منطلقات النهضة في كلمات الحسين "ع"
من خطبة للإمام الحسين بن علي عليهما السلام قال : ( ألا وان هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلّوا حرام الله وحرموا حلاله ، وأنا أحق من غيري) (1) صدق مولانا أبو عبدالله صلوات الله عليه .
تحدثنا فيما مضى عن منطلقات الثورة الحسينية كما يراها بعضُ المؤرخين ، وذكرنا أنها لا يمكن أن تكون المنطلقات الحقيقية .. ومما ذكره المؤرخون :
-العداء الذي كان بين هاشم وأمية ، وهما يشتركان في الجد الأعلى (عبد مناف) ، فقد وُلِدَ له هاشم وأُميّة ملتصقين وفُرِق بينهما بالسيف ، فكان هذا مدعاة لأن يحدث بينهما السيف والحرب على طول الخط . وقلنا بأنّه لا يمكن أن يكون هذا سببًا واضحًا .
-كذلك ذكر بعض المؤرخين من الأسباب ، وجود مشكلة شخصية بين الحسين بن علي وبين يزيد ، وهي أنَّ يزيد كان متعلق بأُرينبة بنت إسحاق ، فقطع الإمام الحسين عليه الطريق بأنّ عقدَ عليها ثُمَّ أرجعها إلى زوجها السابق . ، وهذا أيضًا لا يمكن أن يكون سببًا من جهة الحسين (ع) ، ربما يكون سببًا اضافيًا لحقد يزيد على الحسين (ع) ، لكن لا يفسّر لنَا سببًا لخروج الحسين وحركته ونهضته .
-وقال بعض المؤرخين أنه من أسباب نهضة الإمام الحسين (ع) ، أن أهل الكوفة أرسلوا رسائل كثيرة للحسين (ع) ، ونتيجة لذلك خرج ضدَّ الحكم الأموي .. وقلنا : أنه لا يمكن أن يكون سببًا كافيًا لنهضته عليه السلام ، لأنّ رسائل أهل الكوفة لم تصل إلى الإمام الحسين إلا حينما وصل إلى مكة المكرمة بعد مدة – غير قليلة - من وصوله ، مايقارب شهرين من خروج الإمام الحسين وتحركه .
إذن ، ماهو السبب الحقيقي والمنطقيّ لحركة الحسين ونهضته ؟
لنستقرِئ كلماتِ الحسين وأحاديثه وخُطَبِه .. لنصلَ إلى السبب الحقيقي . ونشير إلى ملاحظة هامّة ، وهي أن الإمام الحسين أكثر جدًا من الخُطب والكلمات والوصايا والرسائل التي علل فيها خروجهِ ونهضته .
في المدينة خلّف منشوره الأصلي عند محمد بن الحنفية ، وفي مكة المكرمة بدأ بإرسال الرسائل التي أرسلها ومنها رسائله المتعددة إلى أهل البصرة وكذلك كان الحال في طريقه من مكة إلى كربلاء ، تحدّث كثيرًا وفي أكثر من موقع حول سبب نهضته وثورته ، تحدث مع أفراد وتحدث مع جماعات .
ولو أتُيحت الفرصة لِأحد بتتبع خطبه وكلماته بدءًا من (26) ستة وعشرين رجب إلى يوم (10) العاشر من المحرم ، لوجدَ الشيءَ الكثير .
ومن الكتب في ذلك ، كتاب اسمه (من الوثائق الرسمية لثورة الإمام الحسين) . وكذلك كتاب (خطب عاشوراء) ، ولم نعهد أحدًا من الثّوار تحدّث بمثل هذا المقدار والسعة كما تحدث الحسين في فترة ثورته التي بلغت (165) خمسة وستين ومائة يومًا تقريبًا .
إذن ، فالنذهب إلى كلمات الإمام الحسين (ع) ، لكي نصل إلى سبب نهضته ، فلماذا تحرك وثار ؟
ونحن نقتصر – هنا – على بعضِ كلماتهِ وتوجيهها ، بما يستوعبه المقام :
-الأمر اأول : ما أشار إليه الإمام الحسين (ع) من الإنحراف العميق التي كانت تكرسهُ السلطة الأموية ، بدءًا من أيام معاوية والذي ساءَ وصار الى إزدياد بمجيء يزيد بن معاوية على سدة الحكم .
الوضع الأموي والإنحدار الديني والخلقي والعقائدي ، هذا كله يحتاج إلى بحث خاص ، ومناقشة حول الآثار التي خلفها مجيءُ الحكم الأموي على الأمة الإسلامية من ويلات سواء على الجانب الديني أم العقائدي أم الأخلاقي .
الآثار والوضع السيء الذي الجأ الإمام الحسين (ع) إلى قوله : (على الإسلام السلام اذا بليت الأمة براعٍ مثل يزيد ) .
ماذا فعل بنو أمية الذي الجأ الحسين (ع) إلى هذا القول ؟!
مالأثر الذي تركته آل أميّة وأثّر في روحية الأمة وأخلاقها ودينها وعقائدها ؟ ماتركته آلُ أميّة أمر هائل مهول ، ولو أردنا الحديث عن ذلك لطال بنا المقام !
ولكن الإمام الحسين (ع) اختصر كل ذلك بهذه الكلمة (وعلى الإسلام السلام إذا بُليت الأمة براعٍ مثل يزيد)
وهذا الكلام أمام جيش الحر ابن زياد الرياحي ، الذي هو نوع من أنواع الإعلام عن هذه النهضة ، وهو الكلام مع جيش الخصم . (ألا وان بني أمية – ماذا صنعوا ؟ - قد لزموا طاعة الشيطان) اي ليس مجرد طاعة ، بل التزام بطاعة الشيطان ، وبالمقابل ( وتركوا طاعة الرحمن ... وأظهروا الفساد ...) الفساد كان موجودًا منذ أيام معاوية ، بل وقبل أيام معاوية كان موجودًا في الخلفاء وفي الطبقة الحاكمة ، ولكن لم يكن سمة ظاهرة ، أمّا أن يأتي خليفة المسلمين ويجعل الفساد هو المظهر الأساس في الدولة ويتجاهَر بالعصيان ، فهذا لم يكن معهودًا ... وهذا ماصار معهودًا أيام يزيد بل أيام معاوية ...
يروى أنّ أبا الدرداء كان يذهب إلى معاوية ويجالسه ، إلى أن جاء يوم وانفصل عنه ، لماذا ؟ لأنه ذات يوم أتى إلى معاوية ورآه لابسًا حريرًا ، فقال له : يامعاوية ، ماهذا حرير ؟ فقال معاوية : نعم! فقال أبو الدرداء : وكيف تلبس الحرير ؟! وقد سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : ( الحرير محرم على ذكور أمتي ) فالتفت إليه معاوية وقال له : أنتَ سَمِعْتَ ذلك ؟ فقال ابو الدرداء : بلى .. فقال معاوية : أما أنا فلا أرى به بأسًا !
معنى كلامه : الرسول عنده اجتهاد وأنا لديَّ اجتهاد ثانٍ !
كذلك كانت الخمور تُحمل إليه على ظهور الإبل ، وجاء أحد أصحاب رسول الله ولمّا شمّى رائحة الخمر ، فقال : أهذا خمر ؟! فقالوا له : نعم ، فقال الصحابي : إلى من تُحمل ؟ فقالوا : إلى قصر معاوية خليفة المسلمين . فأخذ يخرم تلك الأواني التي تحتوي على الخمر ...
نعم ، هكذا أصبح حمل الخمر إلى بيت الخليفة أمرًا عاديًا و أمام مرأى الناس .
يعني القضية ليست وجود الفساد وإنما إظهار الفساد .
كما قال الإمام الحسين (ع) : (وأظهروا الفساد واستأثروا بالفيء)
أي أن الخليفة صار يعطي من مال المسلمين ما يشاء وكيفما يشاء ، حتى أن أحدهم طلب من معاوية (15,000) ماتسمى بالمربوعة ، سقف كندل ، وهذا كان لا يزرع في بلاد المسلمين ، وانما يزرع في أماكن بعيدة ، ويؤتى بها للبناء ، وهي نوع من الصاج أو ماشابه ذلك
هذا الشخص طلب من الخليفة هذا العدد الهائل ، والبيت يحتاج إلى (40-50) منها ، فقال له : لأجل ماذا ؟ فقال : لأجل أن أُحَدِّثَ بيتي ، فقال له : بيتك في البصرة أم البصرة كلها في بيتك ؟
يعني أن النفقات كانت تُصرف بهذا الكم الهائل بلا حساب وبلا كتاب .
إذن ، كان الخمر وماشابه ذلك شائعًا ، وكذلك التظاهر بالفواحش ، لذلك كان الإمام الحسين يخشى على الإسلام ، وقال كلمته : (وأظهروا الفساد ، واستأثروا بالفيء ، وحللوا حرامه وحرّموا حلاله وأنا أحق من غيري)
مع هذا الوضع السيء القائم في الأمة لا يوجد أحد أحق مني ... أنا الإمام العالم وارث رسول الله ، أنا أحق من غيري بأن أُغيَّر .
وهذا هو أول سبب تحدث عنه الإمام كثيرًا .. وقال : (ألا ترون أن الحق لايُعْمل به ، وأنَّ الباطل لا يُتناهى عنه ...) (2) وإلى غير ذلك من أقواله في هذا الشأن .
-الأمر الثاني : المسؤولية الدينية التي يتحملها العَالِم وعلى وجه الخصوص الإمام ، فإن الله أخذَ على العلماء عهدًا .. كما قال أمير المؤمنين في نهج البلاغة : ( ألا يقارّوا على قضة ظالم ولا على سغب مظلوم ) . (3)
أي أن لا يؤيدوا الظالم ، الظالم لعباده ، ولا يتخلون عن الفقير الساغب وقد أخذ الله على الأنبياء ميثاقًا : (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) (4)
فإذا كان الحسين في طليعة العلماء وفي طليعة الأوصياء وهو وارث الأنبياء ، وهو يرى مثل هذه المخالفات ، ويرى كل هذه التجاوزات على الدين والشرع والناس ....
فالإمام الحسين بالإضافة لإهتمامه بالدين وحفظه ، كان مهتمًا بأمور الناس ، قال مخاطبًا إلى أولئك القوم : (فأصبحتم إلبًا لِأعدائكم على أوليائكم ، بغير عدل أفشوه فيكم ، ولا أمل أصبح لكم فيهم ، فهلا لكم الويلات تركتمونا .. ) (5)
ومعنى كلامه أنه لا الوضع الحاضر الذي تعيشونه معيشة طيبة وعادلة ولا المستقبل ترجون أن يكون كذلك.. مسؤولية الإمام في التغيير الديني كعالم وكإمام وكوارث للنبي تدعوه إلى هذا الأمر ، وقد أشار الإمام في كثير من الموارد إلى ذلك . وهذا الأمر الثاني .
-الأمر الثالث : مايوجد في كلمات الإمام الحسين (فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) ، هذه مسألة قائمة بذاتها ، ففي حديث للإمام الباقر عليه السلام : (إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ، ومنهاج الصلحاء ، فريضة عظيمة بها تُقام الفرائض ، وتُأمن المذاهب ، وتُحل المكاسب ، وتُرد المظالم ، وتعمّر الأرض ، ويُنتصف من الأعداء ، ويستقيم الأمر) (6)
أي أن الصلاة تُقامُ بالأمر بالمعروف والصيام يقام بالأمر بالمعروف والفساد يُحذف من المجتمع بالنهي عن المنكر ، ولذلك خرج الإمام الحسين آمرًا بالمعروف وناهٍ عن المنكر .
وقد تحدث من ضمن كلماته قبل خروجه من المدينة ، وقال : (إني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا مفسدًا ولا ظالمًا ، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسيرُ بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب عليه السلام ) (7)
-الأمر الرابع : عزة نفس الإمام الحسين وإباؤه الضيم ، في الوقت الذي أرادوا فيه الأمويون إهانة الإمام .
كان الأمويون يريدون إذلال الإمام الحسين عليه السلام كما أذَلُّوا الأمّة ، نعم الأمّة كانت ذليلة في عهد الأمويين ، ولم يكن لها إرادة ولا رأي ، ولم يكن لها قوة بحيث تُغيّر وضع الأمة الإسلامية .
غالبية الأمة كانت تعيش بلا عزة نفس ولا كرامة ، ولذلك صِدرتْ وصايا من أهل بيت العصمة لأهل المدينة بِأن لا يُمكنوا الشجرة الملعونة – بني أمية – (من الحكم) ، وسمعوا وصايا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومع ذلك لم يُحركوا ساكنًا ، وجاء معاوية إلى المدينة وصعد منبر الرسول وأخذ يتحدث وأصحاب الرسول يسمعون وهم ممن سمعوا منه في حق الشجرة الملعونة وفي حق معاوية ولم يغيروا عليه ولم يتحركوا ..
ماتت إرادة الأمة وماتت عزتها ومات إباؤها وكرامتها .
وأراد الأمويون أن يسلكوا مع الإمام الحسين نفس الطريقة ، فأرادوا منه أن يبايع يزيد أو أن يُقتل ، وهذا الذي عبَّر عنه الإمام الحسين (ع) في أكثر من كلمة وفي كلمته المشهورة : (ألا أنّ الدّعيَّ ابن الدَّعيِّ قد ركز بين السِّلةِ (السَّلَّة) والذلة وهيهات منَّا الذلة) (8)
[السِّلَّة والسَّلَّة] بتشديد السين وكسرها أم بتشديد السين وفتحها ، كلاهما بمعنى استلال السيوف .
وهذا مايوضحه كلام أمير في توجيهاته لأصحابه في بعض أيام صفين : (معاشر المسلمين استشعروا الخشية ... إلى أن قال : (وقلقلوا السيوف في أغمادها قبل سلها ) (9)
يعني أنه عليكم إذا أردتم الهجوم على العدو أن تتأكدوا من جاهزيتكم بأن تقلقلوا السيوف حتى تتأكدون من سهولة خروجها من الغمد قبل أن تسلوها ..
و (السَّلُّة) بتشديد السين وفتحها مصدر ، أما (السِّلَّة) بتشديد السين وكسرها صيغة فِعلة (هيئة) يُقال لها سِلة ، والمصدر من سَل السيوف يقال له (سَلَّة) .
إذن الأمويون كانوا يريدون إرضاخ الإمام الحسين لما أرادوا ، ولكنه سلام الله عليه كان أبيَّ النفس ، حتى قال البعض( إنّ نفسَ أبيه بين جنبيه ) (10) نعم هذا ابن علي بن أبي طالب لا يرضى بالذل والخضوع والخشوع وإن أدَّى ذلك إلى أن يُقتل . لذلك أقدم على التضحية والجهاد ..
هذه الأسباب (منطلقات للنهضة) مجتمعة وجدناها متناثر في كلمات الإمام الحسين (ع) ، ولم نجد نصًا يجمع كل هذه المنطلقات في آنٍ واحد ، فبعضها صدرت منه في المدينة وبعضها في مكة وبعضها في أماكن أخرى ، ولا تنافٍ بينها .
ففي المدينة نسمعه يقول : ( أنا أريد الإصلاح ، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ) وفي مكان آخر يقول : (هيهات منَّا الذلة) وفي مكان ثالث يقول : (هؤلاء قد عطلوا الحدود وأظهروا الفساد ...) حينما ننظر إلى هذه الأقوال مجتمعة تتكون لنا صورة متكاملة لمنطلقات الثورة عند الإمام الحسين عليه السلام.
ولابد أن نشير إلى نقطتين :
-النقطة الأولى : لماذا اختلفت كلمات الإمام الحسين عليه السلام ؟
فتارة يراه رجل من الأزد (11) وهو خارج من مكة ، فيسأله الرجل : مالذي أخرجك من وطن جدك يابن رسول الله ؟ فرد عليه الإمام : (ياأبا هرة أو أبا هَرِم أن بني أمية شتموا عرضي فصبرت ، وأخذوا مالي فصبرت ، وطلبوا دمي فهربت ... ) (12)
فنجد نوعًا من الإختلاف في كلام الإمام عن غيره من كلماته وردَّه على من سأله ، إلا أن النتيجة واحدة ... ويقول لِأحدهم : ( أن الله أمرني بأمرٍ وأنا ماضٍ إليه ) .. ولم يقل له : أنا خارج للإصلاح ولم يقل له أني عزيز ولا قال هيهات منَّا الذلة ، ولا قال : أريد أن آمر بالمعروف ... فاختلاف أجوبة الإمام على الأسئلة التي تُوجّه إليه مختلفة .. وذلك كل جواب يكون على حسب شخصية السائل ومدى استيعاب من يتحدث معه ..
-مثال لتقريب الفكرة : أنت لو كان لديك قضية من القضايا ، ويأتي إليك رجل حكيم ناضج ، فتتحدث معه عن المشكلة بكل انفتاح وبجميع تفاصيلها وبكل جهاتها . ولكن لو أتى إليك ابنه – مثلاً – شاب في مقتبل العمر ، لا قدرة له على استيعاب المشكلة ولا خبرة له .. فستحدثه عن المشكلة باقتضاب ، فتقول : عندنا مشكلة بسيطة وإن شاء الله تُفرج هذا اليوم .
اختلف جوابك من هذا إلى ذاك ! لماذا ؟ الإختلاف في الشخصيتين .
كذلك الإمام الحسين كان يراعي هذا الجانب ، فمرة يكون الشخص يتلقى مايقوله الإمام ويستوعبه ويكون موصلاً إلى غيره من الناس . بينما شخص آخر لا يمكن أن يستوعب مايُلقى عليه .
لذلك مثل هذا الرجل أبي هرة أو أبي هَرِم الأزدي سلَّم على الحسين وفارقه ، فلو كان هذا الرجل ممن يُرجى منه ، لسأل الإمام واستفسر أكثر عن التفاصيل ، ولسأل الإمام إذا كان يريد ناصرًا أم لا !
وكذلك كان الحال مع الفرزدق ابن غالب عندما واجهه الإمام الحسين وهو خارج من مكة قادم مع أمهِ للحج ، فسأل الإمام عن أهل العراق ، فقال الفرزدق : الرجال الكبار (أهل العراق) عَظُمت رشوتُهم وامتلت غرائزهم – أي جيوبهم – من الأموال ، وهؤلاء قسم منهم سيوفهم عليك وقلوبهم معك . فاسترجع الإمام وذكر الله سبحانه وتعالى .
ثم سأل الفرزدق الإمام الحسين عن بعض المسائل الشرعية ، ثم انصرف عنه . والسؤال هنا : هل كان الفرزدق معذورًا لوجود أمه معه ؟ أم أنه لم يبلغ المستوى النضجي النفسي والأخلاقي والعلمي المطلوب الذي يؤهله بأن يستشهد بين يدي أبي عبدالله الحسين عليه السلام؟!
تسجل للفرزدق بعض المواقف ومنها القصائد التي نظمها ، ولكنه في مثل الموقف المتقدم لم يكن مُوفقًا .. ولذلك أجابه الإمام إجابة تختلف عن الإجابات الأخرى .. لأن الإمام ناظرٌ إلى اختلاف المتلقي .
-وتبقى لدينا مسألة : أين رسائل أهل الكوفة من هذه المنطلقات ؟!
ذكرنا سابقًا ، أن بعض المؤلفين ترى أن الإمام الحسين اشتبه في تقدير الوضع السياسي والحياتي والإجتماعي ، فلما أرسلوا له هذه الرسائل انخدع بها ثم استجاب لهم وذهب ثم قُتِل .. وبناؤنا أن هذا الكلام لايمكن أن يصمد أمام الدليل .
إذن ، مادور رسائل أهل الكوفة ؟
من الواضح أن هناك عدد كبير من الرسائل قد وصلت إلى الإمام الحسين ، في الفترة مابين النصف من رمضان إلى قبل خروجه من مكة ، بعضهم عدَّ الرسائل بالآلاف وبعضهم عدَّها بالمئات ، وهذا كله عائد إلى الإختلاف بين الرسائل ، فمرة تُحسب كرسالة واحدة ، ومرة أخرى تُحسب بلحاظ المرسلين .
التوضيح : مرة ترسل أنت رسالة ويوقعها مجموعة من الأفراد .. زيد وعمر .. عشرة أشخاص أو مئة شخص .. ومرة أخرى ، نقول : هذه رسالة واحدة بالنظر إلى هذه الورقة . فمرة ننظر إلى الرسالة بعدد الأشخاص الموقعين عليها ، ومرة ننظر إلى الرسالة كورقة واحدة فتكون كأنها من شخص واحد .
وهذا الإختلاف هو عينه الموجود في الروايات التاريخية ، فيقال : أنه وصل إلى الإمام الحسين ماملأ خرجين من الرسائل ، وبالطبع خرجين لا يمكن أن تكون عشرة آلالاف رسالة .. وإنما قد يكون ناظر إلى أن هذه الرسائل موقعة من أشخاص متعددين ، فيعتبر كل من وقع على هذه الرسالة كأنما أرسل رسالة تدعو الحسين للمجيء .
إذن ، فموضوع رسائل أهل الكوفة هي آخر دوافع الإمام الحسين والتي لا يمكن أن تُقارن بدافعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولا بدافعية رغبة الإمام الحسين (ع) في تغيير الوضع الفاسد الذي صنعته السلطة الأموية في الأمة ، ولا تقارن بمسؤوليته الدينية ، ولا تقارن برغبته في الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولا تقارن – أيضًا – بجانب إباء الحسين وعزته وكرامته ، وإنما تأتي في ذيل هذه المنطلقات ، وهذا ( أولاً ).
ثانيًا : تأخر الرسائل الزمني يعني أنها لم تكن مؤثرة في أصل خروج الإمام الحسين وموقفه ، لأن موقف الإمام الحسين قد اتخذه من البداية ، وقال انه لا يبايع وأنه خارج وأعلن العصيان على يزيد ، وأنه سيواجه ماسيحصل له ..
فما هو دور الرسائل إذن ؟
كان دور رسائل أهل الكوفة ، في كونها وجّهت الإمام الحسين عليه السلام من مكة إلى جهة واضحة ، وذلك أنَّ الإمام الحسين (ع) لمّا علم أنَه سوف يتعرض إلى عملية الإغتيال على أثر إرسال عمر بن سعيد الأشدق (13) – وذكرنا سابقًا أن يزيد لمّا رأى أن الوليد بن عتبة متراخٍ في تنفيذ أوامره ، وهو (يزيد) كان يُريد تصعيد الأحداث عزله على الفور ، ونصّب الأشدق ، كان رجلاً شرسًا فاتكًا ، وكان من أوائل أعماله الإجرامية أنه أرسل فرقة لإغتيال الإمام الحسين في مكة ، ومع أنّ مكة كان لها والٍ ، إلا أنه من شراسة الأشدق أُنتخب لهذه المهمة ، وظل مطاردًا للإمام الحسين في مكة ، وأرسل من يقتل الإمام ، ومن هنا قرر الإمام الحسين الخروج من مكة كي لا تنتهك حرمة البيت بقتله ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى لأن الإمام لن يستطيع تأدية رسالته بالشكل المطلوب مع وجود هؤلاء المرتزقة ومع امتناعه الديني عن القتال ، لذلك قال : (لئن أقتل خارجًا من مكة بشبر أحب إليَّ من أن أُقتل فيها ولئن أقتل خارجًا منها بشبرين أحب إليَّ من أن أقتل خارجًا منها بشبر)(14)
ولكن إلى أين يتجه الإمام الحسين ؟! بعضهم شاروا على الإمام بالذهاب إلى اليمن ، وبعضهم اقترح عليه بالذهاب إلى (جبال طي) . ومن جهة أخرى ماذا عن الكوفة ؟
الكوفة التي أعلنت عصيانًا مدنيًا عامًا ، حيث أن أعيان البلد رفضوا أن يأتمروا بأمر حاكمها وهو النعمان بن بشير ، ورفضوا طاعته ولم يصلوا معه ..
وكان النعمان بن بشير (15) يتجنب الدخول في مواجهات مع الناس من الأنصار ، حسب بعض المصادر . والرسائل التي وصلت إلى الإمام الحسين من الكوفة جعلته يُوجّه ابن عمّه مسلم بن عقيل إلى الكوفة ، لكي يستطلع الأمر ، وجعلت الإمام يتحرك بإتجاه كربلاء بإتجاه العراق التي حدثت فيها واقعة كربلاء ، نعم واقعة كربلاء في علم الله مكتوبة وأن آجالهم وأوضاعهم معروفة ، وأن الإمام الحسين أخبر أنه يقتل في أرض يُقال لها كربلاء ، ولكننا نتحدث ضمن الإطار الآخر وهو الإطار الظاهري الذي تتحرك فيه قضية الإمام الحسين.
-ويبقى سؤال أخير ، نختم به الحديث :
هل كان من ضمن أهداف الإمام أن يُشكل حكومة إسلامية ودولة في مقابل دولة بني أمية ؟
يوجد رأيان بين باحثي السيرة :
-الرأي الأول : وهو ماقال به علماؤنا القدامى ومنهم السيد الشريف المرتضى أعلى الله مقامه في كتابه (تنزيل الأنبياء) ، وهو يذهب إلى أن الإمام الحسين يريد إقامة حكم مقابل حكم بني أمية فيسقط حكم بني أمية ويقيم حكمًا إسلاميًا ، لماذا ؟ يقول : لأنه – هذا تعبيره- غلب على ظنه طاعة أهل الكوفة إياه وأنه يستطيع الإعتماد عليهم ، ويقصد بغلب على ظنه (ظن الإمام الحسين) ، وهذا مذهب الأئمة والنبي يعملون بحسب منطق ظاهر لا بحسب علومهم الحقيقية ، وغلب على ظن الإمام من خلال مجموعة من القرائن والتي منها مجيء رسائل أهل الكوفة ، وضعف والي الكوفة النعمان بن بشير ، وعدم رغبة الناس في بني أمية . وإلى غير ذلك من القرائن .
يقول الشريف المرتضى : وهذا يُغَلَّب الظن على أن الإمام الحسين يستطيع أن يضع شيئًا في ذلك الإتجاه .
وممن قال بهذا الرأي – أيضًا : بعض المتأخرين .. في أحد الكتب كتاب (شهيد جاويد) ومعناه (الشهيد الخالد) وقد أثار ضجة قوية .
-والشهيد المطهري – رحمه الله – في كتابه (الملحمة الحسينية) ناقش هذا الكتاب في وقته ، أي قبل حوالي (35) سنة أو (30) سنة .. عندما ظهر هذا الكتاب وأحدث ضجة بطرحه ناقشه الكثيرون وردوا عليه ، وكان الشيخ المطهري أحدهم ، ولكن فكرته كانت فكرة استثنائية ، وهي أن الحسين خرج لِأجل إقامة حكم إسلامي ، وإنه لم تكن له غاية أخرى ، ولكنه لمّا وصل إلى جهة العراق وتبينت أخبار مسلم بن عقيل وأنه قُتل ، تبين للإمام الحسين أن أمر إقامة الحكومة الإسلامية لا يتم ، فصار همُّ الإمام ومهمته الحفاظ على أهله وعياله وعدم الإستسلام والذل ، ولكن الطرف المقابل لم يقبل منه ذلك ، فواصل إلى أن استشهد الإمام الحسين عليه السلام .
- الرأي الثاني : والذي يذهب إليه الأكثرية ، أن الإمام الحسين (ع) بالعلم الإلهي وبالعلم الظاهري (العادي) كان يرى أن أمر إقامة دولة لا يتم له ، ولكن مع ذلك تكليفه أن ينهض ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، وإن كانت نهاية ذلك إلى قتله ، فوظيفته أن يحارب المنكر ، ويحارب الفساد ، ويقاوم الطغيان ، ليصنع بذلك هزة قوية تؤثر في الأمة .
وقد تحدث الإمام الحسين عليه السلام بأكثر من موضع عن الموت ، فقال : (خط الموت على ولد آدم مخَطَّ القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخِير لي مصرع أنا لاقيه ، كأني بأوصالي تُقَطّعها عسلانُ الفلوات ، بين النواويس وكربلاء ، فيملأن مني أكراشا جوفا وأجربه سُغبا ، لا محيص عن يوم خُطَّ بالقلم ، رضا الله رضانا أهل البيت) (16)
وهذا الكلام قاله الإمام قبل أن يصل إلى كربلاء .ومعنى النواويس : منطقة أومقابر النّصارى ، ومعنى عسلان الفلوات : العسلان جمع أعسل وهو الذئب الجائع ، ويعني بعسلان الذئاب في الصحراء ، وهذا تعبير كنائي عن شدة وجلافة وقسوة الذين سيقاتلوه ، فهم كالذئاب حينما تأتي لتفترس فريستها فتقتص منها ثم تأكلها وتملأ أكراشها وبطونها ، يعني أن الإمام الحسين يريد أن يقول : سيحدث لي مثل هذا مع هؤلاء القوم .
وقد قال الإمام الحسين لابن عباس : شاء الله أن يراني قتيلا . يعني أنه لم يكن يرتجي إقامة دولة ، وماكان غرضه ، وانما غرضه غرض آخر : (أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ) .
-الرأي الثالث : حاول بعض المتأخرين أن يجمع بين الرأيين ، ومفاده أنَّ حقيقة الأمر أن الحسين (ع) كان خارجًا للشهادة ، ولكن هذا الأمر ليس مشروعًا يجعل الناس يخرجون معه ، فكأنما يقول لهم : اخرجوا معي حتى استشهد . فكان لابد من أن يفهمهم نتائج هذه الحركة ، فيقول لهم : (فإنه من لحق بي منكم استشهد ، ومن تخلف عني لم يبلغ الفتح والسلام ) (17)
وفي نفس الوقت يقولوا لهم نحن ذاهبون لنأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ، ونحارب الفساد ، ونقاوم الظلم ، لذلك قام الإمام الحسين بهذه الحركة المباركة ..
وجاءته كتب الكوفة ، لكي تُعيّن إحدى الوظائف وهي :
توجيه مسلم بن عقيل ، وليتّجه الإمام الحسين إلى أرض كربلاء .
يقول الشيخ (الدمستاني) : (18)
وسرى السبط بأهليه بملحوب الطريق يقطع الهيجا مجدًا قاصد البيت العتيق
فأتته كتبُ الكوفة بالعهد الوثيق نحن أنصارك أقدم سترى قرة عين
هذه الأبيات من قصيدة الشيخ حسن الدمستاني ، عالم فقيه وشاعر أديب . كذلك من قصائده ، القصيدة المعروفة :
أحرم الحجاج عن لذاتهم بعض الشهور وأنا المحرم عن لذاته كل الدهور
كتب الشاعر الأبيات بلسان حال الإمام الحسين ، ومن ضمن أشعاره :
ضمني عندك ياجداه في هذا الضريح علني ياجدُّ من بلوى زماني أستريح
الإمام الحسين لم يقل هذه الكلمات ، وإنما كُتبت بلسان حال ، وهي من القصائد الموفقة التي كُتبت في مصيبة أبي عبدالله الحسين .
السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين ورحمة الله وبركاته
-----------------------------------------------------------------------------------------------------------
(1) الكامل في التاريخ ج (3) – صفحة / 280 ، مقتل الإمام الحسين ، الخوارزمي (1)/335
(2) صحيفة الحسين ج (4) – جمع الشيخ القيومي – صفحة / 278
(3) من خطبة الإمام الحسين (ع) في موضع يقال له : ذي حسم ، ونقل هذا الكلام الطبري في تاريخه
(4) سورة آل عمران ، آية (187)
(5) من خطبة الامام الحسين الثانية يوم عاشوراء / معالم المدرستين / السيد مرتضى العسكري ج (3) – صفحة / 100
(6) الكافي ج (5) – صفحة (56)
(7) بحار الأنوار ج (44) – صفحة /329
(8) العوالم ، الامام الحسين (ع) – صفحة / 179
(9) نهج البلاغة – خطب الإمام علي (ع) ج (1) – صفحة / 114
(10) بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج (44) – صفحة / 390
(11) يقال لذلك الرجل أبا هرّة أو أبا هَرِم الأزدي – اختلاف في ضبط اسمه
(12) الأمالي الشيخ الصدوق – صفحة / 218 – بحار الأنوار – العلامة المجلسي ج (44) – صفحة / 314
(13) كان الأشدق واليًا على مكة منذ أيام معاوية وعلى جلّ المؤرخين .....,, أما القول بأنه كان مأمورًا فقط بتنفيذ خطة اغتيال الإمام الحسين عليه السلام فقط ، ففي ذلك كلام / لانه كان واليًا لمكة من قبل ذلك المصدر : مقتل الحسين ، للمقرم : 165 .
(14) هذا الحديث دال على أنه عليه السلام كان يعلم بأنه بُقتل ، وإنما خرج من مكة لئلا يُتل فيها فتستحل به حرمة الحرم / المصدر : أسباب الأشراف : ج (2) – صفحة / 467 .
(15) النعمان بن بشير الأنصاري منحرفًا عن علي (ع) وعدوًا له ، خاض بالدماء مع معاوية خوضًا ، وكان من أمراء يزيد ابنه حتى قتل وهو على حاله ، وعلى هذا الوصف ينفي ماوُصف به النعمان من التسامح والمداوة ، بل هو منافق وكانت نهايته على يد الأمويين أنفسهم . شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد ج (2) – صفحة / 304
(16) قاله لمّا عزم على الخروج إلى العراق – المصدر : بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج (44) – صفحة / 367
(17) اللهوف في قتلى الطفوف – ج (28) – بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج (44) – صفحة / 330
(18) حسن الدمستاني : ابن محمد بن خلف بن ابراهيم ضيف الله البحريني ، توفي ، عام (1181) ودفن بالخباقة في القطيف
|