رجب والتصعيد الروحي
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 23/8/1436 هـ
تعريف:

رجب والتصعيد الروحي


تحرير الأخت الفاضلة أم سيد رضا

في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن رجب شهر الله العظيم لا يقاربه شهر من الشهور حرمة وفضلاً والقتال مع الكفار فيه حرام، ألا إن رجب شهر الله وشعبان شهري ورمضان شهر أمتي، ألا ومن صام من رجب يوماً استوجب رضوان الله الأكبر وابتعد عنه غضب الله وأغلق عنه باب من أبواب النار).

دخل علينا هذا الشهر الكريم بخيره وبركته، نسأل الله تعالى أن يوفقنا فيه لصيامه وقيامه حتى ننال بذلك منازل عليا من قبل الله عز وجل، كأن هناك ما يشبه الدورة الإعدادية للوصول لشهر رمضان بأن يجعل المؤمن في جو يتصاعد فيه من الناحية الروحية والمعنوية بالتدريج إلى أن يصل لشهر رمضان وذلك عبر إعداد معنوي على مدى شهرين هما شهر رجب وشهر رمضان، فالغاية القصوى هي ليلة القدر في شهر رمضان والإعداد يبدأ منذ ستين يوماً تقريباً قبلها في هذين الشهرين الكريمين.

في هذا الشهر المبارك وهو شهر رجب هناك مستحبات كثيرة ينبغي أن ينتفع الإنسان من ثوابها أولاً وأن يهيئ نفسه للإستفادة من شهر رمضان ثانياً، فالشخص الذي يبدأ الصوم في أول يوم من شهر رمضان يحتاج إلى عدة أيام حتى يتأقلم مع جو الصيام وينفض عنه غبار تعب الصوم وفي هذه الفترة قد يفقد من فرص هذا الشهر المبارك شيئاً كثيراً، بينما إذا كان قد عوّد نفسه على الصيام في بعض أيام شهر رجب وشعبان قلت أو كثرت وهناك من يصوم الشهرين كاملين، فإنه يهيئ نفسه للصوم الميسر في شهر رمضان وللإنتفاع من عوائده وفوائده، ولهذا فإن هناك استحباب مؤكد للصيام في شهر رجب كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من صام يوماً من شهر رجب أغلق عنه باب من أبواب النار) وغيرها من الأحاديث المذكورة في فضله، فحري بالمؤمن أن يستفيد من هذه الفرصة التي لها ثواب كبير جداً.

يضاف إلى ذلك من المستحبات في شهر رجب هي العمرة الرجبية، فزيارة بيت الله الحرام والقيام بالأعمال هناك هي أفضل من العمرة في شهر رمضان، بالرغم من المنزلة العالية لشهر رمضان واختلاف أيامه والعمل فيها إلا أن روايات أهل البيت عليهم السلام تشير إلى أن العمرة الرجبية أفضل من العمرة في غيره من الشهور بما في ذلك عمرة شهر رمضان ولو كانت في العشر الأواخر أيضاً، فينبغي للإنسان أن يستفيد من هذا الشهر المبارك في زيارة بيت الله وتجديد العهد في تلك الرحاب المقدسة.

وهناك أعمال أخرى تختص ببعض الأيام كيوم النصف من رجب حيث فيه زيارة الإمام الحسين عليه السلام وكذلك في اليوم الأول منه، وعموماً ينبغي للإنسان في مثل هذه الأيام أن يحرص على ما يسمى بالتصعيد الروحي لنفسه حتى لا يتفاجئ بشهر رمضان وما فيه من الأعمال الكثيرة والفرص المفتوحة وإنما يبدأ بالتدريج حتى يصل إلى ذلك اليوم.

من مناسبات هذا الشهر المبارك هي شهادة الإمام الهادي عليه السلام وهو عاشر أئمة أهل البيت عليهم السلام وهو المعصوم الثاني عشر، الإمام الهادي هو علي بن محمد أبو الحسن وقد يعبر عنه بأبي الحسن الثالث كان من أصغر الأئمة عمراً وأطولهم إمامة في نفس الوقت، كان عمره الشريف لم يستمر اكثر من 42 عاماً وإمامته كانت 34 عاماً، ولد في عام 212 واستشهد في عام 254 للهجرة، وتولى الإمامة بعد شهادة أبيه الإمام الجواد عليه السلام في عام 220 تقريباً ولذلك يكون قد تولى الإمامة في وقت مبكر، لعل هذا الأمر يثير الإستغراب والسؤال لكنه بالنسبة للإمام الهادي عليه السلام لم يصنع مشكلة لأنه قد سبق أن الإمام الجواد عليه السلام تولى الإمامة في وقت مبكر من العمر ولكن كفاءته العلمية وفرض شخصيته في هذا الجانب على الناس وأنه ما طُرح عليه مسألة ولا ووجه بإشكال أو سؤال إلا وتصدى له بالإجابة عنه، ولهذا كان السؤال عن صغر السن غير مطروح في زمن الإمام الهادي عليه السلام، وباعتبار أن شخصاً في هذا العمر يستطيع الإجابة على ما استصعب من مسائل التفسير والفقه والعقيدة وغير ذلك مما كان لا يستطيعه كبار العلماء هذا لم يكن ضمن إطار طبيعي وعادي وإنما كان يشير إلى مدى ارتباط هذا الشخص بالله عز وجل وأنه مزود من خلاله بالعلم الذي لا تناسبه هذه الفترة القصيرة من العمر.

بقي الإمام الهادي عليه السلام في المدينة المنورة إلى سنة 234 للهجرة تقريباً و كان في أثنائها يتصدى لقضايا الناس الفكرية والثقافية العقائدية والفقهية وفي نفس الوقت كان يعين المحتاجين بقدر ما يستطيع إلى أن أصبح قبلة الناس ومحط أملهم، مع أن المدينة المنورة لم تكن تصنف على التوجه المذهبي الشيعي إلا ان الناس وجدوا فيه مثلاً أعلى للأخلاق والعلم فالتفوا حوله.

قام إمام المسجد النبوي في ذلك الوقت وكان اسمه بريحة العباسي وهو موظف من قبل السلطة العباسية في إمامة الجماعة في الحرم النبوي، قام بالإرسال إلى المتوكل حينها انه إن كان لك حاجة للمدينة فأخرج منها علي بن محمد فإن الناس قد مالوا إليه، وأمثال هؤلاء الكثير ممن يتقنون فن تحريض السلطات الظالمة على العلماء والأئمة والمؤمنين قد نجدهم في كل وقت يسترزقون بهذه الاموال المحرمة ولا ريب بأن مثل هؤلاء يبوؤون بإثم هذا التحريض ونتائجه.

المتوكل العباسي الذي كان شديد الإنحراف عن أهل البيت عليهم السلام أرسل في طلب الإمام الهادي عليه السلام وأرسل معه يحيى بن هرثمة وهو من المنتمين للحكم العباسي وواحد من موظفيهم وأنصارهم الذين توكل لهم الخدمات أرسله حتى يجلب الإمام الهادي عليه السلام معه إلى سامراء ولكن ما رآه يحيى من مكارم ومناقب وفضائل للإمام الهادي عليه السلام جعله على الأقل على المستوى القلبي يميل للإمام الهادي عليه السلام وهذا ليس شيئاً غريباً لأن كثيراً من الناس وإن كانت مصلحته المادية تلتقي مع الخلافة والسلطة إلا أنه لا يستطيع ان يخمد نداء قلبه وضميره للأخير وعلى الأقل يرى أن هذا الشخص استثنائي ولديه من الفضل والأخلاق والمنزلة العظيمة عند الله عز وجل، وهذا ما حدث مع يحيى بن هرثمة، وكذلك يُنقل أن المعتصم العباسي وهو قبل المتوكل العباسي عندما استشهد الإمام الجواد عليه السلام وكان ابنه الهادي صغيراً ولديه من العمر ثمان سنوات تقريباً، امروا بأن يُوضع عند مُؤدب ومُعلم مائلاً ومنحرفاً عن أهل البيت حتى يلقن هذا الطفل وهو الإمام الهادي المبادئ المنحرفة والمخالفة لأهل البيت  وكان يسمى بن جنيدي وبدأ يدرسه الدروس الإبتدائية في النحو فإذا بالإمام الذي يفترض أنه تلميذاً عنده وإذا به يفصل ويشرح لهذا المعلم من النظريات والقواعد في اللغة العربية ما جعله يُبهت ويُذهل منه، وفي اليوم الثاني جاء المعلم يعلم الإمام قصار السور فسأله الإمام عليه السلام عن تفسيرها فعجز ذلك المعلم وبدأ الإمام الهادي يشرح له تفسير هذه الآيات بأفضل بيان، وهكذا في اليوم الثالث في علم الكلام والعقائد حتى وجد هذا الجنيدي نفسه أنه أمام رجل عالم كبير فكان هو حريص على الدرس لكن ليأتي لأن يتعلم منه لا إن يعلمه، ومرّ شهر أو شهر ونصف تقريباً وكان والي المدينة ينتظر تقريراً عن التعليم فسأل الجنيدي عن الغلام الذي يعلمه فقال له الجندي: وأي غلام، فقال له المعتصم: أقصد علي بن محمد، فرد عليه الجنيدي وقال: تقصد سيدي علي بن محمد؟! فهذا ليس غلاماً وإني أبين له جانباً من المسألة فيفصلها لي بنحو لم أسمعه من أحد من الناس، وبعد عدة أشهر أصبح هذا الجنيدي من أولياء أهل البيت عليهم السلام، فالإمام الهادي عليه السلام كان يستطيع أن يؤثر على من يكون معه ويقنعه بأنه يتميز بميزات استثنائية.

أُرسل الإمام الهادي عليه السلام إلى سامراء وبقي فترة في أيام المتوكل العباسي وقد أحاطه بوضع متشنج واعتقله عدة مرات وفرض عليه المراقبة وكان يستدعيه في جوف الليل على أثر وشايات أنه يجمع السلاح والكتب وغير ذلك ولكن الإمام عليه السلام كان لا يحتاج إلى ذلك فيكفيه أنه ينشر شريعة جده المصطفى ويعلم الناس الهداية ويرشدهم إلى التقوى، وهكذا استمر به الحال وعاصر ثمانية خلفاء في فترة حياته وهذا يعني أنه بمعدل خمس سنوات يتغير الخليفة إلى أن جاء زمان المعتز العباسي واغتال الإمام عليه السلام بالسم فذهب إلى ربه راضياً مرضياً، نسأل الله سبحانه وتعالى الذي عرفنا بأئمتنا أن يجمعنا بهم في الآخرة إنه على كل شيء قدير.

 

مرات العرض: 3408
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2576) حجم الملف: 2547.23 KB
تشغيل:

كمثل الحمار يحمل أسفارا
عن حياة العقيلة زينب