السيدة خديجة : كمال الحب والعقل والإنفاق
كتابة الأخت الفاضلة أم علي الشافعي
روي عن سيدنا ومولانا رسول الله (صلى الله عليه وآله ) أنه قال : (كَمُل من الرجالِ كثير ، وكَمُل من النساءِ أربع : مريمُ بنة عمران ، وآسيةُ بنت مزاحم ، وخديجةُ بنت خويلد ، وفاطمةُ بنت محمد )
حديثنا يتناول جانبًا من سيرة السيدة الصديقة خديجة بنت خويلد سلام الله عليها ، وكيف أنها كانت المثل الأعلى في الحبِ والعقلِ والإنفاق . الحديث الذي نقلناه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله ) منقولٌ في أكثر من مصدر منها الخصال للشيخ الصدوق أعلى الله مقامه الله وينبغي التوقف عنده قليلاً قبل التوجه إلى الحديث عن سيرة السيدة خديجة .
أولاً : الحصر اضافي : كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله ) هنا أن الكوامل من النساء أربع لايظهر منه الحصر النهائي بمعنى أنه لن توجد امرأةٌ كاملةٌ بعد هذه الأربع ، فلو فرضنا أنه جاء خبرٌ معتبرٌ من معصومٍ في الثناء على إحدى النساء وأنها كاملة مثل ما استفاد بعضهم مما ينقل عن الإمام السجاد سلام الله عليه في قوله لعمته زينب : ( وأنت بحمد الله عالمةٌ غير معلمة وفهمةٌ غير مفهمة ) استفاد البعض من هذا النص ومن غيره ما يثبت كمال السيدة زينب عليها السلام .
فإذا فرضنا وجود هكذا نصوص فهي لا تعارض كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله ) لأن كلام النبي ليس حاصرًا إلى الأخير وإنما لجهةٍ من الجهات جاء بهؤلاء الأربع وهذا بحسب اصطلاح العلماء يقولون الحصر هنا ليس حقيقيًا وإنما هو حصرٌ إضافيٌ . يعني بالنسبة إلى قضيةٍ من القضايا هذا حصرٌ لا بالنسبة إلى كل الجهات وكل القضايا .
مثال على الحصر الحقيقي ما ورد في قضية الكساء عندما جمع النبي أهل بيته عليهم السلام وقال : ( اللهم إن هؤلاء أهل بيتي و خاصتي وحامتي ..... فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا ) فهمنا من ذلك أن هذه المجموعة هم أهل البيت وفهمنا من حدثٍ آخر أن هذا حصرٌ حقيقيٌ لا يدخل فيه من لم يكن من هؤلاء، وعندما أرادت أم سلمة وهي من فضليات نساء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أرادت أن تدخل معهم منعها النبي وقال إنك على خير .فأنت مسيرتك في الخير و إلى الخير لكن هذا موقع لا ترتبطين به . فاستفدنا من ذلك أن الحصرهناك حصرٌ حقيقيٌ .ولكن في كثير من الموارد قد يكون الحصر حصرًا إضافيًا ومعنى ذلك لو جاء خبرٌ معتبرٌ على أن فلانة من النساء أيضًا كاملة لم يكن هذا معارضًا لحديث رسول الله.
ثانيًا : الجامع المشترك وهي نقطة أهم وهي أنه عندما نلاحظ أن النبي أو المعصوم عمومًا يتكلم عن مجموعة خصال أو مجموعة أسماء أو عدة عناصر ويصفهم كلهم بصفة واحدة ، هنا لا بد أن نفتش عن العنصر المشترك بين هذه الخصال أو هؤلاء الأشخاص أو تلك الأسماء . فلا يمكن أن يأتي المعصوم بمجموعة أسماء ويصفها بجانب بعضها من دون أن يكون بينها نقطة اشتراك .وإليك هذا المثال العرفي السريع . فلو أردت أن تدعو جماعةً على الفطور فمن المؤكد أنك لن تذهب وسط السوق وتدعو كل من حضر في السوق إلى بيتك ،وإنما تعمل اختيار يخضع لضابط عندك ، كأن يكون الضابط مثلاً صنف فتقول سأدعو المشايخ أو التجار أو غير ذلك فنقطة اشتراك هؤلاء أنهم أهل العلم أو أولئك أهل التجارة أو تقول أنني سأدعو أصدقائي المقربين فإذن نقطة الاشتراك بينهم قرب صداقتك معهم . أو تقول سأدعو الجماعة الذين دعوني من قبل فهو رد للعزيمة فهذه نقطة اشتراك . فالمعصوم حين يعدد خصال أو أسماء لا يعددها هكذا اعتباطًا وإنما لا بد من التفتيش عن العنصر المشترك بين هذه الأسماء وهذه نقطة جدًا مهمة . لماذا ؟ لأنها تكشف أحيانًا عن الأحاديث التي دست على رسول الله
( صلى الله عليه وآله ) فإذا رأينا مجموعة أشخاص رأيهم مختلف تقاتلوا أو تشاتموا أو تضاربوا أو ضلل بعضهم بعضًا أو فسق بعضهم بعضًا فكل منهما يتعطش ليقتل الثاني ومع ذلك كلهم مبشرون بالجنة ، هنا نتساءل ما هي نقطة الاشتراك بينهم ، هل لأنهم مسلمون ؟ هناك مائة ألف مسلم ، ما معنى أن يكون هؤلاء فقط . هل لأنهم أصحاب النبي ؟هناك عشرة آلاف صحابي . هل لأنهم حضروا بدر ؟ هناك ثلاثمائة واحد حضروا بدر . ما هو عنصر الاشتراك إذن ؟ لا يوجد .
بالعكس هناك عناصر تناقض وتهافت وتفارق ، فكل واحدٍ منهم يرى الثاني على ضلال ويحاربه ويريد أن يقتله كما حدث في حرب الجمل فبعض المبشرين على لسان هذا الحديث المبشر بالجنة قاتل بعضهم بعضًا في حرب الجمل وقتل بعضهم بعضً وضلل بعضهم بعضًا . فأين عنصر الاشتراك ؟ وكيف صاروا مبشرين ؟ فهذا يقود إلى اليمين وذاك يقود إلى الشمال . عليٌ يقول ذلك ضال وذاك يقول : عليٌ باغ وآثم . فكيف يكونون كلهم مبشرون بالجنة ؟ لابد أن نكتشف ما هي نقطة الاشتراك عندما يسوق المعصوم خصالاً أوأسماء في حديث واحد فإذا رأينا هذه الخصال لا تجتمع بجامع أو الأسماء بينها من التفارق ما هو أكثر من نقاط الاجتماع فلا بد أن نضع علامة استفهام على هذا الحديث . إذن ماهي نقطة الاشتراك التي تجمع هؤلاء الأربع ( آسية ومريم وخديجة وفاطمة ) فتاريخهم مختلف ، وديانتهم أيضًا مختلفة فآسية تتبع شريعة موسى ومريم عيسى وخديجة وفاطمة تتبعان شريعة محمد ( صلى الله عليه وآله )
يظهر أن نقطة الاشتراك بينهن جميعًا دفاعهن عن حجة الله في ذلك الزمان الذي عشنه سواءً كان نبيًا أو إمامًا ، فآسية أولًا ثم مريم تحملت حتى لاتهام بالزنى ( يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوءٍ وما كانت أمك بغيًا ) ومع ذلك تحملت فقد كانت بنت بلا زوج وتحمل طفلاً وتحملت لسانهم الجارح إلى أن نشأ نبي الله عيسى بن مريم وبلغ رسالته وقد رعته و حفظته أمه ودافعت عنه إلى أن صار بمقدوره تبليغ رسالة الله .
ونفس الكلام بالنسبةِ لآسية بنت مزاحم فقد حمت نبي الله موسى عليه السلام وقالت لفرعون وقومه ( لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدًا ) ومرارًا كان فرعون يريد أن يقتله ولكنها كانت تقف أمامه وتتصدى إلى هذا إلى أن اشتد عوده واستطاع أن ينهض بنفسه وأن يتحرك في أداء رسالته دفاعًا عن نبي الله حجة الله في ذلك الزمان .
فاطمة عليها السلام أيضًا دافعت عن حجة الله في زمانها وهو أمير المؤمنين سلام الله عليه وذهبت كما يقول علماؤنا شهيدة الولاية والإمامة دفاعًا عن حجة الله وإمام الوقت في ذلك الوقت وهو أمير المؤمنين . وهذا أيضًا ما صنعته السيدة خديجة بنت خويلد سلام الله عليها أم المعصومين جميعًا من الزهراء إلى سائر الأئمة باستثناء علي بن أبي طالب عليه السلام .هذه المرأة بالفعل كانت كاملة في أوصافها ، وهذا لم يحصل لها بعد زواجها برسول الله ولا بعد البعثة بل كانت مسيرتها في الكمال قبل البعثة وحتى قبل أن تقترن برسول الله . نعم تتويج كل ذلك كان بزواجها برسول الله .
وكانت قبل زواجها برسول الله تعرف في قريش بالطاهرة وهذا اللقب اكتسبته قبل البعثة وقبل زواجها بالنبي أنها كانت طاهرة في مثل أوضاعها وأوضاع المجتمع القرشي آنئذ تعني قمة الكمال . فأوضاعها هي كانت امرأة ذات جمال وكانت أيضًا ثريةً جدًا بحيث كانت تجهز من كل مائة من الإبل تذهب بالتجارة إلى الشام أو اليمن كانت تجهز عشر إبل يعني عشرة في المائة من ثروة قريش في يدها . ومعلومٌ أن الثراء إذا لم يعصم بالدين أو الخلق كان طريقًا إلى الفساد .
وفي ذلك المجتمع القرشي الجاهلي الذي كان الانحراف فيه شيئًا عاديًا على مستوى كبار القوم فضلاً عن الشباب والأحداث . فأنت ترى مثلاً بعض كبار مجتمع قريش كانوا يشترون الجواري ويفتحون لهم بيوت الدعارة حتى يمارسن فعل الزنى ويكتسبن أموال بهذا الطريق ويعطونها إلى من اشتراهم ، فهؤلاء كانوا كبار الشخصيات ومع ذلك تصبح تجارة الدعارة مصدر من مصادره المالية ومعروف أن هذه الجارية التي تمارس الدعارة أو المجبورة على الدعارة هي جارية فلان . ولذلك جاء القرآن الكريم ونهى في مرحلتين ، في المرحلة الأولى قال : ( ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنًا ) فليس من حقكم استخدام جسم هذه الجارية في مثل هذا العمل المحرم . وهم أيضًا كانوا يمارسون هذا الفعل الشائن ولا يرون فيه شيئًا منفرًا بالنسبة إلى شخصياتهم . نعم هناك فئة كانت تجتنب المحرمات وترفض المنكرات ، لكن لم تكن هذه هي الحالة الشائعة بل كانت الحالة الأخرى هي الشائعة. لذلك تجد أبو سفيان وهو واحد من زعماء قريش فهو رئيس قبيلة وشخصية كبيرة بحساب المجتمع آنئذٍ حين يذهب للطائف يقول لأحد أصحابه أصب لي بغيًا يعني امرأة عاهرة فيدله على زوجة عبيد الثقفي فهي متزوجة ولكنها تمارس هذه المهنة . فذهب إليها وواقعها وأنتجت تلك العلاقة الآثمة زياد بن أبيه .
فما كان ذلك المجتمع مجتمعًا زكيًا ولا نظيفًا بحيث كانت امرأة كخديجة ثرية وجميلة وأبوها لم يكن موجودًا فقد توفي منذ سنوات طويلة فكان عندها نوع من الاستقلال فثراء من جهة وشباب من جهة ثانية وجمال من جهة ثالثة والمجتمع ما كان يمنع من هذا أبدًا فقد كان مجتمع لاهي وعابث ففي ذلك المكان تترك كل الآثام والفساد الذي كان شائعًا وتنهج منهج الفضيلة والتورع والطهارة إلى حد أنها تعرف بالطاهرة . فقسم من النساء لا يمارسون هذه الأعمال لكنهم غير معروفين أما خديجة فقد كانت معروفة في ذلك الوقت بأنها ( الطاهرة ) وهذا كمال عقل .
ومن كمال عقلها بحثها عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقد كان الحديث يتردد حول النبي في مكة قبل أن يبعث ، فقد كان الكهنة يتحدثون عن النبي أن هناك نبي يبعث ، والقساوسة والأحبار والرهبان كلهم يتكلمون عن بعثته وأنه يبعث في قريش وعن صفاته إلى حد أن أحد الرهبان مر على مجموعة من نساء قريش وكن جالسات حول الكعبة وقال : يا معشر نساء قريش ، يوشك أن يبعث في هذا البلد نبيٌ من قبل الله فمن أرادت أن تتزوج نبيًا فهنيئًا لمن كانت زوجة ذلك النبي . باقي النساء تضاحكن ومشين أما السيدة خديجة فبقيت في نفسها هذه الكلمات حتى سمعت عن النبي الذي كانت سيرته ذائعة وأنه هو الصادق الأمين وتطرق الإعجاب إلى نفسها بالنبي . والمرأة العاقلة هي هكذا فالمرأة العاقلة لا تبحث عن شاب شكله جميل أو لأن عنده سيارة آخر موديل لأن هذا ينتهي ، فالمرأة العاقلة تبحث عن رجل يمكن الاعتماد عليه ويمكن الاستناد إليه والأشياء الأخرى متممات كالجمال الخارجي والثراء وغيره . فتعلقت خديجة برسول الله لما كانت تسمع عنه ولما كانت تراه فيه إلى أن جاء ذلك اليوم الذي اقترح فيه أبو طالب على ابن أخيه محمد ( صلى الله عليه وآله) أن يعمل مع خديجة وأنها كانت توظف شباب قريش ، فذهب النبي وطلب منها ذلك على أساس أن يعمل معها بطريق المضاربة فيأخذ منها البضائع والأموال ويذهب في التجارة والربح يكون بينهما . فرحبت السيدة خديجة بهذه الخطوة فهي الآن ستتعامل مع من تحبه من قرب . وخديجة أحبت النبي حبًا كبيرًا والنبي بادلها هذا الحب إلى حد أنه كان يذكرها فيما بعد لسنوات متأخرة بالرغم من وجود تسع نساء عنده وفيهن الشابة والبكر والثيب وذات العشرين والثلاثين والأربعين والخمسين وفيهن الوضيئة جدًا - وإن شاء الله نتحدث لاحقًا عن إدارة النبي للحياة الأسرية وقضية زوجاته في وقت آخر- لكن كل هذا لم يملأ الفراغ الذي تركته خديجة ، لذلك بعض نسائه اعترضت عليه فقال : (ما أصنع إني رزقت حب خديجة ).
حب خديجة للنبي وحبه إياها
فالسيدة خديجة كانت قد تعلقت برسول الله حبًا وإعجابًا ورغبةً لذلك قالت لغلامها ميسرة أنت في كل مرة تكون رئيسًا للقافلة لكن في هذه المرة الأمر يختلف ، فأنت في هذه السفرة عبدٌ لمحمد . أمره فوق أمرك إن مال يمينًا فمل معه وإن ذهب يسارًا فاذهب معه . لكن أنقل لي عندما تعود كل ماتراه ( تقرير مفصل ) فذهب مع رسول الله ورأى من علائم النبوة ما رأى ، فرأى أن الغمامة تظلل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أينما ذهب وهذا أمرٌ غير طبيعي ، ورأى من رسول الله بركة صفقة يمينه . فليس عند النبي منطق أن التجارة لا تعرف الدين كالخداع واللعب والكذب وغيره فلم يكن النبي يربح أرباحًا فاحشة فلا يغش ولا يخدع ولا يكذب ومع ذلك لما عادوا عادوا بربح تجاوز أرباح السنوات الماضية جميعًا وهذا أمرٌ غريب . فلما رجع وقص على خديجة ما رأى من علائم النبوة من جهةٍ ومن حسن إدارته الاقتصادية والتجارية من جهةٍ أخرى زاد تعلقها برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وفكرت كيف تقترن به وأفضت بهذا إلى إحدى نسائها وقالت أنها متعلقة بمحمد ولوكان هناك زوج لي فلن يكون غيره ، فهي قد امتنعت عن الزواج كما نعتقد قبل رسول الله لأسباب نتحدث عنها في غير هذا الموقع . فقالت لها : إذا أردت أنا أتحدث مع محمد . وذهبت إليه- وكان كل ذلك قبل البعثة - وقالت له : يا محمد لم لا تتزوج ؟ قال لها : من ؟ قالت : خديجة بنت خويلد . قال : خديجة ذات ثراء وأنا ليس لدي أموال . قالت : لا هي تريدك أنت . فقال : على الرحب والسعة . - فتصور لو أن ابنتك قالت : أنا أريد فلان . فستسألها : كيف عرفته ومن أين تعرفت عليه والبعض يقول ما دمت تعرفيه وتحبيه فلن تتزوجيه . ستتزوجين آخر أنا أختاره لك . وهذا الذي ينتج عنه كثرة الطلاق في المجتمع . فما المانع أن يحب الرجل المرأة حبًا شريفًا ويتوج هذا الحب بالزواج ، أو أن تحب الفتاة شابًا حبًا شريفًا وتخبر أهلها بذلك ويسعى أبوها في عقد هذه الصلة ؟ نحن لا نتكلم عم يسمى بالحب من العبث الموجود عند قسم من الشباب والشابات فمن أجل شحن بطاقة جوال تخرج معه هذا عبث . فمن يحب فتاة لا يعبث بها لأنه يضرها وينهي حياتها ومستقبلها ، فقوله : أنا أكلمها باستمرار وهي تكلمني باستمرار وأعطيتها بطاقة شحن وخرجت معها وهي خرجت معي . نحن لا نتكلم عن هذا ، فإذا كان هناك حبٌ شريفٌ نظيفٌ يراد الانتهاء فيه إلى الزواج فما المانع ؟ ولماذا حين يعرض هذا الأمر على الأب يعاند ، فما داموا يعرفون بعضهم لايتزوجون . كأنما يحرم على الشابة أن تعرف شابًا وكأنما هي من جملة المحرمات عندنا . فالمحرم هو الخنا والفاحشة والعبث .
فإذا كانت امرأة شريفة كخديجة تبعث إلى رسول الله وتقول له : أنا أحبك وأريد الزواج منك ، والنبي يبادلها هذا الحب . ما المانع في ذلك ؟ فنحن نحتاج إلى فتح هذه الآفاق ضمن هذه الأخلاق وضمن إطار الشريعة . فلا يكون عندنا تحسس لا معنى له وتتعطل الفتيات وتصير مشاكل بين الأب وابنته وبعض النساء يتحدثون أن عمرها 35سنة وتريد الزواج من فلان ويقول أبوها إلا هذا لا تتزوجينه لو تنطبق السماء على الأرض . لماذا؟ فهذا رجل من سائر الرجال ظاهرًا سيرته حسنة وهناك علاقة قلبية بينهما . فهل ارتكبا ذنبًا أو كبيرةً ...
على أي حال .. فجاء أبو طالب ومعه بنو هاشم لخطبة خديجة من أهلها وقلنا سلفًا أن والدها كان متوفى ، وخطب أبو طالب خطبة النكاح ، وقال فيها : وقد خطبنا خديجة بنت خويلد لولدنا محمد .... وبعد أن وصف النبي بما هو أهله ، قال : وقد أمهرتها بالغًا ما بلغ المهر في مالي . فالتفتت خديجة وهي التي ردت وكانت امرأة متكلمة بليغة قالت : المهر عليَ . فأحد الحاضرين ممن كان يغيضه أمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : يا عجبًا كنا نسمع أن الرجال يمهرون النساء ، أول مره نسمع أن المرأة هي التي تمهر الرجل (يبدو أنه لم يسمع بما يحدث في الهند ، فهناك الفتاة تجمع المال من صغرها إلى أن تكبر لتقدمه برسم الخدمة لذلك الخان المحترم حتى يتفضل ويقبل بالزواج بها ) فالتفت إليه أبو طالب وقال : يا هذا إن كان الزوج مثل محمد أمهرته النساء وتنافسن عليه ، وإن كان مثلك فلو أعطى الدنيا لم يقبل منه ذلك .
كمال الانفاق والبذل :
أنهوا العقد وأرادوا الانصراف فقالت خديجة للنبي : إلى أين يا محمد ؟ فقال النبي : إلى بيتنا بيت أبو طالب. فقالت له : لا هذا البيت بيتك وأنا فيه وما أملك تحت يدك . وصار يتردد حديث بين بعض القرشيين حسدًا منهم لنعمة رسول الله أنه تزوجها من أجل مالها وغير ذلك . ومع الأسف قضايا المال أحيانا تكون حاجب أمام الناس ، فبعض النساء تعلمون أنهم مع الأسف الشديد لا يزوجهن ولي أمرهن لأنها لا تزال تنفق عليه ، فيقول : هذه موظفة الآن راتبها 18 أو 20 ألف ريال إذا تزوجت سنخسر هذه الأموال ، فتقضي عمرها بلا زواج لتبقى الأموال عنده . هذه الأموال ظلٌ زائل ومتاعٌ قليل وأنت تحطم حياة هذه المرأة من أجله . فحين تردد هذا الكلام خرجت خديجة في اليوم الثاني ومعها بعض أهلها وطلبت من النبي أن يأتي وبعض بني هاشم ، ولما صارت قريب الكعبة أمرت من يتكلم عنها بهذا الكلام : هذه خديجة بنت خويلد وهذا محمد بن عبدالله زوجها وقد وهبت ما تملك من إبلٍ وغنمٍ وشاهٍ وأعبدٍ وإماءٍ وذهبٍ وفضةٍ وعقارٍ وقماشٍ كل ذلك وهبته لزوجها محمد . فالآن صار كل شيء له فلا يستطيع أن يعترض معترض . وحقيقةً أن هذا المال تصرف فيه النبي ( صلى الله عليه وآله ) فيما بعد من أجل الدعوة والرسالة ولم يصرف منه شيء على نفسه . تصرف فيه في عتق العبيد الذين أسلموا من مواليهم ، وفي الصرف على الفقراء ومساعدتهم ، حتى أن شخصًا اعترض وقال للإمام عليٌ عليه السلام أني أسمعك تقول أن النبي صرف على هذا وأعطى ذاك ومنح ذاك وأعتق فلان .. فمن أين كان لرسول الله هذا المال ؟ فقال : ويحك ، فأين ذهب مال خديجة إذن ؟ فهذه الدعوة تحتاج في بدايتها لأموال طائلة وقد فعل النبي ( صلى الله عليه وآله ) ذلك بمال خديجة فهنيئًا لها هذا العطاء . فكمال حب من جهة لرسول الله وكمال عقل من جهة في إدارة حياتها والوصول إلى أعلى نقطة . فالعاقل هو من يسخر هذه الدنيا في الوصول إلى أعلى نقطة . فعندنا روايات : سيدات نساء الجنة أربع منهن خديجة بنت خويلد . فالعاقل هو من يعيش في هذه الدنيا بنحو يصل فيها إلى تلك المرتبة في الجنة فأي عقل أكبر من هذا وأي إنفاق أكثر من إنفاق خديجة ولا سيما في أيام شعب أبي طالب .
فشعب أبي طالب استنفذ ما بقي من أموال خديجة . فمن بعثة النبي إلى وفاة خديجة عشر سنوات ، وفي هذه العشر سنوات أنفقت خديجة أموالها بأجمعها في خدمة الدعوة ، ولا سيما في حصار شعب أبي طالب ففي حالة الحصار قديمًا وحديثًا إذا توفر شيء معين يتوفر بأضعاف ثمنه . فإذا لم يكن هناك حصار اقتصادي فإنك تشتري البضاعة بثمنها العادي أما في حالة الحصار فهي تحتاج إلى تهريب وغيره فبشكل طبيعي يرتفع ثمنها ، لذلك أنفقت خديجة ما أنفقت لا سيما في شعب أبي طالب الذي كان فيه عدد المسلمين بدأ يكثر والضغوط المادية والاجتماعية عليهم صارت تعظم .فصرفت وأعطت سلام الله عليها كل ما كان لها . لذلك قال رسول الله مسجلاً هذه النقطة : ( آمنت بي حين كفر بي الناس وصدقتني حين كذبني الناس وواستني بمالها حين حرمني الناس ) لذلك لا يعبأ ببعض الأخبار والروايات أنه ما نفعني الله بمال مثل ما نفعني بمال فلان أوفلان فهذه أحاديث تقليد واستنساخ . فالنبي يقول : هي أنفقت وأعطت حين حرمني الناس وأنت تقول ما نفعني الله بمال مثل ما نفعني بمال فلان وفلان ؟ لكن هذه الأحاديث مع الأسف راجت بعد فترة ، وبالذات في أيام معاوية راجت أكثر .
فأعطت والنبي سجل هذه الشهادة الباقية الخالدة للسيدة خديجة وحفظ لها عهدها وودها وحبها إلى سنوات متأخرة وهي تستحق كل ذلك صلوات الله وسلامه عليها . إلى أن وصلت في السنة العاشرة في شعب أبي طالب وقد أثر الضعف والهزال والمرض وقلة الطعام وسوء الرعاية والعناية في بدنها الشريف ووصلت إلى أنها لم تكن تملك إلا ثوبًا واحدًا عليها . فهذه التي كانت تنام على الحرير وتتدثر بالإستبرق وبيتها من أعلى البيوت في قريش وتجارتها رائحة وغادية وإذا بها لا تملك إلا ثوبًا واحدًا .فهذه هي التضحية والإنفاق وهذا الذي أوصل خديجة إلى أن تكون سيدة نساء الجنة .
وفي أواخر حياتها الشريفة وكانت ابنتها فاطمة عمرها خمس سنوات فيما عليه التحقيق أنها ولدت في السنة الخامسة من البعثة وإلى حين وفاة أمها خديجة فيكون عمرها خمس سنوات . فالتفتت وهي في أواخر أيامها إلى ابنتها فاطمة وقالت لها : يا فاطمة اذهبي إلى أبيك رسول الله واقرئي عليه السلام وقولي له إن أمي لما بها راحلة وهي تسألك رداءك كفنًا لها لتلف به . فجاءت فاطمة إلى رسول الله وقالت : يا أبه ، يا رسول الله أمي تقرؤك السلام وتقول لك إنها لما بها راحلة – فلما سمع ذلك رسول الله اغرورقت عيناه بالدموع ، وقالت له : إن أمي تسألك رداءك كفنًا لها تلفها به حين تنزلها قبرها . فتذكر النبي أن هذه خديجة هي التي كانت ذات الثراء والغنى والمال الكثير وإذا بها تمد يدها إلى رسول الله تستعطي وقد كانت يدها ممدودةً دائمًا بالعطاء لم تأخذ شيئًا أبدًا سابقًا . فجاء رسول الله وعيناه قد تحلقتا بالدموع مسرعًا إلى أن وصل إلى خديجة ، فالتفت إليها وسلم عليها ، ثم قال لها : بالكره مني يا خديجة ما أرى منك وقد يجعل الله في الكره خيرًا كثيرًا. فعادةً الزوج الحنون الصالح يحب أن ينعم زوجته ويجعلها في أفضل الحالات فيصعب عليه أن يراها نائمة على فراش مثل التراب وليس عليها شيء وهي تقضي وتموت من الهزال والضعف والمرض .
ثم طرح عليها النبي رداءه وقال لها أنا أكفنك بهذا الرداء . فيقول الخبر : وإذا بالأمين جبرئيل ينزل من السماء على رسول الله ويقول : العلي يقرأ عليك السلام ويخصك بالتحية والإكرام ويقول لك : كفن خديجة علينا . فهي تستحق أن يكون كفنها من الجنة .
|