قال رسول الله صلى الله عليه وآله لعقيل بن أبي طالب: "إنّي لأحبّك يا عقيل حبّين، حبا لك وحبّا لحبّ عمي أبي طالب لك، وإن ولدك لمقتول في نصرة ولدي الحسين صلوات الله وسلامه عليه"، هذا الحديث ورد بشكلين، الشكل الذي تكاد تتفق عليه كتب مدرسة الخلفاء هو القسم الأول، "إنّي لأحبّك يا عقيل حبّين، حبا لقرابتك وحبّا لحبّ عمي أبي طالب لك"، تقريبا كثير من المصادر من مدرسة الخلفاء أوردت هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله، مثل المستدرك للحاكم النيشابوري، المستدرك على الصحيحين، وغيره كثير، أنساب الأشراف، وكتاب ابن سعد البغدادي، وغير هذين، متعددة الكتب التي ذكرت حديث رسول الله صلى الله عليه وآله إلى هذا المقدار، "إنّي لأحبّك يا عقيل حبّين، حبا لك وحبّا لحبّ عمي أبي طالب لك"، المصادر الإمامية ومن أهمها كتاب الأمالي للشيخ الصدوق أعلى الله مقامه يأتي نفس هذا الحديث مع هذا الذيل، "وإن ولدك لمقتول في نصرة ولدي الحسين"، طبعا بالنسبة إلى ما نقلته مصادر مدرسة الخلفاء أيضا فيها إشارة احتجاج يستطيع الإمامي أن يحتج بها في قضية أبي طالب، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله يتحرى مواضع حب أبي طالب، يقول له أنا أحبك حبّين، الحب الأول لأنك من قرابتي، وهذا قد يكون كافيا بالنسبة إلى الإنسان من أقاربه ومستقيم الطريقة مثلا، رابطة الرحم والقرابة تكفي، لكن تأكيد النبي صلى الله عليه وآله، وكان معروفا أبو طالب بمحبته الزائدة لعقيل، حتى قيل إنه لما صارت حالة مجاعة وجذب في قريش، وجاء رسول الله صلى الله عليه وآله والعباس بن عبد المطلب وجعفر إلى أبي طالب حتى يعينوه، قال دعوا لي عقيلا وخذوا مَن شئتم، باقي الأولاد إن شئتم خذوهم لكن عقيلا خلوه عندي، وقد يكون لجهة كونه أكبرهم سنا فهو يعتمد عليه، إضافة إلى وجود علاقة خاصة به، الرسول صلى الله عليه وآله هنا يتحرى موضع محبة عمه أبي طالب، فيحب عقيلا، لأن أبا طالب يحبه أكثر من سائر الأولاد، وفي هذا من رعاية شأن أبي طالب، وتوقير مقامه، وتحري مواضع محبته ما هو بين وواضح، عقيل هو والد مسلم بن عقيل البطل الشهيد الذي سبق سائر الشهداء في نهضة الإمام الحسين عليه السلام، هناك لدينا وقفة أولا قصيرة مع أنه يستحق الأمر أكثر من ذلك لكن الوقت لا يتسع، أولا ما ورد في بعض الكتب ونقله آخرون بل حتى على المنبر أحيانا يذكر كمُسَلمة من أنه كان بين أبناء أبي طالب عشر سنوات، عشر سنوات لم نجد عليه دليلا واضحا، هناك فكرة يقولون فيها إن بين عقيل وبين طالب الذي هو الأكبر عشر سنوات، بين عقيل وبين جعفر عشر سنوات، بين جعفر وبين علي عشر سنوات، فالمجموع يصير تقريبا أربعين سنة، هذا لا لم نجد عليه دليلا واضحا، وقد قاله أحدهم، فسارت وسرت هذه القضية من غير تحقيق ولا تدقيق، يعني مقتضى هذا مثلا أن بين عقيل وبين أمير المؤمنين عليه السلام هناك عشرون سنة، وهذا فيه ما فيه من النقاش، هذه مسألة سريعة. مسألة أخرى، الموقف من عقيل، ولا سيما على أثر ذهابه لمعاوية بن أبي سفيان لكي يطلب منه المساعدة، في التاريخ يسجل أن عقيلا وبالذات بعد شهادة أمير المؤمنين عليه السلام ذهب إلى الشام، وكان قد ركبه دَينٌ، فطلب المال من معاوية، ومعاوية استفاد من هذه الفرصة، وأبقى عقيلا معه فترة من الزمان، وأعطاه المال الذي يرغب، فقسم من العلماء كأنما في أنفسهم غضاضة، كيف يصنع عقيل هكذا، ويذهب إلى الشام، إلى عدو أخيه؟ ولا سيما إذا أضفنا إلى ذلك ما ورد في نهج البلاغة وغيره أن عقيلا جاء يسأل أمير المؤمنين عليه السلام زيادة العطاء والمال، فأحمى حديدة، خطب خطبة فيها أمير المؤمنين عليه السلام، وقال:
"ولَقَدْ رَأَيْتُ عَقِيلًا وَقَدْ أَمْلَقَ حَتَّى اسْتَمَاحَنِي مِنْ بُرِّكُمْ صَاعاً وَرَأَيْتُ صِبْيَانَهُ شُعْثَ الشُّعُورِ غُبْرَ الْأَلْوَانِ مِنْ فَقْرِهِمْ كَأَنَّمَا سُوِّدَتْ وُجُوهُهُمْ بِالْعِظْلِمِ وَعَاوَدَنِي مُؤَكِّداً وَكَرَّرَ عَلَيَّ الْقَوْلَ مُرَدِّداً فَأَصْغَيْتُ إِلَيْهِ سَمْعِي فَظَنَّ أَنِّي أَبِيعُهُ دِينِي وَأَتَّبِعُ قِيَادَهُ مُفَارِقاً طَرِيقَتِي فَأَحْمَيْتُ لَهُ حَدِيدَةً ثُمَّ أَدْنَيْتُهَا مِنْ جِسْمِهِ لِيَعْتَبِرَ بِهَا فَضَجَّ ضَجِيجَ ذِي دَنَفٍ مِنْ أَلَمِهَا وَكَادَ أَنْ يَحْتَرِقَ مِنْ مِيسَمِهَا فَقُلْتُ لَهُ ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ يَا عَقِيلُ أَتَئِنُّ مِنْ حَدِيدَةٍ أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِلَعِبِهِ وَتَجُرُّنِي إِلَى نَارٍ سَجَرَهَا جَبَّارُهَا لِغَضَبِهِ أَتَئِنُّ مِنَ الْأَذَى وَلَا أَئِنُّ مِنْ لَظَى..."
هذه أيضا يضيفونها أن عليا عليه السلام يعني صنع مع عقيل هذه المسألة، والجواب نجيبه بشكل سريع، أولا: ينبغي أن يلتفت المؤمنون والمؤمنات أن هناك صفوة لله عز وجل لا يقاس بها أحد لا من بني هاشم ولا من غيرهم، وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام "إنا آل محمد لا يقاس بنا أحد، لا من بني هاشم ولا من غير بني هاشم"، هذه صفوة منتخبة ومنتجبة من الله عز وجل للنبوة والإمامة، فلما أحد يأتي ويتوقع مثلا أنه ابن عباس ما مقياسه إلى الإمام الحسن والحسين، أين الثريا وأين الثرى؟! وأين الحسن والحسين؟! في أرقى درجات السماء، وأين ابن عباس؟ لا يستطيع أن يصل إلى غبار أقدامهم، عقيل وعلي بن أبي طالب، أين؟ علي بن أبي طالب في أرقى درجات التكامل البشري، عقيل رجل عادي ليس من الصفوة المنتخبة والمنتجبة، وإن كان أخا لعلي بن أبي طالب عليه السلام، لكن هذا أين وذاك أين؟ فلا تتصور أن مادام أحد قريبا من بني هاشم يعني القضية خلصت بالنسبة له وهذا في أعلى الدرجات، لا، القضية ليست قضية قبلية ولا عائلية، وإنما هي انتخاب إلهي، فلو فرضنا أن عقيلا فعل أمورا لا تتناسب مع كونه أخا، لو فرضنا أقول، هذا سنأتي عليه بعد قليل، لو فرضنا ذلك، فهذا لا يضر نسبه بعلي بن أبي طالب عليه السلام، ذاك في موقع وهذا في موقع آخر، هذا واحد. الأمر الثاني إن عقيلا بالفعل كان فقيرا، وذلك باعتبار أن عائلته كانت عائلة كبيرة، أبناء لديه، وبنات وأحفاد، حمولة طويلة عريضة، وبعضهم أوصله إلى أعداد يعني لا تصدق سبعين وستين وإلى آخره من الأولاد والأحفاد، ولم يكن لديه ثراء، ولم تكن لديه مصادر مالية مهمة، وأبوه أبو طالب أيضا نفس الشيء، لم يكن متمولا، لم تكن لديه أموال، أبو طالب كان يعد في صنف متوسطي الدخل إلى الفقر أقرب، حتى قالوا ما ساد قريشا فقير قط ولقد سادهم أبو طالب، هؤلاء مقاييسهم مقاييس مالية، فالذي لديه أموال أكثر هو يكون سيدا، لكن سادهم أبا طالب مع أنه لم يكن ذا مال كثير، فكان لديه هذا الأمر، وهذا كان عقيل، وكان هذا يضغط عليه في أمر المعاش، لذلك أول ما فعله جاء فعلا لأمير المؤمنين عليه السلام وطلب منه المال، أمير المؤمنين جاء الآن لكي يصحح المسار المنحرف، الذين قبله كانوا يطشون ويرشون على أقاربهم وعلى إخوانهم وعلى أنسابهم وعلى كذا، بلا حساب، وأُعْطِي مروان بن الحكم في فترة ما قبل خلافة أمير المؤمنين عليه السلام الظاهرية خُمس أفريقيا كله، تصور إذا يُعطى أحد خُمس مدينة وليس خُمس قارة، ما هو المقدار الذي يحصله؟! ذاك أعطي خُمس قارة حسب التعبير، لماذا؟ بلا سبب، هكذا، لأنه من أقارب الخليفة، فالآن أمير المؤمنين جاء ليصحح هذا الانحراف، قَسّم بين الناس بالسوية، هو يأخذ درهما، ويُعطي الناس درهما، هو أمير المؤمنين، وسيد الخلق، ومرتبته الدينية والدنيوية لا يتميز على قنبر خادمه، قنبر خادمه إذا يأخذ درهما هو يأخذ أيضا درهما من العطاء، الآن أنت آت إلى أخيك يعطيك خُمس أفريقيا مثلا؟ ماذا يصنع باقي الناس؟ فقال له الإمام علي عليه السلام: انتظر ريثما يخرج عطائي، فقال له: وما قدر ما ينفعني عطاؤك؟ أنت ما هو المقدار الذي سوف تعطيني إياه؟ خمسة دراهم عشرة دراهم؟ أنا (وراي جيش) حسب التعبير، فالإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام أخبره بطريقة عملية، مرة من المرات قال له ما هو رأيك نخرج، هذا الآن السوق وقت الظهر وأكثر الناس غير موجودين، فنذهب ونأخذ من هذه الدكاكين والحوانيت ما فيها، فقال يا أمير المؤمنين تأمرني أن أسرق الناس وقد ذهبوا آمنين مطمئنين، قال له أمير المؤمنين نحن لا نذهب لنسرق بعض الناس من متاجرهم وتأمرني أن أسرق المسلمين جميعا؟! لا يجوز هذا الشيء، عاوده أمير المؤمنين عليه السلام (چواه) حسب التعبير حتى يذكره بالعقاب الإلهي، فهمها عقيل أن علي بن أبي طالب عليه السلام لا يستطيع بحسب منهجه إلا ما رآه عقيل، فبعدما استشهد أمير المؤمنين عليه السلام سافر إلى معاوية بن أبي سفيان، وكان ينتظرها معاوية على أحر من الجمر حتى يجر منه كلاما، يقول تفضلوا، هذا أخو علي بن أبي طالب الأكبر يثني عليَّ ويذم أخاه، معنى ذلك إنه أنا على الحق وذاك على الباطل، عقيل لم يعطِ، -هذا ثابت تاريخيا- معاوية ما كان يريد حتى عندما ألح عليه وحاصره بالأسئلة، قال علي أخي خير لي في ديني وأنت خير لي في دنياي، ذاك المسار الديني هو خير لي، فأنت تعطيني باعتبار لا أحد يراقبك ولا أحد يلاحظك ولا ترى هذه الأمور، فالحاصل أنه أعطاه شيئا من المال لقضاء دَينِه، وألا يكون متورطا في مثل هذه الأمور، ولا شك أن عقيلا في تلك الفترة أولى من معاوية بهذا المال لأن معاوية لم يأت من خلال انتخاب شرعي ولا ديني ولا شعبي، فلا ولاية له على المال، وهذا رجل مديون من فقراء المسلمين يستحق هذا المال، فلو أخذه منه -هكذا يقول بعض العلماء- لا محذور في ذلك، لكن إذا كان الخليفة خليفة شرعيا لا يستطيع أن يأخذ هكذا إلا بمقدار ما يعطيه، ومما تتيحه قوانين العدالة، على أي حال، هذا في حديث رسول الله فيه هذا المعنى، وفيه معنى يشير إليه أن النبي صلى الله عليه وآله كان يحبه، وفيه إشارة إلى صلاح حال عقيل حتى مع ذهابه إلى مثل معاوية، وإلا فإن النبي صلى الله عليه وآله، ونحن نعرف أنه لا يطلق النبي الكلام جزافا إذا زكى أحدا، هذه التزكية ناظرة إلى الحاضر وإلى المستقبل، وإذا ذم أحدا هذا الذم ناظر إلى الحاضر وإلى المستقبل، من جملة الموارد التي تجعله يحب عقيلا أن ابنه مسلما سيكون مقتولا في نصرة الحسين عليه السلام، مسلم بن عقيل هو زوج ابنة أمير المؤمنين عليه السلام السيدة رقية، فهو مصاهر لأمير المؤمنين عليه السلام، بعضهم قال تزوج رقيتين من أمير المؤمنين، رقية الكبرى ورقية الصغرى، والصحيح أنها رقية واحدة، وأنجبت له خمسة من الذكور وابنتين، إحداهما يأتي ذكرها عادة في المقتل وفي كربلاء وهي (حُميدة) أو (حَميدة)، والتصغير عند العرب أكثر من التكبير، يعني (حَميدة) مكبَّر، (حُميدة) فيها تصغير للفظ، يقولون عند العرب في الأسماء الأكثر هو التصغير، (فُعيل) وليس (فَعيل)، (حُميد) وليس (حَميد)، إلا إذا علمنا من جهة أخرى أنه لا هذا الكلام مكبّر مثلا (حُسين) مصغر على وزن (فُعيل) ليس (حَسِين) أو (بوريد)، وأمثال ذلك كثير، لكن في بعض الأسماء مكبرة موجودة لكن يقولون إنه بالذات في الأسماء، وبالذات أيضا في النساء التصغير فيها أكثر كأنما فيها نوع من التدليل وما شابه ذلك، فـ(حُميدة) بنت مسلم أيضا تذكر في قضايا الطف، وبقيت أيضا، إحدى المؤمنات سألت: هل صحيح (حُميدة) هي كانت ممن قتلت في كربلاء بحوافر الخيل؟ لا، ليس صحيحا، وإنما بقيت وأنجبت أيضا، وبعض أحفاد مسلم بن عقيل من (حُميدة) هذه، كما تعلمون وكما يذكر في المقاتل، والحمد لله هذه القصة معروفة ومشهورة بأن الإمام الحسين عليه السلام بعدما تكاملت عنده كتب أهل الكوفة، وتكثرت، وكان بعض هذه الكتب بصيغة المنشور الذي يوقع فيه أفراد متعددون أو واحد عن متعددين، عندما يقال لك مثلا: وصلته كتب من خمسة آلاف شخص، خمسة آلاف لا يعني كل واحد كتب رسالة لوحده، الأغلب خصوصا في تلك الأزمنة أن شيخ القبيلة ورئيس العشيرة يكتب بالنيابة عن أسرته وعشيرته، فقد يكون في عشيرته ألف واحد، هو يكتب بالنيابة عنهم البيعة أو أي موقف يريد أن يتخذه، فكان قسم من هذا بهذه الصورة، وهناك قسم آخر لا بعض الأفراد يشتركون، عشرة من طبقة معينة يكتبون، فحَجّار بن أبجر لعنة الله عليه، عمرو بن الحجاج، فلان وفلان، هؤلاء يعتبرون أنفسهم مثلا فئة اجتماعية وشخصيات معينة فيكتبون كتابا يوقعونه بأنفسهم، فعلى أثر هذه الكتب والرسائل توجه الإمام الحسين عليه السلام إلى العراق، وأرسل قبل ذلك ابن عمه مسلم بن عقيل، هذا اتجاهه إلى كربلاء، تارة نحن نفهمه ضمن الحالة التي نعلمها من أن للإمام الحسين عليه السلام عهدا معهودا من ربه ومن جده، وأنه سيسير ضمن هذا المخطط، ومرة أخرى لا، نشتغل على أساس الأمور الظاهرية، الآن الحسين عليه السلام سيخرج من مكة المكرمة لِما ذكرناه في ليلة مضت، قضية حرمة البيت والشهر والإمام تدفعه إلى أن يخرج، هناك عدة اتجاهات وأماكن، أقربها وأوفرها من حيث الأسباب هي جهة العراق، فإن فيها وجودا شيعيا واضحا بالمعنى العام، وفيها أيضا شيء آخر، وهو مكاتبات، الإعلان إذا كنت بالخيار -هذا مثال لتبسيط للمسألة- بين مدينتين أن تذهب لهما، لكن إحدى المدينتين هناك بيتان أو ثلاثة قالوا لك تعال ضيافتك علينا، المدينة الأخرى لا يوجد فيها هذا الشيء، أنت تميل بشكل طبيعي إلى المكان الذي فيه إليك دعوة، وفيه أناس يطلبونك، كأنما هذا مبرر اجتماعي لك في هذا الاتجاه، وبهذا المقدار الإمام الحسين عليه السلام استفاد من كتب الكوفيين، فكان يحتج عليهم، إنه أنا قادم باعتبار أن أهل الكوفة كتبوا إليّ كذا وكذا، وهذه كتبهم، فالبعض مثل الحر بن يزيد الرياحي كان يقول أنا لست من الذين كتبوا، فأنا في حل من هذا، أنا لست مسؤولا عن مجيئك حتى تخاطبني بهذا الخطاب، لكن الذين كتبوا مسؤولون عن هذه الكتب التي كتبوها، هم مسؤولون أدبيا، مسؤولون سياسيا، بهذا المقدار الإمام الحسين عليه السلام استفاد من هذه الكتب، لا أنه كما يزعم بعض غير الفاهمين للأمور، يأتي ويقول لك الحسين خدعه أهل الكوفة، أخرجوه من مدينة جده، ثم قتلوه، أين أخرجوه من مدينة جده؟ الإمام الحسين في 27 رجب خرج من المدينة، وبقي فترة طويلة في مكة المكرمة، ذاك الوقت لا يوجد كتاب من أهل الكوفة، ولا رسالة ولا غير ذلك، قرر الإمام الحسين وخرج بناء على أمور معينة، وجاء إلى مكة المكرمة، ومكث فيها فترة طويلة، شهر شعبان بكامله، شهر رمضان كذلك، وأرسل في شهر رمضان مسلم بن عقيل بعدما جاءت الرسائل والكتب، يعني خروج الإمام الحسين عليه السلام من المدينة، استقراره في مكة، كان سابقا لكل هذه الكتب، فالذي يأتي ويقول مثلا إن الشيعة كتبوا إلى الحسين من الكوفة أن أُخْرج، فلما خرج خذلوه وأسلموه، هذا كلام ساذج وغير صحيح، فأرسل بناء على ذلك إليهم مسلم بن عقيل، أنا هنا سأقف لبيان بعض المسائل الفقهية المرتبطة بأمر مسلم بن عقيل باعتبار أن حديثنا يتناول مثل هذه القضايا، واحدا من هذه الأمور التي تُلحظ في سيرة مسلم بن عقيل في هذه الفترة، وصيته لعمر بن سعد عندما أُخذ إلى قصر ابن زياد، وقبل أن يقتل مسلم بن عقيل دار عينه في الحاضرين فرأى عمر بن سعد، عمر بن سعد زُهْري، وبنوا زُهْرة لديهم نسب وصلة مع بني هاشم، هناك قرابة، فالتفت إلى عمر بن سعد باعتباره أقرب واحد له في الحاضرين، قال له أنا عندي وصية، تقبل أوصيك فيها؟ فتردد ذلك الرجل، ابن زياد الذي هو ابن زياد على سوئه، قال لعمر بن سعد قُم وانظر ماذا يريد، صحيح أنت ضده وتقاتله، لكن هذه قضية توصية، وأنت من أقاربه، يعني ابن زياد الذي هو عادته الخيانة، طريقته القتل والسفك، استنكر على عمر بن سعد أنه ماذا؟ أن يخذل مسلم بن عقيل في هذا الموقف، قال قُم له وانظر ماذا يريد، فقام عمر بن سعد وجاء إلى مسلم، قال له: ما تريد؟ قال أنا عليَّ سبعة مائة درهم دَينا، استدنه واقترضته أول أيامي في الكوفة، وهو لفلان، فإذا أنا قضيت، هذا سيفي، وهذا لباس لامتي، بعها سيأتي لك بسعر بيعها سبعة مائة درهم، لا أريد من عندك شيء أيضا، وقم بتأدية ذلك الدَين، طبعا عمر بن سعد على عادته في الخيانة، وهذا النمط الذي يعني لا يلتزم بأمر ديني في هذا الموقع، أيضا لا يرى أي مصلحة فيه، لماذا يلتزم فيه؟ لكن هي وصية مسلم بن عقيل تشير إلى أمرين، الأمر الأول أمانته، شخص وأمير يبايعه ثمانية عشر ألف رجل كما قالوا، كل واحد من هؤلاء لديه أموال ويقدمون له وغير ذلك، مع ذلك يقترض لنفسه بما مقدار سبعة مائة درهم! هذا من الأمور التي تحير عقل الإنسان، ذاك معقل الذي جاء من طرف ابن زياد يتجسس وكذا، جاء ومعه ثلاثة آلاف درهم، وهذا نموذج، الباقون أيضا كانوا يعطون لمسلم بن عقيل، هو كان يعيش مع كبار شيعة أهل البيت عليهم السلام في الكوفة، مع ذلك لا يصرف من المال العام، وإنما يقترض حتى يصرف على نفسه خلال هذه المدة، هذا يشير إلى أمانة عجيبة عند هذا الرجل، الأمر الثاني أمانته بالنسبة إلى من استدان منه، فإنه الآن لا يستطيع أن يسدد إليه، فيجب عليه إذن أن يوصي بذلك، وقسم من الناس تجده مثلا يقترب منه الموت وهو أبدا غير مبال أنه مديون لفلان أو فلتان، ولا يعتني بذلك، بينما هذا وهو مقبل على الموت لو رأى أحدا أكثر قربا من عمر بن سعد، كان قد أوصاه، لكن هذا يفترض أنه أقرب الناس إليه من باب النسب، وأوصاه بذلك، والمجال أيضا هذا مقدار السيف واللباس الخاص به يؤدي ذلك المقدار، فهذا فيه درس لنا في أن نكون أمناء في البداية، وأمنا أيضا في ديون الناس، ألا نتركها وألا نغفلها وألا نرخي العنان عنها، هذا أمر نلحظه في سيرة مسلم بن عقيل، نلحظ أيضا ما يذكر عنه في قضية امتناعه من شرب الماء، حيث إنه لما ضُرب على شفته، انشقت شفته العليا، وسرى السيف إلى الشفت السفلى، وثناياه اختلت، فاستسقى ماء في ذلك الوقت في قصر الإمارة، جيء له بقدح، فأراد أن يشرب فسقطت ثناياه فيه، وسال بالتالي الدم منه، صار هذا الماء ماء متنجسا، الماء المتنجس لا يجوز شربه، قد يقول الإنسان هذه حالة اضطرار، وأنه لابد له من ذلك، الآن هذا تقدير إنها حالة اضطرار أم لا، هذا يحتاج إلى تحقيق، وبالتالي هو بعد دقائق ينتهي، ما الاضطرار في ذلك؟ على أنه أيضا لو كان في حالة اضطرار هو أيضا ليس مجبرا على أن يشرب من هذا الماء، ونحن وجدنا نظير ذلك في الحسين عليه السلام عندما أقحم فرسه الماء وأراد أن يشرب كما ورد في الروايات، فخُوطب من خلفه، تشرب الماء وقد هتكت حريمك؟ فرمى الماء فورا مع أنه بين أن يرمي بهذا الشكل ويشرب لا يوجد فرق زائد من حيث الوقت، ولكن هذا فيه درس عظيم، ذاك ليس فيه أي درس، ذاك أن أشرب الماء وأقوم بسرعة، هذا أنا أفعله، وأنت تفعله، ليست فيه ناحية قيمية وأخلاقية، لكن ذاك أن يرمي الماء ويقوم بسرعة فيه جهات قيمية يمكن للإنسان أن يقتدي بها، وكذلك بالنسبة لأبي الفضل العباس سلام الله عليه في قضية المشرعة، من الأمور التي تذكر بالنسبة إلى مسلم بن عقيل عليه السلام أيضا امتناعه عن الفتك والاغتيال لعبيد الله بن زياد، استشهادا منه بحديث للرسول صلى الله عليه وآله، "الإيمانُ قَيْد الفَتْك" أو "الإيمانُ قَيَّدَ الفَتْك" هذا موضوع الاغتيالات أن أحدا يأتي يغتال إنسانا على حين غفلة، ليست مواجهة، أصل القتل هو غير جائز، لكن هناك فرقا بين أن تقاتل الإنسان وجها لوجه وبين أن تغتنم غرته، وهذا الثاني يدل على ماذا؟ يدل على الجُبْن، وفي بعض الحالات على النذالة، لا سيما أنت إذا عزمته مثلا عندك، وجئت به وثم سقيته، وثم دعوت أحدا يظهر عليه ويضربه بالسيف، هذه جُبْن أيضا، وأيضا فيها نذالة، يعني إن الإنسان ينزل عن مستوى الإنسان الطبيعي إلى ما دون ذلك، صارت فرصة إلى مسلم بن عقيل عندما جاء لعيادة عبد الله بن شريك الأعور الهمداني، وصار تخطيط على أن يخرج مسلم بن عقيل عليه ويقتله، لكنه لم يفعل، حاولوا معه، أنشد عبد الله بن شريك ذلك الشعر:
ما الانتظار بسلمى لا تحييوهـــا .. حيوا سليمى وحيوا من يحييها
لم يفعل ذلك مسلم بن عقيل، عبد الله بن شريك حاول أن يصرح بالموضوع، لم يخرج مسلم بن عقيل، لما خرج كاد أن يفتك به عبد الله بن شريك، هو من الشيعة المتحمسين، يقول لِما لم تخرج عليه؟ ليست هناك فرصة أفضل من هذه الفرصة، طيب إذا صار هذا الشيء، أنا إذن ما الفرق بين فعله هذا في قضية الاغتيال وبين فعل عبد الرحمن بن ملجم في اغتيال أمير المؤمنين عليه السلام، أصل موضوع الاغتيال لا سيما إذا أُمَّنَ شخصا، أنت أمَّنت هذا الشخص أن يأتي إلى بيتك أو إلى بيت أحد آخر، وأعطيته ولو كان لذلك المستوى من القبح والشناعة والطغيان مثل عبيد الله بن زياد، آنئذ سيكون هؤلاء لا سمح الله ولا قدر قدوة في الفتك والاغتيال والخيانة، هذا الذي تميز به أعداؤهم، أعداؤهم يقولون لك إن لله جنودا من عسل، وعادي بالنسبة لهم ويضحك ملء شدقيه، لكن هل هذا هو الدين الذي يريد أن يقدمه كقدوات؟ كم اغتالوا في أيام معاوية؟ يعطون الأمان لشخص ثم يسمونه، ثم بعد ذلك في الدولة الأموية ثم في الدولة العباسية، وهكذا، أئمة الهدى عليهم السلام ومن تأثر بمنهجهم كانوا يرفضون هذه الطريقة، ولا يقبلون فيها قدر الإمكان، مع أنها كانت في بعض الحالات في متناول أيديهم، لَمَّا عُوتب مسلم بن عقيل في ذلك قال حديث ذكره الناس عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: "الإيمانُ قَيْد الفَتْك" فلا يفتك مؤمن، الإنسان المؤمن لا يفتك، إذا عنده شجاعة يواجه، أما يفتك، يغتال ويدبر من داخل إلى داخل، ويقضي على حياة ذلك الشخص بعدما كان آمنا، هذا لا يفعله الإنسان المؤمن، لكن عدوه فعل فيه هذا الشيء، يبقى عدوه نموذج ومثال كما قال هو: "إنك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة"، يقول ابن زياد لمسلم بن عقيل سنأمر بك أن يصعدوا ويرموا جسمك من أعلى القصر، فقال له: "إن قتلتني فقد قتل شر منك من كان خيرا مني، وإنك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة"، أنت أيضا على منهج أولئك السيئين، وبالفعل هكذا حصل لمسلم بن عقيل، هذا البطل الهاشمي بعدما هجم الجيش على بيت طوعة التي آوته في ليلته تلك سلام الله عليه وعليها، وبقي ليلته تلك قائما وقاعدا وراكعا وساجدا، يعبد الله عز وجل، قيل إنه لم يشرب الماء، ولم يأكل الطعام أيضا، وكأنه يتأسى بسادته الطاهرين عليهم السلام، ذكرنا في بعض الأماكن أنه شابهت شهادة مسلم بن عقيل شهادة الحسين عليه السلام، فكلاهما غريبان، هذا الحسين غريب وهو غريب الغرباء، ومسلم بن عقيل وصل الأمر به إلى أن تفرق عنه الأنصار، ولم يكن معه أحد إلى أن وصل إلى باب طوعة، هذا واحد، والثاني أيضا إن الإمام الحسين عليه السلام قضى عطشانا وظمآن غريبا، وكذلك مسلم بن عقيل قضى ظمآن، لم يذق بارد الماء.
قـتلوه ظـامٍ لـم يُـبل فـؤاده أفـديه مـن ظـامٍ الحشا متضرِّم
وبعد فوق هذا شابهت شهادة مسلم بن عقيل شهادة الحسين، فذاك قد طحنت أضلاعه بحوافر الخيل، وهذا طحنت أضلاعه برميه من أعلى القصر إلى الأرض.
دفعوه من أعلى الطمار إلى الثرى فـتكسرت مـنه حـنايا الأعظم