هذه حاجاتك الحقيقية فاطلبها من ربك 12
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 3/8/1441 هـ
تعريف:

 12 - هذه حاجاتك الحقيقية فاطلبها من ربك 


تحرير الأخت الفاضلة أمجاد عبد العال

مما جاء في دعاء الإمام الحسين (ع)، في يوم عرفة، والذي يستحب أن يقرأ في سائر الأيام، بل ينبغي أن تحفظ مقاطع منه ولو أمكن حفظ كل الدعاء لكان خيرا، لما فيه من التعليم والتهذيب والتربية وبناء العلاقة المثلى مع الخالق العظيم، جاء فيه: "اللهم اجعل غناي في نفسي، واليقين في قلبي، والإخلاص في عملي، والنور في بصري، والبصيرة في ديني، ومتعني بجوارحي واجعل سمعي وبصري الوارثين مني، وانصرني على من ظلمني، وأرني فيه ثأري ومأربي، وأقر بذلك عيني. اللهم اكشف كربتي واستر عورتي، واغفر لي خطيئتي، واخسأ شيطاني، وفك رهاني، واجعل يا إلهي الدرجة العليا في الآخرة والأولى"، صدق سيدنا ومولانا أبو عبد الله الحسين سلام الله عليه.

يعلمنا الإمام الحسين، في هذا الدعاء، وسائر الأئمة، في سائر الأدعية، أمورا كثيرة، يعلموننا صفات الله عز وجل، وهي مباحث ي التوحيد عالية. يعلموننا أدب الخطاب مع الله عز وجل، وهو في مبحث في الأخلاق والعبادة مهم، ويعلموننا أيضا حاجاتنا الحقيقية في هذه الدنيا. 

قسم من الناس يغفلون عن هدف حياتهم، وحين يغفل الإنسان عن هدف حياته، تراه يسير، ولكن على غير هدى. هل رأيت عبد الطاغوت؟ كما ورد في القرآن الكريم. هؤلاء يعيش الواحد منهم سبعين سنة، ولكن بدل أن يكون عبدا لله عز وجل، يكون عبدا للطاغوت، حركته، فكره، عمله، عمره، كله، في سبيل الطاغوت. ترى إذا جاء يوم القيامة هذا ماذا سيكون نتيجة أمره! عبدة الأهواء، تراه يركض من الصباح إلى المساء، لأجل إشباع غرائزه بحرام، بشبهة، بغير ذلك، لا يهمه. يستنفد عمره في عبادة فرجه، وبطنه، وأهوائه. ضيع البوصلة. لم يعرف هدف حياته، لم يعرف حاجاته الحقيقية. هنا يأتي دور الدعاء. من جملة ما يفعل: أنه يعرِّف الإنسان حاجاته الحقيقية، ويبصرِّه بها، ويدعوه بالتالي إلى السعي وراءها، والاستعانة بالله من أجل تحقيقها. وهذه الفقرات من جملة ذلك. 

"اللهم اجعل غناي في نفسي"، غنى النفس: لو أن إنسانا، صارت نفسه غنية، امتلك غنى في نفسه، ما مد يده إلى غير الله عز وجل، وما تطلع طامعا إلى ما عند الآخرين، وهذا - غنى النفس - لا يرتبط بالفقر المادي، لا، قد يكون إنسان مليارديرا، ومع ذلك هو فقير في نفسه، يطمع في كوخ إلى جانبه، وهو يمتلك القصور، ويطمع في زوجة عند شاب، وهو يمتلك الأموال ما يستطيع أن يأتي بأمثالها وأضعافها. النفس عندما تكون صغيرة، ضيقة، فقيرة، يبدأ الإنسان يمد عينه هنا وهناك، يريد أثاث غيره، وبيت غيره، ووظيفة غيره، وزوجة غيره، ومنصب غيره، وسيارة غيره. ومن هنا، يتكون الحسد، هذا هو من مناشئ الحسد، الذي يطمع في الإنسان، أحيانا، أن يزول خير غيره، ونعمة غيره، لكي تأتي إليه. أما غني النفس، لا يحركه شيء، مائدة طويلة عريضة تعرض عليه، وعنده خبز وجبن، يقول: الحمد لله رب العالمين، هذا يشبعني وذاك يتخمني. لا يمد عينه، هذا هو عين الزهد، أن لا يرجو ما ليس عنده مما هو عند الآخرين. 

"اللهم اجعل غناي في نفسي" لأن أي غنى آخر، من الممكن أن يزول، أما غنى النفس، والاكتفاء، والقناعة، والرضا بما قسم الله عز وجل، لهذا الإنسان، وعدم القفز هنا وهناك، تمنيا ورغبة، وسطوة، وسيطرة، هذه هي النفس الكبيرة العظيمة. يدعو الإمام الحسين (ع)، ويعلمنا أن ندعو ربنا أن يكون غنانا، ليس برصيدنا، غنانا ليس في جيبنا، غنانا ليس في حسابنا، وإنما غنانا هو في أنفسنا. وآنئذ إن كان رصيدي أعلى الأرصدة أو كان أدنى الأرصدة، لن يختلف الحال، بالنسبة لغني النفس في شيء. 

"واجعل اليقين في قلبي"، اليقين بدرجاته المختلفة. قالوا – كما في كتب الأخلاق – عندنا يقين، وعندنا عين اليقين، وعندنا حق اليقين. وقد أشارت آيات القرآن الكريم إلى عين اليقين وإلى حق اليقين. اليقين ليس معلومات، اليقين هو قناعة وعقيدة راسخة في القلب، في داخل النفس، تبدأ من اليقين بالله عز وجل، وأنه (من يتوكل على الله فهو حسبه)، (من يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب)، (ومن يتوكل على الله فهو حسبه)، يعتقد الإنسان متيقنا بعقيدة راسخة في قلبه أن الله سبحانه وتعالى، (ولن يتركم أعمالكم)، لن ينقصها عليكم، ستجدونها في يوم القيامة. 

يعتقد أن الله لا يخلف الميعاد، ينظر إلى مواعيد الله عز وجل، ويستيقن أن الله لا يخلف الميعاد، وإن تأخر عليه يوما أو بعض يوم. إذا رزق الإنسان اليقين نزلت الحياة عليه بردا وسلاما. أما إذا كان والعياذ بالله، في حالة شك دائم، شك في عقائده، شك في أحكامه، شك في أهله، شك في غيره، هذا مرض من الأمراض. اللهم ارزقنا اليقين في قلوبنا، "واليقين في قلبي، والإخلاص في عملي". 

لا يغرنك من نفسك كثرة العمل، وإن كانت كثرة العمل مطلوبة. كثرة الدعاء مطلوب، كثرة النوافل، مطلوبة، كثرة الصلوات مطلوبة، كثرة الإنفاق مطلوب. كل هذا مطلوب، ولكن المطلوب الأكثر فيه الإخلاص. بمعنى أن يكون كل ذلك، لله عز وجل. تتمثل، ونتمثل إن شاء الله في أعمالنا بما روي ونقل أن الإمام الحسين (ع) عندما ضرب بذلك السهم المثلث، وأخذ يتمايل على ظهر فرسه، وهو في طريق الهوي إلى الأرض، قال: بسم الله، وبالله، وفي سبيل الله، وعلى ملة رسول الله. يعني هذه الحركة، بل كل هذه الحياة، بدايتها كانت بسم الله، واستعانتي فيها بالله عز وجل، وهدفي منها وغايتي لها في سبيل الله عز وجل، وطريقة مشيي فيها، وأسلوبي، على ملة رسول الله. لو أن إنسانا أخذ في كل أعماله، هذا الطريق، بدايته: بسم الله، أنا أبدأ لا باسم غير الله، بدايتي: بسم الله، استعانتي: بالله، طريقتي، حتى في العبادة، العبادة، المستحبات، خاضعة للشريعة، خاضعة للأحكام.  لا يصح أن يأتي إنسان بأشياء مبتكرة من عنده، أو بأمور منقولة في غير المصادر المعتبرة، ويتصور أنه بذلك يقوم بعمل صالح. لا. لا بد أن تكون على ملة رسول الله، ضمن الشريعة، ضمن الأحكام، وغايتها، ونهايتها: أنها في سبيل الله. 

نحن نسأل الله أن يرزقنا الإخلاص في أعمالنا، وأن لا يجعل، أن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أبدا. وأن لا يجعل شهواتنا تحركنا، وأن لا يجعل الدنيا غاية لنا في أعمالنا. 

"والإخلاص في عملي، والنور في بصري، والبصيرة في ديني". البصر هو من أعظم الجوارح، سواء قلنا هنا النور، بالمعنى الفيزيائي الاعتيادي، وهو ناظر إلى قدرة الإبصار. وسيأتي فيما بعد، "واجعل سمعي وبصري الوارثين مني". فإن البصر لو فقد القدرة على الاستفادة من النور، سواء كان على ما هو عند القدامى، من أن آلية الإبصار تنتج عندما يخرج نور من البصر باتجاه شيء مبصَر، والمرئي. أو مما عليه المعاصرون، من أن النور من الطرف المرئي، يستقبله البصر، ويتحول بذلك إلى رؤية. المهم سواء كان القدرة على الاستفادة من النور المنبعث من الأشياء المرئية، أو كان بمعنى النور الصادر من الأبصار والعيون، باتجاه الأشياء المرئية، هذا إذا قلنا أن البصر هو المقصود منه البصر الحاسة. ولعله هو الأقرب بقرينة أن البصيرة طلبت - فيما بعد - في الدين، "والبصيرة في ديني". 

يطلب الإمام، ومن ورائه من يدعو، بأن يجعل الله البصيرة في دينه. فإن البصيرة ونفاذ البصيرة من أعظم النعم على الإنسان، يقول الله سبحانه وتعالى: (قل هذه سبيلي أدعو على بصيرة)، إن قسما من الناس يدعون، ولكن لم يفكروا في الخريطة من البداية. لم يفكروا في إمام الحق، لم يفكروا في دلالة ولي الله، فيعبدون ربهم بدلالة ولي الله، والمعصوم المنصوب من قبل الله عز وجل. فقد ترى شخصا حسن العبادة، كثير الذكر، ولكن أصل الخريطة فيها خلل. البصيرة فائدتها هنا. "لقد كان عمي العباس"، فيما ورد من الخبر، عن الإمام الصادق (ع): "لقد كان عمي العباس نافذ البصيرة"، مو بس على بصيرة، وإنما نافذ البصيرة. نحن نسأل الله أن يرزقنا البصيرة ونفاذ البصيرة في الدين، حتى لا تذهب تعبتنا وتعبنا أدراج الرياح. 

"ومتعني بجوارحي واجعل سمعي وبصري الوارثين مني" يطلب الإنسان من الله عز وجل طول عمره، ولكن طول العمر، المقترن بفقدان الجوارح، هذا أذى، للشخص ولمن حوله، لو أن إنسانا طال عمره مثلا، ولكنه بقي في هذا العمر، 20 أو 30 سنة، لا يسمع، لا يرى ولا يبصر، هل سيكون ذلك العمر، بالنسبة له، مريحا؟ هل مطلوب لهذا الإنسان؟ هل سيكون ذلك مسعدا لمن حوله من أهله؟ والدهم مثلا لا يرى ولا يسمع، ولا طريق للتواصل معه. ولا بد من رعايته، لا ريب أن هذا المصير سيكون مصيرا متعبا له ولمن حوله. ولذلك من المطلوب في الدعاء، أن يدعو الإنسان ربه بأن يمتعه بجوارحه، أن يبقي له قوته، بحيث لا يصبح بهذا النحو. وهذا التعبير موجود عندنا: "واجعلهما الوارثين مني"، أو: في موضع آخر، "قوتي واجعلها الوارثة مني" أو: "جوارحي واجعلها الوارثة مني"، لماذا؟ لأجل هذا الأمر. لأن العمر الذي يفقد فيه الإنسان فيه عافيته، يفقد فيه جوارحه، يفقد فيه حواسه، لا يكون عمرا مطلوبا. فكما تطلب للآخرة، اطلب أيضا للدنيا. فإن من بقاء جوارحك تستطيع أن تعبد ربك بالنحو الأفضل. بقاء بصرك يجعلك قادرا عل التعلم، والتعرف، إلى وقت طويل. بقاء سمعك هو أيضا كذلك. 

"وانصرني على من ظلمني، وأرني فيه ثأري ومأربي" المؤمن ليس عدوانيا، حتى يدعو على القريب والبعيد، وإنما من يظلمه، لا يستطيع الإنسان المؤمن أن يبادل الظلم بظلم، وإنما يطلب النصر من الله على ظالمه، والنصر له أساليب مختلفة. يطلب من الله سبحانه وتعالى، النصر. يطلب منه أن يريح قلبه من هذا الظالم، وأن يريه فيه، مآربه وغايته، ولأنه كما قلنا هذا المؤمن ليس عدوانيا، فلا يريد تمزيقه، لا يريد تشتيت عائلته، وإنما يريد أن يكفى شره. أن يبعد عن طريقه، أن يؤدبه الله سبحانه وتعالى، حتى لا يستمر في ظلم غيره.

"وأقر بذلك عيني"، لا ريب أن هذه الأم، التي ذهب أبناؤها ضحايا، وكانت تأمل منهم أن يكونوا عونا وسندا لها، ذهبوا ضحايا على يد ظالم، جائر من غير حق، لا ريب أن في قلبها حرقة باقية. عندما ينصرها الله على ظالمها، لا شك أن قرحتها تبرأ. لا شك أن عينها تقر وتستقر. 

ذلك الذي عاش أغلب عمره في سجن ظالم من الظلمة، وخسر عمره هكذا، لأجل شهوة من الشهوات، ولأجل حكم قضاء جائر، من قاض مرتش، وإذا به يفقد 30 سنة من عمره، زهرة شبابه تذهب وتنتهي. لا ريب أنه يبقى في داخل قلبه، ألم كبير. أوردوا قبل مدة من الزمان خبرا عن أمريكا أن رجلا من الجنس الأسود، الذي يقال لهم: الأفريقيين، الأمريكان، وهؤلاء في الغالب يتعرضون إلى عنصرية، من قبل قسم من البيض في أمريكا. أوردوا خبر أن هذا الرجل اعتقل وعمره 25 سنة في تهمة بالقتل، وحكم عليه بالسجن المؤبد، وحاول الدفاع عن نفسه ببراءته فلم يستطع. بعد 35 سنة، تبين للمحكمة أن هذا الشاب الذي أصبح عمره الآن 60 سنة، تبين لهم أنه بريء. وأنه لم يقتل أحدا، وأن القاتل شخص آخر. فجاؤوا إليه وأطلقوا سراحه. اللحظة التي أخبر فيها والدمعة التي نزلت من عينه، تهز الإنسان. شخص مظلوم بحكم قضائي جائر بهذه البساطة خسر كل عمره، 35 سنة، الآن ماذا يصنع فيما تبقى من عمره. لا ريب أن مثل هذا عندما ينصر على ظالمه من قبل الله عز وجل، وبواسطة عباده، تقر عينه، تهدأ نفسه.

"وأقر بذلك عيني. اللهم اكشف كربتي، واستر عورتي". العورة ليست فقط ما هو في المصطلح الفقهي من السوءتين المعروفتين اللتين يجب سترهما عن الأجنبي. وإن كانت هذه من أول ما يطلب الإنسان ستره من الله عز وجل. بل بالإضافة إلى ذلك: كل ما يُعرُّ به الإنسان، ويعتبر عارا عليه. أخلاقه السيئة هي عورة، وعار. أحقاده الدفينة، هي عورة وعار. يطلب الإنسان من الله أن يسترها. ذنوبه التي يرتكبها، لو كشفت ذنوبنا لبعضنا البعض، لكان الأمر مرعبا ومزعجا حتى قيل: لو تكاشفتم لما تدافنتم. 

نسأل الله أن يستر علينا عوراتنا وذنوبنا وأخطاءنا، وما يعاب منا، أن يسترها عن الآخرين، إنه ستار العيوب. "واغفر لي خطيئتي، واخسأ شيطاني، وفك رهاني واجعل لي يا إلهي الدرجة العليا في الآخرة والأولى". 

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل مفاد هذا الدعاء للمتكلم ولكل من يسمع ولعامة المسلمين إنه على كل شيء قدير. وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين. 


مرات العرض: 3382
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2573) حجم الملف: 42323.53 KB
تشغيل:

اجعلني أخشاك كأني أراك 11
لك الحمد كما خلقتني سميعا بصيرا 13