابهين. وكما ذكرنا أيضا، كلما صار قريبا، كلما كان احتمال الحسد أكبر. وربما استشهاد القرآن الكريم ببعض حالات الحسد من داخل الأسرة، فيها إشارة لهذا المعنى.
القرآن الكريم – كما ذكرنا في حديث سابق – تحدث عن عدة تجارب، وأشار إلى تجارب أخرى. تحدث عن قابيل وهابيل، وكيف أن قابيل حسد هابيل على منزلته عند الله، (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ). وهذا هو الشر الذي يحذَّر منه: (وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ). هذا هو الشر. ويعني: أن يتحول هذا الشعور النفسي: تمني زوال نعمة ذلك الطرف، إلى فكرة: كيف أنا أعتدي عليه، وأزيل نعمته، بل وأزيله أصلا من صفحة الوجود ومن سطح الأرض، فينتهي إلى شر مثل: القتل.
وهكذا الحال في قضية نبي الله يوسف. كيف حسده أخوته، وكانت نتيجة ذلك الحسد أن ألقوه في غيابت الجب بعد وساطات ومقاومة – حسب التعبير – وإلا كان الأصل: (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا)، أي أضيعوه، حتى لا يرجع. بمعنى: إنهاء وجوده. هذا هو الشر الذي يُخاف من الحاسد. لا أنه مجرد أن يتمنى، أو يفكر، أو يقول أحسد هذا أو كذا، يتأثر المحسود. هذا بحسب ما يرى العلماء، سواء علماء الدين أو العلماء الاجتماعيين والنفسيين. غير هذا، لا أثر للحسد.
فأورد مثل هذه التجارب في الأقارب. وأورد أيضا تجارب مما بينهم منافسة في مكان – حسب التعبير – كما حصل في قضية إبليس وآدم. فآدم كان في ذلك المكان مسجود الملائكة ومكرما بينهم. أما إبليس الذي كان يتوقع أن تكون الكرامة له، لم يحصل على شيء، فحسد آدم. وصنع له شرا وانتهى به أن خدعه وأخرجه من الجنة.
وأهل الكتاب أيضا، عندما كانوا يحسدون المسلمين – كما ذكرنا في وقت سابق – لماذا يريدون أن يعود هؤلاء كفارا؟ (حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم). إذ ينتهي بهم الحال – هؤلاء أهل الكتاب اليهود – أنهم يتمنون لو يرجع المسلمون كفارا وعبادا للأصنام، فلا يبقى على دين التوحيد إلا هم؛ نظرا للتنافس هنا على: من هو أقرب إلى الله، من هو متصل بالسماء، من يملك نبيا من الأنبياء. فأوصلهم إلى مثل هذا الأمر.
فإذن، الحسد من الممكن أن يكون في الفقير والغني والعالم والجاهل وفي ذي الشخصية الاجتماعية وفي غير ذي الشخصية الاجتماعية. فلا تتصور، لو أحدهم – لنفترض – كان عالما كبيرا، أو خطيبا مهما، أنه إذن عبر القنطرة. لا. فمن الممكن أن يُبتلى بالحسد.
ولا تتصور إذا أحدهم صار معدودا من ضمن المليونيرية أو المليارديرية، يكون انتهى حسده، لا. فمن الممكن أن يحسد. ولا تتصور أن الإنسان الجاهل، غير المتعلم، هو الذي يحسد فقط. لا. فمن الممكن أن يكون صاحب شهادة دكتوراه، ويتمتع بوضع اجتماعي متميز. أيضا، من الممكن أن امرأة جميلة، ذات ثروة، مع ذلك هي حاسدة. كل هذا موجود. فمن الممكن أنا، ولا سمح الله أنت، ولا سمح الله تلك، من الممكن أن نكون حاسدين.
لذلك، لا بد أن يتوجه الإنسان، وأن يحذر ويتنبه. سوف يكون لنا حديث إن شاء الله، يعرِّف: هل أنا حسود لو لست حسودا؟ بمعنى: ما هي العلامات التي إذا وجدتها في شخص، أستطيع أن أقول: إن هذا حاسد. فإذا وجدتها في نفسي، أستطيع أن أقول: إنني حاسد.
لأن الحاسد لا يأتي ويقول: أيها الناس تعالوا وانظروا: أنا إنسان حاسد. فالصفة قبيحة، ولا يقر بها أحد على نفسه. لكن إذا توفرت مجموعة صفات - سنتحدث عنها إن شاء الله - تصبح مقياسا ومعيارا. ثم اجعل المسطرة على أي إنسان، فإن جاءت الصفات بحسب المقاييس فهو حاسد. سواء كان كبيرا أو صغيرا.
لذلك أقول: ينبغي أن يتنبه الإنسان وأن يتذكر وأن يراقب، ما من طغمة تطلع على الإنسان وتقول: هذا حاسد. ولا أحد يأتي ويقول: أيها الناس، أنا حاسد، انتبهوا مني. ولكن هي ممارسات، وأفعال، وأقوال، وطريقة حياة. فمن الممكن أن يقرأ بين الفترة والأخرى: (وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ)، هو يقرأها! لكنه في الواقع حاسد لغيره. وسيكون لنا حديث عن هذا إن شاء الله تعالى.
فإذن، من يحسد من؟ الحسد من المشاكل والقضايا الأخلاقية السيئة التي من الممكن أن توجد فيَّ، ولا سمح الله فيك، ولا سمح الله فيها. توجد في العالم الديني، وتوجد فيمن يرتقي أعلى درجات العلم أيضا. أورد لكم أمثلة تاريخية.
مما ينقل في حياة محمد بن علي الشلمغاني، ويُعرف بابن أبي العزاقر. وهذا رجل كان من المحتمل أن يكون سفيرا، أي في طبقة السفراء الأربعة للإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف. إذ كان في طبقتهم، وعنده كتب كثيرة. حتى أنه لدينا روايات - من جملتها - يسألون الإمام، عن طريق الحسين بن روح، أنه ماذا نصنع بكتب أبي العزاقر وبيوتنا ملأى منها؟ بالرسالة العملية خاصته، كتبه الاعتقادية، روايات مختلفة، رجل مؤلف، وعالم كبير ومنتج؛ لأنه ليس كل أصحاب الأئمة كانوا كتَّابا. لا، هذا كان - فوق أنه كان عالما وراويا - كان كاتبا أيضا. ويظهر أن كتبه كانت منتشرة بين شيعة أهل البيت؛ لذلك اضطروا إلى السؤال عن طريق الحسين ابن روح، أنه: ماذا نصنع بكتبه وبيوتنا ملأى منها؟ والحال أنه فيما بعد طلع اللعن بشأنه. أريد أن أقول لك: أنه – أي ابن أبي العزاقر - وصل إلى هذه المرتبة، وكان يُتوقع أن تصل السفارة والنيابة الخاصة له، بعد عثمان بن سعيد، ومحمد بن عثمان. فنحن لدينا سفراء أربعة - كما تعلمون – للإمام الحجة (عج): عثمان بن سعيد العمري، ثم محمد بن عثمان بن سعيد العمري، ثم الحسين بن روح. فلما توفي محمد بن عثمان، السفير الثاني، كان هذا قد رشح نفسه للسفارة. انظر الآن مرجعيات موجودة، فإذا توفي شخص، هناك صف آخر وراءه، يرشح نفسه للمرجعية. هذا أيضا كان قد رشح نفسه للسفارة؛ لما يرى أنه صاحب منزلة، وفضيلة علمية، وإلى آخره.
ثم جاء التوقيع من الإمام (عج) بتعيين الحسين بن روح، فأخذه الحسد عليه. فهذا ما هي قيمته أصلا؟ كيف يُقدم عليَّ؟ هذا أصلا لا قيمة له؟ أنا الذي لا بد أن أصبح محله. وهذه قد تحصل بين العلماء والعياذ بالله. فهذا ما هي قيمته، لا يفهم، ولا يعرف، ولا كذا. أنا أعلم منه، وأفضل منه، وكذا. فهذا أعلنها بهذا الشكل: أن هذا خطأ، وليس صحيحا، ولا يمكن، فهذا رجل ليس عنده فهم أو علم. فبدأ خطـا دفعه إلى الحسد، ثم إلى بداية خط انحراف عن أهل البيت (ع).
فاعترض على أن هذا من يعينه؟ ثم إذا عينه صاحب الزمان، يتبين أن هذا كلامه ليس دقيقا، لا يعرف في هذه الأمور. ليس عنده تقييم عادل للأشخاص. وبدأ في طريق الانحراف، فصدر اللعن بشأنه من الإمام الحجة (عج)، وأن هذا ملعون من قبلنا ومطرود من رحمة الله، ولا تلتفتوا إليه؛ لماذا؟ لأنه لم يكن يرى هذا الرجل – السفير الثالث – مؤهلا للسفارة. لا بد أن تكون له هو. ماذا أن تصبح لذاك! فحسد الحسين بن روح النوبختي، وأدى به هذا الحسد إلى الانحراف.
يقول العلامة الحلي، رضوان الله تعالى عليه: "محمد بن علي الشلمغاني، ويعرف بابن أبي العزاقر، له كتب وروايات. كان مستقيم الطريقة، متقدما في أصحابنا"، في الطليعة، "فحمله الحسد لأبي القاسم بن روح"، يعني: الحسين، "على ترك المذهب"، انتهى به أن ترك المذهب، "والدخول في المذاهب الرديئة؛ حتى خرجت فيه توقيعات"، يعني: من صاحب الزمان، "بلعنه وطرده".
فمن الممكن أن عالما بهذا المستوى يحسد. ومن الممكن أن يكون دونه. في زوجات رسول الله (ص)، وإن كان بعضه أدخل في الغيرة منه في الحسد، إلا أن بعض زوجات رسول الله (ص)، من لا يقبلن من النبي (ص) حتى ذكر خديجة (ع). مع أنها توفيت في وقت مبكر، لكن هذا المقدار من ذكرها، من ذكر رسول الله (ص) لها، لم يكن يُتحمل. فإذن هذا: من يحسد من؟
قبل أن ينتهي الوقت، نشير إشارة سريعة: لماذا يحسدون؟ الأمر الأول في الحسد، هو: عدم الرضا بقسمة الله عز وجل، وهذا في أول درجة منه. وقد يكون هينا، لكن إذا صعد، قد يصل أحيانا إلى الكفر، من حيث أنه اعتراض على الله عز وجل. أنا أقول: لماذا هذا فلان غني وأنا فقير؟ ثم بعد قليل أقول: مؤكد أن من أغناه، لا يفهم؟ كيف هكذا؟ أنا أكثر حلاوة منه، وأنا أسرتي كذا وكذا، لكنه يعطي هذا المدقع هذه المبالغ من المال! وأنا على حلاوتي لم يعطني شيئا. لدى ذاك زوجة صالحة وجميلة، إلى آخره، فيقول هذا: أهذا يستحقها؟ لا بد أنا تكون لي. لدى ذاك شهرة ووجهة ومنزلة عند الناس، فيقول هذا: لماذا يعطي الله هذا هكذا؟ فيبدأ يشكك في قِسم الله عز وجل، وأن ما يصدر عنه ليس لحكيم وفاهم. مؤكد في الأمر خطأ. فهذا ينتهي إلى الاعتراض على الله عز وجل، وإلى نسبة الظلم له. يقول: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ). نحن لدينا حكمة، وهي: (لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا)، وهذا لا يعني أن يسخر منه، وإنما ماذا؟ يستخدمه.
أنت الآن في حياتك الاجتماعية تستخدم الخباز، ورب عملك يستخدمك، والتاجر يستخدم رب العمل، ولو على هذا المعدل، استخداما غير مباشر، ولكن على ضوئه تقوم الحياة الاجتماعية. فلو أن القضية تركت للإنسان نفسه، أي: أنا أقسم، أنا أريد أن أصبح هنا، أو هناك، وأن أكون كذا وكذا. وأنت أيضا، تريد أن تصبح في أعلى الدرجات، وأنا أيضا في أعلى الدرجات، وهذا كذلك في أعلى الدرجات، ورابع، وخامس: مثلنا، النظام الاجتماعي يختل. (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ). فالغرض أيضا، بعد أن رفعنا بعضهم فوق بعض درجات، (لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا)، بمعنى: أن بناء الحياة الاجتماعية على أساس: أنني أنا أستهلك ما تنتج أنت، وغيرك يستهلك ما أنا أنتج، والرابع يستهلك ما لهذا الثالث، وعلى هذا المعدل.
فأولا، من المشكلات: عدم الرضا بما قسم الله عز وجل. ونعم ما قال ذلك الشاعر، قال: "أيا كل من كان لي حاسدا"، "أتدري على من أسأت الأدب"، "أسأت على الله في حكمه"، "إذنك لم ترض لي ما وهب".
في الواقع، أنت لا تعترض علي وتحسدني أنا، بل تعترض على ربك؛ لأنه هو الذي قسم بين العباد معيشتهم. فكان الأولى بك أن تبارك – كما ورد في حديث نشير إليه إن شاء الله في وقت لاحق – "هَلَّا بَرَّكَت"، يعني: قل: بارك الله له، وبارك عليه، ورزقني مثله وخيرا منه. هذا أحسن لك وله. "هّلَّا غَبَطْتَهُ عَلَى مَا عِنْدَهُ"، فتقول: هنيئا لفلان هذا التوفيق اللي عنده، هنيئا لفلان اللي عنده لأنه يستطيع أن يخدم به دينه وأهله ومجتمعه. طيب. هنيئا لفلان هذه الزوجة المطيعة؛ لأنها تعفه عن الذهاب إلى الحرام. هنيئا له هذه الذرية الطيبة، وهكذا، وتطلب من الله أن يعطيك خيرا منه، وليس فقط مثله. فهذا موقف طبيعي وحسن، بدل أن تعترض على هذه القسمة الإلهية.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم لاجتناب هذه الأخلاق الذميمة والأمراض السقيمة، التي تفسد حياة الإنسان، وأن يجعلنا غابطين مغبوطين وحامدين ومحمودين، إنه على كل شيء قدير. وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين. |