تاريخ تشريع الصيام
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 1/9/1437 هـ
تعريف:

1- تاريخ تشريع الصيام


صياغة الأخ الفاضل محمد رضا الطريفي الجمريّ

بسم الله الرحمن الرحيم
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ"

نحمد الله (سبحانه وتعالى) أن بلَّغنا هذا الشهر الكريم ونحن في خيرٍ وعافيةٍ واستقامةٍ على الدِّين، ونسأل الله (سبحانه وتعالى) أن يتمِّمَ نعمته علينا بقبول هذا العمل وبغفران الذَّنب، وأن يختمَ لنا بخاتمة الجنَّة؛ لنا ولآبائنا وأمّهاتنا ولأرحامنا ولجميع المؤمنين، إنَّهُ على كلّ شيء قدير.
في الحقيقة، إنَّ هذه من النِّعَم التي يغفل عنها الإنسان، وهي أنْ يبقى من سنة إلى سنة وهو في صحة وعافية وخير، بل أن يبقى ليوم إضافي، لذلك أنت تحمَدُ الله: "لَكَ الحَمْدُ عَلَى أَنْ بَعَثْتَنِي مِنْ مَرْقَدِي وَلَو شِئْتَ جَعَلْتَهُ سَرْمَدًا" .
كم من الناس ناموا ليلتهم البارحة ولم يستيقظوا فجر هذا اليوم، فضلاً عن الشهر الماضي والسنة الماضية، فهي فرصةٌ جديدةٌ للإنسان لكي يستزيد فيها من العمل الصالح،  وأن يتزوَّدَ بخير الزَّاد وهو التقوى ليوم قيامته، فنحمَدُ اللهَ (سبحانه وتعالى) على كلِّ ذلك قائلين: الحمد لله رب العالمين.

حديثُنا يتناول شيئًا في ظلال هذه الآية المباركة.
 نبدأ بالحديث فيها أوَّلاً عن تاريخ تشريع الصيام، الآيةُ المباركة يقول فيها ربّنا (عزّ وجل): "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ"، أيْ: فُرض، والآيةُ المباركة نزلت مشرِّعةً لهذا الواجب في السَّنَة الثانية للهجرة النبوية للنبيِّ محمد (صلَّى الله عليه وآله).
هذه السنة الثانية شهدت مجموعةً من الأمور؛ منها أنّها كانت فيها غزوة بدر الكبرى المعروفة، ومنها أيضاً أنّه نزل فيها تشريع الصيام بعد ثمانية عشر شهراً من هجرة النَّبي، يعني سنة وستة أشهر بعد هجرة رسول الله كان تشريع الصيام. وهناك فارق بين المسلمين الأوائل الذين كانوا في عصر رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وبيننا؛ في أنّ الواحد منّا إذا بلغ البلوغ الشرعيّ تتوجّه إليه حُزمة الواجبات، بمجرد أن يبلُغ من النَّاحية الشَّرعية يصبح واجباً عليه الصلاة والصوم والزكاة والحج والخمس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وترك الكذب وترك المحرّمات كلُّها في مجموعة واحدةٍ تتوجَّهُ إليه بمجرّد البلوغ، لكنَّ هذا الأمر لم يكن في زمان رسول الله أوائل الدَّعوة، وإنّما كان التشريع يأتي متدرِّجًا وعلى دفعات؛ فمثلاً: فيما قبل الهجرة زمانَ البعثة فُرضت الصلاة، بعثة رسول الله كانت 13 سنة وبعدها كانت الهجرة فتمَّ التأريخ بالهجرة وإلاَّ قبلها كانت 13 سنة هي فترة بعثة النبي. في هذه الفترة أوائل البعثة فُرضت الصلاة وكان نبيّنا المصطفى محمد (صلَّى الله عليه وآله) يصلّي ومعه عليّ (عليه السَّلام) وخديجة بنت خويلد (عليها السَّلام)، ولم يُجمع في ذلك الوقت كما في الخبر عن نهج البلاغة أحدٌ في الإسلام غير هذه الدائرة، وثم بعد ذلك التحق زيدُ بن حارثة وآخرون.
ذلك الوقت كان تشريع الصَّلاة موجودًا، حتى ورد في الأخبار أنَّ أحدَهم - وهو من أهل المدينة - كان يقول: ذهبتُ إلى مكة في شأنٍ بيني وبين العباس بن عبد المطلب، فلمَّا انتصفَ النَّهَارُ رأيتُ رجلاً جاء فَصَفَّ قَدَمَهُ، ثُمَّ وقف بجنبه رجلٌ، ثم وَقَفَتْ خَلْفَهُمَا امرأةٌ، فقلت: ماذا يصنعُ هؤلاء، وَمَنْ هُم؟ فقال ليَ العباسُ: هذا ابنُ أخي محمدٌ ومعه عليٌّ وخديجةُ وهم يصلُّون، يقول هذا الرجل: لو كنتُ التحقتُ بهم لكنت رابع الإسلام.
فهذا التَّشريعُ كان في مكة المكرمة، بينما - مثلاً - الصوم صار في المدينة، فبعض الأحكام والتَّشريعات تأخَّرت .
في نفس هذه السنة (الثانية للهجرة) حُوِّلَت الصَّلاةُ في جهة الاستقبال إلى الكعبة بعد أن كانت إلى بيت المقدس، والنبيُّ يُعبِّرُ عنه القرآنُ في هذه الحالة: "قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ" .
في هذه السنة تمّ تغيير القبلة إلى الكعبة المشرّفة، وفي هذه السنة بعد تغيير القبلة صار تشريع الصيام "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ...".
يوجد هنا في هذه الآية عِدَّةُ مباحث:
1. المبحث الأول: وجه المشابهة ماهو؟ "كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ..." ما هو وجه الشبه؟
2. المبحث الثاني: هل إنَّ هناك فرقاً بين الصوم والصيام؟ كما ذهب إليه بعض الباحثين المعاصرين أم لا يوجد فرق؟
3. المبحث الثالث: جولة في الآية المباركة.

بالنسبة إلى وجه المشابهة "كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ..."، هناك ثلاث احتمالات متصوّرَة؛ واحد من الاحتمالات: أنَّ وجهَ المشابهة هو في العدد، يعني كما كُتِبَ على الذين من قبلكم شهرٌ من الصيام، ثلاثون يوماً، كُتب عليكم أيضاً شهر من الصيام ثلاثون يومًا. فإذن المشابهة هي مشابهة من حيث العدد، فعدد الأيام التي تُصام هي ثلاثون يوماً (شهراً كاملاً)، وهذا وجه المشابهة، هذا احتمال.
الاحتمال الآخر: زمن المشابهة، وهو أنْ يكونَ شهرُ رمضان الزَّمان نفس الزمان، يقول أصحاب هذا الرأي: إنَّ شهرَ رمضان بما هو شهرٌ مبارك - سواء في هذه السنة أو قبل ألف سنة -، فإذا كان كذلك وأراد الله أن يَفرض صومًا على الناس فسيفرض في نفس هذا الشهر، مثل ما أنّ ليلة الجمعة في هذه السنة 1437 ليلة مباركة كذلك ليلة الجمعة في سنة 38 أيضًا هي ليلة مباركة، كما أن شهر رمضان الذي عندنا الآن هو شهرٌ مبارك، كذلك زمنه قبل ألفين سنة هو شهر مبارك، وإذا أُريد أن يتم تشريع صيام فسيتم تشريع الصيام في نفس هذا الشهر، لذلك ذهب هؤلاء إلى القول بأنَّ المشابهة هي في الزمان، مثل ما أنتم مفروض عليكم صوم في شهر رمضانأ كذلك فرض عليهم الصوم في نفس هذا الشهر، وإنْ كان ليس اسمه رمضان، فقد يكون - مثلاً - اسمه شهر نيسان، وقد يكون اسمه في ذلك الوقت عندهم شهر إبريل، ولكن هو نفس هذا الشهر.
الاحتمال الثالث: هو أن تكون المشابهة في أصل فرض الصِّيام، ومعنى الصيام: هو وجوب الكَفِّ والإمساك عن مجموعةٍ من المُحَرَّمَات بمناسبة الصيام.
الاحتمالان الأول والثاني فيهما ملاحظات، نحن تحدثنا في سنة ماضية عن كيفيَّة الفرض، وأعداد الفرض على اليهود والنصارى في الصيام، ولا نعيدها الآن، ولكنْ بشكل إجماليٍّ يُقال: بأن الموجود الآن لدى النصارى واليهود من أيام الصيام لا تتفق مع عدد ثلاثين؛ فبعضهم يوصلها إلى خمسين، وبعضهم يوصلها إلى ستين، وبعضهم يوصلها إلى سبعين، ويختلط فيها الأمر الواجب بالمندوب عندهم . فإذن فكرة أن يكون المشابهة لجهة العدد بعيدة؛ لوجود الاختلاف، إلاَّ إذا قال أحدهم أنه قد يكون في أصل التشريع هو نفس المقدار ولكن على أثر طروّ التحريف الذي حصل عندهم تغيَّرَ.
كذلك الحال بالنِّسبة إلى احتمال أن يكون في نفس زمان شهر رمضان؛ لأنَّ هذا الشهر بهذا العنوان لم يكن معروفًا في تلك الأزمنة، وهو لا يعادل شهرًا مُعَيَّنًا ومُحَدَّدًا في الأشهر الرُّومية، يعني - مثلاً - من الممكن الآن شهر رمضان يصادف - مثلاً - في مايو، وبعد سنتين يصادف يوليو أو - مثلاً - أبريل وغيره، وتتغير الدورات الزَّمنية.
فالفكرة أنَّ المشابهة في أصل فرض الصيام، ومعناه أنَّ الله (سبحانه وتعالى) فرض عبادةً تتقوَّم هذه العبادة بأنْ تَكُفَّ النَّفْسَ عن مجموعةٍ من الأمور لتهذيب هذه النفس.
حبس النَّفس، وإمساك النفس، ترويض النفس على الامتناع عن الملذَّات، هذا المعنى موجود في مختلف التَّشريعات والأديان السَّماوية.
هذا المعنى لعلَّه أقرب وجوه المشابهة .
البحث الثاني: في قوله "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ...".
هل هناك فرق بين أن يقول: كُتِبَ عليكم الصَّوم، وأنْ يقول: كُتِبَ عليكم الصِّيام؟
هذه المسألة في الفترة الأخيرة أثيرت بعد أنْ قام أحد الباحثين القرآنيين من غير أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) بالحديث على أنَّ هناك فرقًا كبيرًا بين الصِّيام والصوم، وأنَّ المطلوبَ منا - وهذه فكرته أنا أشرحها مع شيء من أدلته - نحن العباد هو الصيام وليس الصوم، يقول الصوم شيء عظيم جِدًّا وكبيرٌ؛ لأنَّ الحديثَ القدسيَّ يقول: "الصوم لي وأنا أجزي به"، والموجود عندنا في القرآن: "كتب عليكم الصيام", حسناً، هل هذا يساوي هذا؟! يقول: لا، في القرآن الكريم لا يوجد كلمات مترادفة، والترادف في القرآن الكريم غير موجود، نعم في تعبيراتنا نحن موجود؛ تقول: اقعد أو اجلس، بينما في اللغة العربية يوجد فرق كبير بينهما، هلمّ وتعالَ يوجد فرق، أرسلنا وبعثنا يوجد فرق، نحن نقوله لكن في القرآن – حسب تعبير هذا الباحث – يقول لا يوجد فرق، هناك فرق دقيق ولا يُستَخدَم هذا إلاّ في موضعه وذاك في موضعه.
فإذن أولاً: بحسب رأيه لا يوجد ترادف في القرآن، فإذا قال الصيام فيعني ليس الصوم.
ثانياً: المفروض علينا نحن العباد: كُتب عليكم ليس الصوم وإنّما كتب علينا الصيام.
ثالثاً: إنَّ الصوم هو معنى كبير، ولذلك ورد في القرآن الكريم: "فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا ..." .
يقول هي في نفس الوقت التي تأكل وتشرب ولكن نذرت صوماً. وهذه خلاصة الفكرة.
بشكل مختصر نقول: لا يظهر أنَّ هذا الكلام عليه برهان دقيق، للأمور التالية:
الأمر الأول: أنَّ قضية وجود التَّرادف في القرآن الكريم وعدم وجوده هذه مسألة من المسائل المختلف فيها، بعض العلماء قالوا بوجود ترادفٍ في القرآن الكريم بالجملة؛ نظراً لكون القرآن وإن كان في غاية البلاغة والفصاحة إلاّ أنّه نزل على طبق مخاطبات الناس العرب، ولم يأتِ بطريقةٍ جديدة وبأسلوب جديد، بل بنفس الطريقة التي كان العرب يتفاهمون فيها؛ مثل: اضرب فعل أمر، ضرَبَ فعل ماضٍ، يضرب فعل مضارع، بنفس الطريقة التي يتعاملون بها - أيْ العرب – القرآن الكريم نزل، والتَّرادف عند العرب شيء كثير، مثل: ليث وأسد وهزبر وغير ذلك، وإن كان بين كل واحد وآخر فرقٌ دقيقٌ، ولكنَّ هذا مُستعمل عندهم.
بل أكثر من هذا، بعض الباحثين يقول حتَّى عندنا في الروايات، وبعضها روايات صحيحة عن الإمام الصادق (عليه السَّلام)، يقول له الراوي: أنا أحياناً أسمع منك حديثاً ولكن لا أحفظ نفس النص الذي أنت أتيت به، أحيانًا لا سِيَّما في الأحاديث الطويلة، فقال الإمام: إذا حفظت الصُّلب فعبّرعنه ، إنما ذلك مثل: هَلُمَّ وتَعالَ، واقعد واجلس، فإذا حفظتَ المعنى الدَّقيق له عبِّر عنه وإن كان فيه شيء من الاختلاف؛ لأنَّ العرب تتعامل بهذه الطريقة.
أنت الآن إذا قلتَ لأحدهم: اجلس، وأتى آخرُ وقلتَ له: تفضّل اجلس، هنا إذا لاحظت الدِّقة فقد أخطأت؛ لأن الجلوس من نوم، تقول: كان مضطجعًا فجلس، أمَّا إذا كان واقفًا وأراد أن يثني صلبه فيقال له حينئذ: قعد، فتقول له: اقعد. الآن لو قلتَ لأحدهم: اقعد، يراها شيئًا غيرَ طبيعيٍّ، بينما إذا قلت له: اجلس، يراها تكريمًا، مع أنّه من الناحية الدقّية اللغوية هذا خطأ، فاجْلِسْ يعني هذا نائم فانتصب، تقول: اجلس من النوم، أمَّا إذا كان واقفًا لزم عليك أن تقول له: اقعد، لكن هذا المعنى غير متعارف عند العرب وإن كان فيه دِقَّة.
فيقول لك صحيح ألفاظ القرآن الكريم دقيقة جداً مهندسة بنظام دقيق ولكن جرْيَ اللسان فيها على طريقة استعمال العرب هذا أولاً.
أصبح عندنا أن قضية الترادف (عدم وجود الترادف في القرآن) ليس آيةً منزلة, فهذه نظرية من النظريات بين الباحثين القرآنيين، وقسم منهم يقول لا يوجد ترادف ولا مجاز حتى، مثل: ابن تيمية، يقول: لا ترادف ولا مجاز، طبعاً حتى بعض الباحثين من الشيعة أيضاً قالوا بعدم وجود ترادف وبعدم وجود مجاز مثل أصحاب المدرسة القصدية. فإذن قضية أنّه لا يوجد ترادف أصلاً هذه ليست آية منزلة، هذه نظرية من النظريات قد تكون صحيحة وقد تكون خاطئة هذا أولاً.
الأمر الثاني: نحن نلاحظ أنّ نبيَّنا المصطفى محمد (صلَّى الله عليه وآله) قد استعمل الصوم بهذا المعنى الذي نمارسه "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ" استخدم فيه النبيُّ لفظ الصَّوم، فكيف تقول أنّ الذي هو مكتوب علينا هو الصيام وليس مكتوبًا علينا الصوم، لا، فإنَّ النبيَّ استخدم كلمة الصوم.
أنقل إليك بعض الأحاديث التي اتُّفق على صَحَّتِها في المدرستين - مدرسة الخلفاء ومنهج أهل البيت (عليهم السلام) –، لأنه لو اقتصرنا بالاستدلال بما ورد عن طريق أهل البيت (عليهم السَّلام) لقال بأنَّ هذا غير معتبر به، فيلزم أن تستدل بالطريق الآخر, في الحديث عن النبي محمد (صلَّى الله عليه وآله): "لا صيام لمن لم يُبيّت الصوم من الليل". (حديث صحيح عندهم). حتى عندنا هذا موجود، فيجب أن ينويَ الإنسان نية الصيام ليلاً, أو ينويها من الآن إلى آخر شهر رمضان. فإذا استقيظ أحدٌ ولم يكن ناويًا الصومَ ففي صومه إشكال, ويوجد روايات تقول: إذا كان ناسيًا يمتدُّ الأمر به إلى الصباح، لكن الأصل أنه لابد أن يكون على نية من الليل.
والشَّاهد أنَّ في هذا الحديث النبيُّ جمع بين لفظ الصيام ولفظ الصوم: "لا صيام لمن لم يبيت الصوم من الليل", فإذن هو ينوي غدًا الصوم، فكيف تقول أن الصوم معنى عظيم وغير مطلوب من عندنا، والمطلوب منَّا هو الصيام, لابد أن يبيّت الصوم حتى يحصل على الصيام.
حديثٌ آخر أوضح أيضاً وهو قول النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) كما روي صحيحًا عندهم: "إنّ الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة" ، وضع عن المسافر ماذا؟ وضع عنه الصوم, هذا الصوم الذي يمتنع الإنسان فيه عن المفطّرات, فإذن كتب علينا الصيام دون الصوم ليس بصحيح, كتب علينا الصوم أيضًا ووضع عنا في وقت السفر, بعد ما كان الصوم واجباً علينا لما أصبحنا مسافرين وضع عنا، رفع عنَّا الصوم.
والحديث الثالث الذي هو حديث قدسيّ: "الصوم لي وأنا أجزي به – أو أُجزى به –" . ثم يعقِّبُ النَّبِيُّ يقول: إنَّ للصائم فرحتين – جعلنا الله وإياكم ممن يلقّى فرحة لقاء الله يوم القيامة –؛ فرحةً عند إفطاره وفرحة عند لقاء ربِّه، فيقول: الصوم لي أنا الله. وتحقيق ذلك بفعل الصائم, إن للصائم بهذا الصوم فرحتين, فاتَّضح إذن الصوم والصيام يستعملان في حديث رسول الله بمعنى واحد, إلاَّ إذا كان - والعياذ بالله - أنَّ النبي أيضًا ما كان متوجِّهًا لهذا الفرق بين الصوم والصيام، وهذا أيضًا القائل والمعتقد به يصل إلى حدِّ جحود النبي.
فهذا التَّفريق المذكور والذي يُتساءل عنه ويُعتبر كأنه فكرة جديدة ومُبدعة وكذا؛ لم يظهر أن عليها برهاناً واضحاً.
اللغة أيضاً تقول نفس الشيء أن الصوم والصيام بمعنى واحد, أساساً إنَّ الصوم والصيام هو بمعنى الإمساك عن شيء، فالخيل إذا كانت متحركة فتوقفت يقولون خيل صيامٌ وخيل غير صائمة, صائمة ليس بمعنى لا تأكل، بل بمعنى غير متحركة. يقولون الشمس إذا صارت على عمود في وسط السماء: الشمس صائمةٌ، يعني لا تتحرك ثابتة هذا في اللغة.
وأيضًا يُقال: صومٌ للممسك عن الكلام، وما ورد في الآية المباركة التي هو أراد أن يستدلّ بها أن الصوم قد يجتمع مع الأكل والشرب لا!، فالصوم في اللغة بمعنى الإمساك، فتارةً يكون إمساكًا عن المفطرات، فيكون هذا الصيام الذي نحن مكلفون به, وتارةً يكون إمساك عن الكلام فيكون صوم عن الكلام, وتارةً خيل لا تتحرك فتكون خيل صائمة عن الحركة, وتارةً شمس لا تتحرك فتكون شمس صائمة، وعلى هذا القياس.
فهذا التفريق أو التفكير في التفريق لم يتبين له وجه تام وسليم كما ذكر.
هذا بحث في قضية الفرق بين الصوم والصيام وتبيّن أنه لا يظهر أنَّ هناك فرقاً بهذا المعنى الذي ذهب إليه، نعم هناك بعض الفروق اللغوية مثل أن هذا مصدر وأن هذا اسم مصدر لكن هذا لا يخدم تلك الفكرة.
القرآن الكريم يقول "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ - إلى أن يقول - فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ"
هنا أيضا حدث بحث بين فقهاء المسلمين، وبالتالي المذاهب الإسلامية، في أنّ ترك الصِّيام في السفر هل هو رخصة أو عزيمة؟ يعني بكيف الإنسان؟
مثل قسم من الناس يقول: في ذاك الزمان الذي كان الصوم شاقًّا في السفر؛ السفر كان على الإبل في الشمس المحرقة كان من الطبيعي أنَّ الإنسان يترك الصوم، أمَّا الآن فعندنا أسفار مثل 44 كيلو مترًا يوميًّا، أنت ذاهب إلى عملك في سيارة مكيَّفَةٍ لا تُكَلِّفُ شيئًا، فإذن لا ينبغي الإفطار، وإنما الإنسانُ مُخيَّرٌ بين أن يُفطر وبين أن يستمرَّ على صومه، وهذا معنى الرخصة؛ أنَّ الإنسان مُرخَّصٌ لهُ أن يُفطِرَ في وقتِ السَّفَر.
والعزيمة معناها: أنّه يجب عليه الإفطار، ولو صام كان ذلك الصوم باطلاً وغير مقبول منه. ومذهب أهل البيت (عليهم السلام) وإجماعهم تقريبًا على أنَّ الإفطار في السَّفَرِ عزيمةٌ وأنَّ الصَّوم في السفر باطلٌ.
وهم يَجمعون في هذا أوَّلاً أحاديثَ عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، ثُمَّ عن المعصومين (عليهم السَّلام) وقبل كل ذلك يستفيدون من الآية المباركة حيث تقول "فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ"، يعني فيجب عليه عِدَّة من أيام أُخَر، إذا وجب عليه عدة وقضاها هل يُعقل أن يكون صومه ذاك صحيحاً؟ إذن المسافر ما هي وظيفته؟ الآية تقول: فعدة من أيام، يعني يجب عليه أن يصومَ أيامًا أُخَرَ، وإذا وجب عليه القضاء هل يصح مع ذلك صومه السابق؟ لا يصح.
نحن لا يوجد عندنا أمر يجب عليك حتما أن تصوم ويجب عليك أن تقضي, الحالة الطبيعية أنَّ من صام لم يكن عليه قضاء، ومن صلَّى صلاةً صحيحة ومن صام صوماً صحيحاً لم يجب عليه القضاء, يسقط الأمر بالصيام، يسقط الأمر بالقضاء، يسقط الأمر بالصلاة. أنت الآن صليت صلاة المغرب هل يجب عليك قضاؤها؟ كلاَّ، صُمْت هذا اليوم مثلاً أو غداً هل يجب عليك قضاؤه، كلاَّ. ما دام قد أوجب القرآن الكريم القضاء سيَتَبَيَّنُ منه أنَّ ذلك الصيام لم يكن صوماً صحيحاً. وهذا معنى أنّ ترك الصيام عزيمةٌ ولازمٌ وواجبٌ، هذه الاستفادة من نفس القرآن الكريم بالإضافة إلى ما جاء في الحديث عن نبينا محمد (صلَّى الله عليه وآله)، ففي الحديث عن - وهذا ينقلونه باعتبار أن فيه جانبَ غرابةٍ أنا أنقله وسوف تحفظه بالتَّأكيد - النبي (صلَّى الله عليه وآله) أيضًا - وكان يكلِّمُ النَّاسَ بحسب لغاتهم ولهجاتهم - فجاءه رجلٌ من حِمْيَر من اليمن، وحِمْيَر في اليمن يقلبون (ال) إلى (ام)، مثل: السيارة امسيارة، البقالة امبقالة، الرجال امرجال، فقال له: يا رسول الله امن امبر امصيام في امسفر؟ يعني: أمن البر الصيام في السفر؟ يقولون - وهذا موجودٌ في كتبهم -: فردَّ عليه النبيُّ: ليس من امبر امصيام في امسفر. يعني: ليس من البر الصيام في السفر. وأنا تعمَّدتُ نقلَ هذا الحديث لأنَّ هذا الحديثَ الذي سوف يبقى في ذهنك وغيره لن يبقى.
والشاهد فيه أنّ النبيَّ (صلَّى الله عليه وآله) جَعَلَ الصَّومَ في السَّفَر ليس من البِرِّ، ليس من الخير، وهل يمكن أن تكون عبادةٌ ليس من الخير، غير ممكن أن تكون عبادة وهي ليست من البر، فهي مرفوضة، فليس من البر الصيام في السفر يعني: أنَّ هذه عبادةٌ باطلةٌ وغير مطلوبة وغير خيّرة، بالإضافة إلى ما نقلناه أنَّ اللهَ وضع عن المسافر الصِّيام في السفر كما ذكرنا قبل قليل، وأكثر من هذا أن النبيَّ (صلَّى الله عليه وآله) أفطر وأفطر معه خلّص أصحابه، وقسمٌ من هؤلاء المتنطّعين قالوا: نحن تديّننا تديّن قوي، ليس هذا التدين (ماي مايو -حسب التعبير-) أو هذا التديّن السهل, نريد أن نصومَ ونتحمَّل المشقة، فأمرهم (صلَّى الله عليه وآله) بالإفطار، فلمّا لم يُفطروا قال: أولئك هم العصاة لله, هؤلاء ليسوا في حالة طاعة، هؤلاء في حالة عصيان, وإنَّ الصوم في السَّفر كالإفطار في الحضر.
مثل الشيء أنت موجّه لك في ذاك الوقت، ألاّ تصوم، هذا أمر الله، مثل ما أمر الله لك في وقت الحضر أن تصوم، فلو عصيته عصيت الله، كذلك في ذلك المكان، ولعلّ هذا في أسفار النبي للغزو؛ لأنَّ في بدر - مثلاً - هؤلاء في حالة سفر، فيلزم منهم أن يفطروا وإن كان في شهر رمضان، وبدر تبعد عن المدينة مسافة كبيرة مسافة شرعية، وهكذا الحال في فتح مكة، لأنَّ النبيَّ (صلَّى الله عليه وآله) خاض غزوتين؛ غزوة بدر وغزوة فتح مكة، وكلاهما في شهر رمضان، فيُفترض في هذا المسير ما دام النبي مسافراً أن يُفطر وأن يُفطر معه من كان من المسلمين.
فعندنا إذن هي على نحو العزيمة بالإضافة إلى القرآن الكريم؛ السنة النبوية تشير إلى ذلك وأيضاً أحاديث أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم).
يبقى عندنا هذا الذيل "وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ". بعض المسلمين ذهبوا إلى أنَّ هذه الآية آية منسوخة، لماذا؟ قالوا لأنَّ الصَّوم شُرِّعَ على مراحل، وقد ذكر ذلك ابن قيّم الجوزيّة من أعاظم علماء المدرسة السَّلفية، وهو من تلامذة ابن تيمية، وبعض العلماء يقول هو من الناحية العلمية أعلى من أستاذه بكثير، وله مصنّفات كثيرة، ابن قيّم الجوزية أو ابن القيّم أحياناً يُقال له هكذا، وقيِّم الجوزيّة باعتبار أن والده كان قيّومًا على مدرسة اسمها المدرسة الجوزيّة، ومُتولّيًا على تلك المدرسة فعُرف بابن قيّم الجوزية، ويُقال له ابن القيّم، هذا الرَّجل جاء وقال - وهو مُكْثِرٌ في التأليف - قال الصوم شُرِّعَ على ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: كان الإنسان مُخَيَّرًا فيها بين أن يدفع فدية طعام مسكين وبين أن يصوم، ودليلُ ذلك هذه الآية المباركة "وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ".
المرحلة الثانية يقول: كانَ في اللَّيل إذا الإنسان أفطرَ يستطيع يُفطر ويتمتّع إذا لم ينَم, ولكن إذا نام فاتت عليه فرصة الإفطار, ولا يستطيع حتى لو استيقظَ فيما بعد. وينقلون هنا قصتان، قصة عن خوّات ابن جُبَير: أنّه أتى وكان صائمًا، وكان في وقت الخندق، فمن التعب نام وعندما استيقظ لا يستطيع الأكل بناءً على هذه الفكرة, لا يستطيع الأكل إلى اليوم اللاَّحِق، وفي اليوم الثاني ذهب إلى الخندق وقام بالحفر فوقع مغشيًّا عليه من التعب, فقالوا لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله) فتغيَّرَ الحكمُ. وقصة أخرى ينقلها القُرطبيّ في تفسيره، يقول: أنّ عمر بن الخطّاب خرج من منزله في الليل في شهر رمضان، فلمَّا رجع رأى أن زوجته نامت، فإذا نامت فلا تستطيع أن تقارب زوجها, فأتاها يريد منها المقاربة، فقالت له: لقد نمت، قال نمت أو لم تنمي لا تعللي، ولا نعرف هذا الكلام, فقارب زوجته، وبعدها قال لرسول الله أنَّ القضية كيت وكيت، فجاءت آية: "أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ..." .
نحن نعتقد أنّ كلا الأمرين فيه مناقشة:
أمَّا في الرأي الأول في أنَّ الآية منسوخة فعن أهل البيت (عليهم السَّلام) أنها من الآيات المحكَمَات ولم تُنسخ، وأساسًا هي غيرُ مرتبطة بهذا الحديث الذي تتحدثون فيه, وإنما هي تتحدث عن فئة ثالثة، والآيات التي قرأناها والتي بعدها تُعيّن أصناف الناس بالنسبة إلى تكليفهم حسب الحكم الشرعي؛ إما أن يكون الإنسان حاضرًا، أو مسافرًا، مريضًا أو سليمًا. فإذا كان حاضرًا وسليمًا "فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ" ، وإذا كان مسافرًا أو مريضًا "فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ", وهناك قسم ثالث؛ لا هو هذا ولا ذاك ولا الثالثة؛ وعندنا قسم رابع وهو أن إنسانًا - مثلاً - عمره 80 سنة غير مريض يمارس حياته العادية بشكل طبيعي، ولكن أن يصوم 18 ساعة فهذا صعب عليه، يبلغ جهده وطاقته أقصاها لا يستطيع أن يفعل هذا, هذا له حكم شرعي أم لا؟ هو غير مسافر حتى تقول (عدة من أيام اخر)، ولا هو مريض فهو يمارس حياته بشكل طبيعي، ولا هو أيضًا شاب وعنده قدرة على الصيام فهذا ما هو حكمه؟ قالت الآية "وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ".
المريض ينتظر بعد شهر أو شهرين عدة من أيام أخر، أمَّا هذا فعمره 80 سنة، والسنة القادمة يصبح 81 وضعه يكون أصعب لا يمكن أن يقضي, فإذا عليه فديةٌ طعام مسكين.
الآن (يطيقونه) إمَّا بمعنى أنه يبلغ أقصى طاقتهم وجهدهم، أو على حذف "لا" ويكون التقدير: وعلى الذين لا يُطيقونه، وفي القرآن الكريم موجود هذا الأسلوب، مثل: "تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ" ، يعني: تالله تفتأ لا تذكر يوسف، يعني إلى لآن لا تزال تفعل هذا الفعل. فإذن هذه الآية المباركة أصلاً بعيدة عن هذا الموضوع ولا ترتبط بهذا الموضوع, ترتبط بمن لا يستطيع الصيام لا لجهة مرض وإنما لجهة كِبَرٍ وشيخوخة.
هذا أمر, والأمر الآخر أننا نجد في قضية "أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ..." أنها كانت على نفس السياق التي جاءت فيه الآيات المباركة الأخرى، ولذلك لا نعتقد بأن ما ذكر من تشريع قضية الصوم بشكل تدريجي وعلى مراحل؛ لا نعتقد أنها دقيقة, نعم ربما تكون هناك حالات خاصة لأفراد معيّنين, تصوّروا أو توهَّموا هذا الشيء وجاء الحكم موضِّحًا إليهم. هذا بالنسبة الى أطراف الآية المباركة وتاريخ تشريع الصيام.
والغرض من هذا التشريع كما يقول القرآن الكريم "لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"، والتقوى التي تمنع الإنسان عن المعاصي وتجعله مسيطرًا على نفسه هذه يتدرَّب الإنسان عليها سنة بعد سنة، وقد أوضح ذلك سيد الأنبياء محمد (صلَّى الله عليه وآله) في خطبته الشَّعبانية عندما بيّن بعض حِكَمِ هذا الواجب الإلهي، فقال: "واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه وارحموا صغاركم ووقروا كباركم وتحننوا على أيتام الناس يُتحنّن على أيتامكم" .
من خلال شهر الصيام ورمضان ستستشعر بالجوع المُنتظر والعطش المُنتظر في يوم القيامة، هذا الجوع والعطش ليس مما يوصف وإنما هو مما يدرك ويُستشعَر, ما هو معنى ذلك؟ الآن لو أراد أحدهم أن يصف إليك هذا المسجد يستطيع أن يصف لك وصفًا دقيقًا في أبعاده، في أضلاعه، في فَرشه، ويصنع لك خريطة كاملة تستطيع أن تنقلها إلى مكان آخر, وهذا عمل المكاتب الهندسية والوصّافين, لكن لو أحدهم أتى وقال لك: أريد أن تشرح لي معنى اللَّذة ؟ لذة يعني شخص يضحك إذا التذ؟ هل معنى يضحك أو يُصفّق أو يشبع أو ماذا؟ ماذا يحدث عندما يصبح الإنسان يلتذّ، يقول لك هذا من الصَّعب وصفه بدقّة، لابدّ أن تعايشه، لابدّ أن تجرّبه حتى تستشعر بذلك, الجوع والعطش هو من هذا النوع, إذا قال أحد لك: أنا عطشان، يستطيع أن يقول لك بعض الآثار، فمثلاً يقول: رأسي يُؤلمني أو بطني خالٍ وقواي ضعُفَت أو غير ذلك, لكن أن تستشعر الجوع والعطش بتمام معناه لابدّ أن تجرّبه، إذا ما جربته لا تستطيع أن تحيط بكل معانيه, متى أنت تتذكّر أكثر عطش الامام الحسين عليه السلام؟ عندما تعطش عطشاً شديداً تضعف قواك, في ذاك الوقت تقول أنا لم يحدث لي إلاّ أربع أو خمس ساعات أو ست ساعات أو عشر ساعات، ولم أبذل جهودًا مضنية، ومع ذلك هذا الدُّوار هذا الألم كله موجود عندي, كيف بذلك العظيم الذي قد بلغَ العطشُ به أن حال بينَه وبين رؤية مخيّمه كالدّخان ..

مرات العرض: 5745
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (4463) حجم الملف: 53314.53 KB
تشغيل:

التوراة تعريفها وتحريفها
المسيح عيسى بن مريم : حياته وعصره