برغم الحروب عليه.. يبقى الحسين
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 10/1/1447 هـ
تعريف:

برغم الحروب عليه.. الحسين يبقى

كتابة سماحة الشيخ سمير الربح

بالرغم من أجواء المصيبة والحزن التي تحيط بالإنسان المؤمن من جميع جوانبه بمصاب الحسين، وحقَّ له ذلك؛ فإن مصيبة الحسين (عليه السلام) مصيبة جلَّت وعظُمت في السموات على أهل السموات، وجلَّت وعظُمت على أهل الإسلام، ولكن مع ذلك ينبغي أن نستفيد من دروس هذه المصيبة الراتبة والمأساة العظيمة؛ لكي ننتهي إلى أن الحسين (ع) بالرغم من الحروب التي شُنَّت عليه (ولاتزال).. بالرغم من الحروب السابقة واللاحقة.. الباقية المستمرة؛ إلا أنه لازال باقيًا في ذكره خالدًا في دروسه حيًّا في ضمير كل إنسان حي. أرادوا أن يقضوا على الحسين جسدًا وذكرًا وفكرًا وأثرًا وثقافة، ولكنه بقي، فإنه كلمة الله، وكلمة الله هي العليا. وإذا أردنا -باختصار- أن نشير إلى ما حدث ويحدث في عالم المسلمين من أجل طمس الحسين ومحو آثاره لتعجبَّنا؛ كيف أن هذا النور، وهو نور الله الذي لا يخبو وسيفه الذي لا ينبو، جرى عليه ولازال يجري كل أنواع الظلم والاضطهاد بغرض إبعاده عن الأمة. تعرَّض لشتى أنواع الحروب. لم تكن حربًا واحدة في معركة انتهت بنهاية نهار يوم عاشوراء من سنة إحدى وستين للهجرة، بل كانت البداية.. بداية لمعركة طويلة لـمَّا تنتهي فصولها بعد. محاولة القضاء على جثة الحسين (عليه السلام) لماذا بعدما قُتل الحسين (عليه السلام) أصدروا أمرًا برض صدره وجسمه بحوافر الخيل.. وليست أي خيل، إنها خيل الأعوجية، ولم يدفن بل لم يوارَ جسدُه التراب. لماذا؟ لماذا لم يلقَ في حفرة تواري جسده الشريف، وإن لم يكن دفنًا حسب المتعارف عند المسلمين. إنهم لم يسمحوا بذلك فبقي جسده في العراء. ولتعليل هذا التصرف الشنيع، هناك من يرى أن الدافع في ذلك هو حقد شخصي وانتقام من عبيدالله بن زياد بأمر من عمر بن سعد، فهؤلاء حثالة البشر يُتوقع منهم ذلك. لكني أرى أن الأمر أبعد من ذلك، مع أني لا أنفي هذا الحقد على ابن بنت رسول الله. إنه من أجل إزالة أي أثر يُبقي الحسين (عليه السلام)؛ فرُضَّ جسدُه بحوافر الخير وفُصل رأسُه الشريف ثم رُفع على رمح طويل، وتُرك بلا مواراة. وليس في بالهم أن الله سبحانه له تدبير آخر، فكما هم يكيدون، فإن الله يكيد بهم، وسيُقدِّر بعد أيام مجيء الإمام السجاد (عليه السلام)، ويلتقي ببني أسد ويَدفن أباه في تلك الأرض المختارة. إنهم لا يعلمون ذلك، ويظنون أن الأمر سيسير وفق تخطيطهم، فكانوا يتوقعون أن جسدًا مُقطَّعًا مُرضَّضًا إمَّا ستأكله الوحوش الضارية؛ فإن أرض كربلاء صحراء مفتوحة وكانت أرض مسبعة يكثر فيها السباع التي تلتقط من بعيد رائحة الدم واللحم، والطيور الجارحة ستكمل البقية إن بقي شيء! وينتهي كل شيء فلا حُسين ولا شهادة ولا قضية. وكأن شيئًا لم يكن، وحسب تعبيرنا: "لا من شاف ولا من درى". لا يزداد أثره إلا ظهورًا وأمره إلا علوًا وأشارت إلى ذلك السيدة زينب بنت علي (عليهما السلام) حينما رأت ابن أخيها زين العابدين (عليه السلام) وروحه تكاد أن تُزهق من هول المصاب أسى وحزنًا على أبيه؛ فسألته: "مالي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي وأبي وإخوتي؟ فأجابها: وكيف لا أجزع ولا أهلع، وقد أرى سيدي وإخوتي وعمومتي وولد عمي وأهلي مُصرَّعين بدمائهم مُرمَّلين بالعراء، مُسلَّبين لا يُكفَّنون ولا يُوارَون، ولا يُعرِّج عليهم أحد، ولا يقربهم بشر، كأنهم أهل بيت من الديلم والخزر. فقالت له: لا يجزعنَّك ما ترى؛ فواللهِ إن ذلك لعهد من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى جدك وأبيك وعمك، ولقد أخذ الله ميثاق أناس من هذه الأمة لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض، وهم معروفون في أهل السماوات أنهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرقة فيوارونها، وهذه الجسوم المضرجة وينصبون لهذا الطف علمًا لقبر أبيك سيد الشهداء (عليه السلام) لا يدرس أثره، ولا يعفو رسمه، على كرور الليالي والأيام وليجتهدن أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه فلا يزداد أثره إلا ظهورًا وأمره إلا علوًا". هكذا أرادوا، وأراد الله غير ذلك: "إِنَّهُمۡ یَكِیدُونَ كَیۡدࣰا وَأَكِیدُ كَیۡدࣰا"( )، ورأينا كيف مكر الله بهم، وكيف غلبتْ إرادتُه إرادتَهم. هكذا بقي الحسين؛ ففي عاشوراء من كل سنة يُحيي الملايين واقعة الطف حتى في بلدان لم نكن نسمع عن اسمها، تصلنا أخبارها موثقة بالصورة الثابتة وبالصورة المتحركة في مقاطع مرئية وبلغات مختلفة وسحنات متعددة. كلهم يبكي الحسين ويحيي ذكراه. تشييد قبر الحسين (عليه السلام) دُفن الحسين بكل إجلال وتقدير، بل جاء المختار الثقفي وشيَّد عليه قبة من جُصٍّ وبقيت زمنًا، حتى جاء حكام الجور من بني أمية وبني العباس ليهدموا هذا القبر وما بُني عليه. يذكر المحقق الشيخ محمد صادق الكرباسي في موسوعة (دائرة المعارف الحسينية)( ) بالتواريخ الدقيقة أسماء من هدم قبر الحسين وأعفاه وجعله ترابًا، ويُحصي عدد مرات الهدم البالغة 15 مرة في نحو 1400 سنة، فيها دُرس قبر الحسين تمامًا ورُفعت العلامات عنه ومُحيت آثاره. لعن الله قاطع السدرة روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: "لعن الله قاطع السدرة، ثلاثًا"( ). لم يكن لهذا الحديث الشريف معنى واضحًا حين صدوره؛ فهل المراد منه العموم؟ أي لعن اللهُ كلَّ من يقطع سدرةً أنى كانت؟! أم أن المراد مصداق خارجي؟ إلى أن جاء زمن هارون العباسي، وكانت هناك سدرة قرب قبر الحسين (عليه السلام) وأريد أن تُعفى الآثار لتصبح الأرض صحراء قاحلة لا أثر للحياة فيها فقطعت هذه السدرة، حينها علم الناس أن المراد من لعن رسول الله لقاطع السدرة هو مصداق خارجي واحد ينطبق على السدرة المجاورة لقبر الحسين. الحائر الحسيني وأما في زمن المتوكل العباسي( ) فيحصي المؤرخون أنه درس قبر الحسين أكثر من مرة، فإنه كرب قبر الحسين وحرثه وأجرى عليه الماء حتى يتحول إلى مزرعة، فحار الماء ودار حول قبر الحسين( ) ولم يغمره كرامة من الله عزَّ وجلَّ. تشييد قبر الحسين نحن نرى أنه في أثناء خمسة عشر قرنًا حاول الظالمون أن يخفوا قبر الحسين (عليه السلام)، لكي يمتنع الناس عن زيارته؛ فإن إخفاء القبر لا غرض منه إلا المنع من الزيارة كما فعلت الحكومات الجائرة التي حكمت العراق، وحين لم يتمكنوا من إخفاء القبر، وضعوا العراقيل وفرضوا الغرامات، بل أكثر من ذلك أزهقوا الأنفس وقطَّعوا الأيدي لكيلا يصل الموالون المحبون لقبره الشريف. لكنهم (الموالين) كانوا يشيِّدون قبر الحسين كلما دُرس، ويقيمونه كلما اندثر، وكانوا يُقدِّمون أنفسهم وأرواحهم فداء لأبي عبدالله، فلم يكن الولاء بالقلب فحسب، بل كان يَظهر على جوارحهم ويتمثَّل في سلوكهم. تغيير مناسبة عاشوراء من حزن إلى فرح غيَّر الاتجاه الأموي مناسبة عاشوراء من مناسبة للحزن والأسى والغم نتيجة ما ارتُكب من جريمة شنعاء على ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، إلى مناسبة للفرح والابتهاج والسرور( )؛ بحجة أن نبي الله موسى (عليه السلام) انتصر على فرعون في زمانه، فحقَّ لنا نحن المسلمين أن نفرح بذلك. ولعمري لستُ أدري إن هذا يستبطن إشارة خفية بأن الحسين فرعون ويزيد هو موسى! وأن موسى العصر انتصر على فرعون العصر! كيف لمسلم أن يفرح وتوزَّع الحلويات وتُلبس الأطفال ملابس الزينة ويصوم شكرًا لله ويُتبرك بهذا اليوم كما جاء في الزيارة: "اللهم إن هذا يوم تبركت به بنو أمية وابن آكلة الأكباد اللعين ابن اللعين على لسانك ولسان نبيك صلى الله عليه وآله"( )، وفي بعض البلاد هناك أطباق خاصة بيوم عاشوراء، وأموال توزَّع على الأطفال (عيديات) فرحة وابتهاجًا بيوم عاشوراء حاله حال عيدي الفطر والأضحى؛ فتحوَّلت المناسبة من حزن وأسى وفاجعة ومواساة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى مناسبة فرح وسرور وعيد، وربوا أجيالًا على هذا النهج. صيام يوم عاشوراء فرحًا وابتهاجًا وأضيف إلى ذلك بُعدٌ دينيٌّ حينما أفتوا باستحباب صيام يوم عاشوراء شكرًا لله!، والعجب أنهم يستنكرون على أتباع أهل البيت (عليهم السلام) إحياء عاشوراء بالحزن والبكاء واللطم على سيد الشهداء، وهي قضية مضى عليها ألف وأربع مئة سنة؛ فتلك أمة لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، فما شأنكم أنتم في قضايا التاريخ التي انتهت إلى غير رجعة؟! وبهذا المنطق نقول لهم: إن ذلك ينسحب على إحيائكم (كما تزعمون) قضية موسى وفرعون التي مضى عليه ثلاثةُ آلاف ومئتا سنة، مع أنها قضية كاذبة؛ فإن موسى لم يَنجُ في يوم عاشوراء، بل الفلكيون والمؤرخون يَرَون أنه لا يمكن أن يصادف يومُ النجاة يومَ عاشوراء. على أن (عاشوراء) هو عنوان إسلامي. فإذا كنت تعيب علينا على أننا نحيي هذا اليوم حزنًا على ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأنت تحتفل بمناسبة كاذبة بالرغم من مرور هذا الزمن الطويل عليها، فكيف (باؤك) تجر و(بائي) لا تجر؟! علاوة على ذلك، فإن هذا الفرح يتناغم مع اليهود، ومتى كان رسول الله يبحث عن رضا اليهود وينسجم معهم؟! إننا نرى عكس ذلك؛ فإن اليهود نصبوا العداء لرسول الله من أول يوم قدم فيه المدينة إلى أن غادر الدنيا، وجاءت كثير من التشريعات على خلاف ما عند اليهود المتأخرين. نعم، أصول الرسالات الإلهية واحدة، لكن اليهودية خالفت ما جاء به موسى (عليه السلام). الخلاصة والخلاصة أن أعداء الحسين اجتهدوا في محو اسمه وإزالة قضيته بهذه المحاولات الثلاث: أن يُعدم الجثمان الشريف فلا يبقى له أثر، وأن يُهدم القبر فلا يُعرف مكانه، وأن تُمنع الزيارة، بالإضافة إلى تغيير عنوان المناسبة من حزن إلى فرح ومن أسى إلى ابتهاج ومن عزاء إلى عيد؛ والغرض من كل ذلك هو انفصال الأمة عن الحسين وعن قضيته.   لكن الحسين كما كان خارجًا لله عزَّ وجلَّ ووهب اللهَ كلَّ شيء، وهبه اللهُ الخلودَ والبقاءَ، وهو الذي كان يقول يوم عاشوراء: "أمَا مِن ناصر..."، كان يبحث عن ناصر واحد.. "... أما من معين" معين واحد؛ فإذا الاستجابة تأتي طيلة هذه السنوات من الملايين الذين يهتفون: "لبيك داعي الله، إن كان لم يجبك بدني عند استغاثتك ولساني عند استنصارك فقد أجابك قلبي وسمعي وبصري". والحمد لله رب العالمين. المصادر 1-الأمالي، الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، تحقيق قسم الدراسات الإسلامية، دار الثقافة، قم، 1414ه. 2-أنا الحسين بن علي: أوراق من السيرة المغيبة عن الأمة، الشيخ فوزي آل سيف، دار المحجة البيضاء، بيروت، 1446هـ. 3-بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، الشيخ محمد باقر المجلسي، مؤسسة الوفاء، بيروت، 1403هـ. 4-جامع أحاديث الشيعة، السيد حسين الطباطبائي البروجردي، مطبعة المهر، قم، 1411هـ. 5-مصباح المتهجد، الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، مؤسسة فقه الشيعة، بيروت، 1411هـ. 6-معجم ألفاظ الفقه الجعفري، أحمد فتح الله الموسوي، ط2، بيروت، دار المرتضى، 1438هـ
مرات العرض: 5423
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (0) حجم الملف: 149424.19 KB
تشغيل:

فإني قريب
صور اجتماعية من واقعة كربلاء