بين الحكمة والأموال أيهما تأخذ 17
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 21/4/1443 هـ
تعريف:

بين الحكمة والأموال أيهما تأخذ 17

كتابة الفاضلة أم سيد رضا

لا يزال الكلام في وصية الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام لهشام بن الحكم، فهشام اسم من الأسماء الشائعة عند العرب وهو مشتق من الهشم بمعنى التكسير ومنه أيضاً يأتي هاشم الذي ينتسب إليه بنو هاشم والأصل فيه كما قالوا بالنسبة إلى هاشم هو أنه لكثرة إطعامه وسخائه وجوده كان يأتي بالخبز، والخبز في ذلك الزمان كان كلما كبر وعرض يدل على السخاء والكرم ويحتاج إلى تهشيم ثم يضاف إليه الحساء او المرق وما شابه ذلك، ومنه جاء في الشعر العربي: عمرو العلا هشم الثريد لقومه، أي كسَّر ذلك الخبز الذي يحتاج على أثر يبسه وجمعه وصب عليه اللحم والمرق ومن هذا جاء الإسم: هاشم وهشام، والبعض يقول أيضاً أنه يدل على القوة والصلابة وتحطيم العدو أي أنه يهشم رأس العدو ويقتله.

قال الإمام الكاظم عليه السلام: (يا هشام من صدق لسانه زكي عمله)، وقد مرَّ الحديث عن الإرتباط بين صدق العمل وصدق اللسان وبين نمو ذلك، فالإنسان الصادق في كلامه إذا تعامل معه الناس فإنهم يرتاحون إليه ويقبلون عليه، بخلاف من يكذب عليهم فإنه سيخسرهم في الآخر لأنهم لن يتعاملون معه وبالتالي فإن عمله التجاري سيسقط، وكذلك السياسي فهناك من السياسيين من يرفع من الشعارات الكثير ما قبل وقت الانتخابات وعندما يحظى بالفوز فكأنما يقول للناس هذا فراق بيني وبينك، فلا يطبق لهم أي شيء مما وعدهم به، فربما كذب عليهم هذه الفترة لكنه سيسقط في المستقبل لأن الناس ستعتبره إنساناً كاذباً غير وفي في وعوده وغير صادقاً في كلماته فيسقط في الأخير، فمن صدق لسانه زكى عمله في الأمر الدنيوي والأخروي كذلك.

(ومن حسنت نيته زيد في رزقه)، فإن كنت تريد الزيادة في رزقك وفي نعم الله تعالى عليك فأحسن نيتك، فالنية الحسنة والصالحة بلغت من الأهمية درجة أن خلود الإنسان في الجنة رُبِط بها، فإنه يوجد عندنا عن المعصومين عليهم السلام إجابه على هذا السؤال: لماذا خلَّد الله المؤمنين في الجنة مع أنه إنما أتى بعمل في سنوات؟، فلنفترض مثلاً أن هذا الإنسان المؤمن من حين بلوغه إلى أن أصبح عمره سبعين سنة لم يكن في طريق العبادة والطاعة إلا مدة خمسة وخمسين سنة، فكيف يعطى مدة لا حد لها في الجنة؟، وفي المقابل الإنسان الذي عصي ربه خمسة وخمسين سنة وقد عاش حياته عاصياً متمرداً على أوامر الله عز وجل كيف به يعذب ويعاقب في نار جهنم خالداً فيها ولا يوجد هناك نهاية للعدد؟.

هنا يتبين دور النية وعظمتها كما جاء في أخبار المعصومين عليهم السلام أنهم قالوا: (علم الله من نية ذلك المؤمن أنه لو خلِّد في الدنيا لأطاع الله، وعلم من نية ذلك الكافر والفاسق أنه لو خلِّد في الدنيا لعصى الله)، فإن عمِّر الإنسان المؤمن عشر سنوات كان سيطيع الله وإن عمِّر أربعين سنة أو مئة سنة كان سيبقى على الطاعة والعبادة والإيمان ولو خلِّد في هذه الدنيا كذلك كان سيطيع الله ولذلك أعطاه الله على نيته الخلود في الجنة، بينما ذاك الفاسق العاصي الظالم والمجرم إن عاش عشر سنوات أو أكثر من ذلك ولو فرضنا له الخلود لعصي الله ولذلك عوقب وجزي على نيته بالخلود في النار، فمن الخير للإنسان أن ينوي النيات الحسنة والصالحة حتى وإن لم يعملها فإنه سيجازى عليها، فمثلاً لو نوى الإنسان في النهار أنه سيصلي صلاة الليل في هذه الليلة أو أنه سيقرأ القرآن أو غيرها من الأعمال الحسنة فإن هذه النية سواء تحققت عملياً او لم تتحقق بسبب ما فسيكتب له ثواب من نوى صلاة الليل بالرغم من أنه لم يقم بها.

يقول الإمام عليه السلام: (ومن حسن بره بإخوانه وأهله مدَّ في عمره)، مما هو باتفاق المسلمين وعليه النصوص القرآنية والنبوية أن الله سبحانه وتعالى ينسئ في الأعمار فيطيل العمر لسبب من الأسباب ومن ذلك الإحسان والبر، وأما إن قطع والديه وعقهما فسيقطع عمره ويبتر أجله، فالبر بالإخوان والوالدين والأرحام أحد آثاره طول العمر، قد نفهم هذا ضمن إطار غيبي وقد نفهمه ضمن إطار عادي وطبيعي 

الفهم الغيبي: أي أنه كما جعل الله علاقة بين العقار الطبي وبين قوة البدن والقضاء على الأمراض المهلكة، وجعل علاقة بين القمر وبين المد والجزر، فقد جعل أيضاً علاقة بين بر الأرحام وبين طول العمر.

الفهم ضمن المقاييس العادية والطبيعية: هو أن الإنسان الذي يبر أرحامه ووالديه وأقاربه سوف يتخلص من العقد النفسية وتصبح نفسه نظيفة ونقية كما أنه سوف يستشعر السعادة والأمل مما يؤدي إلى طول العمر، لأنه هناك دراسات كثيرة بأن الاكتئاب وفقدان الأمل واليأس تعتبر مرض من الأمراض الواسعة الإنتشار والتي تساهم في تقليل عمر الإنسان.

قال عليه السلام: (يا هشام لا تمنح الجهال الحكمة فتظلموها ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم)، فلو عُرِض على إنسان من غير الواعين وخُيِّر بين المال والحكمة لأخذ الأموال، ولكن هذا غير صحيح، فالصحيح هو أن الحكمة هي ميراث الأنبياء فلم يمتاز الأنبياء والصالحين بأموالهم وإنما امتازوا بالحكمة كما جاء في قوله تعالى: ((ولقد آتينا لقمان الحكمة))، وكذلك آتى موسى وإبراهيم وغيرهم من الأنبياء، فعندما آتى الله الأنبياء الحكمة جعل مهمتهم أن يعلموها للبشر وينشروها بين بني الإنسان، فنقرأ في سورة الجمعة: ((هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة))، فالحكمة أعلى الأشياء وإن كان ظاهر الإمر أن الأموال هي التي تؤثر في سعادة الإنسان إلا أن الحقيقة على خلاف ذلك، فقد قال قوم عندما رأوا قارون قد خرج عليهم في زينته قالوا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم، وهذا نفس الموقف الذي يقفه قسم من الناس الآن من أهل الثراء والبهرجة والمظاهر المادية الذين يتصورون أن السعادة هي في السيارات الواقفة أمام بيوتهم وفي مرآب قصورهم أو في عدد الفساتين التي تملكها هذه المرأة في خزانتها أو في الأموال الي يملكونها في رصيدهم.

ولكن الذين أوتوا العلم يقولون ويلكم ثواب الله خير، فما عند الله هو الأحسن والأفضل كما جاء في سورة الجمعة: ((قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة))، فالعلاقة والإرتباط بالله عز وجل والخلود في جنته خير من عشر سيارات تستعملها عدة سنوات، وخير من ثياب سوف تمضي عنها أو ستتلف عندك، فما عند الله باق لا ينتهي ولا يتغير ولا يزول، بل وحتى في هذه الدنيا فإن الله سوف يكسبك الطمأنينة والسكينة والراحة النفسية والصحة والعافية، فما قيمة أن يملك الإنسان رصيداً كبيراً في البنك لكنه لا يملك الإطمئنان ويعيش الخوف، إذاً فإن الحمة التي يأتي بها الأنبياء والأوصياء تتقدم على كل النعم المادية وما شابه ذلك، ولذلك يقول إمامنا عليه السلام للمؤمنين: كما تركوا لكم الحكمة وأخذوا الدنيا فاتركوا لهم الدنيا، فرأس الحكمة هو مخافة الله عز وجل، فإذا عرض عليك بين أن تكون متقياً لله عز وجل وبين أن تكون متمولاً فاختر مخافة الله والخشية منه، أما سائر الأمور التي يعبر عنها بالحكمة هي التي ينبغي أن يسعى وراءها الإنسان.

ولذلك كانت الحكمة في أعلى درجات القيمة والتي يجب إعطاءها لمن يستحقها، أما إذا كان الإنسان لا يستحقها ولا يقيمها فلا يصح إعطاءه إياها، كما جاء في بعض الروايات: (لا تقذف الجواهر والذهب بين أظلاف الخنازير)، فالخنزير يعد من الحيوانات القذرة جداً، وليس من العقل أن تضع الذهب والجواهر بين أقدام الخنازير لأنهم سوف يلوثونها ويلطخونها، كذلك الحكمة عندما تعطيها لمن هو ليس أهلاً لها ولا يعرف قيمتها فعندئذ تظلم الحكمة فلا تضع الحكمة إلا في موضعها ولا تمنعها من أهلها، فمثلاً لو جاء إنسان مسترشد مستفتي ومستعطي للحكمة فلا ينبغي أن تمنع عنه العلم والجواب لأنك حينئذ ستكون قد ظلمت هذا الإنسان.

(يا هشام كما تركوا لكم الحكمة فاتركوا لهم الدنيا)، ماهي الحكمة التي يقول عنها ربنا سبحانه وتعالى: ((يؤت الحكمة من يشاء ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً)) فكلمة كثيراً عند قسم من الناس هي ألف أو ألفين وعند قسم آخر هي عشرة آلاف وهكذا، ولكنها بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى الذي عنده الدنيا كلها بما فيها من أفلاك ومجرات ومحيطات وحيوانات وأشجار وغير ذلك لا تعدل عنده جناح بعوضة، فكيف بالكثير عند الله؟.

في الحديث عن سيد الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ليس بحكيم من لم يعاشر بالمعروف من لا بد له من معاشرته حتى يجعل الله له من ذلك مخرجاً)،)، فمثلاً لو أن إنساناً عنده رئيس في العمل سيء الأخلاق وليس له طريق آخر للعمل في غير ذلك المكان، فمن الحكمة معاشرته بالمعروف لأنه لا بد له من معاشرته إلى أن يجعل الله له من ذلك مخرجاً، لأن الأمور في الحياة لا تدوم، فكما النعمة لا تدوم كذلك البلاء لا يدوم أيضاً، فبين الزوجين أيضاً كذلك، لا بد للإنسان معاشرة زوجته وزوجه بالمعروف وإن كان أحدهما سيء الأخلاق لأنه من الحكمة أن لا نستسلم للعواطف وردود الأفعال العنيفة.

يقول أمير المؤمنين عليه السلام: (ليس بحكيم من ابتذل بانبساطه إلى غير حميم)، أي أنه على الإنسان أن يكون ثقيلاً إلى حد ما، فالبعض مثلاً لو ركب مع شخص آخر سواء في الطائرة أو غيرها وإن كان الطريق ليس بطويل فإنه لا يبقي بداخله شيئاً إلا وقد أخبره به، وهذا ليس من الحكمة لأن ذلك الشخص ليس بحميم فلا يعرفه ولا يعرف حقيقة شخصيته وإنما تعرف عليه فقط في مشوار هذه الرحلة القصيرة، فلا ينبغي للإنسان أن يبتذل بانبساطه إلا للحميم والصديق المعروف الذي يثق به.

 

مرات العرض: 3397
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (0) حجم الملف: 32231.83 KB
تشغيل:

عملي قليل وإن كثر وعملك كثير وإن قل 16
علاقة الدين بالمروءة 18