إضاءة وتعريف بالحوزة العلمية الشيعية
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 29/9/1446 هـ
تعريف:

إضاءة وتعريف بالحوزة العلمية الشيعية

كتابة الفاضلة ليلى الشافعي

قال الله العظيم في كتابه الكريم : ( وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) ننطلق من هذه الآية المباركة للحديث عن الحوزة العلمية الشيعية والتي نشأ منها كل ذلك الخير والبركات فمنها انبثق مرجعيات شيعة أهل البيت منذ أوائل زمان الغيبة الكبرى إلى زماننا المعاصر ومنها أيضًا تلك كانت الكتب التي نربى عليها أجيالٌ من العلماء وطلاب العلم . فما هي هذه الحوزة ؟ وماذا تكون وكيف تتشكل ؟ وماذا يدرس فيها ؟ هذه من الأمور التي قد يكون من المهم أن يتعرف عليها الإنسان المؤمن لما للحوزة العلمية من أثرٍ في حياته . فالحوزة التي تنبثق منها المرجعية الدينية ودور المرجع الديني في حياة الإنسان المؤمن من حيث إرشاده إلى الأحكام الدينية وطرائق العبادة وأحكام المعاملات أمرٌ واضح ، بل أدوار هذه المرجعية الدينية والتي عرضنا لبعضها فيما سبق على مستوى الأمة في القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية أ يضًا لها دورٌ على مستوى الأمة فضلًا عن الأفراد ، تلك المرجعيات منبثقةٌ من الحوزة العلمية . فعلى المستوى القريب أخذ الإنسان لمعالم دينه في العادة أنه يحصل من خلال وكلاء هذه المرجعيات وأئمة الجماعة في الغالب أنهم ويفترض أنهم قد درسوا في هذه الحوزات فهو على اتصالٍ مباشرٍ معهم وهم كما يفترض تخرجوا من هذه الحوزات العلمية . فمعرفة الإنسان بهذا المعنى مصطلح الحوزة العلمية وماذا يحدث فيها وماذا يدرس فيه ومعرفة هذه الأمور لا ريب أنها ذات فائدة بالنسبة إلى الإنسان المؤمن . لنبدأ بالآية المباركة والتي تشكل بداية الانطلاق لمن يذهب إلى الحوزة العلمية ومنصة الإطلاق لهذا الإنسان ، فالقرآن الكريم يقول ( وما كان المؤمنون لينفروا كافة ) فلو فرضنا أنه مع معرفة أنه يجب على الإنسان أن يتعلم أحكام دينه كي يعبد ربه بشكلٍ صحيح ، فلو فرضنا أن كل الناس ذهبوا إلى الدراسة الدينية فهذا يعني تعطل الحياة في المجتمع اقتصادًا واجتماعًا وغير ذلك ، لذلك القرآن الكريم يقرر قاعدة ( وما كان المؤمنون لينفروا كافة ) فمن غير الممكن أن يكون هناك نفرةٌ وهجرةٌ وخروج من قبل كل المؤمنين كي يطلبوا العلم ، إذن ما هو المطلوب ( فلولا نفر من كل فرقةٍ منهم طائفةٍ ) من كل بلدة من كل منطقة من كل جماعة حيث أنهم لا يستطيعون ولا يمكن لهم أن يخرجوا بأنفسهم للدراسة الدينية ويتفرغوا لها فلينفر إذن من كل مجموعة بشرية جماعة أو طائفة أو فئة أو أفرادٌ ( فلولا نفر ) وهذا فيه تحريض وتشجيع وتحضيض وأمر غير مباشر فلولا نفر يعني فليفعلوا ذلك ( ليتفقهوا في الدين ) فيتفرغ عدد من السنوات ليصبح فقيهًا عالمًا بدرجةٍ من الدرجات على الأقل التي تخوله إلى أن ينذر من خلفه أي يحذرهم مواقع السقوط الأخلاقي والانحراف ومواقع الجهل والغفلة عن أوامر الله عز وجل ويعلمهم تلك الأحكام . ( ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم ) فالمفروض أن يرجعوا إلى قومهم ولا يبقون هناك فغاية التعلم هو الإرشاد إلى العمل فليرجع إلى قومه إلى طائفته لينذرها وليبينها لعلهم يحذرون . فهنا إذا أرشد وبين وحذر هذا الإنسان المؤمن سيلتفت مثلًا إلى أنه لن يسافر قبل الظهر في شهر رمضان بحيث يفسد صيامه . فيتحذر الناس من مخالفة الأحكام الشرعية وصحت بذلك عباداتهم وأعمالهم الدينية . ومن هذا المنطلق كان من اللازم على نحو الوجوب الكفائي أن ينبعث من كل مجتمعٍ فئةٌ تذهب إلى طلب العلم والتعلم والتفقه ، فهو ليس واجبًا عينيًا على الجميع وإنما كفائيًا للزوم تعطل النظام الاجتماعي . وهذه هي بذرة الحوزة العلمية ، فماهي الحوزة العلمية ؟ لفظ الحوزة قال البعض أن أصلم من حاز يحوز فعندنا من الأحكام بالنسبة للأراضي كالصحراء مثلًا إذا أتى شخصٌ وحازها وسورها ثم عمرها فأول طريق هو الحيازة وهو أن يسورها ثم يعمرها بزراعة أو سكن أو صناعة أو غير ذلك بنظر الشرع هذه الأرض ستكون ملكه بالحيازة ثم الأحياء . فقيل أنه من هذا المعنى جاء أنه ما يوجد من نشاطٍ علميٍ في منطقةٍ يكون له أشبه بالسور سواء كان مدارس علمية كبيرة أو مدارس صغيرة وحتى لو لم يكن مدارس أصلًا كأن يكون درسًا في المسجد أو حتى في بيت الشيخ الفلاني ، فمجموع هذه الأشياء سينطبق عليها عنوان الحوزة العلمية ، كالحوزة العلمية في لبنان ، أو الحوزة العلمية في مشهد ، الحوزة العلمية في القطيف في الأحساء في النجف فالحوزة هو ما يحوي جميع الأنشطة العلمية التي ترتبط بالدرس الديني من دروسٍ ومباحثاتٍ ونشاطٍ علميٍ سواء كان عبر المدارس المبنية أو كان في مساجد وحسينيات أو كان نشاط علمي فردي عند الأشخاص في داخل بيوتهم . وهذا التعبير تختص به الحوزات الدينية الشيعية فلا نجد هذا التعبير في البيئات التعليمية للمذاهب الأخرى ، فلا نجد من يقول الحوزة العلمية في الأزهر الشريف أو الحوزة العلمية في جامع الزيتونة أو الحوزة العلمية في مكة المكرمة .... فهذه لا يطلق عليها اسم الحوزة العلمية وكأن هذا الاصطلاح أصبح خاصًا بشيعة أهل البيت عليهم السلام وبنشاطهم العلمي الخاص بما يرتبط بالأمور الدينية . قد يكون كما قال بعضهم أن أصله لفظة فارسية يعني الشيء الذي يحاز ويحتفظ به فإذا كان هذا هو المعنى فهو مرجعه إلى ما ذكرنا أنه في اللغة العربية . وقد يكون هناك حوزة أساسية وحوزة طرفية . حوزة مركزية كالنجف الأشرف مثلًا أو في قم المقدسة وفي بعض الفترات كربلاء أو الحلة أو أماكن أخر في بعض الفترات . وكون هذه حوزة مركزية أو حوزة طرفية يرتبط بأمور مختلفة فقد يرتبط بوجود مدرسين على مستويات عالية يبقون فترةً من الزمان في ذلك المكان فيهاجر إليهم طلاب العلم وهذا ما حدث في الحلة في وقت آل طاووس وتلامذتهم من المحقق والعلامة وامتد إلى عشرات السنين لأن هذه العوائل والأسر كان فيها قامات علمية واستمر مدة من الزمان فنزح طلاب العلم من أماكن مختلفة طلبًا للعلم من هؤلاء العلماء والمراجع ، والنجف الأشرف في زمن التأسيس قدم إليها الشيخ الطوسي رضوان الله عليه سنة 448 قدم من بغداد إلى النجف الأشرف ولذلك يفترض أنهم سيحتفلون في النجف الأشرف بسنة قدوم الشيخ الطوسي إلى النجف الأشرف وتأسيس الحوزة العلمية ربما بعد سنتين من الزمان . فحين جاء لم يكن فيها بيئة علمية واسعة إلا أن الناس طلبوه وقصدوه وبعض الأحيان أمور لا ترتبط بالعالم وإنما ترتبط بالبيئة الجغرافية لهذه المنطقة مثل ما قيل في النجف وكما قيل في قم أنها بعيدة عن المعترك السياسي وبعيدة عن ضغوط السلاطين . ففي أيام الطوسي كانت المعركة في بغداد والنجف بلدة لا مطمع للحكام فيها لعدم وجود الثروات فيها ونفس الكلام ينقل في قم المقدسة حيث أنها كانت من الناحية البيئية والجغرافية لم تكن مطمع ومطمح السلاطين والحاكمين وكانت بعيدة عنهم ولذلك كان هذا يترك للعلماء والطلبة مساحة واسعة من الحرية في الدرس والتدريس . فبعض الأحيان ظروف معينة تقتضي أن تكون حوزةٌ ذات مركزية وظروف أخرى تقتضي أن تكون حوزةٌ أخرى حوزةٌ طرفية وهذا موجود عندنا في القطيف وفي كربلاء وفي نفس الحلة التي كانت مركزية أصبحت الآن طرفية وبغداد التي كانت أيام الشيخ المفيد مركزية أصبحت الآن طرفية ، وعلى هذا المعدل بحسب اختلاف الظروف من حيث استقرار القامات العلمية فيها وتأصل الحالة العلمية والبيوتات العلمية وأيضًا هناك ظروف قد تكون جغرافية أو اجتماعية لها مدخليةٌ في هذا الأمر. فصار عندنا إذن مصطلح الحوزة العلمية مصطلح خاص بالبيئة المجتمعة التي تدرس الدروس الدينية والتي غايتها تخريج علماء إما بمستوى الفقاهة والاجتهاد أو ما دون ذلك حسب وجود هذه الطاقات ، منطلقة من الآية المباركة التي ذكرناها في بداية الحديث . نظام هذه الحوزات العلمية هل هو في اللا نظام كما قيل فينقلون هذه العبارة عن أحد العلماء أنه قال : نظامنا في الحوزة اللا نظام . وهذا الكلام له أحد معنيين معنى مقبول ومعنى غير مقبول فالمعنى غير المقبول أن نظامنا في الحوزة هو الفوضى فلا يوجد نظام ولا محددات ولا أول ولا آخر ولا طريقة ولا منهج وهذا الكلام لا يقوله أحد لا من العلماء ولا من العارفين بوضع الحوزات العلمية . ذلك أن من الأولويات بل من البديهيات في الأمور أن النظام ينتج والفوضى غالبًا لا تنتج وقد قال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام في آخر وصاياه لأهل بيته ( الله الله في نظم أمركم ) فإذا كان الإمام أمير المؤمنين يوصي بالنظام أترى العلماء الذين يدرسون سيرته وكلماته ويهتدون بهداه يخالفون نظم أمركم إلى الفوضى ؟ فبهذا المعنى لا أحد يقول أن نظام الحوزات هو الفوضى الشاملة . والمعنى الآخر هو الصحيح أنه لو أردنا أن نقارن مثلًا بين الجامعة والحوزة العلمية في الجامعة تتخرج دفعة من 30 شخص مثلًا من المرحلة الثانوية إلى إحدى الكليات ولنفترض مثلًا كلية اللغة العربية والعلوم الإسلامية فهذه المجموعة الثلاثون شخص مادام سجلوا في هذه الجامعة فعليهم أن يدرسوا حصص معينة لا يتجاوزونها وبمقدار معين فتدرس الكتاب الفلاني في الفصل الأول من صفحة واحد إلى صفحة كذا وفي الفصل الثاني من صفحة كذا إلى كذا فلو قلت أني أستطيع دراستها كلها في شهرواحد لا يسمح لك . وأيضًا عندك نظام يحكمك ويجب أن تداوم يوميًا مثلًا أربع حصص أو خمس حصص . فلو أن واحدًا عنده طاقة علمية ويستطيع أن يدرس عشر حصص ويختصر المنهج يقال له لا أنت تدرس أربع حصص وليس أكثر وعند المدرس الفلاني ثم المدرس الفلاني ثم المدرس الفلاني وتدرس هذا المقدار خلال سنة كاملة 400 صفحة ، ولا تدرس أكثر من هذا المقدار مهما عملت . ومهما كانت قدرتك ونشاطك وذكاؤك لا تستطيع الانتهاء من هذه الدراسة في أقل من أربع سنوات . أما في الحوزة فالأمر ليس كذلك ، ففي الحوزة أنت المفروض أن تدرس لغة عربية وفقه وأصول ورجال وعقائد وعقليات ومنطق وفلسفة وغير ذلك ، فلو افترضنا المعدل للمقدمات سنتين حتى تنتهي منها والسطوح أربع أو ست سنوات لكنك بذكائك واجتهادك تدرسها في سنة المجال مفتوح ، أو لا تريد هذا المدرس لأنه بطيء ، أو لا تريد هذا المدرس لأنك تعتقد أنه ليس عنده عمق في المادة تستطيع أن تغيره وأن تدرس عند مدرس آخر يمشي معك بمقدار عقليتك وبمقدار قدرتك . أو أحد الدروس لا تحتاج لدراسته أنت عندك ذكاء وتستطيع أن تتباحثه مع تلميذ آخر دون مدرس . وبهذا المعنى تكون الحوزة العلمية لا يوجد فيها ذلك النظام الموجود في مثل الجامعات وما شابهها . فمثلًا لا أحد يستطيع أن يدرس في الجامعة وعمره 12 سنة فلا بد أن تمر بجميع المراحل التعليمية من الروضة إلى الثانوية ثم تدخل الجامعة . أما مثل السيد اليزدي عمره 11 سنة وبدأ بالدراسة الحوزوية وحين وصل عمره 14 سنة تأهل لحضور البحث الخارج وهو بمثابة الجامعة . وقد رأينا علماء وصلوا إلى مرحلة الاجتهاد والفقاهة قبل العشرين من العمر . وقسم منها هو نوع من الفرض الأخلاقي عليك ونوع من التعارف الاجتماعي فلا يصعد مثلا من المقدمات إلى بحث الخارج وإنما هو رقيب على نفسه والله رقيب عليه والمجتمع المحيط به يفرض عليه نوع من الرقابة فلا ينظر إليه بنظر الاحترام ولا ينظر إليه أنه جاد في درسه ولا يقدر تقدير الإنسان الذي يريد طلب العلم . ماذا يدرس وكيف يدرس وما الذي يراد من طالب الحوزة العلمية ؟ يقسم الباحثون الدراسة في المراحل العلمية إلى ثلاث مراحل دراسية ربما بعضهم يكثرها لكن هذا هو جوهرها . المرحلة الأولى : المقدمات المرحلة الثانية : السطوح والمرحلة الثالثة : مرحلة البحث الخارج . مرحلة المقدمات الغرض منها إيجاد قاعدة لتلك الدروس التي سوف ينتفع بها فيما بعد على مستوى الاستدلال فيقال مثلًا أنه يجب أن تدرس متن فقهي من المتون الفقهية الميسرة حتى يصير عندك قاعدة أولية في الفقه . فكانوا يدرسون في الأزمنة السابقة كتاب النهاية لشيخ الطائفة الطوسي رحمه الله وهو كتاب فيه أحكام مثل الماء ينقسم إلى قسمين مطلق ومضاف والمطلق صفاته كذا والمضاف صفاته كذا وآثار المطلق كذا وآثار المضاف كذا والأحكام التي تترتب على كل منهما ، على أساس أن يحفظها الإنسان . كما هو الحال في الرياضيات يحتاج الإنسان أن يحفظ جداول الضرب والقسمة وغيرها ليعالج مسائل الرياضيات فيما بعد فهو يحتاج لقاعدة أولية ليبني عليها . وفي هذه الأزمنة الغالب أن الحوزات العلمية يدرس فيها الطالب الفقه في أول المراحل متن رسالة ولنفترض أن الطالب أو المدرس يقلدان من لديه رسالة عملية باسم ( منهاج الصالحين ) فيدرس المدرس هذا الطالب المبتدئ منهاج الصالحين كي يحفظ الأحكام وتصير قاعدة أولية له هذا في الفقه . ولا بد أن يدرس في هذه المرحلة المقدمات في اللغة العربية سواء النحو أو الصرف أو البلاغة لأن كل واحد من هذه لها مدخلية في معرفة آيات القرآن الكريم وفي معرفة الروايات وفي كيفية معالجتها . فإذا عرف الإنسان اللغة في نحوها وقواعدها وصار يعرف الفاعل والمفعول وغير ذلك آنئذٍ حيين تمر عليه آية ( إن الله بريءٌ من المشركين ) لا يقرؤها ورسولِه بكسر اللام لأنه إذا قرأها هكذا فكأنما يقول والعياذبالله أن الله برئ من الرسول وهذا يقارن الكفر ، والعطف هنا ليس على المشركين وإنما على الله سبحانه وتعالى يعني أن الله والرسول بريئان من المشركين فيقول ( ورسولُهُ ) أو عندما يقرأ ( إنما يخشى الله من عباده العلماءُ ) إذا يعرف اللغة والنحو يضمها فيقول العلماءُ لأن العلماء فاعل مؤخر . فلابد لطالب العلم أن يعرف قواعد اللغة حتى إذا قرأ آية لا يخطأ في قراءتها ولا تفسيرها وإذا رأى رواية نفس الكلام . وهكذا بالنسبة إلى الصرف إعادة كل كلمة إلى أصلها وجذرها ومن خلالها يستطيع أن يفهم معناها وما تحملت من الزيادات وحتى أن بعض قواميس اللغة قائمة على هذا الأمر . وذكرنا غير مرة أن أحد علماء اللغة وهو ابن فارس الحسين بن زكريا وعنده كتاب ( معجم مقاييس اللغة ) يقول : أكثر الكلمات إذا أرجعتها إلى جذرها الأصلي تجد تفرعاتها تتناسب مع ذلك الجذر فمثلا حين يقول كلمة ( جنن )هذا الأصل يدل على خفاءٍ في الشيء كالجن فالجن مختفي لذلك يسمى بالجن والجنين مختفي في رحم أمه فهو جنين من نفس اللفظ ، والجنون أيضًا لخفاء العقل ، والجنة لاختفاء البساتين من وراء الأشجار الشاهقة ، فهذه كلها من مصدر واحد فمن يعرف المصدر يستطيع أن يرجع الكلمات إلى جذورها ويعرف التغيرات التي صارت عليها فيعرف معناها بالشكل الصحيح وهذا ما يدرسه طالب العلم . وكذلك البلاغة فالقرآن الكريم هو أبلغ ما يمكن أن يصل إليه اللسان العربي ولذلك فيه فنيات وبديع وبيان ومحسنات فمن يعرف هذه المبادئ يرجع إليها فيدرسون متون في هذا مثل (جواهر البلاغة )و (المطول ) وغيره . ويدرسون مقدمات في العلوم العقلية مثل خلاصة المنطق والمرحوم الدكتور الشيخ عبد الهادي الفضلي عنده كتاب ( خلاصة في المنطق ) و خلاصة في أصول الفقه وهو معد لهذه الفئة وهذه الجماعة وغيره من العلماء أيضًا أعدوا برامج لمثلها . وإذا انتهى الطالب من مرحلة المقدمات ينتقل إلى المرحلة الثانية وهي الأهم والأطول وهي مرحلة السطوح والتي فيها كتب متعددة في الفقه والأصول والمنطق وقد يدرس الإنسان فيها مثلًا (شرائع الإسلام ) وبعده قد يدرس (اللمعة الدمشقية ) و ( مكاسب الشيخ الأنصاري ) وقد يدرس بعضٌ كما هو في الوقت الحاضر منهج موازٍ ومساوٍ تقريبا لعلماء معاصرين سواء في الأصول أو في الفقه أيضًا أعدت كتب دراسية خاصة بهذا المعنى موازية ومقاربة لما كان عليه المنهج القديم وهكذا يتدرج في الأصول ( أصول الشيخ المظفر ) رحمه الله ثم يأخذ الرسائل ثم يأخذ الكفاية بالإضافة إلى جملةٍ وافرةٍ من الدروس الجانبية كاللغة العربية( شرح قطر الندى) ،( شرح ألفية ابن مالك ) (مغني اللبيب ) وغيره ثم جملة من الدروس كالرجال وتجريد الاعتقاد وغيرها وهذه ليست الأشياء النهائية ، وهذه من الأمور التي يفسر بها نظامنا في اللانظام ، فمن الممكن أن يقول أحدهم أني أريد أن أدرس المنهج القديم كله ولا أريد شيئًا من المنهج الحديث أو يقول آخر العكس ومن الممكن أن يزاوج بينهما ومن الممكن أن يستبدل كتابًا بكتاب ، فلا يريد مثلًا أن يدرس أصول المظفر وإنما معالم الدين أو شرح الهداية هداية المسترشدين أو غيره . فهذا المجال من الحرية والتحرك الموجود المطلوب من طالب العلم أن يصل إلى درجة أن تكون كل هذه المعلومات والمعارف بيده . والمرحلة الثالثة : هي مرحلة البحث الخارج . قيل أن هذا اللفظ البحث الخارج أول ما استعمل زمان شريف العلماء المازندرني في النجف الأشرف رضوان الله عليه وهو أحد أساتذة الشيخ الأنصاري وكانت العادة أن يقرأ متن مسألة كذا وكذا ثم يناقش فيها سواء مسألة أصولية أو مسألة فقهية ، وفي أيام شريف العلماء المازندراني أخذ يلقي كل الأمر عن ظهر قلب فيقول مثلًا قال شيخ الطائفة الطوسي في المسألة الكذائية ويذكر المسألة ثم يقول استدل عليها بكذا وكذا ورأينا كذا وكذا فصار كل البحث خارج الكتاب وليس في كتاب يقرأ وتشرح كلماته ، قيل أن هذا أحد أوجه تسمية هذه البحوث بالبحث الخارج وهي تعبير عن آخر مرحلة في الفقه الاستدلالي والأصول . وهناك دروس في الفلسفة على مستوى بحوث الخارج فضلًا عن السطوح والمقدمات . إلى أن يصل الدارس هذه المرحلة فإذا كان لديه ذهنٌ نبهٌ وجهدٌ جيدٌ من الممكن أنه بعد عشر سنوات أو أقل أو أكثر حسب ذكاءه وحسب شغله من ممارسة هذه العملية والاستناد إلى أدلتهم ومناقشتهم من الممكن أن يصبح فقيهًا ومجتهدًا وصاحب رأيٍ وإذا صار هكذا قد يشير إليه بعض أساتيذه إما كتابةً بإجازة اجتهاد أو بإشارةٍ شفوية أو يإرشاد الناس إلى فضله ، وهذا يشير إلى وصوله لمرحلة الفقاهة والاجتهاد وإذا استمر في هذا العلم وصار معروف بين الفقهاء والعلماء بأنه صاحب استدلال قوي ومباني خاصة به وفرض هيمنته العلمية على الساحة العلمية عندئذٍ يتوجه إليه من قبل هؤلاء المدرسين والطلاب وبتبعهم عامة الناس فيشار إليه بالتقليد ويصبح مرجع التقليد بهذه الطريقة . وهذا يعني أنه ليس هناك قوة سياسية أو عسكرية أو غيرها تعين وتفرض مرجع التقليد وإنما هو انبثاقٌ طبيعيٌ من الحوزة ولا بد أن يكون معترفًا به داخل الحوزة أنه ممكن أن يتسنم هذا السنام من خلال بحوثه وآراءه وكتبه ودرسه واستمراره . فلا يستطيع أحد أن يقول أنا مرجع أعلى ومستواه مستوى متواضع ، سيسخرون منه . ولا يمكن أن تفرض الدولة أو الحكم مرجعًا أبدًا . الحمد لله نحن في هذه الطائفة الموالية لأهل البيت عليهم السلام والتي ظلت الحوزات العلمية فيها على طول التاريخ في مجراها الأصلي ظلت مستقلةً ولا تزال وهذا سر تمسك الناس بها ، وإلا لو خضعت لأموال أصحاب الأموال أو لقرارات أصحاب السلطان لما وثق الناس بها . نسأل الله تعالى أن يؤيد هذه الحوزات العلمية وأن يؤيد المرجعيات الدينية وأن ينفعنا ببركاتها وبركاتهم إنه على كل شبئٍ قدير.
مرات العرض: 4373
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (0) حجم الملف: 35564.61 KB
تشغيل:

السيد كاظم اليزدي عروة الفقه الوثقى