الخلق الذميم : الحسد 5
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 14/4/1438 هـ
تعريف:

 

الخلق الذميم: الحسد

كتابة الأخت الفاضلة أمجاد عبد العال

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أبي القاسم المصطفى محمد

وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين المعصومين المكرمين

جاء في دعاء في الصحيفة السجادية، بعنوان: في الاستعاذة من مذام الأفعال وسيء الخلق، عن إمامنا زين العابدين (ع): "اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَيَجَانِ الْحِرْصِ وَسَوْرَةِ الْغَضَبِ وَغَلَبَةِ الْحَسَدِ وَضُعْفِ الصَّبْرِ وَقِلَّةِ الْقَنَاعَةِ وَشَكَاسَةِ الْخَلْقِ وَإِلْحَاحِ الشَّهْوَةِ"، إلى آخر دعاء الإمام (ع). كما أنه يوجد لدينا في الصحيفة السجادية دعاء بعنوان: مكارم الأخلاق: "اللهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَبَلِّغْ بِإيِمَانِي أَكْمَلَ الإِيمَانِ، وَاجْعَلْ يَقِينِي أَفْضَلَ الْيَقِينِ".

كذلك، فإن هناك دعاء في الطرف الآخر، وهو السيئات الأخلاقية. ونحن نعلم أن أحد أغراض الدعاء هو التثقيف والتربية الأخلاقية وتعريف الإنسان بنفسه. ضمن هذا الإطار، جاء الحديث عن جملة من السيئات الأخلاقية، والمشاكل النفسية، والأمراض الداخلية عند الإنسان.

في بعض الأحيان، تكون معرفة المرض أكثر أهمية من معرفة الصحة، وتكون معرفة الشر أهم - أحيانا - من معرفة الخير. أنت لو لم تعرف - مثلا - أعراض الصحة، ربما لا يصيبك شيء. لكن – لا سمح الله ولا قدر – لو لم تعرف أعراض السكر، مثل: زيادة التبول، الإجهاد من غير مبرر، فقدان الوزن من دون حمية أو برنامج، وأمثال ذلك، ربما لا تلتفت أنك مصاب به إلا بعد أن يتفاحش هذا المرض ويستفحل. هنا كان الخير لك أن تعرف أعراض المرض. لا أن تعرف أعراض الصحة.

وهكذا لو جهل الإنسان – مثلا – أعراض الأزمة القلبية – أجاركم الله وإيانا والمؤمنين منها – لم يلتفت إلى أن الألم الخاص في الصدر، أو خلف الكتف، أو التعرق غير المبرر، أو أمثال ذلك من ضيق التنفس، مما يذكره الأطباء كنذر ومنبهات على أزمة قلبية قادمة، لو لم يتعرف الإنسان على تلك الأعراض – أعراض المرض، على الشر، على السوء، من الممكن أن تحصل له الأزمة القلبية، ولا يستطيع أن يتداركها. فتقضي عليه. بينما لو كان متعرفا على أعراض المرض، لا على أعراض الصحة، إلى منبهات المرض، ربما كان يستطيع أن يتدارك الأمر.

من هذا المنطلق، كان أئمة الهدى عليهم السلام، وقبل ذلك القرآن الكريم. تنبه نصوص القرآن الكريم وأحاديث المعصومين (ع) على جوانب الشر، وعلى مساوئ الأفعال، وعلى الأمراض النفسية، وهكذا. بل نال بعض أعاظم أصحاب رسول الله (ص)، ولذكره صلوا عليه، اللهم صل على محمد وآل محمد. وفي طليعتهم: حذيفة بن اليمان العنسي، وهذا كان من أعاظم صحابة رسول الله، من القلائل النوادر الذين كانوا يعرفون المنافقين بأسمائهم، ويحددون الخطوط المنحرفة في مجتمع المدينة بشكل دقيق. وهو من النفر القلائل الذين شاركوا في تشييع ودفن فاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه عليها. حذيفة بن اليمان العنسي، ذو مرتبة عظيمة عند رسول الله (ص). وفي فضله توجد أحاديث كثيرة. وكان ممن انتهج منهاج أمير المؤمنين (ع).

هذا منقول عنه من الفريقين. أي هذا الحديث عنه موجود في مصادر مدرسة الخلفاء وموجود أيضا في مصادر مدرسة أهل البيت (ع): أنه كيف بلغ ما بلغ؟! وكيف وصل إلى ما وصل؟! يشير إلى ذلك بقوله: "كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ (ص) عَنِ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِ". كان أصحاب رسول الله يسألون النبي عن الجوانب الإيجابية، وكنت أسأله عن الجوانب السلبية، عن الشر، عن الخطوط المنحرفة، عن الأشياء التي تؤدي بالإنسان إلى الهلاك. فمن الطبيعي، إذا تعرف على ذلك بالتفصيل، يحدد اتجاهه بشكل صحيح.

ضمن هذا الإطار، نحن نتحدث عن جملة من الصفات الخلقية السيئة التي قد توجد لدى الإنسان؛ لكي نعرف آلية حدوثها في الإنسان. كيف تحصل فينا؟ حتى نتقيها. ما هي الوسائل التي تعين الإنسان أن يجتنبها؟ بواسطة هذه الوسائل يجتنب الإنسان العارف مثلا، القسوة، يجتنب بذاءة اللسان، يجتنب شكاسة الخلق، يجتنب النزق والطيش، يجتنب الحسد وأمثاله، وهكذا.

وحديثنا في هذا اليوم، يتناول موضوع الحسد، أجارنا الله وإياكم والسامعين منه. الحسد من الصفات النفسية التي قد تتحول إلى شيء خارجي، ممارسة لسانية، أو ممارسة فعلية. جوهر الحسد، هو: أن يتمنى شخص زوال نعمة غيره، إما لتصل إليه، أو أن تزول حتى لو ما وصلت إليه. فالمهم: أن تزول. فهذا في رأيه لا يستحقها. "كيف أعطاه الله هذا المال؟"، " كيف أعطاه الله هذه الثروة؟"، " كيف أعطاه الله هذا الجاه الاجتماعي؟"، "كيف أعطاه الله هذا العلم؟"، "كيف أعطاه الله هذه النعم؟"، هو لا يستحقها. لو كان الأمر بيده لحجبها عنه.

وهذا يختلف عن الغيرة. قسم من الناس - أحيانا - يخلط بين الغيرة وبين الحسد. هناك فرق دقيق بينهما: الغيرة هي: أن إنسانا يملك شيئا ويخشى من مشاركة آخرين له في هذا الشيء. على سبيل المثال: زوجة، تظن أنها تملك زوجها. فإذا جاءت امرأة أخرى، تعتبر أن هذه الأخرى تشاركها فيما تملك، فتغار منها، وتتخذ منها موقفا سلبيا. الأخ – على سبيل المثال – يتمنى أن يصل إليه ميراث والده. فإذا جاء له أخ، يعتبر أن هذا الأخ سيشاركه في ذلك الميراث، الذي كان سيصل إليه وحده، أما الآن فهناك مزاحم له فيه، فيغار منه. ولد كان يتمتع بمشاعر وعواطف أمه وأبيه. حتى رُزقا بولد آخر. الآن هذا الولد الآخر، سوف يشارك أخاه في تلك العواطف التي يتصور أخوه أنها ملكه الخاص، فالحنان لا بد أن يكون كله إليه، فإذا أتى واحد، أو توأم، يصبح الأمر مقسما على أفراد متعددين؛ ولذلك يغار منهم. وهكذا. هذا الطرف الغائر له علاقة ولو بدرجة من الدرجات، بهذا المال أو بهذه العواطف أو ما شابه ذلك. فيعتقد أنه يملكها.

لكن هذا الحاسد أسوأ حالا. إذ ليس له أي ارتباط مع مال زيد. لا أبوه قسمه بينهما، ولا مرت عليه. ذاك من عشيرة وهذا من عشيرة، ذاك في بلد وهذا في بلد. لا رابطة بينهما، مع ذلك ينفس عليه ويصعب أن يحظى هذا بمال وهو محروم منه، يحظى بزوجة جميلة مطيعة وهو لا يملكها. فيتمنى لو زالت هذه النعمة منه. وهو – أي الحسد - على درجات.

الشهيد الثاني أعلى الله مقامه، أحد كبار علمائنا من جبل عامل، له تأليفات عظيمة جدا، ويعد من أعلم علماء الإسلام، من أعلم علماء الطائفة، وله كتب متنوعة، كثيرة جدا، ونافعة جدا، والذين يدرسون في الحوزة العلمية يعرفون مرتبة الشهيد الثاني من الناحية العلمية.

له كتاب – من جملة كتبه – جُمع بعنوان: رسائل الشهيد الثاني. فيه رسالة بعنوان: كشف الريبة في أحكام الغيبة. هناك ذكر أن الحسد من مسببات الغيبة. فبحث شيئا ما عن موضوع الحسد الذي قد يسبب غيبة. فمثلا: أنت تذكر إنسانا بكلام حسن: "ما شاء الله، فلان، الله وفقه، جمع له مالا وعمل خيرا لآخرته، صنع كذا وكذا وكذا"، هذا الإنسان الذي يريد أن يغتابه، أي الحاسد له، ماذا يقول؟ يقول: "مو المهم الواحد أن يعطي فلوس، المهم أن يكون صافي النية"، معنى ذلك ماذا؟ أن ذاك ليس صافي النية. تقول: "ما شاء الله، فلان، رجل، عالم، فقيه، عنده مخزون علمي كبير، قاعد ينفع المجتمع، طيب"، فيأتي لك ذلك الحاسد بإشكال من نوع آخر، "إيه لكن تقليده كذا وكذا"، هذا في الواقع الذي يحركه على الغيبة، ماذا؟ حسد منه. فيذكر هناك – أي في كتاب الرسائل - الشهيد الثاني رضوان الله تعالى عليه، درجات ومراتب الحسد. وهي درجات جدا دقيقة وجميلة. أنقلها عنه رضوان الله عليه، يقول: "للحسد، أربع مراتب"، أربع درجات، "الأولى: أن يحب زوال النعمة"، أي الحاسد، "أن يحب زوال النعمة عن المحسود وإن كانت لا تنتقل إليه"، المهم: أن يخسر صاحب المال في الأسهم للحد الذي يضرب فيه رأسه بالأرض. أنت ماذا تستفيد من هذا؟ ليس مهما أن يستفيد هو شيئا، المهم: أن يخسر ذاك وتزول النعمة عنه. يرى شخصا عنده زوجة صالحة، فيتمنى لو تموت تلك بالسرطان. ذلك الحين علام تحصل أنت؟ ماذا تستفيد؟ لا شيء. ولكن المهم أن ذلك الطرف المحسود يفقد تلك النعمة. يقول: "وهذا غاية الخبث وأعظم أفراد الحسد". يتمنى زوال النعمة حتى لو لا يصل شيء منها إليه. حتى لو تلك الزوجة لفلان، لو تموت، لا يحصل له الزواج منها، مع ذلك هو يسر بذلك ويرتاح. يتمنى لو يخسر فلان أمواله التي لو خسرها لن تأتي إليه، بل ستذهب لغيره، مع ذلك يتمنى. يتمنى دكان علان يحترق، متجره يتدمر، ليتدمر حتى لو لن يحصل هو على شيء. وهذا أعظم أنواع الحسد خبثا. ويكشف عن نفس مريضة للغاية. هذه هي المرتبة الأولى، "التوب" في الحسد، كما يقولون.

المرتبة الثانية: أن يحب زوال النعمة إليه لرغبته فيها، لا مجرد زوالها عن صاحبها. كما لو أنه يريد – لنفترض – أن يطلق زوج زوجته حتى يتزوجها هو. أو أن يخسر فلان أمواله وهو يربحها، كأن ينتكس وضعه في الشركة الفلانية وبدل أن تكون أمواله له تصبح أموال الحاسد هذا. هذا درجته أدنى، لكنه حسد سنأتي على حكمه. فذاك حرام وهذا.

الثالثة: "ألا يشتهي عين تلك النعمة، بل يشتهي لنفسه مثلها، فإن عجز عن مثلها، يحب زوالها كي لا يظهر التفاوت بينهما". لا يحب أن يحصل على عين مال فلان، ولا أن يتزوج زوجة علان بذاتها، ولا أن يكون العلم الذي يملكه فلتان يصبح عنده، وإنما يتمنى لنفسه مثل ذلك. إذا ذاك لديه مليون ريال، فهو يتمنى 250 ألف دولار مثلا. ليس نفسها – أي تلك النعم على فلان – يريدها أن تأتي إليه وتصبح له. بل إذا هذه الزوجة فلانة مطيعة وموافقة، فهو يتمنى زوجة مثلها أيضا، مطيعة موافقة لكن فلتانة. لتبقى تلك عند ذاك. يتمنى علما، أي يصبح عالما، فإذا كان في هذه المنطقة فلان هو عالم البلد، فلا يتمنى أن يصبح هو مكانه، بل أن يصبح عالما في مكان آخر. لكن هذا لا يحدث أحيانا، فيذهب باتجاه تمني زوال النعم عن أولئك، حتى لا يصبح بينه وبينهم أي فرق.

فكما أني بلا أموال، ليبقى هو دون أموال أيضا. ما دامت تلك الأموال لن تكون لي بعينها، ولن يكون لي مثلها، ليخسرها ويعود فقيرا تماما كما أنا. ليس هو بأحسن مني في شيء قط. ما دام ليس له العلم الذي عنده، ولا أستطيع طلبه بالقدر الذي يجعلني مثله، أتمنى أن يصاب بزهايمر – مثلا – حتى لا يعود يعرف شيئا كما أنا. فلا يتكبر علي بنحو أو يتباهى. في العمل، بدل أن يكون هو رئيسا، أو تكون هي رئيسة، وأنا غير قادر على ذلك، أتمنى لو تنزل درجتها الوظيفية منزلتي فلا تتباهى علي بها. هذا أيضا حسد. وهذه الأنواع الثلاثة محرمة شرعا. وإذا أصر عليها الإنسان تفقده العدالة؛ ولذلك بحثوا هذا الموضوع أيضا في مبحث: القضاء والشهادات: أنه يشترط في الشاهد أن يكون عادلا. فمن جملة مفسدات العدالة أن يكون الإنسان حاسدا وحسودا لإخوانه.

والحسد: مرة يكون داخل القلب، وهذا قد لا يؤاخذ به الإنسان وإنما بينه وبين الله يتبين أن قلبه ليس نظيفا. ومرة: يظهر إما بكلام: كغيبة، تشويه سمعة، تندر عليه، حط من قدره – "هذا ما يستاهل"، "هذا مجمع فلوسه بالبوق"، "هذا ما أدري فلان حاشي عليه"، "هذا كذا"، "هذا كذا" ... "فلانة ما صارت رئيسة إلا لما خانت شرفها في الما أدري كذا وكذا ويا فلان". وهكذا يحدث الحسد، وتجري الغيبة والتهمة على لسان الإنسان. وأحيانا الأمر أكثر من هذا، فيظهر فعلا: كأن يذهب الحاسد بنفسه إلى مكان عمل المحسود لإفساده عليه. فهو يحاول ليس فقط بالكلام عليه، وإنما يذهب فعليا في أن يفسد أمر المحسود ويخربه عليه.

إن شاء الله نتحدث عن بعض ما حدث في التاريخ وما ذكر في القرآن الكريم - في أحاديث أخرى - عن الممارسات التي يتخذها الحاسدون تجاه المحسودين. فهذه ثلاث درجات وثلاث مراتب محرمة.

أما المرتبة الأخيرة: فهي مرتبة الغبطة. وهي: أن يشتهي الحاسد لنفسه مثل ما عند المحسود، فإن لم يحصل عليه، لا يحب زواله عنه. يرى – مثلا - عند ذلك الطرف مالا، فيقول: ليت عندي مثل ما عنده، يا رب ارزقني كما رزقته. يراه صاحب علم، فيقول: يا رب مثل ما رزقته علما ارزقني. هنيئا له، أحسن صنعا، صرف عمره في أمور مفيدة ونافعة، يغبطه في ذلك، دون أن يتمنى أن تزول من عنده النعمة، وإنما أن يصبح له مثلها: يا ليت عندي من المال ما عند فلان، يا ليت عندي من العلم ما عند فلان، يا ليت عندي من التوفيق ما عند فلان. انظر كيف هي ذرية فلان، طيبة وصالحة، يا ليت ذريتي كذلك. هنأه الله ورزقني.

وهذه هي الغبطة التي تكون في المؤمنين. حيث ورد عن نبينا محمد (ص): "إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيَغْبُط وَالْمُنَافِقَ يَحْسُد". فالمؤمن لا يحسد، وإذا حسد شخص شخصا آخر، يتبين أن خللا ما في إيمانه.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجنبنا سيئات الأفعال ومذام الأخلاق وأن يكرمنا بمكارم الأخلاق وأن يجعلنا نغبط غيرنا على ما أنعم الله به عليهم وأن نسأله المزيد لهم وأن يرزقنا مثل ما رزقهم، ففي هذا ثواب للإنسان عندما يدعو لغيره. تقول: اللهم بارك له، اللهم زده من عطائك، وازرقنا كما رزقته، وأعطنا كما أعطيته، وارفعنا كما رفعته. وهذا تحصل به المثوبة، وهذا أحرى بالإجابة. نسأل الله يوفقنا لذلك وأن يكرمنا به إنه ولي التوفيق والقادر عليه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.

 

 

 

مرات العرض: 3403
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2578) حجم الملف: 28199.71 KB
تشغيل:

اكتساب الأصدقاء أو العزلة أفضل ؟
كيف تحدث القرآن عن الحسد 6