12- المسيح عيسى بن مريم حياته وعصره
تفريغ نصي الفاضل علي جعفر الجمريّ
تصحيح الأخ الفاضل سعيد ارهين
قال تعالى : "قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا"
عيسى ابن مريم :
صاحب شريعةٍ وواحدٌ من الأنبياء أولو العزم ، وأكثر الأنبياء أتباعًـا في هذا الزمان .
يؤمن المسلمون بأنبياء الله تعالى جميعًا ؛ فهم المصطفَون لتبليغ أمرِ السماء وهداية البشر لعبادة الله تعالى وحده .
ويعتقد المسلمون أنّ شرائع الأنبياء والرسل السابقين للرسالة الخاتمة مؤطرةٌ بزمانها ، منسوخةٌ برسالة الإسلام الخالدة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأوضاع إبّان ولادة المسيح
الناحية السياسية :
وُلد نبي الله عيسى زمانَ تسلّط الدولة الرومانية على أكثر مناطق العالم ، بما فيها المنطقة التي كانت مسرحًا لبعثة الأنبياء كبلاد الشام وفلسطين ومصر .
تولّى "القيصر أغسطس" الحكم وهو شابٌ وكان نهمًا إلى الفتوحات والقتال واستخدام القوة العسكرية . تعاظم أمره في نفسه حتى قيل إنه دعا شعبه لعبادته !
كانت الوثنيةُ – آنذاك - الدينَ الرسمي للدولة الرومانية .
احتلّ الرومان فلسطين - مهدَ ولادة المسيح - قبل ولادته بحوالى مئتين وخمسين سنة ، وبقيت تحت حكم الرومان . وقبيل ميلاد عيسى بن مريم تمّ منحها حكمًا ذاتيًا تابعًا للإمبراطورية الرومانية ، فيكونُ الحاكم عليها يهوديَّ الديانة مؤتمرًا بأوامر الرومان .
وكان حاكم فلسطين إبّان ولادة المسيح بصفة المؤتمِر بأمر الرومان هو "هيرودس"
-الناحية الاجتماعية :
قبيل مجيء نبي الله عيسى بن مريم كان الوضع الاجتماعي مُمثلاً في ثلاثِ فئات ، وهم :
1.الصدوقيون : وهم أربابُ الأموال ، المرتبطون بمصالح ماديةٍ مع الرومان ؛ فهم يتماهون مع أوامر الدولة الرومانية ولو كان ذلك على حسابِ بعض معتقداتِ اليهود وطقوسهم العبادية ؛ رغبةً منهم في تأمين مصلحتهم الشخصية .
1.الفريسيون : وهم الذين فرزوا أنفسهم عن باقي المجتمع ، ويعتبرون أنفسهم أكثر تدينًا وأقرب إلى الله وأكثرعملًا بالدساتير. وكانوا متعصبين للعقائد اليهودية والطقوس العبادية ، أشداءَ على مَن خالفهم .
1.الآسيون : يضعون أنفسهم في منطقةٍ وسط بين المتشددين ( الفريسيين ) وبين المتحررين (الصدوقيين ) ؛ فهم وسطيون معتدلون بالنظر للفئتين الأخريين.
في هذه الأجواء السياسية ، وهذه الأجواء الاجتماعية ؛ جاء النبي عيسى بن مريم -على نبينا و آله وعليه أفضل الصلاة والسلام - ؛ حيث أرسل الله تعالى جبرئيل لمريمَ كي يهبْ لها غلامًا زكيّا بأمر الله وكلمته .
ولمّا كان الزنا فاشيًا في المجتمع اليهودي آنذاك ، يشجعهم عليه سلوك أميرهم "هيرودس" ؛ فقد ابتُليتْ مريم العذراء بهذه القضية .
جاءتْ بوليدها تحمله ، فاتهمها اليهود بالأمر الفاحش ؛ حتى أظهر الله تعالى معجزةَ تكلُّم عيسى في مهده ؛ تأييدًا لمريم عليها السلام ، وإلجامًا لأفواه المتهمين لها .
ولم يكن أحدٌ مناسبًا أنْ تُجرى المعجزةُ المؤيدةُ لمريمَ على يديه إلاعيسى الوليد الرضيع ؛ فيتكلّم رادًا التهمةَ عن أمه ، رادًا على النصارى في دعواهم فيما بعدُ ببنوة عيسى لله – تعالى الله عن ذلك - ؛ إذ أعلن أنه عبدٌ من عباد الله ، وردَّ على اليهود الرافضين لنبوته بإعلانه - وهو في المهد - أنّه نبيٌ صاحبُ شريعة ، قال تعالى : )) قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا ( )مريم 30
رفض اليهودُ وبخاصةٍ الفئة الدينية من الكهنة والقساوسة - رفضوا - نبوة عيسى ، وكذبوه وبهتوه في أمه وتآمروا عليه ليقتلوه .
كانت فترة حمل السيدة مريم بالنبي عيسى -ع – فترةً طبيعية من ناحية عدد أشهر الحمل ـ كما نجد هذا في الانجيل وبعض تفاسير المسلمين ) بتوجيه أن الإعجاز يكمن في أصل تكوّنه من غير أبٍ ، تكوّنه بكلمةٍ من الله تعالى ؛ كلمة ( كُنْ ) فكان بأمرالله ؛ كما هو الحال في خلق آدم – ع - . لكن هناك رواية عن أهل البيت ( لكن في سندها مشكلة ) تقول بأن الفترة أيضا اعجازية ، وهي أنها تسع ساعات بدل التسعة أشهر ، فالاعجاز في أصل تكونه وفي المدة .
قال تعالى : ) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (آل عمران: 59
يُلحظ أنّ الأناجيلَ تركتْ ذِكْرَ عيسى ابن مريم بعد ولادته إلى بدء نبوته وهو في حدود الثلاثين سنة ، وهذا مثير للغرابة .
يذهب بعض الباحثين إلى أنّ ذلك التركَ والإغفالَ متعمدٌ ؛ ذلك لأنّ الأناجيل تمهّد إلى دعوى بنوة عيسى لله – تعالى الله – فلا يناسب هذه الدعوى عرض سيرة عيسى الذي كان يعمل ويكدح في النجارة وغيرها . فهذه الأناجيل أرادت نفي الحالة البشرية لعيسى كي لا تقع في تعارض كونه إلهًا أو قطعةً من الإله – بزعمهم – وبين بشريته وحاجاته المعاشية والبيلوجية .
لما بلغ عيسى من العمر ثلاث عشرةَ سنةً – وهو سنّ التكليف عند اليهود - ختم أحكام التوراة وتعرّف عليها ، وبدأ يعلّمها بأسلوبٍ متميزٍ يجمع بين رشاقة اللفظ ووضوح البيان .
بُعث -عليه السلام - بالنبوة أو أُمِر بإظهار رسالته وهو في حدود الثلاثين عامًا من عمره ؛ وقد أجرى الله تعالى على يديه المعاجز المعروفة من إحياء الموتى ، وإبراءِ العُمي والبُرصِ ، فطلب من الناس أن يتبعوه باعتباره صاحبَ شريعةٍ سماوية ، إلى أنْ رفعه الله إليه وعمره ثلاثُ وثلاثون سنة .
بلّغ عيسى بن مريم ( ع ) حقائق الشريعةِ التي أرسل بها ؛ رافعًا عنهم بعض التحريمات سواء التي كانت من عنديات الكهنة وادعاءاتهم ، أو تلك التحريمات التي كانت في شريعة موسى ( ع) بشكل مؤقت. ولقومٍ معينين .
يقول تعالى : ﴿ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾.آل عمران 50
كثُر المتأثرون بعيسى (ع) في زهده -الذي لم يألفه الناس في الكهنة والقساوسة - وفي أخلاقه وبيانه ، وبالتالي كثُر أتباعه .
ثارتْ ثائرةُ اليهود ضده سيّما الفئة المترفة المتمصلحة من دولة الرومان المتمثلة في (( الصدوقيين ) ؛ حيث رأتْ في عيسى بن مريم خطرًا سيكشف انحرافهم ، ويسلبهم الميزات التي اختصوا بها من الدولة الرومانية .
بدأ الصدوقيون ببث التشكيك في نبوة عيسى بين الناس . لكنّ الكلمة الفصل كانت لتلك المعجزات التي أيده الله بها ، والتي تُجرى مراراً أمام مرأى الناس ؛ فلم تنجح لغةُ التشكيك .
فانتهج الصدوقيون أسلوب التحريض . حرّضوا السلطة الرومانية عليه ؛ زاعمين أنه يغري بني إسرائيل بالانقلاب على حكومة الرومان عند الفرصة المواتية .
من تحريضهم أنهم رتبوا اجتماعًا مع عيسى بن مريم في حضور الحاكم الروماني بقصد التضييق على النبي عيسى في أمر الضرائب والإتاوات التي يأخذها الحاكم الروماني من عامة الناس ظلمًا وعدوانًا .
وبحسب اتفاقهم- كما تروي المصادر المسيحية - نهض رجلٌ وبيده عملةٌ من ذهب قد طُبعَ عليها اسم الحاكم الروماني بحسب المتبّع في العملات ، وسأل الرجلُ النبيَّ عيسى ما إذا كان يسوغُ له الامتناع عن دفع تلك العملة كضريبةٍ للسلطة الرومانية أم لا .
ومن الواضح أنّ إجابة عيسى ابن مريم بالامتناع عن الدفع ؛ تُظهر للحاكم الروماني صوابية مناوئي عيسى (ع ) من أنّه يحرّض على عصيان الرومان .
وإجابته بجواز دفع الضرائب للرومان ؛ ينزع عنه المصداقية عند المعتقدين به والمتابعين له ؛ إذ كيف يأمرهم بشىءٍ خارجٍ عن الدين .
هنا كانت إجابته – عليه السلام - : (( أعطِ ما لقيصرَ لقيصر َ، وأعطِ ما لله لله )) أي أعطِ قيصرَ المالَ الذي يستحقه ويملكه بالفعل ، وعدا ذلك لا تعطه من مالك ، ومؤدّى الكلام وباطنه : لا تدفع من مالك لقيصر . أما ظاهره : ادفع مالَ قيصرَ له بلحاظ أنّ العملة مكتوبٌ عليها (مالُ قيصر ) كما هي العادة .
هنا تخلّص النبي عيسى من هذا الامتحان بتوريةٍ جنّبته الصِدام مع الرومان ، وضمنتْ له السير وفق التعاليم الدينية .
استمرّ تحريض الصدوقيين على عيسى ابن مريم (ع) ؛ فارتأتْ الدولة الرومانية التخلّص منه .
حضر الجنود الرومان إلى مجلس درس عيسى ابن مريم ، وساعدهم في تمييزه والقبض عليه "يهوذا الاسخريوطي" وهو رجلٌ اندسّ بين أتباع عيسى لمصلحة مناوئيه مقابلِ حِفنةٍ من المال .
بحسب الفكر والعقيدة المسيحية قُيّد المسيح ، وكُلّف بحمل الصليب والذهاب به إلى مكان الصلب (من العقوبات في ذلك الوقت أن الذي يُحكم عليه بالصلب هو الذي يحمل الصليب من مكانه إلى حيث يُنصبُ الصليب )ومن ثمّ صُلب .
أما نحن المسلمين نعتقد بأنّ الله تعالى رفع عيسى – عليه السلام – إلى السماء . أمّا مَن تمّ صلبه هو ذات الرجل الواشي بعيسى والدالّ عليه "يهوذا الاسخريوطي" ؛ حيث جعله الله صورةً طبق الأصل من وجه عيسى ابن مريم ؛ ليناله النكالُ الذي كان قد ارتضاه لعيسى .
قال تعالى :((وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ((النساء157-158 |