اكتساب الأصدقاء أو العزلة أفضل ؟
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 10/9/1437 هـ
تعريف:

اكتساب الأصدقاء أو العزلة أفضل؟


كتابة الاخت الفاضلة أمجاد عبد العال
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أبي القاسم المصطفى محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين المعصومين المكرمين
عن أبي عبد الله، جعفر بن محمد الصادق، سلام الله عليه، كما ورد في الكافي، قال: "كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيهِ السَّلَامُ إِذَا صَعَدَ الْمِنْبَرَ، قَالَ: يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَجَنَّبَ مُؤَاخَاةَ ثَلَاثَة: الْمَاجِنُ الْفَاجِرُ، وَالْأَحْمَقُ وَالْكَذَّابُ. فَأَمَّا الْمَاجِنُ الْفَاجِرُ: فَيُزَيِّنُ لَكَ فِعْلَهُ، وَيُحِبُّ أَنَّكَ مِثْلُهُ، وَلَا يُعِينُكَ عَلَى أَمْرِ دِينِكَ وَمَعَادِكَ، وَمُقَارَبَتُهُ جَفَاءٌ وَقَسْوَةٌ، وَمَدْخَلُهُ وَمَخْرَجُهُ عَارٌ عَلَيْكَ. وَأَمَّا الْأَحْمَقُ: فَإِنَّهُ لَا يُشِيرُ عَلَيْكَ بِخَيْرٍ، وَلَا يُرْجَى بِصَرْفِ السُّوءِ عَنْكَ وَلَوْ أَجْهَدَ نَفْسَهُ، وَرُبَّمَا أَرَادَ مَنْفَعَتَكَ فَضَرَّكَ، فَمَوْتُهُ خَيْرٌ مِنْ حَيَاتِهِ، وَسُكُوتُهُ خَيْرٌ مِنْ نُطْقِهِ، وَبُعْدُهُ خَيْرٌ مِنْ قُرْبِهِ. وَأَمَّا الْكَذَّابُ: فَإِنَّهُ لَا يَهْنَأْكَ مَعَهُ عَيْشٌ، يَنْقُلُ حَدِيثَكَ، وَيَنْقُلُ إِلَيْكَ الْحَدِيثَ. كُلَّمَا أَفْنَى أُحْدُوثَةً مَطَرَهَا بِأُخْرَى مِثْلِهَا، حَتَّى أَنَّهُ يُحَدِّثُ بِالصِّدْقِ فَمَا يَصْدُقُ، وَيُفَرِّقُ بَيْنَ النَّاسِ بِالْعَدَاوَةِ فَيُنْبِتُ السَّخَائِمَ فِي الصُّدُورِ، فَاتَّقُوا اللهَ عَزَّ وَجَلَّ وَانْظُرُوا لِأَنْفُسِكُم".
هذه الكلمات تشكل جزءا من خطبة أمير المؤمنين إذا صعد على المنبر، كما ينقلها الإمام الصادق (ع)، عن جده أمير المؤمنين، وينقلها بسنده، الشيخ الكليني في الكافي. لتكن هذه الكلمات العطرات مدخلا لحديثنا عن العلاقة المطلوبة بين الإخوان والأصدقاء، ضمن أحاديثنا عن العلاقات الاجتماعية.
بدأنا بالحديث عن العلاقات الزوجية، ثم أتبعناها بالحديث عن العلاقات الأسرية، ونتحدث بدءا من هذا الحديث في علاقات أبناء المجتمع فيما بينهم، وأول علاقة تتصور: هي علاقة الصداقة بين الناس.
من المعلوم أن الإنسان كائن اجتماعي، لا يستطيع أن يعيش وحده، فإن حاجاته مرتبطة بغيره، وأنسه يحصل بالتواصل مع الآخرين. لكننا – مع ذلك – نجد روايات عن المعصومين منقولة تحبذ العزلة والانفراد وعدم الاختلاط، فما هو الأفضل بناء على ذلك؟ هل أن الأفضل أن ينعزل الإنسان عن المجتمع، يكتفي مثلا بأسرته، ينشغل بعمله الخاص المعاشي، يتعبد ربه، وينصرف عن هذه اللقاءات الاجتماعية والصداقات والتواصل مع غيره. هل هذا هو الأفضل؟ أو أن الأفضل أن يكون على عكس ذلك: له علاقات واسعة، صداقات متعددة، حضور في المجتمع. أيهما الأفضل؟ مع أن الرواية يوجد فيها كلا القسمين.
فمن الروايات التي تحبذ العزلة والانفصال عن المجتمع، ما ورد وروي عن الإمام الكاظم (ع): أنه قال لهشام بن الحكم، أحد تلامذته، قال: "يَا هِشَامُ، الصَّبْرُ عَلَى الْوِحْدَةِ عَلَامَةُ قُوَّةِ الْعَقْلِ" إذا إنسان يكون صابرا على الوحدة والعزلة، يتبين: أن عقله قوي وكبير. "فَمَنْ عَقِلَ عَنِ اللهِ، اعْتَزَلَ أَهْلَ الدُّنْيَا وَالرَّاغِبِينَ فِيهَا، وَرَغِبَ فِيمَا عِنْدَ اللهِ". العاقل الحكيم، بناء على هذه الرواية هو من يعتزل أهل الدنيا، ويرغب عنهم، يتركهم، وينفرد بربه سبحانه وتعالى. في روايات غرر الحكم لأمير المؤمنين (ع) - هناك كتاب ألفه أحد العلماء، واسمه: الآمدي. جمع فيه قصار كلمات أمير المؤمنين، سماه: درر الكلم وغرر الحكم، كلمات مختصرة عن الإمام ولكن فيها معان واسعة – ورد أن: "الانْفِرَادُ رَاحَةُ المُتَعَبِّدِينَ"، وفي كلمة أخرى: "مَنْ انْفَرَدَ عَنِ النَّاسِ صَانَ دِينَهُ"، وفي رواية ثالثة: "السَّلَامُةُ بِالتَّفَرُّدِ"، الانفراد، وفي رابعة: "مَن ِانْفَرَدَ عَنِ النَّاسِ أَنِسَ بِاللهِ سُبْحَانَهُ". وفي رواية عن سيدنا ومولانا رسول الله محمد (ص) أنه قال: "أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ رَجُلٌ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَيُقِيمُ الصَّلَاةَ وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ وَيُعْمِرُ مَالَهُ وَيَحْفَظُ دِينَهُ وَيَعْتَزِلُ النَّاسَ"، يقوم بالأمور العبادية، يكسب معاشه، يحفظ دينه، يعتزل الناس. وأمثال ذلك من الروايات التي هي كثيرة، وتحبذ جانب العزلة والانفراد عن الناس. هذا قسم من الروايات.
في مقابل هذه، هناك قسم من الروايات تتحدث عن أن المناسب للإنسان أن يكون في المجتمع. أن يشهد مناسباتهم، أن يهنئ في موارد التهنئة، ويعزي في مواضع التعزية، ويحضر المساجد والجنائز وغير ذلك. ليس فقط لحدود أهل مذهبه، بل حتى فيما هو الأوسع من ذلك من غير أهل مذهبه. فمثلا، من الروايات ما ورد عن الإمام الصادق (ع)، في بعض كالحديث، قال: "عَلَيكُمْ بِالصَّلَاةِ في الْمَسَاجِد" والصلاة في المساجد مخالفة لموضوع الاعتزال، لا بد أن يذهب إليها المرء، وأن يرى الناس هناك، ويرونه. "وَحُسْنِ الْجِوَارِ لِلنَّاسِ"، أيضا كذلك، "وَإِقَامَةِ الشَّهَادِةِ"، لو دعي الإنسان ليشهد في قضية من القضايا، ويؤديها؛ ليحق حقا أو يبطل باطلا، فإنه ينبغي أن يسارع إلى أدائها، "وَإِقَامَةِ الشَّهَادِةِ وَحُضُورِ الجَنَائِز"، ثم يعلل ذلك الحديث، "إِنَّهُ لَا بُدَّ لَكُم مِنَ النَّاسِ"، أنتم تحتاجون إلى الناس، ولا بد لكم منهم، فإذن ينبغي أن تشاركوا في مناسباتهم، ثم يقول: "إِنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَغْنِيَ عَنِ النَّاسِ فِي حَيَاتِهِ وَالنَّاسُ لَا بُدَّ لِبَعْضِهِم مِنْ بَعْضٍ" فهذه الرواية وأمثالها، تشير إلى أن الأفضل والمطلوب هو: أن يكون الإنسان ذا حضور اجتماعي.
في رواية أوضح من ذلك، يقول أحد المعصومين (ع): "الانْقِبَاضُ مِنَ النَّاسِ مُكْسِبَةٌ لِلْعَدَاوَةِ"، إذا انقبضت عن الناس وتركتهم، وانصرفت عنهم، ولم تأت إليهم، فهذا يصنع سوء ظن بك، وينتهي إلى اكتساب العداوة. فالناس سيتكلمون عنك أن هذا كذا وكذا، فيكسبك الانقباض عنهم عداوتهم.
في رواية ثالثة: "عَلَيْكُم بِالْوَرَعِ وَالْاجْتِهَادِ، اشْهَدُوا الْجَنَائِزَ، وَعُودُوا الْمَرْضَى، وَاحْضُرُوا مَعَ قَوْمِكُم مَسَاجِدَكُم، وَأَحِبُّوا لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّوا لِأَنْفُسِكُم، أَمَا يَسْتَحِي الرَّجُلُ مِنْكُم أَنْ يَعْرِفَ جَارُهُ حَقَّهُ وَلَا يَعْرِفُ حَقَّ جَارِهِ". هذه أيضا كأنما ناظرة إلى غير أبناء المذهب، بالإضافة إلى أبناء المذهب. أنه ألا يستحي الواحد أن ذلك الجار الذي هو من غيره يعرف حقه، مثلا: يهدي إليه شيئا، يذب عنه الأذى، يحسن جواره، بينما هو لا يفعل ذلك بالنسبة إلى جاره. ألا يستحي من ذلك!
والرواية المعروفة عن أمير المؤمنين (ع) في قوله: "أَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجِزَ عَنِ اكْتِسَابِ الْإِخْوَانِ وَأَعْجَزَ مِنْهُ مَنْ ضَيَّعَ مَنِ اكْتَسَبَهُم". هذا الإنسان الذي لا يستطيع أن يصادق سائر الناس، إنسان عاجز. ليس عنده كفاءة، ليس عنده قدرة، لماذا؟ لإن هذا الموضوع لا يحتاج إلى إنفاقات. لو كان عملا استثماريا فسيحتاج منك إلى المال. لكن هذا الأمر – اكتساب الإخوان – لا يحتاج إلا إلى بشر الوجه، الابتسامة، طلاقة اللسان، حسن الكلام. وهذا لا يكلفك شيئا.
فإذا حتى بهذا المقدار، لو كنت عاجزا فيه، فأنت أعجز الناس. هناك قسم منهم ليس عنده قدرة أن يكون في مكان، وأن يعيش سنينا وينتهي على غير معرفة بأحد أو صداقة مع أحد ولم يشكل أي علاقة اجتماعية. مع أنه لن يطالب بشيء لو تعرف وصادق، لن ينفق من ماله، أو من بدنه. فقط بدل من أن يكون عبوسا، سيكون مبتسما.
لذلك يقول أيضا في شرح هذا الحديث: "أَنَّكُم لَنْ تَسَعُوا النَّاسَ بِأمْوَالِكُم فَسَعُوهُم بِطَلَاقَةِ الْوَجْهِ وَحُسْنُ اللِّقَاءِ". زين. فإذن صار عندنا قسمان من الروايات، رويات تقول: الأفضل للإنسان أن يحفظ دينه، أن يكسب معاشه، وأن ينفرد عن الناس، ينشغل بأمره، ما له شغل في هذا ولا في ذاك. السلامة في العزلة، الانفراد أفضل. وهناك روايات أخر تخالف هذا وتقول كلا: هذا عجز، أن لا يستطيع الإنسان اكتساب الآخرين. عليكم بطلاقة الوجه وحسن البشر ولا ينبغي أن يكون جارك خير منك في علاقته الاجتماعية معك.
فكيف يمكن أن نجمع بين هذه الكلمات؟ لأنه بالتالي كلمات المعصومين (ع) لا يوجد فيها تخالف، ولا تناقض. وهذه مشكلة. أحيانا قسم من الناس من ينفتحون بالقراءة على كلمات المعصومين، فيجدون مجموعة من الروايات بشكل معين، ويذهبون وراءها، فينعزلون عن الناس، وينفردون، ويرفعون يدهم عن كل أحد، يضمون أنفسهم - بحسب التعبير المحلي - لماذا؟ يقول: لأني رأيت الروايات تحث على هذا. أو قسم آخر، يطالعون الروايات من الفئة الثانية، فيتوسعون في شؤونهم الاجتماعية، يجيئون ويذهبون، شغلهم الناس. أين عبادتكم؟ اعتكافكم؟ شغلكم على أمر آخرتكم؟ عملكم لأسرتكم وعائلتكم؟ يكونون قد استُفرغوا بشكل كامل في العلاقات الاجتماعية. كل منهما يكون منهما قد نظر إلى جانب من الجوانب. وهذه مشكلة من المشكلات التي لا ينبغي فيها للإنسان غير البصير أن ينظر إلى الروايات أو إلى جانب منها، بل ينظر إلى النتائج.
وأنا هنا أشير إلى ملاحظة: وهي أن الإنسان إما أن يكون له خبرة كافية في معالجة النصوص الدينية، فيعرف في المتعارض وطريقة الجمع وكيفية الحمل، أو ليس كذلك. فإذا كان من النحو الأول: جيد، ليأخذ له كتاب الكافي أو الوسائل وينظر فيه، بلا محذور. وأما إذا لم يكن كذلك، كما هو حال أكثر الناس، ومنهم: من المثقفين أيضا، فالأفضل النظر إلى النتائج لا إلى المقدمات. حسب التعبير: أن ينظر إلى الفتوى لا إلى الرواية. إذا في الفقه، فليس صحيحا أن يراجع الرواية، وإنما يراجع الرسالة العملية. إذا في الأخلاق، فليس صحيحا أن يراجع الروضة من الكافي، وإنما يذهب ليراجع كتاب مكارم الأخلاق أو جامع السعادات مثلا، أو الكتب الأخلاقية التي هي نتائج الروايات. هذا هو الصحيح.
وكذلك الحال بالنسبة للعقائد، فليس صحيحا أن يأتي إنسان ويقول لك: نعم، يوجد في كتاب الكافي، كتاب الحجة، رواية تقول كذا، وكذا. ليس صحيحا أن ينظر الإنسان غير البصير، غير العارف، إلى هذه المقدمات. وإنما ينظر إلى النتائج. ينظر في الكتاب الذي ألفه شخص عارف عالم. نعم، لو كان عنده ملاحظة أو مناقشة على شيء، فليناقش. لكن ذاك بحر عميق، ليس بالضرورة أن يقدر الإنسان على أن يسبح فيه. الشاهد هنا: لدينا صنفان وطائفتان من الروايات. رواية تقول: أن الأفضل للإنسان المؤمن العزلة والانفراد، ورواية أخرى تقول: الأفضل له الخوض في المجتمع وتشكيل العلاقات الاجتماعية. ونحن نعلم أن كلام الأئمة لا يكون متعارضا، لا بد أن يكون منسجما. فكيف تارة يقولون: اترك المجتمع، وأخرى يقولون: ادخل المجتمع.
ذكر العلماء عدة طرق ووجوه للجمع بين الروايات. الطريق الأول: احتمال أن يكون الاختلاف في جهة المتعلق في الخطاب. يعني من المخاطب هنا؟ ومن المخاطب هناك؟ تعلمون أنه أحيانا يكون خطابان؛ لأجل أن المخاطب ليس واحدا. تخاطب امرأة بتكاليف، وتخاطب رجلا بتكاليف أخر. تقول: هذا متناقض. لا، ليس متناقضا؛ لأن هذا مخاطب معين، وذاك مخاطب مختلف. هذا بالغ وذاك غير بالغ، هذا مسافر له خطاب، وهذا حاضر له خطاب آخر. كذلك هنا.
احتمل بعض العلماء أن يكون متعلق الخطاب مختلفا. فيقول لك: عامة الناس الأفضل لهم أن يُدمجوا في المجتمع؛ باعتبار أنه لا يستغني أحد منهم عن الآخر، باعتبار أنهم يأدون حقوق بعضهم بعضا. وبالتالي لا بد أن ينفقوا يومهم في أجزاء متعددة، منها: ما هو مربوط بالعبادة، ومنها: ما هو مربوط بالمنزل، ومنها: ما هو مربوط بحق المجتمع. عامة الناس هكذا. إذن ينبغي أن يدخل عامة الناس في الحياة الاجتماعية. أما من خوطب بالعزلة، فهم صنف من الناس. مثلا: ذاك الإنسان – فرضا الفيلسوف - العالم الذي شغله التحقيق، هذا العابد الزاهد الذي لديه برنامج للسلوك والارتقاء المعنوي، هذا العالم الذي شغله التحقيق والتدقيق والمراجعات، فإذا انشغل بالفواتح والأعراس طوال النهار، متى سيلحق على ذاك الجانب من شغله؟ متى سيتمكن من إنجاز مطالعته؟ متى سيشرع في تحقيقاته؟ متى سيمضي في كتابته؟ متى سيواصل علمه؟ ولذلك. افترض أن شخصا في مقام المرجعية، في مقام الاجتهاد، فالدور الأكبر المطلوب منه: أن يعتصر ذهنه من أجل أن ينتج. فإذا تحول شغله إلى أن يلبس عباءته ويمضي من فاتحة إلى أخرى ومن عرس إلى آخر، فمتى سيستطيع أن يعمل عملا فكريا ونظريا. هذا مطلوب له العزلة والاقتصار على أقل القليل من العلاقات الاجتماعية. هذا مطلوب منه: إنتاج فكري. وإلا العابد الزاهد الذي – لنفترض – لديه برنامج سلوكي، برنامج عبادي خاص. هذا الفيلسوف الذي يحتاج أن يركز ذهنيا، وأن يقضي ساعات من الزمان حتى يحقق في مسألة، فهو المخاطب بتقليل الحياة الاجتماعية. أما ذاك الإنسان الذي ليس لديه هذا الأمر، فلو ذهب وراء الجانب الاجتماعي وأكثر منه فلا مانع. فذاك مطلوب منه التقليل قدر الإمكان؛ لصالح أمر أكثر أهمية. أما هذا فليس مطلوب منه التقليل وإنما اكتساب الإخوان قدر الإمكان. هذا أحد أنحاء الجمع التي ذكرها بعض العلماء.
الاحتمال الثاني من وجوه الجمع: أن الاعتزال مقصود منه شيء، والاجتماع شيء آخر. تعتزل من؟ وتجتمع مع من؟ إذا كان من الأصناف غير الحسنة، غير الجيدة، التي ذكرها الحديث في المقدمة: الماجن الفاجر، والأحمق والكذاب. وفي بعض الروايات: البخيل، وأمثال ذلك، بل أهل الدنيا. أهل الدنيا يعني ماذا؟ يعني ذاك الذي عندما تجلس إليه لا تحصل على فائدة، لا في دين ولا في دنيا. هذر، كلام فارغ. ساعة كاملة وأنت جالس معه، تقوم عنه بعد هذه الساعة فتقول ماذا قبضت من هذه الساعة؟ ساعة انقضت من عمري، كم حصيلتي فيها؟ هل حصلت على فائدة دنيوية؟ لا، فائدة دينية؟ لا، معرفة؟ لا، خبرة؟ لا، وصية حسنة؟ لا. ماذا حصلت؟ هذا إذا لم أحصل منها على إثم بغيبة هذا والكلام على ذاك والتعليق على هذا والسخرية من ذاك.
هذا القسم من الناس أُمِر الإنسان بالاعتزال عنهم. وأما من تحسن مخالطتهم: أهل الدين، أهل العلم والمعرفة، أهل الأخلاق الحسنة، أهل الخبرة، من ينفعك في دنيا أو دين، تجالسه فتكتسب خبرة في الحياة، حتى لو في قضية غير دينية، تجالسه فتحصل على معلومات ولو لوظيفتك. هذا مطلوب منك أن تجلس إليه وأن تتعرف عليه وأن تصادقه.
فإذن، الجمع الثاني، قالوا: أن الاعتزال المطلوب هو اعتزال من لا تنفع العلاقة معه والجلوس إليه: من أصحاب الأخلاق السيئة، أو من أصحاب الجهل، أو ممن قد يكتسب الإنسان ذنوبا بالجلوس إليهم: من سماع غيبة أو نميمة أو سخرية من أحد أو ما شابه ذلك. وأما غير هؤلاء - من أهل الدين والأخلاق والنفع - فينبغي الجلوس إليهم. هذا احتمال ثان.
احتمال ثالث: هو أن يكون المقصود من الاعتزال عن جماعة: الاعتزال عن جماعة بحيث لو التقى بهم الإنسان حُسب عليهم ونُسب إليهم. مثلا: يوجد فلان من الناس صاحب بدعة دينية، فلان من الناس صاحب سلوك أخلاقي شائن، فلان من الناس صاحب سمعة سيئة عند المجتمع، فأنا إذا جلست إليه، أصبحت أعرف أنني من جلسائه ومن جماعته، فهذا ينتهي إلى إساءة الظن بي.
هذا النوع من الناس الذين يجعلون - بمجالستهم - الإنسان محط انتقاد، وكلام في شخصه غير محمود، وتغير في شخصيته بسببهم، هؤلاء يعتزلهم. لا يجلس معهم. لا داع لأن تذهب له وتبذل من أجله مشوارا وجهدا ووقتا حتى تُحسب إنسانا غير صالح عند الله، أو صاحب سمعة سيئة عند المجتمع. يقولون: فلان من جماعة فلان الفلاني، من جلسائه، من أصحابه، من جماعته، لا ينبغي ذلك. وأما إن كان إنسانا صالحا، مؤمنا، صاحب أخلاق، فاذهب إليه، حتى لو حُسبت من جماعته وجلسائه، فإن من هؤلاء من يشرف الإنسان ويعظم بالجلوس إليهم.
هذه ثلاثة أنحاء للجمع، ذكرها العلماء. والإنصاف أن الأصل الأولي هو: تحسين العلاقات الاجتماعية وأن الأفضل للإنسان أن يكون صاحب صداقات وعلاقات وأن يكون له في المجتمع حضور نافع. خلاف ذلك، إذا حصلت مشكلة، ذلك الوقت، له أن يعتزل. إذا كان المجتمع مجتمعا سيئا مثلا، ينعزل. إذا كان من يجالسهم ممن لا بد أن يغتابوا زيدا وعمرا، ذلك الوقت، ينعزل. إذا كانت الجلسة مع هؤلاء ستشغله عن دينه، أو عبادته، أو أسرته، ذلك الوقت يتركهم. فالأصل: هو أن يكون الإنسان صاحب علاقات وأن يكون قادرا على اكتساب الإخوان، كما يقول أمير المؤمنين في الحديث. وأن يسع الناس بأخلاقه، كما يقول رسول الله: "إِنَّكُمْ لَنْ تَسَعُوا النَّاسَ بِأَمْوَالِكُم فَسَعُوهُم بِأَخْلَاقِكُم"، وشرحها الإمام أمير المؤمنين: سعوهم بطلاقة الوجه وجسن اللقاء والابتسامة وما شابه ذلك.
هذا إجمال ما يُذكر في هذا المقام. وحاصله: أن الأفضل للإنسان في الأحوال الاعتيادية، بل الأصل الأولي للإنسان أن يكون صاحب علاقات وصداقات وحضور اجتماعي نافع إلا إذا كان ذلك يسبب مشكلة من المشاكل فالأفضل له أن ينعزل كي لا يتأثر بتلك المشكلات.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا للإخوة الصالحين وأن يجعلنا من النافعين لإخواننا وأن يثيبنا بالتواصي والتناصح معهم. إنه على كل شيء قدير، وصل الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين

مرات العرض: 3386
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2566) حجم الملف: 32216.47 KB
تشغيل:

لماذا يكونون بذيئي اللسان ؟ 3
الخلق الذميم  : الحسد 5