عن العقل في كلمات العلامة الطباطبائي 6
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 15/11/1442 هـ
تعريف:

عن العقل في كلمات العلامة الطباطبائي

كتابة الفاضلة أم سيد رضا

لا يزال حديثنا في وصية الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام لهشام بن الحكم والتي تدور حول موضوع العقل وما يرتبط به، وقد سبق أن ذكرنا كلاماً للعلامة المجلسي رضوان الله عليه في بحار الأنوار عن المقصود من العقل، وأشار إلى عدة معان يطلق العقل عليها، وهنا نشير إلى قول آخر ضمن مدرسة أخرى وإن كانت النتيجة هي واحدة وهو كلام العلامة سيد محمد حسين الطباطبائي صاحب تفسير الميزان.

العلامة الطباطبائي يعد في مدرسة أخرى غير مدرسة العلامة المجلسي، فالعلامة المجلسي محسوب على مدرسة المحدثين، بينما العلامة الطباطبائي محسوب على مدرسة الفلاسفة وله في هذا الباب الباع الطويل ولديه كتب كثيرة في هذا الباب منها (العقليات والحكمة والفلسفة) كما أن الناظر إلى تفسيره (الميزان) يلحظ أثر هذا المنهج عليه وفي تفسيره.

العلامة الطباطبائي عندما جاء إلى آية من الآيات المذيلة بـ ((لعلكم تعقلون)) دخل في موضوع العقل، وسوف نقرأ بعض فقرات كلامه ونوضح ما يمكن توضيحه حتى نستنتج النتيجة من ذلك.

في كتاب الميزان للعلامة الطباطبائي رحمه الله في الجزء الثاني صفحة 247: 

قال في ذيل قول الله عز وجل: ((كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون)) الاصل في معنى العقل العقد والامساك وبه سمي إدراك الانسان إدراكا يعقد عليه عقلاً، وما أدركه عقلاً، فإدراكات الإنسان تارة تذهب وتارة تُمسك وتبقى فهذه المعلومات والإدراكات والمعاني عندما تبقى ويُعقد عليها يطلق عليها عقل، والقوة التي يزعم انها إحدى القوى التي يتصرف بها الانسان يميز بها بين الخير والشر والحق والباطل يقال عنها عقلاً، ويقابله الجنون والسفه والحمق والجهل باعتبارات مختلفة.

ثم بعد ذلك دخل في موضوع الألفاظ المستعملة في القرآن في أنواع الإدراك وقال: الالفاظ المستعملة في القرآن الكريم في أنواع الادراك كثيرة ربما بلغت العشرين، كالظن، والحسبان، والشعور، والذكر، والعرفان، والفهم، والفقه، والدراية، واليقين، والفكر، والرأي، والزعم، والحفظ، والحكمة، والخبرة، والشهادة، والعقل، ويلحق بها مثل القول، والفتوى، والبصيرة ونحو ذلك.

وبعد حديث طيل في شرح هذه العبارات العشرين قال: لنرجع إلى ما كنا فيه فنقول : لفظ العقل على ما عرفت يطلق على الادراك من حيث ان فيه عقد القلب بالتصديق ، على ما جبل الله سبحانه الانسان عليه من إدراك الحق والباطل في النظريات، والخير والشر والمنافع والمضار في العمليات حيث خلقه الله سبحانه خلقة يدرك نفسه في اول وجوده ، فالله سبحانه وتعالى جبل الإنسان وخلق معه قوة إدراكية، فهذه القوة أحياناً تكون في الأمور النظرية التي يمز فيها بين الحق والباطل والصواب والخطأ في النظريات من خلال قياسات معينة، وأيضاً في الأمور العملية كالخير والشر والأخلاق الرديئة والأخلاق الحسنة، فالعقل يدرك بأن ضربك لليتيم مثلا أمر قبيح وغير صائب بل هو شر، ولكن شكرك لمن أنعم عليك وأعطاك وساعدك هو أمر حسن وخير وطيب، ثم جهزه بحواس ظاهرة يدرك بها ظواهر الاشياء ، وبأخرى باطنة يدرك معاني روحية بها ترتبط نفسه مع الاشياء الخارجة عنها كالإرادة ، والحب والبغض، والرجاء، والخوف، ونحو ذلك، وهكذا بالنسبة إلى سائر الأمور الغيبية وخصوصاً أن الإنسان يتعامل في حياته مع الغيب أكثر مما يتعامل مع الشهود، أي أن القوة التي تحيط به والغائبة عن سمعه وبصره أكثر من القوة التي يتعامل معها ببصره وسمعه، كالهواء الذي نتنفسه مثلاً فهو محيط بنا ولو تأخر عنا قليلاً لحدثت مشكلة في حياتنا ولكنا لا نستطيع أن نراه أو نلمسه، وكذلك القضايا الغيبية كالإله والملائكة والجنة والنار والحساب والثواب وغيرها كلها أمور غائبة عن الحواس لا نستطيع إدراكها وإنما نتعامل معها ونؤمن بها بناءً على آثارها، وهذا هو العقل.

هنا نلاحظ أن العلامة الطباطبائي لم يذهب إلى المنحى الفلسفي الموجود عند الفلاسفة، وإنما جرى على ما يستفاد من القرآن الكريم ويستفاد من الروايات حتى الآن.

يقول أيضاً: لكن ربما تسلط بعض القوى على الانسان بغلبته على سائر القوى كالشهوة والغضب فأبطل حكم الباقي أو ضعفه، فخرج الانسان بها عن صراط الاعتدال إلى أودية الافراط والتفريط، فلم يعمل هذا العامل العقلي فيه على سلامته، أي أنه إذا زود الله سبحانه وتعالى البشر بما يكون فيصلاً في الأمور النظرية وبما يكون هادياً في الأمور العملية كقضايا الحق والباطل والصواب والخطأ أو قضايا الشر والخير والمنافع والمضار، فقد خلق الله البشر وخلق معهم هذه القوة.

إذاً لما لا يرى البشر الحق دائماً وإنما بعضهم يسير إلى الباطل، ولماذا لا يرون الخير والنافع دائماً وإنما يمشون إلى الشر والضرر في الدنيا والآخرة؟

الجواب هو: أن بعض القوة الموجودة عند الإنسان كقوة الشهوة تتغلب وحين تتغلب تسلب العقل دوره في أن يختار الطريق السليم من الخطأ وفي أن يختار أخير دون الشر، فهذه ليست مشكلة في العقل الذي أعطاه الله للإنسان وإنما لأجل وجود حاجب، فالعقل نور وضياء يكشف الباطل والضار والقبيح ولكن عندما يضع الإنسان أمامه حاجباً وحاجزاً وهو حاجب الشهوات والأهواء عندها لا يقوم العقل بدوره.

مثلاً عندما يحب إنسان شخصاً ويكره شخصاً آخر، فعندما يحب شخصاً يدبِّج له من الصفات التي ليست فيه، وعندما يبغضه فالعكس يكون فحتى لو كانت عنده صفات حسنة وطيبة يخفيها ويظهر ذلك الجانب السيء، وكذلك عندما يحب إنسان عملاً من الأعمال وإن كان فيه إتلاف للعمر أو غضب للرب فإنه يزين هذا العمل ويجري وراءه، فنجد القليل من الناس الذين يعملون الخطأ ويعترفون بأنه باطل وضار، فعندما نسأل امرأة مثلاً لماذا لا تتحجب؟ يكون ردها بأن الحجاب ليس في هذه الرقعة التي ترتديها وإنما الحجاب يكون في القلب فكم من امرأة محجبة وهي منحرفة.

ونفس الكلام عندما نسأل شخصاً عدم سبب تركه للصلاة فيكون رده بأن المقياس لا يكون بالصلاة وإنما المقياس بأن يكون القلب نظيفاً فكم من مصلي يسرق الناس، فهنا نجد أن بهذا التزيين وبغلبة الهوى أصبح المصلي سارقاً بينما الذي لا يصلي هو الأمين المخلص النقي، فنقول هنا بأنه غلبت الشهوات والأهواء عليه وحجبته عن رؤية الحقيقة.

قد يكون هناك قسم من الناس يصلون ويعصون وذلك لغلبة الشيطان عليهم، لكن الصلاة هي قربان وكتاب موقوت وهي أحد المقاييس لطاعة الله عز وجل فإن قُبِلَت قُبِلَ ما سواها وهي عمود الدين، فهنا يتبين بأنه تغلب بعض القوة الشهوية وبعض الأفكار الخاطئة وتحجب العقل من أن يمارس دوره في رؤية الأشياء.

هناك مثال جميل يأتي به العلامة الطباطبائي يقول فيه: 

كالقاضي الذي يقضي بمدارك أو شهادات كاذبة منحرفة محرفة، فإنه يحيد في قضائه عن الحق وإن قضى غير قاصد للباطل، فهو قاض وليس بقاض.

نُقِلَ في التاريخ بأنه بعدما حدثت قضية المصالحة بين الإمام الحسن عليه السلام وبين معاوية أصبح المجال مفتوحاً بين الشام والعراق، ويذكر أحد الباحثين أن من فوائد مصالحة الإمام عليه السلام هو أن بلاد الشام اختلطت ببلاد العراق والمدينة وأثَّر ذلك في أن الأحاديث العراقية التي كانت ممنوعة من أن تصل إلى بلاد الشام انتشرت هناك حينها، لذلك يلفت بعض الباحثين إلى هذا الأمر ويقول: رأينا فيما بعد أنه أصبح لدينا رواة في فضائل أهل البيت عليهم السلام من أهل الشام بينما لم يكونوا موجودين من قبل، ويقول أيضاً: بأن أحداً من أهل العراق ذهب إلى بلاد الشام فتعلق به أحد الشاميين وقال له بأن الناقة التي عنده هي ناقته وقد أخذها منه في يوم صفين فأمسك ذلك الشامي بالرجل العراقي وأقام شهوداً على ذلك بان هذه الدابة للرجل الشامي، فعندما ذهبوا إلى القاضي قال لهم بأنهم شهدوا على ناقة أنثى وهذا ذكر لكنه مع ذلك حكم له وشهد له مع علمه بأن هؤلاء الشهود هم شهود زور، فأخذها ذلك الرجل الشامي.

لذلك نحرص على ألا نقدم للعقل مثل هذه الوثائق المزورة والكاذبة والأفكار الخاطئة حتى لا يستنتج من ذلك نتيجة خاطئة.

ثم يكمل العلامة الطباطبائي كلامه إلى أن يقول: 

فقد تبين من جميع ما ذكرنا: ان المراد بالعقل في كلامه تعالى هو الادراك الذي يتم للإنسان مع سلامه فطرته، فإذا لا يميل الإنسان إلى شهوات نفسية ولا يأتي بوثائق باطلة فإن العقل يهديه لأن الله خلق العقل وجعل فيه القدرة على رؤية الحق والباطل والخير والشر، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكمل لنا عقولنا وأن يجعلها تهدينا إلى صراط مستقيم إنه على كل شيء قدير وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.





مرات العرض: 3399
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (0) حجم الملف: 28415.23 KB
تشغيل:

تعريف العقل عند العلامة المجلسي 5
الاغتصاب بموعد مسبق 19