التوراة تعريفها وتحريفها
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 8/9/1437 هـ
تعريف:

8- التوراة تعريفها وتحريفها

صياغة الأخ الفاضل علي جعفر الجمريّ

 

بسم الله الرحمن الرحيم

"وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ"[1].

حديثنا يتناول بإذن الله تعالى موضوع التوراة؛ وهو الكتاب السماويُّ لموسى بن عمران النبيِّ (على نبيِّنا وآله وعليه أفضل الصلاة والسلام)، وذلك في سياق قِصَّة الديانات والرسل.

بعد أن تحدثنا على سبيل الاختصار عن حياة نبيِّ الله موسى إلى أن توفاه الله (عزَّ وجلَّ)، يناسبُ أن نتحدَّث عن كتابه وشريعته في تعريفها أوَّلًا ما هي هذه التوراة؟ على ما تحتوي الكتب التي يقدِّسُها اليهودُ ما هي؟، وبعد معرفة ذلك نتحدَّث إن شاء الله عن موضوع التَّحريف الذي طرأ على هذه الكتب، وأخيرًا نتحدَّثُ عن المراحل الزَّمنية التاريخية التي حصل فيها هذا التحريف.

في البداية لابُدَّ أن نشيرَ إلى أنَّ القرآن الكريم ذَكَرَ التَّوراةَ في عددٍ من الموارد بلسان التَّكريم والتعظيم باعتبارها آيَ التَّوراة الأصليَّة من كتب الله, ومما أنزل الله (سبحانه وتعالى): "وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا ..."[2], أو في آية أخرى يصفها بأنها فيها هدى ونور[3]، في هذه الآية يصفها بأنها حكم الله، فإذن التوراةُ الأصليَّة قبل أنْ يطرأ عليها ما طرأ هي من الكتب الإلهيَّة السَّماوية الصَّادقة التي تكشف عن الحقائق، نعم بعد التَّحريف بأنواعه المختلفة، في فتراته المختلفة، أصبح هناك اختلاط بين الوحي الإلهي وبين الكتابة البشريَّة.

نبدأ بموضوع التعريف لهذه الكتب التي توجد عند اليهود وفي الديانة اليهودية.

أولها: التوراة

التوراة الموجودة بالفعل المترجمة باللغة العربية؛ لأنَّ أصلَها لم يكن عربيًّا، إنما المترجم منها والموجود هو كتابٌ صغير، ومعنى التوراة باللغة العبريَّة: هو التعليم، وهذه التوراة تحتوي على خمسة أسفار؛ كلُّ قسمٍ يُقالُ له سِفْر، وفي اللغة العربية معنى سِفْر: الكِتَابُ المكتوب[4].

أول سِفْرٍ يُقال له: سفر التكوين، وسفر التكوين يصف بداية الخلق، وكيف بدأ الله (سبحانه وتعالى) هذا الخلق، والسِّفْرُ مثلُ القرآن الكريم فيه آياتٌ وكلام، ينفصلُ كُلُّ مقدارٍ من الكلمات بعلامةِ آيةٍ، وكذلك هذا السِّفْرُ وباقي الأسفار.

فيبدأ السِّفْرُ الأول - وهو سفر التكوين وسفر الخليقة - بداية الكون، وكيف خَلَقَ اللهُ هذا الكون، وسنقرأ خمسَ آياتٍ لهذا السِّفْرِ لكي نتعرَّف على هذا الموجود باللغة العربية، فكما قلت هو ليس باللغة العربية؛ وبالتالي ليس فيه بلاغة، وأنت ترى كيفية الاختلاف بين بلاغة وإعجاز القرآن الكريم اللفظي والمعنوي وبين هذه الكلمات، في هذه الآيات أو في السِّفْرِ الأول سِفْرِ التَّكوين يبدأُ هكذا في قصة الخلق، يقول: "في البدء خلق الله السموات والأرض وكانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الله يرفرف على وجه المياه وقال الله لِيَكُنْ نور، فكان نور ورأى الله إنه حسن، وفصل الله بين النور والظلمة، ودعا الله النور نهارًا والظلمة دعاها ليلاً وكان مساء وكان صباح يومًا واحدا". هذي بعض الآيات - إن صَحَّ التعبير - من سِفْرِ التكوين من سفر الخليقة بداية الخلق، فالسِّفرُ الأول يتكلَّمُ في مختلف أجزائه عن هذا المعنى وأنَّه كيف خلق الله السماوات والأرض، هذا في القسم الأول.

السِّفْرُ الثاني: يُسَمَّى بسفر الخروج، وسِفْرُ الخروج قصَّة تاريخية لما جرى على نبي الله موسى بن عمران من بداية ولادته إلى أن خرج بقومه هاربين من فرعون واجتازوا البحر وأُغرِق فرعون، هذا المقدار من الفترة الزمنية من القصص مع تفاصيل كثيرة فيها تحدث عنها السفر الثاني المسمى (سفر الخروج)، والخروجُ مقابل الدخول؛ كأنَّه خروج نبي الله موسى بقومه من مصر هاربين من فرعون، وكان هذا سبب تسمية السفر، وهو يشابه كثيرا - مع أرجحية وأفضلية من ناحية اللغة والمعنى - ما ذكرناه في مجلس سابق من أن سورة القصص من الآية الثالثة إلى الآية الواحدة والأربعين تتحدث عن هذه الفترة الزمنية منذ ولادة موسى إلى أن أنجى الله موسى مع قومه من فرعون في ما يقارب من أربعين آية من سورة القصص، طبعًا مع ملاحظة بلاغة القرآن التي لا حدود لها ودقَّة التعبيرات الموجودة فيه، وهذا هو السفر الثاني.

السفر الثالث: يسمى (سفر التثنية)، والتثنية كلمة من واحد اثنين، تقول: أنا ثنَّيتُ بكذا، يعني كرَّرتُهُ وأعدتُه، وهو يحتوي على أحكام شرعية وأحكام أخلاقية مثل الرسالة العملية زائد الأخلاق، ففيه واجبات ومحرَّمات وأخلاقيات، وحيث ينبغي أن تحفظ وتستعاد فإنَّه يُقرأ مرَّتين وثلاثًا، فسُمِّيَ بسفر التثنية، مثلاً مما جاء فيه: "أكرم أباك وأمك كما أوصاك الرب إلهك؛ لكي تطول أيامك، ولكي يكون لك خير على الأرض التي يعطيك الرب إلهك، لا تقتل ولا تزنِ ولا تسرق ولا تشهد على قريبك شهادة زور ولا تشتهِ امرأة قريبك ولا تشتهِ بيت قريبك ولا حقله ولا عبده ولا أمته ولا ثوره ولا حماره ولا كل ما لقريبك" أي شيء لقريبك لا تشتههِ، طبعًا اليهود فيما بعد ذهبوا بجعل هذه الأحكام خاصة بمن هو يهودي، أمَّا غيرهم ممن هو غير يهودي فلا مشكلة في هذا، وهذه من جملة التحريفات التي طرأت على أحكام التوراة، وهذا السفر الثالث.

السفر الرابع: يُسمَّى (سفر اللاَّويِّين)، واللاويون: هم من كانوا من نسل لاوي، وتعلمون أنَّ نبيَّ الله يعقوب (عليه السلام) كان له اثنا عشر ولدًا "إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ"[5] من بين هؤلاء الاثني عشر من بعد يوسفَ النبيِّ كان ابنُهُ لاوي، في أعلى درجات الأخلاق والطاعة لأبيه، وبحسب ما يظهر من التاريخ كان هو السبب المادي - طبعا فوق السبب المادي إرادة الله - في الحفاظ على حياة نبي الله يوسف، خاض معركةً مع عشرة فقاتل وجُرِحَ كي لا يقتلوه، ولعلَّهُ لهذه الجهة من دفاعه واستبساله في الدفاع عن نبي الله (عزَّ وجلَّ) ولأسباب أخرى جُعِلَت النبوة والوصاية والوراثة الدينية في نسل لاوي، فتجد مثلاً موسى بن عمران حفيد لاوي وسليمان كذلك وداوود، فرع لاوي أو سبط لاوي انحصرت فيه المرجعية الدينية وهم تخصصوا في هذا الأمر، لا سِيَّما في قضايا النذور والذبائح وما يرتبط بها من ممارسات خاصَّة كلُّها في نسل لاوي، وتنظيم هذه الأحكام إليه سفر خاص يسمى (سفر اللاويين).

السِّفْرُ الخامس والأخير: يُسمَّى (سفر العدد)، والعدد: يعني قبائل بني إسرائيل، وأنسابهم اثنا عشر سبطًا، ثم هذه الأسباط لمن توزع ثم إلى قبائل وهذه القبائل لما تتفرع، هذا كان يذكر قبائل بني إسرائيل. ونذكر ملاحظة: وهي إنَّ هذا السِّفْرَ كان يُقِيْمُ له بني إسرائيل أهمية، لماذا؟ لأنه يحفظ أنسابهم وانتمائهم، فالديانة اليهوديَّة ليست ديانة تبشيرية عكس الإسلام والمسيحية، فالإسلام مجرد اعتناقه يحق لك التبشير بالإسلام وله حقوق، وكذلك المسيحية، أمَّا اليهود فهم لا يعتبرون ذلك يهوديًّا أصليًّا، فلذلك الديانة اليهودية ليست ديانةً تبشيرية، واليهود الأصليُّون لا يتعدَّون 12 مليون، مع أن التوراة مطبوعٌ منها بمئتين لغة، وسفر العدد يُعْنَى بذكر عدد وأنساب وقبائل بني إسرائيل.

 هذا إجمال التوراة الموجودة عندنا والمترجمة باللغة العربية،

التاناخ : وهناك دائرة أكبر من التوراة من التراث اليهودي وهو ما يسمونه بالتاناخ، التاناخ: عبارة عن كتاب مجموع من ثلاث كتب، وقد يقال له أيضا: العهد القديم، يشتمل على التوراة التي ذكرناها ويشتمل على شيء آخر هو الأنبياء أو ما يسمونه: نبي إيم، ففي اللغة العِبرية أحد أساليب الجمع هو إضافة الياء والميم، فهؤلاء جمعوا ثلاثة أشياء في كتاب واحد: التوراة، الأنبياء، الكتب. أول حرف من كل مسمى جُمِعَ فصارت كلمة (تاناك)، وهم ينطقونها (تاناخ).

هذه دائرة أوسع وأكبر، وهي شروحات وكتابات كُتِبَت متأخرةً، وبعضها كتب بعد مُلْكِ النبي سليمان، أي قبل 600 سنة قبل ميلاد النبي عيسى، والنبي موسى ولد قبل 1300 سنة من ميلاد المسيح، والفاصلة جِدًّا كبيرة بين هذين التاريخين حوالي700 سنة بين عهد موسى وبين هذي الكتب، وهناك عندهم أيضا كتب تسمى بمشناة، أو مثناة باللغة العربية، والخليفة الثاني رفص أن يكتب حديث رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وقال: لا نريد مثناة أو مشناة أهل الكتاب، وهذه المشناة أو المثناة عبارة عن دروس وشروحات كتبها الأحبار والرُّهبان ودوَّنوها فصارت كتبًا ضخمةً أكبر من التوراة والتاناخ، وهي تشكل موروثًا ثقافيًّا دينيًّا لليهود، وأكبر من كل هؤلاء هو التلمود، وهذا المثناة والتلمود ليست من الكتب المقدَّسة عندهم، بل المقدَّسة هي الكتبُ السابقةُ، وهذا في إجمال تعريف هذا الكتاب.

هذا الكتاب كما ذكرنا في أصله عندما أنزله الله على نبيِّه موسى كتابٌ مقدَّس محترم يكشف عن الواقع، وهو برنامج للناس إلى أن يأتي الكتابُ الآخر والرِّسالة الأخرى فيجب العمل به في تلك الفترة، ولكنَّ الذي حدث كما ذكرنا حصل له تحريفٌ متعدِّد، وقد أشار إلى ذلك علماؤنا وبعض الباحثين في مدرسة الخلفاء، وأنا أشير إلى بعض الكتب في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) أهمًّها ما كتبه المرحوم الإمام الشيخ محمد جواد البلاغي أستاذ المرحوم الإمام الخوئي، وكان فحلاً في الأصول والعقائد والفقه، فعنده كتاب (تفسير القرآن)، وعنده كتاب في الرد على المسيحين واليهود، ودرس اللغة العِبريَّة القديمة، وله إلمامٌ باللًّغة اللاتينية وغيرها، وتخصَّصَ في التَّوراة والإنجيل ، وعنده كتاب الرِّحلة المَدْرَسِيَّة، وكتبٌ أخرى في هذا الجانب، ومن المعاصرين أيضًا أحدُ علماء الحوزة العلمية وهو السيد سامي البدري، وقد تعمَّقَ في هذه الكتب واكتشف جملةً من الأشياء التي ينبغي تصحيحُها من النَّاحية القرآنية ومن الناحية الرِّوائية، ونحن عندما نقول (تحريف) لا يعني أن نجمع كلَّ هذه الكتب ونرميَها في سلَّةِ المهملات، وإنما ما كان لا يخالف القرآن الكريم ولا الأصولَ الإسلامية يمكن أن يقول الإنسان أنَّ هذا من التوراة الأصليَّة.

أقسام التحريف:

والتحريف على أقسام؛ يمكن أن يكون تحريفًا معنويًّا وهو تحريف الكلمة عن معناها، مثلاً إذا قال الله (سبحانه وتعالى): "... أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ..."[6]، أنا الذي أريد أن أُحَرِّفَ الكَلِمَ عن مواضعه أقول: نعم يجب إطاعة أولي الأمر، ومعنى ذلك لابد من إطاعة يزيد بن معاوية وإطاعة الحجاج الثقفي وإطاعة بعض الطواغيت!، هنا أنا لم أغير في الكلمة شيئًا وإنما غيَّرتُ في معناها، هناك أولي الأمر الذين فرض الله طاعتهم هؤلاء فئة محدودة، (وليس كل من تزوج أمي صار عمي) حسب التعبير!، وليس كل واحد صار على كرسي الحكم صار من أولي الأمر وتجب إطاعته مهما كان، فهذا تحريف معنويٌّ حصل في الإسلام وعند المسيحيين واليهود وإلى اليوم أيضًا موجود في الإسلام، فآياتٌ في القرآن في زمنٍ كانت تُفَسَّرُ بشكلٍ ما، ولكن في زمن آخر لمصلحةِ ذوي السُّلطان أو المال أو غير ذلك تفسر على غير تفسيرها، وهذا تحريفٌ عن مواضعه.

وهناك تحريفٌ لفظيٌّ بالزِّيادة والنَّقيصة، إما زيادة شيء أو نقيصة شيء، وقد أشار القرآن الكريم في بعض آياته إلى إخفاء بعض الآيات بعض الكلمات وإلغائها عن الناس، لا سِيَّما في فترة اليهود والنصارى لم يكن عامَّتُهُم مُطَّلعين على الكتب السماويَّة، أساسًالم تكن مكتوبة باللغة العامَّة، ومن نِعَمِ الله (سبحانه وتعالى) على أمتنا الإسلامية أنْ يَسَّرَ القرآن للذكر: "وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ"[7]، وندب الناس لقرائته فهل من مدكر وانفتح المسلمون مباشرة على القرآن ولذلك لا يمكن يحصل عنده هذه التحريف فهذا الذي صار في التوراة ، يقول الله في القرآن الكريم "أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون" وهو تحريف متعمد ، وفي آية أخرى يقول "قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا"[8]، وفي آية ثالثةٍ ورابعةٍ يذكر هذا التحريف سواء بالزيادة أو بالنقيصة، وأحيانًا كما أشار إلى ذلك العلامة الإمامُ البلاغيُّ (رضوان الله عليه) في أثناء نقاشه مع أحد القساوسة، قال له: النبيُّ المصطفى محمد (صلَّى الله عليه وآله) مذكورٌ بالإشارة والتَّصريح في الإنجيل، فقال له: غير صحيح، قال العلامةُ البلاغيُّ: اقرأ معي - ويأتي إليه بالنَّصِّ الموجود - ويصل لكلمةٍ مُعَيَّنَةٍ ويقول له: هذه الكلمة حُذِفَ منها بعضُ النِّقاط وصارت إلى غير وجهتها وكانت تعطي اسم النبي (صلَّى الله عليه وآله)، والشَّاهد أنه أحيانًا حتى نقطة واحدة تغيِّرُ المعنى كُلِّيًّا.

مراحل تحريف التوراة :

هذا ما فعله اليهود على مراحل متعدِّدة، فبدأت المرحلة الأولى بعد زمان يوشع بن نون، وعندما توفي وُجِدَ هناك خَطٌّ منحرفٌ في بني إسرائيل غَيَّرَ وَبَدَّلَ وَأَضَافَ وَأَنْقَصَ في التَّوراة.

المرحلة الثالثة صارت ما بعد زمان النبي سليمان (على نبيِّنا وآله وعليه أفضل الصلاة والسلام)، يعني بحدود سنة 600 قبل الميلاد تقريبًا، فجاء بعد النبيِّ سليمان وصيُّه آصف بن برخيا، الذي عنده علمٌ من الكتاب، والذي جاء بعرش بلقيس من مكانه من سبأ، والنبي سليمان بنى دولة وإمبراطورية ضخمةً، وبنى هيكلاً ضخما بحسب ما يرد في أوصافه، والهيكل عند اليهود رمزٌ كبير، مثل ما عندنا الكعبة في منزلتها وقُدْسِيَّتِها، فالهيكل هكذا في منزلته عند اليهود، فبنى الهيكل ولذلك إلى اليوم يتحدثون عن هيكل النبي سليمان لما له من المنزلة عندهم، فَحَكَمَ بعده آصفُ بنُ برخيا وجرت عليه سُنَّةُ الموت كما على غيره، وبعدما توفي أيضًا تعرَّضَتِ التَّوراةُ والكتبُ إلى تحريفاتٍ من قبل كهنة اليهود والأحبار، وساعد على ذلك قضية السبي البابلي بحدود سنة 400 قبل الميلاد، إن بختنصَّر هذا اقتحم المملكة اليهودية ودَمَّرها تدميرًا هائلاً، والهيكل أزاله، وحرق ودمَّر، وأسر عشرات الآلاف من اليهود وأخذهم معه إلى بابل، وكثيرٌ من هؤلاء كانوا من العلماء والأحبار من حملة الكتب، وصادر كل ما كان عندهم من تراث ثقافي، وأعيدت كتابة هذه المصادر والكتب في فترة السبي البابلي في بابل، وكثيرٌ من المصادر تلفت وكثير من الأشخاص ذهبوا فحصل في هذي الكتب تحريفٌ وخلط كبير جِدًّا، وتَطَرَّقَ التَّحريفُ المتعمد وغير المتعمد في هذه الفترة بشكل أكبر، وهذه هي المرحلة الثالثة.

المرحلة الرابعة كانت بعد زمن عُزَيْر، أو عزرا، فجاء إلى الناس ونصحهم وحاول أن يُقَوِّمَ أخلاقَهم بعد الوفاة الأولى له، حيث توفَّاه الله 100 عام، والوفاة الثانية له أيضًا تعرَّضت هذه التوراة والكتب إلى تحريفات كثيرة، وآخر تلك الفترات كانت قبيل زمان نبينا محمد (صلَّى الله عليه وآله)، كان في هذه الفترة اليهود "... يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ..."[9]، يعني يقولون لهم: نحن حسب ما عندنا من الكتب سوف يأتي نبي وهذا النبي مثل نبينا موسى بن عمران وسيصبح معنا ونصبح معه ونزيل عبادة الأصنام وكانوا باستمرار يتحدَّثون في هذا الأمر، فلمَّا جاء النبي محمد (صلَّى الله عليه وآله) ولسان حاله يقول: "... إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ"[10]، أي ليس أنا أأتي إليكم بل أنتم من تأتون لي وإنَّ التوراة والإنجيل انتهى زمانها، وعليكم أن تتبعوني "وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ..."[11].

في البداية حاولوا أن يتفاهموا مع النبي (صلَّى الله عليه وآله) بنحوٍ ما، وإنَّ النبي (صلَّى الله عليه وآله) كان حازمًا في موقفه لأن هذا هو الحكم الإلهي، آنئذٍ أظهروا له العداء، ومن مظاهر العداء أنهم أنكروا وجوده في الكتاب، وقالوا ليس هذا اسمه وليست هذه صفاته الموجودة في التوراة، وتنطبق على غيره، لذلك يقول القرآن الكريم في الآية المباركة مشيرًا إلى اليهود: "... فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ"[12].

 هذه أربع مراحل مَرَّت بها التوراة في تحريفها، والشيء الموجود عندنا الآن خليطٌ بين ما له أصل دينيٌّ، وبين ما ليس له أصلٌ ديني، بعضه يمكن قياسه على القرآن الكريم، فإذا طابق شيء منه القرآن الكريم نعتقد أنه كان موجودًا في التَّوراة الأصلية، وشيء لا يتطابق مع القرآن سواء في القصص أو الأحكام أو العقائد لا نعتبره من التوراة الأصلية؛ لأنَّ هذه الأحكام مشتركة بين الديانات، فإذا اختلفت بان أنَّ هذا حُرِّفَ.

والقرآن الكريم يشير إلى تحريف الكلم عن مواضعه أو من مواضعه يعني التحريف اللفظي، وتحريف الكلم من بعد مواضعه يعني التحريف المعنوي، وهذا كما ذكرنا حصل في الأمة الأسلامية أنَّ قسمًا من الناس غيروا المعاني و غيروا الأغراض القرآنية وطاعة أولي الأمر التي كانت خاصَّةً بأحد صارت لكل أحد!، هذا الذي يجعل الناس في ضلال وغواية عن الطريق المستقيم وجيش بني أمية عندما برز إلى الحسين (عليه السَّلام) كان يقرأ القرآن، فالخوارج كانوا يحفظون القرآن، ولم يكونوا يحرِّفون الكلمات وإنما كانوا يحرفون المعاني "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ"[13]، والخوارج يقولون ذلك علي بن أبي طالب!، هذا التحريف المعنوي والتغيير المعنوي لآيات القرآن، والجيشُ الأموي كما قلنا كان يقرأ القرآن، والحسين (عليه السَّلام) كان يقرأ القرآن ويفهم من النور والهداية، وذاك الطرف لا يرى إلا عبادة بني أمية وطاعتهم حتى في قتل ابن بنت رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، لذلك وصفهم الحسينُ (عليهم السلام) بأنهم: "محرفو الكلم ... نبذة الكتاب"، وخاطبهم في يوم عاشوراء قائلاً: "فسُحقًا يا عبيد الأمة، وشُذَّاذ الأحزاب، ونبذة الكتاب، ومحرِّفي الكَلِمِ ..."[14]، حيث إنَّهم غيَّروا المعاني القرآنية وحرَّفوها.

 

[1] المائدة: 43

[2] الأعراف: 145

[3] إشارة لقوله تعالى: "إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ" [المائدة:44]

[4] راجع مادة (سفر) في القاموس المحيط.

[5] يوسف: 4

[6] النساء: 59

[7] القمر: 17

[8] الأنعام: 91

[9] البقرة: 89

[10] آل عمران: 31

[11] آل عمران: 85

[12] البقرة: 89

[13] المائدة: 44

[14] اللهوف في قتلى الطفوف، للسيد ابن طاووس، ص144.

مرات العرض: 5724
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (4463) حجم الملف: 54847.5 KB
تشغيل:

النبي موسى حياته وعصره
تاريخ تشريع الصيام