زينب بنت جحش وزيد بن حارثة
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 25/9/1436 هـ
تعريف:

بسم الله الرحمن الرحيم     

زينب بنت جحش وزيد بن حارثة

 

كتابة الأخت الفاضلة أم عمار غزوي

صياغة سماحة الشيخ علي الموسى

 

يقول الله تعالى في محكم كتابه:

{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا}([1]).

 

هذه الآية من جملة عدة آيات في سورة الأحزاب تحدثت عن موضوع زينب بنت جحش (رض) التي كانت زوجة لزيد بن حارثة الكلبي، ثم صارت زوجة للنبي صلى الله عليه وآله .

هناك عدة آيات في سورة الأحزاب سنتحدث فيها بعد الحديث الإجمالي عن قضية زيد أولًا، ثم زواجه من زينب، ثم زواج زينب من رسول الله   صلى الله عليه وآله .

 

من هو زيد بن حارثة؟

زيد بن حارثه بن شراحيل الكلبي شاب أُسر ضمن المعارك التي كانت تحدث بين القبائل العربية والغزوات المتبادلة بين هذه القبائل.

ففي إحدى الغزوات أُغير على قبيلته، وسُلب منهم، وسُبي منهم، وكان هو من الذين أُخذوا وأُسروا، وكان القانون عند الجاهليين في ذلك الوقت أنّهم يبيعون الأسرى؛ ولذلك فقضية العبيد كان لها منشأ، وهي هذه الحروب، بيع زيد في مكة المكرّمة حتى إذا تزوج رسول الله صلى الله عليه وآله بخديجه (ع) اشترى النبي هذا الغلام ـ أي زيد ـ، ودفع لبائعه المال.

وقد التصق زيد برسول الله صلى الله عليه وآله التصاقًا كبيرًا؛ لِما وجد فيه من أعلى صفات يمكن أن يصل إليها بشر؛ فكان أن تعلّق بالنبي تعلقًا كبيرًا جدًا.

وبعد مدة من الزمان وفي حياة أبي طالب ـ أي في بدايات أو منتصف البعثة ـ علم حارثة والد زيد أنّ ابنه في مكة وقد بيع، وعرف أنّه عند النبي محمد صلى الله عليه وآله، فذهب إلى أبي طالب باعتباره زعيم بني هاشم، وتحدّث معه قائلا : أنا والد زيد، وزيد الآن عند ابن أخيك، فإن كان يريد أن يهب لنا هذا الولد لكي يعود إلى أهله، أو إذا أراد أن ندفع له ما بذله فيه من مال، فنحن على استعداد لذلك.

تحدّث أبو طالب مع النبي صلى الله عليه وآله ، فقال النبي: زيد حرّ فليذهب حيث شاء: إن أراد الرجوع إلى أهله أو البقاء معي أو اختيار طريق ثالث غير هذين الطريقين.

فجاء والده إليه ـ وكان في حضور معشر من الناس ـ، وقال: يا زيد هلمّ إلى أهلك، إلى أعمامك، وعد إلى قبيلتك، فقال زيد: لا أترك رسول الله صلى الله عليه وآله ، لا سيما وقد أسلم، وتشرّب قلبه بالإسلام، وكان من أوائل المسلمين بعد البعثة.

لقد قال زيد: لا أترك رسول الله، فبدأ أبوه يرغِّبه بأنّ أولئك أهلك وعشيرتك وحُماتك، وسنعطيك كذا وكذا من المال إن عدت، فقال زيد: لو أعطيتموني الدنيا لما تركتُ رسول الله صلى الله عليه وآله !!، فقال أبوه عندها: اشهدوا ـ يا معشر مَن حضر ـ أنّي بريء من زيد، وأنّ زيدًا ليس ابني ![2]

فقال رسول الله: اشهدوا ـ يا مَن حضر ـ أنّ زيدًا هو ابن محمد صلى الله عليه وآله ، فعُرف منذ ذلك الوقت أنّ زيدًا ابن محمد، ونُسب إلى النبي صلى الله عليه وآله[3] ، وهذا الأمر كان موجودًا في المجتمع القرشي، ويُعرف باسم (التبنّي).

النبي صلى الله عليه وآله كان يريد أن يعطيه ملجأ وظهرًا اجتماعيًا، بحيث لا يتصور زيد نفسه أنّه ليس عنده أحد، ولا ملجأ إليه، إلى أن نزلت الآية المباركة بدعوة الناس لآبائهم: {ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}([4]).

فالإنسان يُدعى لأبيه؛ وبالتالي لا يصحّ أن يُدعى وينسب لغير أبيه؛ لأنّه يترتّب على ذلك ميراث ونسب ومحرَمية، بينما في التبنّي لا يترتّب أيّ شيء على ذلك؛ فعاد إليه الاسم أنّه زيد بن حارثة.

وهنا نشير إلى أنّ قسمًا من الناس ـ ولا سيما بعض النساء ـ يكتبن ـ أحياناً ـ رسائل يطلبن فيها الدعاء لابنهم أو ابنتهم، ويكتبن فيها: ادعوا إلى ابني (محمد بن خديجة)، أو ابنتي (فاطمة بنت خديجة)!!، وينسبن ابنهن أو ابنتهن إليهن، وليس إلى أبيهن. ونسألهن: لماذا لا تنسبونهم إلى أبيهم؟!

وهذا راجع لتأثر بعض الناس بالحركات المشعوذة لبعض القنوات الفاسدة التي تتعاطى أمورًا كالتنجيم والسحر وما شابه ذلك؛ لأنّهم ـ عادة ـ يسألون عن أسم الأم!!

وفي بعض الأحيان يكون هذا نوعًا من الاتهام في الشرف عندما تأتي واحدة وتقول: (ادعوا لفاطمة بنت خديجة)، وكأنّها تقول ـ بمعنى آخر ـ: إنّ هذه البنت غير معلوم أنّ هذا هو أبوها فعلًا!!

إذا كان الأب معروفًا، ووُلد الابن على فراش الزوجية فلا يصحّ أن نناديه في هذه الدنيا باسم أمه إلا أذا شككنا في نسبه ـ مثلًا ـ، كما يقولون: (زياد ابن سمية)؛ لأنّنا لا نعرف مَن أبوه، لكنّ أمه معروفة.

أما إذا ولد شخص عبر نكاح شرعي وولادة شرعية فمن الخطأ أن يُنادى باسم أمه إلا في بعض الحالات التي يُراد منها التعظيم والتفخيم، كقول الحسين: (أنا الحسين بن فاطمة)، فذاك شيء آخر، أما في الحالات العادية التي تندرج ضمن المقاييس الدنيوية، فالصحيح هو أن ندعوهم لآبائهم: {ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ}، لا أن ندعوهم لأمهاتهم.

ونقول: (ضمن المقاييس الدنيوية)؛ لأنّ للآخرة مقاييسها الخاصة بتلك النشأة الأخرى.

وهكذا نزلت الآية الشريفة: {ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ}، فدُعي زيد بن حارثة، وبقي مع رسول الله صلى الله عليه وآله ، وتربّى في كنف الرسول وعلى يده المباركة فترة طويلة من الزمن، فقد عاش مع النبي من قبل البعثة 13 عامًا، قيل أنّه من أيام زواج خديجة، والزواج كان قبل البعثة، يعني نستطيع أن نقدِّر تقريبًا من ٢٥ سنة إلى ٣٠ سنة كانت رفقة زيد لرسول الله صلى الله عليه وآله ، فكيف سيخرج.

وبمقدار ما كان زيد يحبّ النبي صلى الله عليه وآله كان النبي يحبّ زيدًا؛ ولذلك يُعبَّر عنه بـ (حِبّ رسول الله)، أي المحبوب عند رسول الله، وكان يخرج مع الإمام علي إلى جنب رسول الله يدافعان عن النبي من أذى كفار قريش وسفهاء الطائف وغيرهم..

 

زواج زيد من زينب:

استظلّ زيد بفناء الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله إلى أن حصلت الهجرة، فهاجر ـ وهو مسلم من أوائل المسلمين ـ إلى المدينة المنورة، وأضحى عمره كبيرًا يحتاج إلى زواج، والنبي صلى الله عليه وآله في موضوع الزواج كانت عنده قيمة نبيلة هي: أن يزوّج من الطبقات المختلفة من أجل أن يتضع النكاح، كان يريد أن يقضي على الفوارق العنصرية والقبلية والامتيازات الزائفة، وأنّ هذا غنيّ لا يعطي ابنته إلى فقير، وذاك شريف بحسب الترتيب الاجتماعي ولا يعطي ابنته إلى إنسان عادي، وهذا سيّد هاشمي ولا يعطي ابنته لغير سيّد هاشمي، هذه كلّها كان النبي صلى الله عليه وآله يريد أن يقتلعها ويزيلها ويمسحها؛ ولذلك أقدم على عدد من هذه الزيجات، فمثلًا: زوّج ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب بنت عمّه صلى الله عليه وآله ، ذات الشرف العالي في النسب، للمقداد بن عمرو المعروف بالمقداد بن الأسود الكندي الذي جاء هاربًا في قضية من القضايا، ولأنّه وصل إلى مكة، وليس عنده أحد يلجأ إليه فيها، فتولى الأسودَ الكندي، وعقد معه (حلف ولاء)، فهؤلاء الضعفاء الذين لم تكن لهم عائلة في مكة كانوا يفعلون هكذا، مثل (التجنيس)، فيأتي شخص ليست لديه جنسية، ويعمل له جنسية بذاك البلد، فيصير هذا عقد ولاء، ويصير هذا الشخص محميًا من قبل هذا الكبير، وهم ـ بحسب ذاك الزمان ـ في طبقة أدنى في سلّم الطبقات الاجتماعية من الإنسان العربي الصميم الذي هو من أصل مكة.

وهكذا زوّج النبي صلى الله عليه وآله ضباعة التي هي من علياء قريش بالمقداد بن الأسود الكندي الذي هو ـ بحسب المقاييس لديهم ـ في مرتبة اجتماعية أدنى.

ومن ذلك أيضًا ما صنعه صلى الله عليه وآله لزينب بنت جحش، وهي بنت عمته؛ فأم زينب بنت جحش هي أميمة بنت عبد المطلب، فزينب ابنة عمته صلى الله عليه وآله .

زينب بنت جحش أسدية، لكنّ أمها هاشمية، فأرسل لها النبي أنّي أخطبك للنكاح، فتصورت أنّه يخطبها لنفسه، فسعدت بهذا الأمر، وبعد ذلك عرفت أنّ الخطبة لم تكن للنبي، وإنّما كانت لزيد بن حارثة، ويظهر أنّ زيدًا بالإضافة أنّه كان عبدًا ـ سابقًا ـ بحسب تقييمهم وتصنيفهم، وكان قد اُعتق؛ كان أسمر شديد السمرة، وهذه نقطة ضعف أخرى بحسب مقاييسهم!!

فلما خُطبت لزيد أنفت، ورأت نفسها لا تستطيع أن توافق، وبعد هذا نزلت الآية المباركة التي حوتها سورة الأحزاب ـ أيضًا ـ:

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا}([5]).

ولما سمعت زينب بأنّ هناك آية نزلت، وفيها أنّ النبي هو صاحب الاختيار والقرار للناس، وهو أولى بهم من أنفسهم، وإذا عصا شخص أمر النبي فهو ضالّ ضلالًا مبينًا؛ تصوّرت أنّ النبي صلى الله عليه وآله أمرها أمرًا شخصيًا واجب الإتباع بالموافقة على الزواج من زيد، بينما كان النبي في صدد تطبيق القانون، ويريد أن يزوج هذا الرجل من تلك المرأة، لا غير.

لقد تصوّرت زينب أنّها المقصودة من هذه الآية، فأرسلت إلى رسول الله أنّي موافقة على الزواج من زيد.

وافقت عليه، وجرى الزفاف، وتزوّجا، لكن لا يزال الشعور بالرفعة الاجتماعية والتفوّق باقيًا في قرارة نفسها، لقد كانت تشعر أنّها فوق زوجها!!، التاريخ يذكر هذا، وربّما بعض التصرّفات التي تُذكر تشعر بهذا.

وهذا الشعور بالتفوق تجاه الطرف الآخر يقع ـ أحيانًا ـ عند بعض الرجال أو بعض النساء، فقد يتزوّج رجل حاصل على شهادة دكتوراه من بنت عمّه خريجة الثانوية، فيشعر بـ (عقدة التفوّق)، وهذا ناشئ من المعيار المشتبه الذي يحمله في قلبه، ويُنتج له تصرّفات تبعية، فيُشعِر زوجته دائمًا بدونية مستواها المعرفي، وأنّك لا تفهمين شيئًا، أنت مستواك أين؟، وأنا مستواي أين؟، وفكرك البسيط غير فكري العالي، ويشعرها دائمًا أنّ هناك مسافة بينه وبينها، وهذا شعور وسلوك غير صحيح!!

وأسوأ منه ما إذا حصل العكس، فتكون الزوجة ـ مثلًا ـ دكتورة أو خريجة في مجال من المجالات، وتتزوّج من شخص دونها في المستوى العلمي، فتشعر بسموّها المعرفي عليه، وتصدر منها سلوكيات متعالية!!

مثل هذا الرجل إذا كان يريد أن يُنجح حياته الزوجية فعليه أن يتحرّر من هذا الشعور المرَضي، وأن لا يتعامل مع زوجته وكأنّه التفوق في مقابل الدون، والرفعة في مقابل الضعة، ويتعامل معها وكأنّه (متصدّق عليها!!) لما تزوجها.

ومثل هذه المرأة إذا كانت تريد أن تُنجح حياتها الزوجية فعليها أن تترك هذا الشعور المرَضي، ولا تتعامل داخل البيت الزوجي على أنّها دكتورة وفاهمة، وأنّ زوجها متخلف أو متأخر ولا يفهم شيئًا، أو أنّه ليس من مستواها، وأنّها (متصدّقة عليه!!) لما تزوّجته.

هذه أخطاء فادحة تدمّر الحياة الزوجية.

والنبي صلى الله عليه وآله كان يريد أن يكسر هذه المفاهيم والسلوكيات الخاطئة، ولولا ذلك لما تزوّج أصلاً، فأين مقام النبي الأكرم من مقام زوجاته؟!، وهل هناك امرأة تقارن بالنبي غير فاطمة؟!، وهل هناك أحد يقارن أمير المؤمنين (ع) بأحد من زوجاته غير الزهراء (ع)؟!، ومع هذا لم يكن النبي يُشعر زوجاته أنّه فوقهن، وأنّ هناك مسافة بينه وبين زوجاته، ولم يكن أمير المؤمنين يصنع ذلك، وهذا هو الصحيح في الحياة الزوجية.

وفي موضوع زيد بن حارثة يبدو أنّ الأمر تطور إلى حدّ أن جاء زيد للنبي صلى الله عليه وآله يستقيله من ذاك الزواج، ويخبره أنّه لا يستطيع الاستمرار في تلك الحياة الزوجية؛ لأنّها تتعاظم عليّ، أي ترى نفسها أكبر مني، وهذا لا يريح الحياة الزوجية، فقال له النبي صلى الله عليه وآله : اتقِ الله واصبر، وأمسك عليك زوجك: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ}([6]).

{أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ}، أبقِ زوجتك على عصمتك، وهذا هو الموقف الطبيعي في النصح والتوجيه الاجتماعي، بخلاف ما يفعله البعض من الرجال والنساء الذين لا يحسنون النصح والتوجيه، فقد يأتي رجل لشخص يقول له: (إنّ زوجتي فيها كذا وكذا من الأخطاء)، فيقول له: (طلقها عشرين طلقة)!!، وقد تأتي امرأة إلى أخرى، وتحدّثها عن زوجها، فتقول لها: (تطلقي منه)!!، وقد تذهب الزوجة إلى بيت أهلها، وتشتكي إليهم زوجها، فيُقال لها: (اطلبي منه الطلاق، واتركيه)!!

هذا التوجيه الداعي إلى هدم عشّ الزوجية توجيه خاطئ، والتوجيه الصحيح هو أن يقدّم الإنسان التوجيه التربوي الأخلاقي الصحيح الداعي إلى الحفاظ على الكيان الزوجي، بخلاف ما يريد الزوج المنفعل أو الزوجة المنفعلة أن يفعلاه من هدم للبناء الأسري، لا تشجعه على الطلاق والفراق وزيادة شرخ المشكلة.

لذلك قال النبي صلى الله عليه وآله لزيد تحمّل، {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ}، حاول الاستمرار، حاول محاولات جديدة في رأب الصدع.

زواج الرسول الأكرم من زينب:

يقول القرآن الكريم: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ}([7]).

وهنا القرآن يقول: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ}، فما الذي كان يخفيه النبي صلى الله عليه وآله في نفسه؟!

بعض المفسّرين قالوا خطأ: إنّ النبي صلى الله عليه وآله كان يحبّ زينب بنت جحش، وكان يخفي ذلك. وسوف يتضح أنّ هذا الرأي خطأ فادح.

الذي كان يخفيه النبي هو أنّ الله تعالى أخبره أنّه في آخر الأمر ستكون زينب زوجة من زوجاته.

فالنبي الآن عندما كان يوجّه زيدًا للاستمرار معها، من الطبيعي أن يخفي عنه ذلك؛ إذ لا يصحّ أن يقول له بأنّ زينب ستصبح زوجة لي، وليس من الطبيعي أن يقول له: (طلِّقها، وبعد ذلك سوف أخطبها أنا واتزوّجها)، فحتى الشخص العادي الذي لم يتقلد وسام النبوة لا يفعل ذلك، فكيف يفعله، بل كيف يفعله النبي محمد صلى الله عليه وآله ؟!

فالنبي صلى الله عليه وآله كان يأمره بالاستمرار في ربقة الحياة الزوجية، وإن كان يعلم بالعلم الإلهي أنّ زينب ستصبح زوجته في خاتمة المطاف، لكنّ وضيفته الطبيعية ضمن المقاييس الظاهرة هي الإخفاء، فكان يخفي عن زيد هذا الأمر.

لماذا كان النبي يخفي ذلك؟

هذا الإخفاء ملاحظة للموضوع الاجتماعي: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ}.

قسم من الناس كان يتصوّر أنّ هذا فيه نوع من اللوم والعتاب للنبي صلى الله عليه وآله ، ولكنّ الحقيقة خلاف ذلك؛ فهذا مدح عظيم للنبي صلى الله عليه وآله ؛ لأنّ الإنسان العادي لو تزوّج زوجة من بعد أن تطلّقت من زوج آخر، فما دام فِعله ذاك في إطار الحلال فهو غير معاتَب، لكن.. مطلوب من الإنسان ـ أيضًا ـ أن يحمي شخصيته الاجتماعية.

البعض من الناس يتعامل مع الأشياء بمنطق الحلال والحرام فحسب، دون النظر إلى الأثر الاجتماعي، فما كان حلالًا يصنعه، وما كان حرامًا يجتنبه، والباقي ـ أي النظرة الاجتماعية ـ ليس عليه منه، فيدخل إلى المسجد ـ مثلًا ـ بفانيلا وشورت، ويقول: ذلك جائز شرعاً!!

هو ـ فعلًا ـ لم يفعل حرامًا، لكن.. ستلوكه الألسن، وسيظلّ حديث الناس لزمن طويل!!

فمن الطبيعي أن يخشى النبي صلى الله عليه وآله كلام الناس؛ لحماية شخصيته الاجتماعية، وهذا فعل العقلاء عادة، لكنّ الله تعالى يقول له لا تهتم بالناس، ولا تهتم بالموضوع، لا تحمّل نفسك شيئًا زائدًا ما دام الأمر طبيعيًا وحلالًا وضمن إطار الشرع، لا تهتم بكلام الناس: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ}.

وهذا التوجيه الربّاني ليس فقط لذاك الزمان التاريخي الذي عاشه النبي، بل يسري في الزمان، ويشمل زماننا الحاضر؛ لأنّ قسمًا من حياتنا تصنعها كلمة باطلة، وهي: ماذا يقول عنّا الناس!!

هذه كلمة غير صحيحة؛ فاذا كنتَ تشتغل في الإطار الصحيح فالمهم أن تخشى الله، وتحافظ ـ أيضًا ـ على وجودك الاجتماعي، لكن لا تغدو أسيرًا لكلام الناس، فمثلًا: لو كان عندك بنتان، وجاء خاطب للصغيرة، والكبيرة لم يأتِ لها إلى الآن فلا تقل: لن أزوج الصغيرة، ماذا يقول عنّا الناس؟!، ولو أراد ابنك أن يتزوّج، وليس عنده قدرة مادية للذبح والوليمة، وتريد أن تعمل ضيافة بسيطة، فلا تتردد وتقول: لكن ماذا يقول عنّا الناس؟!

كان رسول الله صلى الله عليه وآله قد تزوّج من أم سلمة، فأطعم الحيس (مثل الشوربة الآن)؛ لأنّه وقتها لم يكن مقتدرًا ماليًا، ولما تزوّج من زينب بنت جحش كان عنده قدرة على الإنفاق، فأطعم الناس الثريد واللحم. ونحن ينبغي أن نقدر أنفسنا بما تستطيع، وليس بما يقول عنّا الناس، فلا ينبغي أن يكون المعيار والمقياس عندنا ماذا يقول عنّا الناس، الله تعالى يقول لنبيه: {وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ}، هؤلاء الناس الذين سيتكلمون عليك هم المعتدون.

لو جاء أحدهم وقال ـ مثلًا ـ: (انظر إلى فلان؛ فقد زوّج أبناءه، ولم يصنع وليمة وعشاء وكذا وكذا)، أو (انظر إلى فلان؛ فقد زوّج الصغير قبل الكبير، وزوج ابنته زوجه ثانية، فكيف يقبل ذلك؟!)، فعمله هذا محرّم وغيبة، وأنت لستَ ملزمًا بتطبيق كلامه، وليس شرطاً عليك أن تطيعه، هو من سيبوء بإثم ذلك القول!!

فالنبي صلى الله عليه وآله أخفى هذا الأمر، وبعد ذلك ألحّ زيد على الطلاق، فالنبي صلى الله عليه وآله قبِل منه طلاقها، والله تعالى يقول: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا}([8])، فقد تصل الأمور ـ أحيانًا ـ إلى نقطة لا يستطيع فيها الزوجان مواصلة الحياة الزوجية معًا.

وعندما وصل زيد إلى هذه النقطة وطلّق زينب، وقضت عدتها ثلاثة أشهر، وأراد النبي صلى الله عليه وآله أن يتزوّجها أرسل زيدًا نفسه لزينب بنت جحش؛ لكي يخطبها لرسول الله، فجاء زيد إليها، يقول: لما دخلتُ على زينب، وتصورتُ أنّ النبي صلى الله عليه وآله سيكون زوجًا إليها أعظمتها الآن، وشعرتُ أنّها ليست زينب التي كانت زوجتي، وكنتُ أختلف معها، فأعظمتها وأعطيتها قفاي، وقلتُ لها: أبشري؛ فإنّ رسول الله يخطبك إلى نفسه.

وهذا تعليم عظيم من النبي صلى الله عليه وآله لنا بأنّ الذين تحدث بينهم مسألة الطلاق لا يعني ذلك الانتقام بينهم، فلا يقول الرجل: (بما أنّي طلقتها فدعني أنشر ملفاتها!!)، أو يمنعها من رؤية أبنائها الذين أضحوا عنده، ويقول لها ـ مثلًا ـ: (ستموتين ولا ترين أبناءك)، وإذا كان عنده أموال لها فيذيقها شتى صنوف العذاب والأذى والتعب حتى يرجعها إليها، ويلطخ سمعتها بالتراب!!

وقد تفعل المرأة ذلك، فتنتقم، وتلطخ سمعة من كان زوجها وطلّقها.

وقد يذهب الرجل لكي يتزوّج من جديد، فيقولون له: انت كذا وكذا بحسب ما قالت زوجتك، أو بالعكس تُخطب المرأة ـ مثلًا ـ فيقول: لا هذه هكذا وهكذا، حتى يصل الأمر في بعض الأحيان إلى الاتهام الباطل في العرض والشرف، وهنا يتبيّن تديّن الإنسان من عدمه، فليس مقياس التديّن الركعتين يصليهما، او المجلس الديني الذي يحضره، او الزيارة للمراقد المقدسة التي يقوم بها، هذه ليست المقاييس، المقياس الأكبر هو ما قاله النبي الأكرم صلى الله عليه وآله : "الدين المعاملة"([9]).

هنا يكون هذا الرجل الذي ينشر سيئات المرأة ظالمًا، وتكون تلك المرأة التي تنشر سيئات الرجل ظالمة، وعلى كلّ منهما أن لا يفتري، ولا يبهت إنسانا بريئًا، وهنا يتبيّن الإيمان، لا ترَ الرجل كيف يصلي الجماعة، بل انظره كيف يتحدّث عن زوجته، لا ترَ المرأة كيف تمضي للزيارة، بل انظرها كيف تتحدّث عن زوجها، هنا يتبيّن مقياس الإيمان والتديّن عندهما، وهنا يتبيّن زيد.

يقول القرآن الكريم: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}([10])، لماذا لم يقل: (أو تسريح بمعروف)، بل قال: {أو تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}؟!

المعروف يعني عدالة، مثل أن يكون شخص قد أدانك بألف ريال، فترجعها له ألفاً، هذا معروف، أما الإحسان فأن يدينك ألفًا، وأنت ترجع له ذلك من طوع نفسك، ويقترض منك ألف ريال، فتقول له: أرجع لي تسع مئة فقط.

بين الزوجين لما يكون هناك تسريح فليكن هناك (إحسان)، وليس (معروفًا).

عندما تُرجِع إليها كلّ حقوقها، وهي تُرجِع إليك كلّ حقوقك، فهذا من (المعروف)، لكنّ الإحسان أن يتفضّل عليها بالزيادة، فمثلًا يقول لها: إن كان الدخول قد حصل، وأخذتِ المهر، فتفضلي فوق المهر هذا مبلغ مجزل من المال، ويعطيها ألفي ريال أو أكثر.

أو تقول المرأة ـ مثلًا ـ للزوج: ما دامت الحضانة ستكون عندي في السنتين الأوليين للمولود، فيمكنك أن تأتي لرؤية ولدك مرة أو مرتين في الأسبوع، وهذا متعارف، ويدخل في نطاق (المعروف)، ولكنّ (الإحسان) أن تقول له: في أيّ وقت أحببت أن تأتي فتعال، وتفضّل على الرحب والسعة.

الإحسان أن لا يقول الرجل عن طليقته: (إن شاء الله بعدي لا ترى رجلًا إلى أن تهلك وتموت!!)، أو تقول المرأة: (الله لا يوفقك إن شاء الله، ولا ترى امرأة بعدي!!).

من الإحسان أن يذهب زيد لزينب، وأن يقول لها: أبشري يا زينب؛ فقد جلبتُ لك البشارة، فهذا رسول الله صلى الله عليه وآله يخطبك لنفسه، وفعلًا هذه بشارة عظيمة، فقالت زينب: عرفتُ المعنى من الآية السابقة: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا}([11]).

قالت زينب: ريثما أمر ربّي، وقامت وصلت ركعتين، وطلبت من الله أن يختار لها الصالح، فإذا بالآية المباركة: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا}([12])، فكانت تفتخر على بقية نساء النبي أنّ زواجها لم يكن من الأرض، وإنّما كان من السماء، ليس بواسطة ولي، وإنّما من الله بحسب الآية المباركة ـ على نقاش فيه ـ، ولكن هي تفتخر أنّ قضية تزويجها بالخصوص جاءت في القرآن، فتزوّجها رسول الله صلى الله عليه وآله ، وكانت نعم المرأة مع رسول الله، كانت ممن اختارها الله ورسوله بحسب الروايات، وكانت صالحة تحبّ أن تهدي لرسول الله الهدايا حتى في غير يومها، وقد حصل بينها وبين نساء النبي أنّها عملت حريرا (عصيدة)، وكان ذلك في غير يومها، فجاءت بها إلى رسول الله كهدية تتحفه بها، فلما قدّمت ذلك إلى الرسول قامت إحدى نسائه، وأخذت ذلك الصحن مع الحريرا، ورمت بهما إلى الأرض، وكسرت الصحن، ودلقت الحريرا، والنبي بدلًا من أن يصنع ـ كما يصنع بعض الناس ـ من الانهيال بالشتائم والضرب، قال: (عليكِ لها صحن كالصحن الذي أتلفتيه)، وانتهى الموضوع.

الحريرا لي أنا، ولن أفعل لكِ شيئًا بسكبها، ولكنّ الصحن للمرأة، وعليكِ أن تضمني لها ذلك.

فمع وجود هذه المشاكل كان النبي يتعامل بهذه الطريقة الأخلاقية المناقبية الرائعة، فكانت أن أهدت إليه شربة من العسل.

وقيل: إنّ قضية الآية الأولى في سورة التحريم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}([13])، أنّ زينب قد أهدت إلى الرسول صلى الله عليه وآله شربة من العسل، وأنّ بعض نسائه قلن له: (يا رسول الله، نشمّ من فمك رائحة المغافير)، رائحة النحل، فالعادة أن يعطي العسل رائحة الزهر الذي يمتصه النحل، فكان هناك بعض الزهر سيء الرائحة، فلما قدّمت للرسول هذا العسل، كانت رائحته طيبة وجيدة، لكن قالت بعضهن: (إنّنا نشم من فمك رائحة المغافير)، أي رائحة غير جيدة، وغير مستطابة، فكان النبي صلى الله عليه وآله يريد أن يحرّم على نفسه العسل، فنزلت الآية الشريفة في هذا المورد.

لأنّ النبي كان يحرص على رائحته الطيبة، ولا سيما رائحة فمه، وهذا يعطينا معنى ساميًا هو أنّ الإنسان لا يستقبل الآخرين برجله ويده، وإنّما يستقبلهم بوجهه، ووسيلة الكلام هي الفم، فإذا كان صاحبَ رائحة طيبة يقبل الناس عليه، وأما إذا حصل العكس فإنّ الناس سينفرون منه، وقد كان عبد الملك بن مروان في بخر الفم عجيبًا الى حدّ أنّ إحدى زوجاته كان إذا أكل من التفاحة لا تستطيع أن تأكل منها، بل لابدّ أن تقصها، وتأكل من الجهة الأخرى، إلى أن طلقها، فحمدت ربّها على هذه النعمة العظيمة.

فالنبي صلى الله عليه وآله كان يحرص دائمًا أن يكون نظيفًا ذا رائحة طيبة، ويحرص بالذات على رائحة فمه؛ ولذلك كان يوصي كثيرًا بالسواك والاستياك.

فالنبي تزوّج زينب، وأطعم عندما تزوجها طعامًا كثيرًا من اللحم والثريد، واستمرّ فترة قيل: إنّها ثلاثة أيام، وكان بعض الناس يأتون ويقعدون ويبسطون ـ بحسب التعبير ـ؛ لذلك نزلت الآية المباركة التي ضمتها سورة الأحزاب ـ أيضًا ـ:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا}([14]).

هذا ينبّهنا القرآن لضرورة أن يكون عند الإنسان ذوق وإحساس بحال الآخرين، لا تقل ـ مثلًا ـ: (هذا منتصف الليل، ولكن لا ضير أن أذهب إلى فلان أو أتصل به)!!، بل هناك ضير، فـ "ليس بأخ لك مَنْ ضيّعتَ حقّه"([15]).

بعض الناس يأتي في متنصف الليل، وهو يعلم أنّ صاحبه عنده دوام في العمل غداً، ويقول: (لا ضير، ولا مشكلة)!!

لا معنى لذلك، فهذا إنسان لا يستشعر حقّ الآخرين!!

منتصف الليل يتصل على قضية ليست طارئة أو عاجلة، أو يأتي لكي يشاهد التلفاز في بيت صاحبه!!، هذا فاقد للإحساس والحساسية تجاه الآخرين، وعليه أن ينمّي الذوق الاجتماعي لديه، فهذا تضييع لحقّ الآخرين..

النبي صلى الله عليه وآله كان في الأيام الثلاثة مرتبطًا بزينب، وهذا حقّ زينب، والنبي كان حييًا، يذكرون في صفاته: أنّه كان أحيى من العذراء في خدرها..

بعض الناس وجهه يطرد الناس، ليس بالكلام، بل بالصفعات، وهناك قسم من الناس عنده حياء، والنبي صلى الله عليه وآله كان من هذا القسم، هذا لابدّ أن تضع نفسك مكانه، وتشعر به، ترى إذا كنت تقبل أن يسهِّرك أحد، أو يوقظك من أول الفجر، وكيف يكون موقفك حينها؟!

كثير من الناس أعمى إلا عن حاجاته، فعنده أيّ قضية له هي مهمة، لكن بالنسبة للطرف الآخر قد لا تشكل تلك القضية أهمية، فيذهب إليه، ويزعجه، وينكد عليه حياته، ويوقظه مع عائلته آخر الليل أو في الفجر!!

فنزلت هذه الآية الشريفة: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ}، أي عليكم أن لا تجعلوا بيت رسول الله صلى الله عليه وآله محطًا لجلستكم.

أنتم مدعوون على الطعام، فإذا انتهى فانتشروا.

وكما تزوّجت زينب رسول الله صلى الله عليه وآله ، وسعدت معه تزوّج زيد بن حارثه أم أيمن بركة حاضنة النبي التي كانت من أهل الجنة، والتي قال عنها النبي: "من سرّه أن يتزوّج امرأة من أهل الجنة فليتزوج أم أيمن"([16])، وكان زيد يبحث عن امرأة من أهل الجنة؛ وهذه من أهل الجنة، وبالفعل تزوّجها وأنجب أسامه بن زيد الذي أمّره النبي على الجيش المعروف بـ (جيش أسامة) قريب وفاته صلى الله عليه وآله .

وكان زيد حِبّ رسول الله صلى الله عليه وآله ، ونحن كلّنا نحبّ النبي، لكن من منّا يحبّه النبي؟!، هذا يحتاج إلى بحث، نسأل الله أن يجعلنا من أحباب رسول الله صلى الله عليه وآله ، فالنبي كان يحبّ زيدًا، وزيد كان يحبّ النبي؛ ولذلك تأثر النبي عندما استشهد زيد، هو وجعفر بن أبي طالب في غزوة مؤتة، فقد كانا قائدين فيها، والنبي جاء له خبر شهادتهما ـ وهو على المنبر ـ عن طريق الوحي، وتحدّث مع الناس وعيناه تفيضان دموعًا، وبعد ذلك ذهب إلى بيت جعفر، وواسى أهله، وكرّ راجعًا لبيته، وكان يبكي عليهما في البيت حتى قال له بعضهم: لطالما بكيتَ ـ أي بكيت كثيرًا على هذين الشخصين ـ، فقال: بلى كانا يؤنساني ويحدِّثاني، فذهبا معًا أو جميعًا، يعني لو ذهب واحد، وبقي الثاني لهانت المصيبة، لكنّ هؤلاء كانوا محلّ أنسي، والحديث معي.

قريب من ٣٠ سنة أو أكثر كان زيد مع رسول الله صلى الله عليه وآله ، وهذه عشرة لا تهون مع حبّ رسول الله وفدائه في سبيله، وجعفر كان هكذا فكان أنس النبي ومحدّث النبي، وعندما ذهب تأثر النبي لفراقه، وبكى عليه.

 

([1]) سورة الأحزاب، الآية 37.

[2] ) في الفقه الاسلامي هذا النفي لا يترتّب عليه أيّ أثر من الناحية الشرعية، بل يبقى ابنه ما لم يرجع إعلان البراءة إلى نفي الولد بشكل صريح وإتهام زوجته بأنها خانته ، وأنّها قد أنجبته من شخص أخر، ولذلك مسار أخر خاصّ له، أما القول لمجرّد الغضب منه فهذا لا يترتب عليه أيّ أثر. وهذا النحو من التبري مع أنه شائع ، ويتصور بعض الآباء أنه سيحرم ولده من ميراثه بهذا الاعلان ، كما قلنا لا يترتب عليه أثر شرعي.

[3] ) ذكرت قصة زيد بن حارثة وتبني رسول الله له في اكثر التفاسير في شرح الآية المباركة ( وما جعل أدعياءكم أبناءكم ) ومن ذلك ما نقله السيد الطباطبائي في تفسير الميزان 16/ 280 عن تفسير القمي، في قوله تعالى: ﴿وما جعل أدعياءكم أبناءكم﴾ حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن جميل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان سبب ذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما تزوج بخديجة بنت خويلد خرج إلى سوق عكاظ في تجارة ورأى زيدا يباع ورآه غلاما كيسا حصينا فاشتراه فلما نبىء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دعاه إلى الإسلام فأسلم وكان يدعى زيد مولى محمد.

فلما بلغ حارثة بن شراحيل الكلبي خبر ولده زيد قدم مكة وكان رجلا جليلا فأتى أبا طالب فقال: يا أبا طالب إن ابني وقع عليه السبي وبلغني أنه صار إلى ابن أخيك تسأله إما أن يبيعه وإما أن يفاديه وإما أن يعتقه.

فكلم أبو طالب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال رسول الله: هو حر فليذهب حيث شاء فقام حارثة فأخذ بيد زيد فقال له: يا بني الحق بشرفك وحسبك، فقال زيد: لست أفارق رسول الله، فقال له أبوه: فتدع حسبك ونسبك وتكون عبدا لقريش؟ فقال زيد: لست أفارق رسول الله ما دمت حيا، فغضب أبوه فقال: يا معشر قريش اشهدوا أني قد برئت منه وليس هو ابني، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اشهدوا أن زيدا ابني أرثه ويرثني.

فكان زيد يدعى ابن محمد وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يحبه وسماه زيد الحب.

 

([4]) سورة الأحزاب، الآية 5.

([5]) سورة الأحزاب، الآية 36.

([6]) سورة الأحزاب، الآية 37.

([7]) سورة الأحزاب، الآية 37.

([8]) سورة النساء، الآية 130.

([9])

([10]) سورة البقرة، الآية 229.

([11]) سورة الأحزاب، الآية 36.

([12]) سورة الأحزاب، الآية 37.

([13]) سورة التحريم، الآية 1.

([14]) سورة الأحزاب، الآية 53.

([15]) العلامة المجلسي، بحار الأنوار 71/ 165، باب (المودة)، ذيل الحديث 29، والحديث لأمير المؤمنين (ع).

([16]) المتقي الهندي، كنز العمّال 12/ 146، ح 34416.

وابن سعد، الطبقات الكبرى 8/ 224.

مرات العرض: 3413
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2568) حجم الملف: 28025.15 KB
تشغيل:

سيرة عبد الله بن جعفر الطيار ومواقفه
صفية بنت عبد المطلب عمة النبي