عقوق الوالدين النسبي والروحي
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 22/9/1433 هـ
تعريف:

عقوق الوالدين النسبي والروحي

كتابة الأخت الفاضلة فاطمة جعفر آل هليل

قال الله تعالى: (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا)([1]).

وعن الأصبغ بن نباته قال: دخلت على أمير المؤمنين عليّه السلام في آخر أيامه، فقلت له: حدثني، فقال: " يا أصبغ دخلت على رسول الله في آخر أيام مرضه، فقال لي: (يا علي، أذهب إلى المسجد وقل لهم: ملعون، ملعون من عق والديه، ملعون، ملعون من أبق من مولاه، ملعون، ملعون من منع أجيره أجره). ثمّ رجعت إلى رسول لله صلّ الله عليه واله وسلم فقال لي: ارجع إليهم وقل: (يقول لكم النبي أنا وعلي أبوا هذه الأمة، أنا وعلي مولا كلّ مؤمن ومؤمنة، أنا وعلي أجيرا هذه الأمة)".

حديثنا يتناول أحد كبائر الذنوب، وهو: عقوق أحد الوالدين، أو كليهما.

العقوق في مفهومه معروف وهو القيام بشيء من الأشياء سواء كان لفظ أو فعل بقصد أذية أحد الوالدين، أو كليهما. وسيأتي الكلام عليه –إنّ شاء الله-.

قد لا نجد في الآيات الكريمة آية واضحة الدلالة فيها عنوان العقوق للوالدين، ولكن الكثير من الآيات المباركات فيها إشارات واضحة إلى حرمة هذا العمل، وإن كان بغير هذا اللفظ. فمثلًا يستفيد المفسرون من هذه الآية المباركة الّتي تتحدث بلسان عيسى بن مريم على نبينا واله الصلاة والسلام يستفيدون منها أنّ العقوق مساوًا للشقوة، والشقاء الآخروي لا معنى له إلّا المصير إلى نار جهنم.

يقول تعالى باللسان عيسى بن مريم: (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا)([2])، ولم يقل بارًا بوالدي لأنّ عيسى ولد من غير أب، لكن في موضوع يحيى مثلًا قال: (وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا) ([3])، فهنا يجد أبوان ليحيى فيأتي بالتثنية، وفي آية عيسى لا يوجد إلّا أم.

عبارة (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) كأن فيها تقابل بين صفتين أولهما البر والثانية الشقاء، أيّ الحاني على والدته، والثانية الجبار عليها، لا يوجد هناك وسط بحسب هذه المقابلة، فجُعل من لم يكن بارًا فهو عاق، وإذا كان عاق فهو شقي، وإذا كان شقي فهو من أهل النار (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ)([4]) ، (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا)([5]). وهنا جعل العاق شقي فهو في النار، فاستفيد من هذا المعنى أنّ العقوق لأحد الوالدين فضلًا عن كليهما يؤدّي إلى نار جهنم.

الأحاديث الّتي تحدثت عن الكبائر سواء من المصادر السنية أو الشيعية، اتفقت على أنّ عقوق أحد الوالدين أو عقوق كلا الوالدين هو كبيرة من الكبائر، والكبائر بطبيعة الحال مع عدم الاستغفار عنها والتوبة منها في مواضع التدارك توصل مرتكبها إلى نار جهنم، في هذا الحديث الذي ينقله الأصبغ بن نباته عن أمير المؤمنين أيضًا فيه لعن لمن عق والديه، وإن كان هنالك توجبه في التفصيل إلى جهة أخرى سوف نشير إليها –إنّ شاء الله تعالى- .

للعقوق درجات متعددة، فهو من الكبائر الّتي يمكن أنّ يشترك فيها أعضاء كثيرة للإنسان، بعض الكبائر يختصّ بها عضو واحد فمثلًا أكل مال اليتيم يختصّ به البطن عادة، والسرقة تختص بها اليد، الفرار من الزحف تختص بها الرجل، والزنا يختصّ بها فرج الإنسان وهكذا سائر الكبائر نجد أنّها عادة تختص بجارحة من الجوارح وعضو من الأعضاء. أما بالنسبة للعقوق فمن الممكن أنّ يحدث بأكثر من عضو، العين مثلاً "من نظر إلى أبويه نظرة ماقتة أكبه الله في النار"، وماقتة بمعنى الحقد والاشمئزاز، فهو من العقوق لكنه من ذنوب العين، وتارة يكون بالفم (فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا) ([6])، والنهر والكلام الفاحش وإغلاظ الصوت عليهم يتولاهم اللسان، الإيذاء البدن يتولاه اليد أو الرجل وما شابه ذلك، فهناك إمكانية أنّ يرتكب جسم الإنسان بأكثر من عضو من الأعضاء مناحٍ من العقوق وهي متدرجة كذلك. متدرجة في بعض الحالات مجرد نفخة (أف)، وهذه حتّى بدون أنّ يخرج لفظة أف يتحقّق فيها ما ورد في الحديث " لو علم الله شيء من العقوق أدنى من أف لنهى عنه"، ومن باب الأولوية لا تضربهما، لا تغضبهما، فإذا كان مجرد نفخة هواء منهي عنها فمن باب الأولى رفع الصوت غير جائز، ومن باب أولى يكون الضرب غير جائز، ومن باب أولى يكون الإيذاء غير جائز، وعلى هذا المعدل.

من المصاديق في العقوق ما نقله بعضهم:

كان هنالك فلاح، من بيئة متواضعة من الناحية المادية لكنه اراد أنّ يربي أبنائه تربية علمية عالية، فكان يكدح في زراعته وفلاحته حتّى يحصل على المال الذي يزود به أبنائه للدراسة، وبالفعل أحدهم تخرج وأصبح في رتبة عالية وتغيرت اوضاعه، أصبح عنده منزلة وأموال وبيت فخم وبيئة اجتماعية من أقرانه من ذوي الثروة والشخصية، والأب لا يزال على حاله في مزرعته وثيابه وحالته الاجتماعية وهكذا. وهذا الولد لم يكن يرغب بالذهاب إلى مكان ابيه وقريته لأنه يراها عار عليه، لكن الاب إذا اشتاق إلى ابنه يأتي إليه وعادة الآباء هم أكثر حنان وشفقة على الأبناء، في يوم من الايام دعا هذا الولد مجموعة من أقرانه من أصحاب المناصب والجاه والثروة إلى منزله، في هذه الاثناء كان والده قد أتى إلى زيارة في وقت خروج الضيوف لتغسيل أيديهم بعد الطعام، حينها تجاهل الولد اباه القادم بلباس الزراعة قدر الإمكان حتّى لا يخجله أمّام اقرانه، فعندما أتى وسلم على أبنه استنكف ان يقول هذا والدي، بلّ قال لأصحابه بأن هذا خادم عندنا يعمل بالزراعة.

مثل هذا وإن كان لم يصل لمرحلة الضرب أو الأذى اليدوي، إلّا أنّه يحوي مرحلة شديدة من الجرح النفسي للأب الذي لم تصل إلى ما أنت عليه اليوم إلّا بفضله وبعمله وبعرق جبينه ولولاه لكنت الآن دون هذا المستوى كثيرًا، وكثير ما يحدث مثل عند المساء الغير متأدبات بآداب الدين فترى بأنها أفضل من أمها أو تتجاهل من والدتها حتّى لا يلحقها العار لأنّ والدتها لا تعرف للموضة أو غيرها. وهذا أيضًا يدخل ضمن العقوق. الإنسان العاقل يفتخر بأمه وأبيه، ولولا هذه الثياب الرثة والخلقة للفلاح لم تستطع أنت أيه الأبن أنت تبني هذا المنزل وتصل إلى ما وصلت إليه من هذا العلم والمعرفة وهذا المنصب. ولولا هذه الأم الّتي ربت هذه الأبنة لم تصل إلى ما وصلت إليه اليوم من قوة الشخصية. ونحن نرى تراثنا الإسلامي وافتخار قادتنا بإبائهم، علي عليّه السلام يقول: " وانا ابن أبي طالب" وهذا دلالة عل الفخر، ورسول الله صلّ الله عليه وآله وسلم يقول: " انا ابن الفواطم من قريش"، الإمام الحسين عليّه السلام يقول: " يأبى الله لنا ذلك وحجور طابت وطهرت". إذا رأيت أحدًا يتنكر فضل أحد والديه أو كليهما فاعلم ألا خير فيه، أنت لم تصلت إلّى ما أنت عليه اليوم إلّا بعمل ابيك خطئه وصوابه كذلك، لو لم ليكن أبيك يربي وينفق عليك لكنت نسيا منسيا، فقد حافظا عليك من الألم ومن المرض، لربما لو أهملا لحظة واحدة لكنت ذهبت في طي النسيان. وأنفقا علي كلّ ما يملكان وهذا من الأمور العظيمة المسكوت عنها لأنّ أبائنا –جزاهم الله خيرا- لإنكارهم ذواتهم لا يذكروا هذا تجاه أولادهم، لو أجرينا عملية حسابية لجمع كلّ ما أنفق الوالدين على ابنهم البالغ اليوم ثلاثين عامًا منذ انعقاد نطفته إلى أنّ شب عوده لظاها ذلك الثلاثة ملايين، في بعض الدول يتوجب عليك بعد لدراسة المجانية العمل لدى الدول فترة من الزمن وإلا تدفع مبلغ ضخم لتسدد للدولة دين تدريسك، فكم صرف الأب والأم على أبنائهم؟ ليس ماديًا فقط بلّ حتى جسديًا، هذا من الناحية الجارية فقط. حقًا يتعجب الإنسان كيف يعامل والده إذا بلغ أرذل العمر يرميه في دار العجزة وينسى فضله عليه؟.

يذكر لي أحد الأحبه هنا في المركز في سيهات يقولون: هنا بعض الأشخاص اللذين يحضرون أباءهم أو أمهاتهم وينسون أنهم على قيد الحياة، يتركونه أشهر وسنوات ونحاول التواصل معهم دون أي فائدة (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) ([7]) عندما يصل أحدهم أو كلاهما لمرحلة الكبر حينها قد وصلا للوقت الذي يتوجب عليك رعايتهما يقوم البعض بالتخلي عنهما، نعم قد يضطر البعض لوضع آبائهم لدى المراكز الصحية المتخصصة لينالوا العناية الطبية هناك، لكن يبقى متابع لحالة والديه ومتتبع لها، هكذا حال الدنيا اليوم تفعل هكذا بأبيك غدًا يفعل بك ذات الشيء. يقال بأن هنالك شخص شاب يضرب والده كبير السن وسط الشارع، فأتاه الناي ينهوه عن فعله وضربه لأبيه، فنهرهم الأب قائلًا: اتركوه، فأنا قبل سنين وقفت في ذات المكان وضربت أبي فيه.

الآن أنت في منزلك تربي أولادك في بيئة للينة رحيمة ممّا ينتج عنه جيلًا لينًا رحيمًا هادئًا، وأحدهم يربي أولاده على الفوضى ورفع الصوت فينتج جيلًا فوضويًا عالي الصوت، هنا يحتاج الإنسان إلى التوجه إلى قوانين الحياة الصارمة قبل معرفة القوانين الإيمانية "كما تدين تدان". فأنت إما أنّ تزرع في بيتك الرحمة أو العكس وسيعود هذا الدرس عليك في كبرك، فالطفل يتعلم بالتقليد والمراقبة فقط.

هناك سؤال يطرح في موضوع العقوق وهو: كيف تسبب نفخة الهواء بقول أف الدخول إلى نار جهنم؟ كيف من الممكن أنّ نفهم الروايات الّتي ظاهرها أنّ أيّ درجة من درجات العقوق تنتهي بالعقاب الأخروي وهو نار جهنم؟ فهل من المعقل أنّ تتساوى النفخة بِـ (أف)، مع ضرب الوالدين؟

هناك جوابان، أولهما: هذه الدرجات المنخفضة من العقوق عادة تكون غير مستمرة وبدون عناد، كأن ينظر مرة واحدة لوالديه بنظرة حادة، أو مرة يتأفف فلا يعاقب بنار جهنم، لأنّ مثل هذا العمل يعتبر من الصغائر، لكن لو كان مستمر على هذا أيّ كانت سيرة حياته ينظر بحدة لولديه، يرفع صوته عليهما هنا يتغير الحكم بسبب الإصرار والاستمرار فتتحول الصغائر إلى كبائر، وإذا لم يتب عنها ولم يتدارك الأمر سيكون مصيره إلى نار جهنم، كما هو الحال في سائر الكبائر.

أمّا الجواب الثاني: فقد نقل المسألة إلى جهة أخرى كما ذهب إلى ذلك بعض العلماء، يقولون الاب على قسمين:

1)الاب النسبي: الذي تنعقد نطفة الإنسان منه.

2)الاب الروحي: الذي له حقّ عليك كسيد الأنبياء محمد صلّ الله عليه وآله وسلم، وأمير المؤمنين عليّه السلام. الأب باللغة العربية ليس الأب النسبي فقط بلّ الأب النسبي بالإضافة إلى كلّ من جرت نعمته عليك واهتمامه بحياتك فيقال للعم بأنّه أب، ويستشهد مؤلف كتاب مفردات ألفاظ القرآن الكريم الراغب الأصفهاني يقول بأن من معنى الأب قول النبي محمد: أنا وعلي أبوا هذه الأمة. فمن خلال النبي وأمير المؤمنين جرت نعمة الله فكان رسول الله أب وكذلك علي عليّه السلام. وما نقل أيضًا أنّ الخضر عليّه السلام في ليلة قبض أمير المؤمنين عليّه السلام جاء إليه وأبنه بكلمات كان منها: لقد كنت للمؤمنين أب رحيما. حتّى أصحاب أمير المؤمنين كانوا يستخدمون هذا اللفظ من قبيل أبي الطفيل عامر الكناني يقول:

علي لنا والد ونحن له طاعة كالولد.

حين إذن لو أنّ شخص تأفف من رسول الله كانت كبيرة من الكبائر، بمجرد أنّ تتأفف من أمير المؤمنين كانت كبيرة من الكبائر، لأنّ بتأففك منهما تمقتهما ومقتهما كبيرة من الكبائر، أمّا إذا تأففت بوجه والدك النسبي تعتبر صغير من الصغائر إلّا من الاستمرار والإصرار عليها.

إذن فخلاصة الرأيين أنّ الأول يرى بأن صغائر العقوق لا تؤدّي إلى النار إلّا بالاستمرار عليها والإصرار، الرأي الثاني يرى بأن العقوق المؤدي إلى النار هو عقوق الوالد الحقيقي الروحي، وهذا ما جاء به الاصبغ من نباته عندما زار أمير المؤمنين في أواخر ساعته، حيث كان الأصبغ ابن نباته من المقربين للإمام علي عليّه السلام لأنه كان من شرطة الخميس وهم شرطة الجيش، حيث تشارطوا مع أمير المؤمنين على أنّ لا يعصوا له أمرًا ولا يفروا له من زحف، ولا يكونوا عند حدّ أوامره ومنهم الأصبغ بن نباته الذي كاد أنّ يقتل معاوية في صفين لكن معاوية فر هاربًا، فموقف الأصبغ هذا جعل من الإمام الحسن عليّه السلام يسمح للأصبغ بالدخول على الإمام في آخر ساعاته، وجاء بالرواية " يا أصبغ دخلت على رسول الله في آخر أيام مرضه، فقال لي: (يا علي، أذهب إلى المسجد وقل لهم: ملعون، ملعون من عق والديه، ملعون، ملعون من أبق من مولاه، ملعون، ملعون من منع أجيره أجره). ثمّ رجعت إلى رسول لله صلّ الله عليه واله وسلم فقال لي: ارجع إليهم وقل: (يقول لكم النبي أنا وعلي أبوا هذه الأمة، أنا وعلي مولا كلّ مؤمن ومؤمنة، أنا وعلي أجيرا هذه الأمة)".

 

[1])سورة مريم 32

[2]) ) سورة مريم 32

[3]) ) سورة مريم 14

[4]) ) سورة هود 106.

[5]) ) سورة هود 108.

[6]) ) سورة الإسراء 23.

[7]) ) سورة الرحمن 30.

مرات العرض: 3445
المدة: 00:51:18
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2584) حجم الملف: 17.6 MB
تشغيل:

أصلاب وأرحام طاهرة : آباء وأمهات النبي
الزنا... وساء سبيلًا