كيف ومتى نشأ التشيع؟ من خلال خطبة الزهراء
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 24/9/1437 هـ
تعريف:

كيف نشأ التشيع؟

تفريغ نصي الفاضل سيد منير العلي

تصحيح الفاضل عبد العزيز العباد

   من خطبة سيدتنا ومولاتنا فاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه عليها أنها قالت : ( ( كُلَّما أوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أطْفَأها اللهُ[1] )، أوْنَجَمَ قَرْنٌ لِلْشَّيْطانِ، وَفَغَرَتْ فَاغِرَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَذَفَ أخاهُ في لَهَواتِها، فَلا يَنْكَفِئُ حَتَّى يَطَأَ صِماخَها بِأَخْمَصِهِ، وِيُخْمِدَ لَهَبَهَا بِسَيْفِهِ، مَكْدُوداً في ذاتِ اللّهِ، مُجْتَهِداً في أمْرِ اللهِ، قَرِيباً مِنْ رِسُولِ اللّهِ، سِيِّدَ أوْلياءِ اللّهِ، مُشْمِّراً ناصِحاً ، مُجِدّاً كادِحاً، وأَنْتُمْ فِي رَفاهِيَةٍ مِنَ الْعَيْشِ، وَادِعُونَ فاكِهُونَ آمِنُونَ، تَتَرَبَّصُونَ بِنا الدَّوائِرَ، وتَتَوَكَّفُونَ الأَخْبارَ، وَتَنْكُصُونَ عِنْدَ النِّزالِ، وَتَفِرُّونَ من القِتالِ، فَلَمَّا اخْتارَ اللّهُ لِنَبِيِّهِ دارَ أنْبِيائِهِ وَمَأْوى أصْفِيائِهِ، ظَهَرتَ فيكُمْ حَسيكَةُ النِّفاقِ، وَسَمَلَ جِلبْابُ الدّينِ، وَنَطَقَ كاظِمُ الْغاوِينِ، وَنَبَغَ خامِلُ الأَقَلِّينَ، وَهَدَرَ فَنيقُ الْمُبْطِلِين، فَخَطَرَ فِي عَرَصاتِكُمْ، وَأَطْلَعَ الشيْطانُ رَأْسَهُ مِنْ مَغْرِزِهِ، هاتفاً بِكُمْ، فَأَلْفاكُمْ لِدَعْوَتِهِ مُسْتَجيبينَ، وَلِلْغِرَّةِ فِيهِ مُلاحِظِينَ، ثُمَّ اسْتَنْهَضَكُمْ فَوَجَدَكُمْ خِفافاً، وَأَحْمَشَكُمْ فَأَلْفاكَمْ غِضاباً، فَوَسَمْـتُمْ غَيْرَ إبِلِكُمْ، وَأَوْرَدْتُمْ غَيْرَ شِرْبِكُمْ، هذا وَالْعَهْدُ قَريبٌ، وَالْكَلْمُ رَحِيبٌ، وَالْجُرْحُ لَمّا يَنْدَمِلْ، وَالرِّسُولُ لَمّا يُقْبَرْ، ابْتِداراً زَعَمْتُمْ خَوْفَ الْفِتْنَةِ، ( ألا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَانَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطةٌ بِالْكافِرِينَ[2] ) ).

   هذه الفقرة من كلمات الزهراء عليها السلام نفتتح بها الحديث عن رؤية فاطمة عليها السلام لنشأة التشيع في الأسلام، حيث تحتوي على عدة نقاط سنستعرضها إن شاء الله تعالى خلال هذا البحث.

النقطة الأولى:

   إبراز اعتماد رسول الله صلى الله عليه وآله على أمير المؤمنين عليه السلام في مهماته الصعبة، وشيء عن صفاته، مشمراً كادحاً مجداً ناصحاً مكدوداً في ذات الله سيداً في اولياء الله قريباً من رسول الله صلى الله عليه وآله أي معركة تحدث أو أي قضية تثار لا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه – أي برجله - يخمد لهبها بحد سيفه.

النقطة الثانية:

   وجود تيار مسلم في الأمة لكن نظرته للأمور مختلفة، كان عمله انتظار الأخبار ومعرفة المنتصر فيها لا يشارك في المعارك أو متأخر في اللحوق بها فقط يتوكفون الأخبار وينكصون عند النزال ويفرون من القتال، فهم في حالة من الهناء والرفاهية والوداعة ولم يكن لهم دور مهم في نشأة الدين بينما علي ابن ابي طالب عليه السلام في لهيب القتال.

النقطة الثالثة:

   هناك تيار تعبر عنه الزهراء عليها السلام بـ ( تتربصون بنا الدوائر ) أي هناك مجموعة ليسوا متفرجين فقط وينتظرون المهزوم من المنتصر بل ينتظرون الفرصة السانحة للقضاء على ما بناه الرسول صلى الله عليه وأله بعد وفاته، فبقوا محتفظين بقوتهم من حيث عدم المشاركة في المعارك لينتهزوا الفرصة فذلك الانتظار احتفظوا به لحين مجيئ فرصة التحول والانتقال، يقولون في القضايا الاجتماعية عند التحولات الكبرى من الممكن ان تحدث انقلابات وانفلاتات أمنية فيحدث اضطراب اجتماعي ينتج عنه قتلى وجرحى ونهب وسلب ، فكان في نظر هؤلاء أن هذه الفرصة المناسبة للظهور، ( فلما اختار الله له لنبيه دار انبياءه، ومأوى اصفياءه، ظهرت فيكم حسيكة النفاق، ونطق خامل الأقلين ). فهذا وقت وزمان الذين لم يكن لهم دور في المعارك وفي المواقع المتقدمة.

   الان اصبحوا هم المُقدّمين، وهنا أيضاً الشيطان ساعد في هذا الأمر حيث أطلع الشيطان راس من مغرزة وخطر في عرصاتكم، فهذا علي بن ابي طالب الذي لم يبقي بيتاً في قريش إلا وقد ادخل قيه اليتم والثكل، فأبعدوه جانباً حتى لا تقع فتنة بينكم وبين سائر العرب ( ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين [3])

فهذا اجمال هذه الفقرة من خطبة الزهراء عليها السلام.

كيف نشأ التشيع لأهل البيت عليهم السلام ومتى؟

      هذه مسألة من المسائل التي تطرح في الدراسات العقائدية والتاريخية وبطبيعة الحال يرمي من يحاول أن يجيب على هذا التساؤل إلى تدعيم نظرية لديه,

     غير الشيعة من الطبيعي أن يقولوا أن هناك أصلاً وهو الاسلام مختلف عن التشيع، والتشيع أتى فيما بعد، فماذا تعني فيما بعد؟ هل هو بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله أو بعد مقتل الخليفة عثمان او بعد صفين او بعد مقتل الحسين عليه السلام او كما يقول البعض بعد زمان الأمام الباقر؟

   محور هذه الاجابات كلها تنتهي إلى نقطة وهي أن الإسلام موجود في وقت من الأوقات ولم يكن التشيع موجوداً، فالتشيع أتى فيما بعد ربما عشر سنوات أو أكثر من ذلك، فالأصل هو الإسلام.

فيقولون لك نحن الأصل أما أنتم فلم تأتوا إلا بعد ذلك، لذلك اجاب المخالفون للتشيع على هذا السؤال بعدة إجابات:

الإجابة الأولى: التشيع يدأ بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله

   قالوا ان منشأ التشيع كان بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله، وسنستعرض الأقوال بشكل سريع ثم نعرج على ما قالته سيدة النساء فاطمة عليها السلام.

     أن التشيع صار ونشأ بعد أن توفي رسول الله صلى الله عليه وآله، ففي ما يقول هؤلاء – وهو ليس بصحيح – أن المسلمين اجتمعوا في السقيفة واختاروا الخليفة، فالإمام امير المؤمنين عليه السلام كما ورد في نهج البلاغة يقول: ( فإن كنت بالشورى ملكت أمورهم فكيف بهذا والمشيرون غيب وإن كنت بالقربى حكمت شؤونهم فغيرك أولى بالنبي وأقرب ).

   فإذا كان هذا انتخاب من الأمة، فأين هؤلاء الناس الذبن كانت في أعناقهم بيعة لأمير المؤمنين عليه السلام في الغدير فلابد لهؤلاء من أن يرجعوا لهذه البيعة.

   وإذا كانت شورى فأين سلمان منا أهل البيت وأين عمار الذي هو جلدة ما بين عينيً وأنف رسول الله صلى الله عليه وآله وأين علي الذي هو مني بمنزلة هارون من موسى والمقداد الذي مُلئ ايماناً من قرنه الى قدميه وأين أبو ذر الغفاري الذي ما غلت الغبراء ولا أظلت الخضراء أصدق منه وأين فلان وفلان، فإذن هذه ليست بشورى التي لم تضم الطبقة الوجيهة المتقدمة ولا هي انتخاب من الأمة، ولا بالقربى ، فعلي عليه السلام هو الأقرب لرسول الله صلى الله عليه وآله فهو ابن عمه وأخوه وزوج ابنته.

   على أية حال هذه النظرية تقول أن المسلمين اجتمعوا بعد رسول الله صلى الله عليه وآله فانتخبوا الخليفة، وكرد فعل على هذا، اجتمع أنصار علي بن ابي طالب عليه السلام من بني هاشم ومن حولهم فشكلوا حزب معارضة لهذا الحكم الجديد. هذا الحزب الذي بدأً سياسياً انتهى فيما بعد الى اتجاه عقائدي، وهذا الكلام ذكره مستشرقون وتبعهم مفكرون مسلمون.

طبعاً المستشرق معذور لأن هذه الاصطلاحات كوجود حكومة ووجود معارضة تواجه الحكومة القائمة وما شابه ذلك وأن القضية ليست إلا قضيه سياسية ثم تتطور إلى تيار اجتماعي ضمن أفكار هؤلاء المستشرقين هذا ليس بمستغرب كونهم يعيشون هذه الأجواء، فتلقفها عدد من الكتاب المسلمين وكتبوها في كتبهم.

الإجابة الثانية: أن التشيع نشأ بعد مقتل الخليفة الثالث

   تقول هذه الفكرة أن التشيع لأهل لمذهب البيت عليهم السلام إنما نشاً بدايةً بعد مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان، لماذا؟ يقولون: لأنه أسلم رجل يدعى عبدالله بن سبأ وكان يهودياً، اتى من اليمن فأسلم في زمن الخليفة الثاني وله دور بارز في مقتل الخليفة الثالث، حيث ذهب إلى البصرة والكوفة ومصر وأثار غالبية الناس على الخليفة إلى أن انتهى الأمر بمقتل الخليفة وآنئذٍ تشكل التوجه الشيعي فنشأ التشيع لأهل البيت منذ ذلك الوقت.

    فبالحديث عن عبدالله بن سبأ شخصية نجد أن المؤرخين قد اختلفوا فيها فانقسموا إلى قسمين :

القسم الأول:

   يقول أن هذا الرجل وهمي لا حقيقة خارجية له وإنما صنعه سيف بن عمر التميمي الراوي الوحيد له - في الافق السني – حيث نقلها الطبري، سيف بن عمر هذا معروف عنه عند الجميع من وأنه وضاع للحديث ينشئ أشخاص وبطولات وهمية، كما يفعلون الآن كتّاب السيناريوهات يقومون بتأليف الروايات والقصص فيصنعون شخصية معينة مفترضة ثم يحبك حولها أحداث قصصية مثيرة فكلما كانت هذه الحبكة أكثر غرابة كانت أكثر إمتاعا وجذباً، فهذا رأي ينتهي إلى أن هذه شخصية وهمية أصلاً لم تكن موجودة في التاريخ وإلى ذلك ذهب عدد من الكُتاب من غير الشيعة كـ طه حسين المعروف بعميد الأدب العربي في زمانه، حيث كان يرى أن هذه شخصيه وهمية اختلقت فيما بعد للاستهلاك، وقد كتب ضمن هذه النظرية المرحوم العلامة السيد مرتضى العسكري رضوان الله تعالى عليه وهو كاتب فذ ومحقق وبارع، انصح الأخوة الأفاضل بالاطلاع على كتبه مطالعة واعية ودقيقة حيث يوجد من ضمن كتبه كتاب اسمه عبدالله بن سبأ وأساطير أخرى وعنده كتاب آخر اسمه خمسون ومئة صحابي مختلق. فهؤلاء لم يكن لهم وجود اصلاً وليس بالضرورة نحن نوافق ما يقوله مثل السيد العسكري او غيره ولكن ضمن هذه النظرية هو كتب كتاباً.

القسم الثاني:

   هذا القسم من الباحثين ومنهم شيعة أيضاً يقولون: أن عبدالله بن سبأ كان موجوداً وكان شخصاً مغموراً فاراد الاشتهار فذهب إلى الغلو ولما غالى لعنة امير المؤمنين عليه السلام وطرده وعاقب من اتبعه.

     فمال أصحاب هذا القسم إلى أن عبدالله بن سبأ رجل موجود ولكن هذا الدور الذي ينسب إليه لا يمكن ان يكون ، فلو حدث فعلاً لكانت هناك كارثة ستهدم نظرية كبيرة عند القوم، بمعنى أن هؤلاء الصحابة الكبار الذي يؤى أصحاب هذه النظرية هم أفضل من خلق الله وبعد النبي صلى الله عليه وآله حيث لم تأت فئة أفضل منها ومنهم من عدهم الأفضل بعد الانبياء ، كيف يتسنى ليهودي جاء من اليمن وخلال سبع أو ثمان سنوات أن يتظاهر بالإسلام وأن يخدع هؤلاء ويتلاعب بأفكارهم وآرائهم يميناً وشمالاً ويؤجج المدينة والبصرة والكوفة على الخليفة ويحدث اضطراباً كبيراً في العالم الإسلامي كله، أين الصحابة الكبار والفقهاء؟! أين الصحابة ورثة الكتاب؟! أين الصحابة أصحاب القرن المفضل عند الله سبحانه وتعالى؟! كيف استطاع رجل للتو جاء للمدينة أن يتلاعب بعقولهم وأن يحركهم بما يشتهي وكيف ما شاء؟!

فأصبح وضع هؤلاء المتحدثين حول هذه الشخصية بين أمرين، إما أن يقولوا إنه موجود أو غير موجود، فإن كان موجوداً فكيف استطاع خداع الصحابة العدول الذين هم في أعلى درجات الإيمان والعلم وهم القرن المفضل، وإما إنه وإما انه غير موجود اصلاً.

   بعض من الباحثين قام بتركيب شخصية عبد الله بن سبأ على عمار بن ياسر، على أية حال هذا رأي قسم من الباحثين .

والمقصود من اختلاق هذه الشخصية – شخصية عبد الله بن سبأ – هو بغرض القول أن التشيع اسسه يهودي.

الإجابة الثالثة: أن التشيع نشأ بعد معركة صفين

   أصحاب هذه النظرية يقولون أن التشيع بدأ بعد معركة بعد صفين كرد فعل على تشكل نظرية الخوارج فشيعة علي بن ابي طالب عليه السلام شكّلوا لهم نظرية هي نظرية الوصاية والولاية والخلافة لعلي بن ابي طالب عليه السلام

 

الإجابة الرابعة : أن التشيع نشأ بعد معركة كربلاء

   يقول أصحاب هذه النظرية أن التشيع بدأ بعد مقتل الإمام الحسين عليه السلام.

 

 

حقيقة نشأة تاريخ التشيع:

   من خلال العودة إلى ما قالته فاطمة الزهراء عليها السلام حيث تتحدث ضمن المنطق العلمي والاجتماعي فتقول أي دعوة من الدعوات وأي اي دين من الديانات عندما يأتي ينقسم الناس حولها إلى فئات حيال هذه الدعوة فئة تؤيد هذا الدين وتقبله وفئة أخرى تعارض هذه الدعوة وتواجهها وفئة أخرى تنأى بنفسها عن هذا الأمر فتلتزم الحياد.

   تنقسم هذه الفئات لدرجات، ففيها قسم ممن يؤمنوا بهذا الدين بصدق يتفاعلون معه بإخلاص ويضحون بحياتهم من أجله ويمضون فيه كالحديدة المحماة، وقسم آخر في حالة متوسطة وقسم ثالث يقبلون ادنى درجة ينتظرون لمن الغلبة في هذا الدين، فإن انتصر ( قالوا ألم نكن معكم [4]) فلنكن شركاؤكم في الغنائم، أما إذا انهزم فهم أصحاب الذين وصفهم القرآن الكريم ( نخشى ان تصيبنا دائرة[5]) فيعودوا إلى قواعدهم الأصلية التي كانوا عليها، فهم لا زالوا على ارتباط بالوضع السابق.

   وقد قال بعض المسلمين عندما حدث في بعض المعارك هزيمة وقيل في حنين قال مجموعة لبعضهم هلموا فلنأخذ من عرب قريش عهداً ونكون معهم كما كنا في السابق بمعنى خطوة هنا وخطوة هناك فهم كالمذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.

   إذن هذه ثلاث فئات على الأقل فيهم من يقبل الدعوة فالرساليون المخلصون الذين أحرقوا كل السفن الماضية ويُقبلون بأنفسهم وأموالهم وحياتهم على هذا الدين، وفئة متوسطة الولاء والانتماء، وفئة متذبذبة قدم هنا وقدم هناك.

   وأيضاً في طرف المعادين يوجد هناك أعداء لهذا الدين ولهذه الدعوة وفي شدة العداء وهناك قسم في الوسط وقسم ثالث يرى أن الأمر لا يستدعي الخروج والقتال فقط ينتظر إلى ما تؤول له النتائج وهذا الأمر كما حصل في الإسلام حصل في سائر الديانات، فالمسيحيون مثلاً عندهم أكثر من فئة فهناك فئة الحواريون ( قال الحواريون نحن انصار الله[6] ) فهؤلاء خرجوا مع عيسى بن مريم عليهما السلام يخطون أثره، وفئة أخرى يطلق عليهم في العرف المسيحي الصديقيون وإن كان هذا الاسم على غير مسمى.

   فهؤلاء مرة تجدهم عند الرومان الذين هم أعداء المسيح ومرة عند عيسى ابن مريم فالتجارة مع الرومان والمواعظ والنصائح يمكن الاستماع إليها عند عيسى بن مريم.

   وهذا النموذج أيضاً عند اليهود، فمصادرة الفكر فعندما تأتي جماعة ويقولون الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وآله فهؤلاء صحابة والصحابة كلهم عدول ومؤمنون وصالحون، (... فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل اُحد ذهباً ما أدرك مُد أحدهم ولا نصيفه[7])، فلو تأخذ أي فرد من أفراد الصحابة وتنفق أنت ما شاء الله من الانفاق الذي لا يحصيها إلا الله تعالى لن تصل إلى إلى ما وصل إليه هذا الصحابي، فهذا فيه تجاوز وتجافي للمنطق الاجتماعي العلمي في قبول الدعوات والديانات وان الناس فيها ليسوا على طريق واحد.

   فلو نأخذ نظرة سريعة الآن سنرى أن أتباع المذهب الشيعي والذين يتبعون المرجعية الدينية نجدهم هؤلاء الاتباع ليس كلهم بمستوى واحد فهم درجات فهناك من يتبع المرجعية 90% وهناك من يتبع بنسبة 60% وآخر بنسبة 30% وهكذا.

   فعندما جاء النبي المصطفى صلى الله عليه وآله حدث نفس هذا المنطق الاجتماعي ، فكما أن هناك حواريون لعيسى ابن مريم هناك أيضاً صديقيون تارة مع الرومان الكفرة وتارة مع عيسى بن مريم، فكذلك نفس الكلام موجود بالنسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله.

   لذلك تجد أن القرآن الكريم عندما يثني ويمدح على مجموعة من الناس يمدحهم لصفات انطبقت عليهم كـ ( السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار[8] ) ولم يقل أصحاب النبي فقط يمدح من تتوفر فيه هذه الصفات، فأنت تجد في الجهة المقابلة هناك ذم للبعض الآخر ( وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق[9]) وفيهم ( وتظنون بالله الظنونا[10] ) وفيهم من يقول (غر هؤلاء دينهم [11]) وفيهم من يسرون إلى أهل الكتاب وإلى كفار قريش بالمودة ويقولون نحن معكم بالسر (تسرون إليهم بالمودة[12] ).

   فإذن هناك فئات مختلفة، فالسيدة الزهراء سلام الله عليها جاءت لتقرر هذه الحقيقة أن الفئة الأكثر إخلاصا والفئة الأكثر تضحية والفئة التي كانت في مقدمة الجيوش وتحملت الاذى هي فئة شيعة علي ابن ابي طالب عليه السلام، والتشيع ليس بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله نشأ وإنما جاء بمجيء علي عليه السلام، علي جاء وأظهر إيمانه حيث لم يكفر بالله طرفة عين، حيث بُعث رسول الله صلى الله عليه وآله يوم الأثنين وعلي عليه السلام جاء معه يوم الثلاثاء في ذلك اليوم بدأ التشيع باعتباره الخط المقدام وباعتباره يتمثل في هذا القائد الاستثنائي الذي اختصه رسول الله صلى الله عليه وآله وأشارت فاطمة الزهراء عليها السلام إلى أن علي عليه السلام لم يكن شخصً وانماء كان قائداً لجماعة وقد أشار إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله في مواضع شتى من جملتها ما ورد في تفسير ( أولئك هم خير البرية[13] )، راجعوا التفاسير سواء من تفاسير مدرسة الخلفاء أو من تفاسير أهل البيت عليهم السلام على اختلاف الألسنة أن النبي الله صلى الله عليه وآله أشار إلى علي عليه السلام وقال: ( هذا وشيعته الفائزون ) وهذا الجمع الذين كانوا مع أمير المؤمنين عليه السلام كانوا جمع مميز ومعروف كأمثل أبو ذر وسلمان وعمار.

   فبإمكانك وضع يدك على أي شخص من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله تتوفر فيه صفات الاخلاص والتضحية والايثار سوف تجده من شيعة علي ابن ابي طالب عليه السلام، إلى الحد الذي يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وآله لأبي ذر الغفاري:( ما اقلت الغبراء اقل يعني حمل غبراء يعني الأرض من الغبار ما اقلت الغبراء ولا اظلت الخضراء يعني السماء على ذي لهجة اصدق من ابي ذر) ولكن مع الأسف نجد أن بعض المسلمين لا ينظر إلى أبي ذر نظرة منصفة نظراً لموقفه من بعض الخلفاء دفع على إثرها ثمناً باهظاً فقد قضى باقي حياته منفياً عن المدينة المنورة متحملاً الجوع والعطش فشهادة رسول الله صلى الله عليه وآله له بالصدق تعني أنه أصدق الناس بعد المعصومين.

   فكما هو معلوم أنه عندما حدثت قضية الخلافة قال أبو ذر ( والله لو قدمتم من قدم الله وأخرتم من أخر الله لأكلتم من فوقكم  ومن تحت أرجلكم ) بمعنى أن أبا ذر وهو الصادق في قوله كما وصفه رسول الله صلى الله عليه وآله أراد أم يشير إلى أمر وهو أنكم خالفتم أوامر الله تعالى وأنتم الصحابة الكبار فقد قدمتم من أخر الله وأخرتم من قدم الله، فهذا أبو ذر وذاك سلمان وذاك المقداد وذاك عمار وأمثال هؤلاء الذين هم المعيار والميزان والمقياس لباقي الناس، فمقياس عمار كان ( يا عمار تقتلك الفئة الباغية ) بمعنى هو مقياس الهداية والفئة الأخرى مقياس البغاء والضلال،من أمثال هذه الفئة كانت حول امير المؤمنين عليه السلام وبذلك تشكل التشيع بمعنى تقديم أمير المؤمنين عليه السلام واعتباره الامتداد الطبيعي لرسول الله صلى الله عليه وآله وأن منهجه وخطه وصراطه هو السليم والذي ينبغي أن يكون وهذا ما صرحت به فاطمة الزهراء عليها السلام فهذه فئة.

   وهناك فئة أخرى كانت تستثمر للمستقبل من خلال ما قدمته من شهداء كأمثال جعفر بن أبي طالب وحمزة بن عبدالمطلب وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحه ومصعب بن عمير، فهؤلاء وامثالهم الذين لم يستثمروا أعمارهم، أما غيرهم فلا تجد لهم موقفاً جهادياً مهم، لماذا؟ لان أمثال هؤلاء ينتظرون المستقبل ومن وجهة نظرهم ستكون الأمور طيبة، فإذا ذهب رسول الله صلى الله عليه وآله سنكون مكانه، وذاك الآخر يقول لرسول الله صلى الله عليه وآله: يا رسول الله أرأيت كيف فاتتني الشهادة، يأتي أمير المؤمنين عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وآله وهو يبكي فيقول له : إنها من خلفك، الزهراء عليها السلام تؤرخ لهذه المرحلة فماذا تقول عن علي ابن ابي طالب عليه السلام في هذا الاتجاه؟ تقول: ( كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله أو نجم قرن للشيطان أو فقرت فاقرة من المشركين - ماذا يصنع النبي- قذف أخاه في لهواتها فلا ينكفئ - يعني علي بن أبي طالب لا يرجع ولا يُجبن اصحابه - حتى يطأ صماخها بأخمصه) ، فأنت تجد ذاك الفارس مرحب لما برز إليه أمير المؤمنين عليه السلام قال لعلي لا أريد أن أبارزك فارجع فهو قد قرأ في الكتب كلاماً مخيفاً بأن الذي سيقتله رجل اسمه إيليا وإيليا هو اسم علي بن أبي طالب، وعمر بن عبد ود عندما جاء إليه أمير المؤمنين عليه السلام قال له: من انت؟ قال له: أنا علي بن أبي طالب، قال: قد علمت أن لا يجرؤ أحداً عليّ غيرك. وابتدأ المصطفى يحدث عن أجر الصابرين في الآخرة ...

إن للجليل جنان ليس غير المجـــــــــــاهدين يراهــا       

من لعمرو وقد ضمنت له على الله من جنانه أعلاها

فأنثنوا عن جوابه كَسَوامِن لاتراها مجيبه من دعاها

وإذا هم بفارس قرشي ترجف الأرض خيفه اذ يطاها

فتلــــــقى ســـــاق عمــــــر بضربـــــــه فبـــــــراهـا

هذه من علاه أحد المعالي وعلى هذه فقس ماسواها

الزهراء عليها السلام تُبيّن من ساهم وضحى في نشر الدين ومن كان يتحين الفرص للانقضاض على الدين:

( قذف اخاه في لهواتها فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه ويخمد لهبها بحد سيفة مكدوداً في ذات الله سيداً في اولياء الله قريباً من رسول الله مشمراً كادحاً مجداً ناصحاً ) فمن هذا الجانب نجد فئة الحواريين فئه شيعة رسول الله صلى الله عليه وآله بمعنى منشأ ومبدأ التشيع، بالطرف المقابل نجد فئة أخرى في رفاهية من العيش همهم أكل وشرب ونكاح وجمع الأموال حتى قالوا أن أحد الصحابة عندما توفي كُسّر ذهبه بالفوؤس، فذاك يضحي بنفسه ولا يخرج من معركة إلا ويدخل أخرى همه إعلاء كلة الله، وتشييداً لدين محمد صلى الله عليه وآله، أكثر من هذا تقول الزهراء عليها السلام (تتربصون بنا الدوائر ) مشيرة إلى أن هناك مشروع خفي فيه تربص وتآمر وتنسيق ما بين جماعة معينة ( تتربصون بنا الدوائر وتنكصون عند النزال تفرون من القتال - تستثمروا للمستقبل فمنطقهم إذا قتلت فلن أحصل على شيء فلأخبئ نفسي خلال هذه الفترة - فلما اختار الله لنبيه دار أنبياءه ومأوى أصفياءه – في ذلك الوقت - ظهرت فيكم حسيكة النفاق وسمل جلباب الدين ونطق كاظم الغاوين- الذين كانوا في ذلك الوقت لا يصرحون الآن صار تصريح وإعلان - واطلع الشيطان رأسه من مغرزه فخطر في عرصاتكم – حمسكم وحرككم واستفزكم - فالفاكم لدعوته مستجيبين وللغرة فيه ملاحظين فوسمتكم غير أبلكم – رعاة الإبل يوسمون إبلهم في أي مكان من جلدها كعلامة لملكيتها لهم فمعنى القول لماذا توسمون إبل ليست لكم- ووردتكم غير مشربكم - المنبع الذي يجب أن ترِدوه المنبع التابع لعلي ابن ابي طالب فهذه الخلافة خلافة النبوة خلافة أمير المؤمنين عليه السلام فتلك كانت المدينة وهذا هو بابها- هذا والعهد قريب والكلم رحيب - للتو النبي صلى الله عليه وآله انتقل إلى جوار الله تعالى، ويقول بعض المؤرخين أن الفترة ما بين خطبة الزهراء عليها السلام ووفاة رسول الله صلى الله عليه وآله هي عشرة أيام - فالعهد قريب والكلم رحيب الكلم - بمعنى الكلام أو بمعنى الجرح - والجرح لما يندمل- أنا لا زلت إلى الآن مثكولة مصابة، فهل هذا جرح ضلعها أو ألم لطمة عينها أو غصبها حقها أو جرح جنينها وإجهاضها - والرسول لما يقبر ابتداراً زعمتم خوف الفتنة- خفتم أن لا تكون فتنة حسب زعمكم وأنتم قد وقعتم فيها فبفعلكم هذا أنتم أوقعتم أنفسكم ومن يأتي بعدكم إلى قرون طويلة غي فتنة طخياء عمياء فانتظروا المستقبل - فرويداً ريثما تنتج - الآن حملت هذه الناقة جنين الفساد- انتظروا ما الذي سيحدث للأمة من مآسي- فنظرت ريثما تنتج ثم احتلبوا ملئ القعب دماً عبيطاً- أين رأينا هذا ملئ القعب دماً عبيطاً أوله كان في كربلاء

فلولا سقوط جنين فاطمة لما أودى لها في كربلاء جنـــــين

وبرض ذاك الضلع رضت أضلع في طيها سر الإله مصون

 

 

 

 

[1] ) سورة المائدة آية 64

[2] ) سورة التوبة آية 49

[3] ) سبق ذكر المصدر

[4] ) سورة الحديد آية 14

[5] ) سورة المائدة آية 52

[6] ) سورة الصف آية 14

[7] )أخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث أبي هريرة.

[8] ) سورة التوبة آية 100

[9] ) سورة التوبة آية 101

[10] ) سورة الأحزاب آية 10

[11] ) سورة الانفال آية 49

[12] ) سورة الممتحنة آية 1

[13] ) سورة البينة آية 7

مرات العرض: 3409
المدة: 00:57:24
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2570) حجم الملف: 53.1 MB
تشغيل:

سيرة الامام السجاد من ولادته إلى كربلاء 1
الامام الكاظم من الميلاد إلى الاستشهاد