( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير )
تحرير الفاضلة أفراح البراهيم
قال تعالى ( ولتكن منكم أمةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون )1
في البدء لابد أن نشير إلى الخبر الذي أذيع اليوم وهو وفاة آية الله العالم المحقق السيد مرتضى العسكري تغمده الله بالرحمة وأسكنه الجنة وحشره مع محمد و آل محمد ، هذا العالم الجليل والمحقق الذي ألّف عدد كبير من المؤسسات مثل كلية أصول الدين في بغداد ، وله الكثير من الكتب النافعة مثل ( معالم المدرستين ) و ( أحاديث أم المؤمنين عائشة ) و ( عبدالله بن سبأ ) ، ولقد قضى عمرًا طويلًا في الجهاد السياسي والثقافي والعلمي ، نسأل الله أن يتغمّده برحمته ويحشره مع محمد و آل محمد.
حديثنا حول الآية المباركة التي بدأت بفعل ( لتكن ) وهو فعل يدل على الأمر وهو مستعمل في لغة العرب تارة بقول الأمر ( افعل كذا ) أو ( ليفعل فلان كذا ) ليكتب هذا الكتاب.
ورد في القرآن الكريم ( ليكتب بينكم كاتب بالعدل )2
هذه الصيغة تشير على أمر وطلب ولما كان هذا الأمر من الله فيكون أمرًا إلزاميًا وجوبيًا بالنسبة للمسلمين ، ولكن هل هذا الوجوب عيني أي على كل إنسان أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، أم أنّه واجب كفائي بمعنى أنه إذا قام به البعض يسقط عن الآخرين ، إذ أنّ الواجبات تقسم إلى:
1/ واجبات عينية وهي تعني حصول الفعل من كل فرد كالصلاة مطلوبة على كل بالغ عاقل وكذلك الصيام.
2/ واجبات كفائية وهي تعني حصول الفعل في الخارج من أي أحد وليس على كل أحد، فلو توفى أحدهم من الواجب غسله وتكفينه ودفنه فإن قام البعض بذلك يسقط عن الآخرين.
هل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حالة كفائية أم حالة عينية؟
هناك رأيان:
1/ الرأي الغير مشهور
ذهب إليه بعض العلماء المتقدّمين ومنهم شيخ الطائفة الطوسي والمحقق الحلي صاحب الشرائع حيث قالوا أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب عيني على كل الناس استدلالًا على ظاهر الآية وإن كان ظاهر الآية يفهم منه التبعيض والوجوب الكفائي لكنه بقرينة آية أخرى يصبح واجبًا عينيا وذلك في قوله تعالى ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر )3
ومن هنا يفهم أنّه ليست فئة خاصة يتعيّن عليها القيام بالأمر والنهي بل على كل المسلمين ، وكذلك استنادًا لحديث رسول الله صلى الله عليه وآله ( لتأمرّن بالمعروف ولتنهينّ عن المنكر وإلا ليسلطنّ الله عليكم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم )4
فهذه الرواية مفادها الوجوب العيني وليس الوجوب الكفائي.
2/ الرأي المشهور
عند فقهاء الإمامية قديمًا و حديثًا واجب كفائي إذا قام به البعض سقط عن الباقين لأنّ الغرض منه أن لا يكون منكر في المجتمع وأن يعمّ الخير والفضيلة والتقوى في المجتمع ، فإذا حصل هذا بقيام فئة من المجتمع فهو كاف ولا حاجة ليقوم الباقي بهذا العمل ، و هذا الرأي استنادًا لنفس الآية التي تقول ( ولتكن منكم ) من هنا تعني التبعيض بمعنى بعضكم وليس كلكم وهو الصحيح.
أحد المفسرين له حديث لطيف يمكن الجمع به بين القولين فيقول هناك مرحلتان للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
1/ المرحلة الأولى : واجبة وجوب عيني
2/ المرحلة الثانية: واجبة وجوب كفائي
الآيات والروايات التي يستفاد بها الوجوب العيني ناظرة للمرحلة الأولى ، والروايات التي يستفاد منها الوجوب الكفائي ناظرة للمرحلة الثانية ، فيقول لدينا درجات ومراحل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمرحلة الأولى هي الانزجار القلبي والنفور النفسي والإشاحة بالوجه فهذا واجب عيني لمن رأى المنكر ، فإذا احتاج الأمر إلى الحديث والمنع عن المنكر باليد هنا يأتي الوجوب الكفائي .
ما معنى ( أمة )؟؟
كلمة أمة استعملت في القرآن الكريم بعدة معان منها:
1/ الجماعة ، قال تعالى ( ووجد عليه أمة من الناس يسقون )5 أي جماعة من الناس.
2/ الملة والعقيدة والدين ، قال تعالى ( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ) 6 أي وجدنا آباءنا على ملة وعقيدة.
3/ البرهة الزمنية ، قال تعالى ( وادّكر بعد أمة )7 أي بعد برهة من الزمن.
4/ الرجل الكامل ، قال تعالى ( إنّ إبراهيم كان أمة قانتًا لله )8 أي رجل جمعت في أوصاف الكمال ، فأصبح أمة في رجلٍ واحد.
هذه المعاني المختلفة لكلمة ( أمة ) ولكن المعنى المنسجم مع الآية الكريمة معنى الجماعة أي لتكن منكم جماعة .
شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
لكل واجب شرعي ديني واجبات فالصلاة لها شروط سواء كانت في الفاعل كالعقل والبلوغ ، أو في الزمان كحدوث الزوال بالنسبة لصلاة الظهر ، أو حلول شهر رمضان بالنسبة للصوم.
وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عدة شروط لو طبّقت لرأينا صورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أجمل الصور ، ولكن للأسف شوّهت هذه الفريضة التي قيل بأنها ( فريضة عظيمة بها تقام الفرائض )9
للأسف أصبحت الآن فريضة مغيّبة وإذا قام بها البعض كانت بصورة مشوهة وغير مقبولة بسبب عدم توفر الشروط اللازمة، ومن هذه الشروط:
1/ أن يكون كلًا من الآمر والمأمور متفقان على أنّ الشيء المنهي عنه منكرًا ، فلا يكون منكرًا عند الآمر و غير منكرًا عند المأمور ، فعلى سبيل المثال لو ذهبت لشخص يرى في عقيدته أنّ زيارة القبور عمل جائز ويقرّب لله ، وأنت ترى أنّ هذا الأمر بدعة وحرام فلا يحقّ لك أن تنهاه عن ذلك لأنّه يرى أنّه عمل جائز ولا يعتبر منكرًا في عقيدته.
إذن الشرط الأول اتفاق الطرفين على أنّ الفعل منكر لدى الجميع، أو الأمر معروف وجائز لدى الجميع ، نرى الحنابلة لديها رأي بوجوب صلاة الجماعة على عكس المذاهب الأخرى التي ترى استحباب وجواز ذلك ، فلا يحق لأحد من الحنابلة أن يأتي ويتهجّم على غيره لأنه لم يصلي صلاة الجماعة بسبب وجوبها عندهم .
وأكثر النزاعات التي تحدث الآن بسبب أنّ أحد الطرفين يرى أنّ هذا الأمر منكر و الفئة الأخرى لا تراه كذلك.
2/ أن تكون وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير منكرة ، فلو أمرنا بالمعروف أو نهينا عن المنكر بوسائل منكرة مثل الخشونة والعنف فنحن نأتي بمنكر آخر ولا يمكن أن نؤثر في المأمور أو المنهي ونجتذبه للتجاوب معنا .
( روي أنَّ غلامًا شابًّا أتى النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ و آله وسلَّم فقال : يا نبيَّ اللهِ أتأذنُ لي في الزنا ؟ فصاح الناسُ به ، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وآله وسلَّم قَرِّبوهُ ، ادْنُ فدنا حتى جلس بين يديْهِ ، فقال النبيُّ عليه الصلاةُ والسلامُ : أتحبُّه لأُمِّكَ فقال : لا ، جعلني اللهُ فداك ، قال : كذلك الناسُ لا يُحبُّونَه لِأمَّهاتِهم ، أتحبُّه لابنتِك ؟ قال : لا ، جعلني اللهُ فداك قال : كذلك الناسُ لا يُحبُّونَه لبناتِهم ، أتحبُّه لأختِك ؟ وزاد ابنُ عوفٍ حتى ذكر العمَّةَ والخالةَ ، وهو يقولُ في كلِّ واحدٍ لا ، جعلني اللهُ فداك ، وهو صلَّى اللهُ عليهِ و آله وسلَّم يقولُ كذلك الناسُ لا يُحبُّونَه ، : فوضع رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ و آله وسلَّم يدَه على صدرِه وقال : اللهمَّ طهِّرْ قلبَه واغفر ذنبَه وحصِّنْ فَرْجَه فلم يكن شيءٌ أبغضَ إليه منه )10
3/ احتمال التأثير ، لابد أن يحتمل الآمر أو الناهي تأثير كلامه لدى الطرف الآخر ، لكنه إن علم أنّ كلامه لن يؤثر في الطرف الآخر فلا يجب أمره أو نهيه ، وهذا ما تشير له الرواية ( إنما يؤمر بالمعروف مؤمن فيتعظ أو جاهل فيتعلم أما صاحب صوت وسيف فلا )11
4/ أن لا يعود ذلك الأمر على الآمر والناهي بالضرر الذي لا يحتمل ، وقد يؤذى بسبب ذلك الأمر أو النهي بالسجن أو القتل أو سرقة الأموال ، إلا إذا كان الأمر عظيمًا وله أثر في بقاء الدين حتى لو عوقب صاحبه أو قتل بسببه فلا مانع من ذلك ، وليس هناك أغلى من دماء الشهداء التي أحيت الدين ، ومن هؤلاء السيد محمد باقر الصدر الذي استشهد في سبيل الحق ، وكان من بركة دمائه أن سقط طاغية العراق.
هؤلاء الشهداء الذين ساروا على نهج الإمام الحسين عليه السلام الذي خرج ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وهو يعلم بأنه سيقتل في سبيل ذلك ومع ذلك كان يقول ( إن كان دين محمد لم يستقم إلا بقتلي فيا سيوف خذيني )12 خرج ولسان حاله يقول ( كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء، فيملأن مني أكراشًا جوفا وأجربة سغبا، لا محيص عن يومٍ خطّ بالقلم، رضى الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفّينا أجور الصابرين )13
يقول الشاعر واصفًا شجاعة الإمام الحسين عليه السلام:
وسامته يركبُ إحدى اثنتين … وقد صرّت الحربُ أسنانها
فأمّا يُرى مذعناً أو تموت … نفس أبي العز إذعانها
فقال لها اعتصمي بالإباء … فنفسُ الأبيّ وما زانَها
إذا لم تجد غير لبس الهوان … فبالموت تنزعُ جُثمانها
رأى القتل صبراً شعار الكرام … وفخراً يزين لها شأنها
فشمَّر للحرب في مَعركٍ … به عرك الموتُ فِرسانها
وأضرمها لعنان السماء … حمراءَ تلفحُ أعنانها
ركينٌ وللأرض تحت الكماة … رجيف يزلزل ثهلانها
أقرُّ على الأرض من ظهرها … إذا ململ الرعب اقرانها
تزيد الطلاقة ُ في وجهه … إذا غيَّر الخوفُ ألوانها14
واجه الإمام الحسين عليه السلام تلك الجموع الغفيرة وبقي وحيدًا فريدًا لم يتراجع عن الحق بعد أن ذهب أصحابه وأهل بيته ، يقول عنه أحدهم ( فوالله ما رأيت مكثوراً قط قد قتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشًا ولا أمضى جنانًا منه عليه السلام ) 15 ، وهكذا كان مضرب المثل في الشجاعة إلى أن انتهى به الأمر للشهادة.
------------------------------------
1 القرآن الكريم / سورة آل عمران آية 104
2 القرآن الكريم / سورة البقرة آية 282
3 القرآن الكريم / سورة أل عمران آية 110
4 موقع رياض الصالحين
5 القرآن الكريم / سورة القصص آية 23
6 القرآن الكريم / سورة الزخرف آية 22
7 القرآن الكريم / سورة يوسف آية 45
8 القرآن الكريم / سورة النحل آية 120
9 تهذيب الأحكام / الشيخ الطوسي ج6/ ص181
10 الدرر السنية
11 مستدرك الوسائل ج12 / ص186
12 شبكة الشعائر
13 موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ص397
14 أدب / موقع القصائد الولائية
15 الإرشاد / الشيخ المفيد ج2 ص111 |