كيف نقضي على الحقد 32
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 5/6/1439 هـ
تعريف:

32 كيف نقضي على الحقد؟

كتابة الأخت الفاضلة أمجاد عبد العال

سيكون حديثنا - بإذن الله - تتمة لما كنا قد ذكرناه في أسابيع ماضية حول أحد هذه الأمراض الأخلاقية السيئة، وهو: مرض الحقد. هذه الصفة الذميمة، التي ورد النهي في الروايات عن أن تتسرب إلى الإنسان؛ لأن الحاقد، كما ورد في بعض الروايات، دائم الهم، متشتت الفكر. فضلا عما يصنع الحقد من دمامل في القلوب والنفوس، لا تلبث أن تنفجر في صورة انتقام، وفي صورة اعتداء وكيد، وهذه النتائج، دائرتها دائرة واسعة.

وللأسف. فإن بعض الأمراض الأخلاقية قد تكون دائرتها ضيقة ومحدودة. مثلا: قد تكون تؤثر على نفس الشخص، وقد تؤثر على أسرته. فلو كان إنسان - مثلا - بخيلا، وهذه صفة مذمومة، ولكن أثرها مباشر على حياته الشخصية وعلى أسرته والمحيطين به. ولكن بعض الصفات - كالحقد مثلا - لا تكون خاصة بنفس الإنسان في نتائجها، وإنما تكون أعم.

أحيانا يكون الحقد على مستوى الأديان. مثلا: المسلمون يحقدون على المسيحيين فرضا، أو اليهود يحقدون على المسلمين، أو اليهود يحقدون على المسيحيين. هكذا تصبح دائرة الحقد، لو وقعت، دائرة عالمية، دائرة كونية، دائرة إنسانية عامة. وهكذا الحال لو كان هناك حقد بين المذاهب. لو رُبِّيَ الإنسان في المذهب الفلاني على الحقد على أبناء سائر المذاهب. فإن هذا – أي الحقد - دائرة آثاره، ودائرة نتائجه، دائرة واسعة، وعلى مستوى الأمة. ذاك الوقت، أي منتم إلى المذهب الفلاني، عندما يرى أي منتم للمذهب الآخر، حتى من دون أن يعرفه، ومن دون أن يتعامل معه، ومن دون أن يتواصل معه، من الممكن أن يكون حاقدا عليه، أو مدمرا له قدر استطاعته. وهذا قد رأيناه في بعض البلدان، وفي بعض فترات التاريخ من الأمة الإسلامية.

وهكذا لو كان على أساس قومي. أنا العربي أحقد على غير العربي، أو أنا غير العربي أحقد على العربي. فتتسرب هذه الثقافة، ثم أي أحد من غير لغتي، ومن غير قوميتي، من الممكن أن لا أثق به، ومن الممكن أن أكيد له، وأن أتآمر عليه؛ تبعا لمخزون الحقد الذي رُبِّيتُ عليه.

لهذا ينبغي التأكيد على طرق مواجهة صناعة الحقد وتربية الناس عليه، سواء على المستوى الديني بين الأديان، أو بين المذاهب، أو بين القوميات، فضلا عما بين العشائر والأسر، وفي الحالات الشخصية.

لو فكرنا في أنه كم تنفق الأمم؟ لو فرضنا: حصل بينها تحاقد، ويكن على مستوى الأمة الإسلامية. فالأمة الإسلامية فيها مذاهب وقوميات وإثنيات مختلفة. فلو فرضنا أنه تمت صناعة الحقد، والتربية عليه، على أساس مذهبي أو على أساس قومي. كم ستخسر الأمة من الطاقات؟ من الأموال؟ من الأوقاف؟ من الكفاءات في التهديم؟

أنا صاحب هذا المذهب رقم 1؛ لأني أحقد على صاحب المذهب رقم 2، أبدأ في أن أكيد له، وأفسد عليه، فإذا هو موظف عندي، أحاول إلغاءه، ومضايقته في رزقه. كم من الحروب أحيانا قد تنشأ على أساس التعبئة الحاقدة على أساس مذهبي، أو - أحيانا - أساس قومي.

هذا يتكلم لغتي، ومن أصول نسبية كأصلي، وذاك الطرف الآخر لا يتكلم لغتي. خاضت الأمة الإسلامية حروب على أسس قومية. ولم يكن ذلك إلا بتعبئة الحقد في هذا الطرف ضد ذاك الطرف، فتبدأ الحرب. طبيعي ذاك أيضا سيواجه هذا.

وانظر كيف يكون بأس الأمة بينها، قوتها بدل أن تُفَرَّغَ في الإنشاء، والإعمار، والتقدم، والنتاج العلمي والفكري والتقني والديني، تصبح قدراتها، وقدرات قادتها الكبار: سياسيين أو علماء، وأموالها الطائلة، بدل أن تصرف في هذه الأمور النافعة لها. تصرف في: كيف أفسد خطتك؟ وكيف أحجِّم منك؟ وكيف أقلِّل من رأيك؟ وكيف أدمرك وأكبتك؟

لهذا من الضروري أن تتوجه أنظار المصلحين إلى إيجاد طرق ووسائل لمقاومة صناعة الحقد والتربية على الحقد. لا بد أن نفكر ويفكر المصلحون، والمؤمنون، والهادفون؛ لأنه ثمة مصلحة عند قسم من الناس في أنهم يصنعون الحقد. أنت الإنسان المؤمن، أنت الإنسان الهادف، أنت الإنسان الواعي، لا بد أن تفكر كيف تواجه صناعة الحقد، وتشيع المحبة بدل منه، والتوافق بدل الاحتراب.

هناك تعليم أساسي نلحظه في القرآن الكريم، يصل إلى حد التهذيب الأخلاقي الراقي جدا، كما جاء في كتاب الله عز وجل، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ  رَّحِيمٌ). هناك أجيال سبقتنا، تقدمت علينا، من الممكن، إذا ننظر إليها في إطار الإسلام، لأنه هنا، قال: (وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ)، وليس المراد بالإيمان هنا: المعنى الخاص؛ لأنه عندنا الإيمان بالمعنى الخاص، يعني: التشيع. لكن في القرآن الكريم، ما جاء من مفردات حول الإيمان، والذين آمنوا، ويؤمنون، فهذه كلها تعني الإيمان بالمعنى العام، وهو الذي يساوي الإسلام. فالأجيال التي سبقتنا في الإسلام وتقدمت علينا، أو جوارنا، نحن نستغفر الله لهم، ونطلب من الله لهم المغفرة. وسيأتي فيما بعد تفصيل بين فئتين. نتحدث عنهما، فلا تعجل.

إذن، هذا تعليم أساسي، لو استطعنا أن نعلمه أولا أنفسنا. نختلف مع شخص على فكرة، إذن، فليكن رأينا فيه: ربنا (وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا)، نختلف مع شخص في مرجعية، ربنا (وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا)، نختلف مع شخص في مذهب، ربنا (وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا)، أما ما هي مسؤوليتنا تجاههم؟ يأتي هذا فيما بعد. لكن ينبغي تطهير القلب من الحقد والغل. وأننا ندعو الله أن لا يكون في قلوبنا غل للمؤمنين والمسلمين. هذا أول شيء، لافتة من القرآن الكريم.

هناك شيء آخر، لنفترض أن شخصا من الأشخاص، كان ينبغي أن يُبْغَضَ من الناحية الدينية. فهناك فئات: العاملون بالفسق، بالمنكر، المفروض أن يواجهوا في المدى الاجتماعي بغير الترحيب، إذا كان مواجهتهم هكذا تؤدي إلى ردعهم عن المنكر. فلو أن شخصا من الناس، كان منحرفا، فاسقا، ناشرا للمنكر، عاملا به، وكان إبداء بغضي له، وعدم محبتي له، واكفهرار وجهي أمامه، مؤثرا في ردعه عن المنكر، فينبغي أن أفعل ذلك. بل ينبغي أن أبغض ما هو عليه من العمل السيء، والعمل الطالح. ولا ينبغي أن يكون بين الإنسان وبين فعل المنكر تطبيع. الزنا زنا. لا تقول حرية شخصية. هذا عمل محرم، وليس حرية شخصية. هذا توصيفه من الله عز وجل بأنه فاحشة، فلا معنى لأن تطبع العلاقة معه. الزنا كفعل محرم، ينبغي إبداء الضيق منه، حتى من الفاعل، إذا كان الفاعل يتأثر بهذا الإبداء. فيرى، مثلا، نوعا من الحصار الاجتماعي عليه، فيقلل أو يرتدع عن هذا الأمر.

لكن في نفس الوقت، هذا أيضا ينبغي أن يكون بحساب. الحساب ما هو؟ ما ورد في الحديث عن سيد الأنبياء محمد (ص)، وهو في مصادر مدرسة الخلفاء، "أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا، وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْنًا مَا". ونقل هذا في مصادر الإمامية عن أمير المؤمنين (ع)، بأكثر من شكل. مما يعني أن الإمام (ع) تحدث فيه في أكثر من موضع، مر بتفصيل، ومر باختصار.

فمثلا، في نقل، عن الشهيد زيد بن علي بن الحسين، عليه وعلى آبائه السلام - الشهيد زيد ابن الإمام زين العابدين (ع) الذي تنسب إليه الزيدية، وهو شخصية من الشخصيات العظيمة عند أهل البيت – وهو ناقل بواسطة، لا بد أن يكون بواسطة؛ لأنه لم يدرك أمير المؤمنين. عن أمير المؤمنين: "لَا يَكُنْ حُبُّكَ كَلَفًا وَلَا يَكُنْ بُغْضُكَ تَلَفًا، أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا، وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْنًا مَا". بعض الناس عندما يحب إنسانا يحبه بكلف. أرأيت الصبي الصغير كيف يتعلق بأمه، فيقولون فيه: كلِف الصبي بحب أمه. أي ما عاد يستغني عنها للحظة واحدة. فأنت في محبتك للأشخاص، لا تكن هكذا. وفي المقابل، لا يكن بغضك تلفا. فتبغض إنسانا، تكرهه، تحقد عليه، إلى حد أن تتلف أعصابك، وتنكد عيشك. فتصبح مشغولا فيه، لا تهنأ بنوم، ولا بجلسة، ولا بطعام، ولا بشراب، إلا أن تنتظر هذا أن يصيبه شيء. هذا تلف، أنت هكذا تتلف ماذا؟ تتلف نفسك. "وَلَا يَكُنْ بُغْضُكَ تَلَفًا، أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا"، باعتدال، " وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْنًا مَا"، لماذا؟ يقول: "عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ بَغِيضَكَ يَوْمًا مَا، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضُكَ حَبِيبَكَ يَوْمًا مَا"، لا تدري، الآن أنت أعطيت هذا الشخص المعين محبة الكلف، كالطفل بالنسبة إلى أمه. فجأة تغيرت المعادلات، المصالح، رأى منك شيئا لا يعجبه، أنت رأيت منه شيئا لا يعجبك، تغيرت العلاقة. أنت الذي متعلق به ذاك التعلق، تعلق الكلف، تؤذي نفسك.

وبالعكس، زيد من الناس بغيضك لجهة من الجهات. غدا، هو تاب عن تلك الجهة السيئة، أصبح آدميا، طيبا، صار إمام جماعتك أصلا. فماذا تصنع في حالتك ذاك الوقت؟ فينبغي التوازن والاعتدال. فإذا أصبح الإنسان هكذا، يخفف من غلواء الحقد، يكون البغض عنده بمقدار. يحب في الله، ويبغض في الله، بمقدار معقول، بمقدار ما يقتضيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. لا بمقدار التلف في الكره، ولا بمقدار الكلف في الحب. هذا أمر ثان.

أمر ثالث، ما يرتبط بعلاقة الإنسان مع المختلفين معه. المختلفون قد يكون مختلفين معك في دين، أنت مسلم وهم مسيحيون، أو وهم يهود. أنت مُوَالٍ لأهل البيت (ع)، بالاصطلاح: شيعي. وهم غير ذلك. قد تختلف مع آخرين بحسب اللغة والثقافة وما شابه ذلك. فهل لا بد في علاقتي، أنا المسلم، مع اليهودي أو المسيحي، أن أحقد عليه "حقد الزرقة" كما يقولون، أم لا؟

المفروض مني العكس في الحالة العادية، ما لم يكونوا من أئمة الكفر، ما لم يكونوا من شخصيات الانحراف المصرة على تحريف الناس، عامة الناس. وأكثر البشر هم غير هؤلاء. فهل لا بد أن أكون حاقدا عليهم، أو لا، أن أكون رؤوفا بهم وأتمنى لهم الخير؟

أنا لأني على دين الإسلام، وأستشعر الراحة فيه، فلا بد أن أتمنى لو أن كل البشر اهتدوا إلى هذا الدين العظيم. لو أن كل البشر أمكن لهم أن يعرفوا سيرة النبي (ص) حتى يعيشوا حياتهم طيبة، ويكونوا في القيامة من أهل الجنة. فهذا شعور ليس هو شعور حقد، هذا شعور شفقة، شعور رحمة، شعور رأفة. مختلف معك مذهبيا، تارة كما قلت: مهرج، ومتعمد، وإلى آخره، وهم الأقل، وتحرِّكهم عادة محركات معينة. وتارة يكون أكثر الناس – كما هو الحال – مختلفين معك مذهبيا لكن ليسوا من هذا الصنف، فهم غافلون عن هذا المذهب العظيم، هم غير واعين بما لأهل البيت من ميزات. فأنت ينبغي أن تستشعر الرحمة لهم والرأفة عليهم والشفقة، وأن تتمنى لهم من الله، وأن تدعو الله لهم، بالهداية إلى هذا المذهب. اللهم اهد فاسق هذه الأمة إلى صلاحه، واهد ضال هذه الأمة إلى هدايتهم، هذه هي الطريقة. وإذا أمكنك أن تبذل مالا من أجل أن تهدي إنسانا إلى هذا المنهج، أو تصرف وقتا، فعليك بفعل هذا معه. وهذا لا ينسجم مع أن تكون حاقدا عليه.

أريت بعضا من هؤلاء الذين يعتمرون الزي الديني، قد يكونوا ضالين أو يكونوا لا، مدفوعين. يأتي شخص من مذهب معين، ويوجه على التلفزيون، فيظهر في القنوات رافعا يده بالدعاء على من؟ على مذهب إسلامي آخر، على عامة الناس: اللهم أرسل عليهم الوباء، اللهم أرسل عليهم السرطان، اللهم جفف الدماء في عروقهم، اللهم كذا كذا كذا. رويدك! هون على نفسك. هذا إذا كان متحمسا فعلا، يُخشى عليه من جلطة على الهواء. أما إذا كانت القضية أنه كلما أثقل العيار زاد الأجر، فهذا الأمر سهل. هذا تمثيل. لكن لا ينسجم هذا مع طبيعة الإنسان المؤمن الذي يحب الخير كما خلقه الله سبحانه وتعالى.

الإنسان، فطرته، كما خلقه الله، محب للخير. فكيف أنت تأتي تدعو الله، والله لا يفعل، الله موظف عندك! الله سبحانه وتعالى لو يستجيب لهؤلاء ما بقي على ظهرها من دابة. الله يأمرك أن تدعو لغيرك بالخير. فإذا - في رأيك - هذا ضال، ادع الله لهدايته. إذا هو قليل العمل، يحرف الحقائق، لكن يقصر في العمل، ادع الله أن يعينه على القيام بواجباته. أما بهذه الطريقة، أن يعتبر الإنسان من يخالفه في المذهب، عدوا، وإذا يمكنه أن يدمره بالدعاء، فلا يقصر، يمكنه أن يدمره بالمسدس فلا يقصر، بالأعمال السياسية فلا يقصر، فماذا هذا! هذا طريقة إنسان مسلم، متق، ورع!

فهذه طريقة التعامل بين الإنسان وبين سائر المختلفين معه ينبغي أن تكون طريقة الرأفة والشفقة والرحمة. نعم، فيما إذا ارتبط الأمر بما عبر عنهم القرآن الكريم: بأئمة الكفر. فهؤلاء يعرفون الحقائق، ولكنهم يدوسون عليها بأقدامهم. هو يدري ليس بغافل؛ لهذا الأمر يختلف معه. هذا أمر آخر. بل إذا أراد أن يجتنب جهات الحقد في نفسه، وأن ينظر حتى إلى الجانب الفاضل في عدوه.

فعدوك ليس كتلة فساد، عقيدته مثلا فاسدة، لكن قد يكون على أخلاق، قد يكون على جدية في عمله. أنت ينبغي أن تثني على الجانب الحسن، وأن تنتقد الجانب السيء. وهذا يحتاج من الإنسان إلى سمو أخلاقي في هذا المعنى، كيف أن أعترف لعدوي أو مخالفي بأمر متميز فيه. في الرواية التي ينقلها الشهيد الثاني - رضوان الله تعالى عليه - في بعض مؤلفاته، يقول: مر نبي الله عيسى، على نبينا وآله وعليه أفضل الصلاة والسلام، على كلب ميت، جيفته ملقاة، وهي منتفخة ورائحتها مزعجة ونتنة. وكان الحواريون معه - والحواريون ليسوا ناسا عاديين - فكل منهم قبض على أنفه، وقال: "مَا أَنْتَنَ رِيحَهُ!"، فقال لهم النبي عيسى معلما: "بَلْ مَا أَشَدَّ بَيَاضَ أَسْنَانِهِ".

يعني حتى هذا الكلب، الذي هو نجس العين، الجيفة النتنة، يملك جهة إيجابية، انظر إلى تلك الجهة، وحاول أن تقول: أنا أولى بها منه. فلان، مثلا من اليهود، من المسيحيين، من غيرهم، عنده سخاء وكرم. عقيدته باطلة، لكن هذه الخصلة، خصلة حسنة، فتقول: أنا أولى بها منه، لا بد أنا أصبح كريما.

فلان مخلص في عمله، وهو يهودي أو مسيحي، أو من مذاهب أخرى. فلا تقل: لا يفيده هذا في شيء لأن عقيدته فاسدة، لا. بل قل: هذا حسن فيه، وفساد العقيدة شيء خاطئ فيه. أنا أولى منه بالإخلاص في عملي، أنا صاحب العقيدة والإيمان الصحيحين، فلا بد أن أكون أشد إخلاصا. لا تجعل نفسك بعيدا.

آخر الحديث، وهو أيضا تتمة لما سبق، التفريق بين الذات والعمل السيء. فهناك قسم من الناس يخلطون بين أعمال الناس وبين ذواتهم. فإذا أحب يحب ذات الإنسان، وإذا أبغض يبغض ذات الإنسان. عندنا في الروايات: "أَنَّ اللهَ قَدْ يُحِبُّ الْعَبْدَ وَيُبْغِضُ عَمَلَهُ، وَقَدْ يُبْغِضُ الْعَبْدَ وَيُحِبُّ عَمَلَهُ"، وفي هذا معنى أنه: ينبغي التفريق في الجملة بين الذات وبين الأعمال، إلا من استثني، وما استثني - كما قلنا - قبل قليل. لا تبغض بالجملة، ابغض بالمفرق، لا تحب بالجملة، أحبب بالمفرق والمفرد.

زيد من الناس عنده ثلاث صفات جيدة، وعنده خمس صفات سيئة. لا تقل: هذا لا يفيده في شيء، ولا ينتفع منه، لا. بل قل هذا، كما يقول القرآن الكريم: (خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا)، الصفات، رقم1 و2 و3، صفات جيدة لديه، فلو تمكنا أن نعينه أن تصبح تلك الصفات الجيدة بدل الثلاث، خمس وست وسبع، فهذا شيء طيب.

وكذلك في جهة المحبة. أنا أحب شخصا هكذا، هو عنيد، هو هكذا، عنيد، وأنا أحبه. ينبغي أن تقول: هذه الصفات غير الحسنة عنده، صفات سيئة. وإن كان محبوبا عندي، لكن هذه الصفات صفات غير محبوبة. لو أستطيع أن أساعده في التخلص منها، شيء جيد. فإذا لا أساعده، لا أقل من أن أتأثر به في مصاحبتي له. وقسم من الناس هكذا، على أثر محبتهم لشخص يتأثرون بأخلاقه السيئة. فلا بد أن أميز أولا: محبتي، أن لا تكون محبة كلف، وثانيا: أن أفرق بين هذه الصفة الحسنة وتلك الأخرى السيئة.

بهذه الأمور وبأمثالها نستطيع أن نواجه صناعة الحقد، وأن نحارب التربية على الحقد، فنصنع مجتمعا بشريا وإنسانيا وإسلاميا متحابا قدر الإمكان، إذا استثنينا من أطلق عليهم القرآن الكريم: أئمة الكفر ومن شابههم. فعامة البشر ينبغي أن يكونوا خاضعين لهذا الإطار.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من أحبابه، ومن محبي عباده الصالحين، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.

 

 [

مرات العرض: 3402
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2588) حجم الملف: 3371.99 KB
تشغيل:

ما هو رأس الأمراض الأخلاقية 39
ثواب الأعمال : مقدمة في كتاب الصدوق 1