أهداف العبادات ومقاصدها 4
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 4/9/1439 هـ
تعريف:

أهداف العبادات ومقاصدها

تفريغ نصي الفاضلة غدير الغزيوي

تصحيح الفاضلة افراح البراهيم

قال تعالى( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون* ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون* إنّ الله هو الرزاق ذو القوة المتين)١
الحديث يتناول أهداف العبادات ومقاصدها والغاية التي نتوصل لها من تشريع العبادات.
إنّ الله تعالى خلق هذا الكون خلقًا هادفًا ، وقد أخبر الله أنّ هذا الخلق كان لغاية ولم يكن عبثًا فقال ( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين* لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين)٢
قد لا يعرف الإنسان تمام الغاية من خلق هذا الكون وقد يعرفها بالكامل وقد يعرف جزءًا منها ، ولكنّ خالق هذا الكون ومكون هذا الوجود أخبر بأنّ هذا الخلق وهذا الكون جاء لأجل غاية وهدف، وأنّ التأمل في أجزاء هذا الكون وفي نظامه البديع ودقته في الصنع ينتهي بالإنسان إلى أنّ هذا الخلق  لابدّ أن يكون هادفاً لذلك، فالذين يتفكرون ويتأملون في الكائنات وعجائبها ودقيق صنعها ينتهي بهم الأمر إلى قوله تعالى( ربنا ما خلقت هذا باطلًا سبحانك فقنا عذاب النار)٣
فهذا الكون لم يخلق باطلًا ولم يترك سدى ، فالمفترض أن ينتهي إلى غاية، وهذه الغاية بالنسبة للإنسان هي إما الجنة وإما النار، فالذين يتفكرون في خلق السموات والأرض يستعيذون بالله من أن يكون مصيرهم إلى بالنار، إذن فهذا الكون خلق من أجل غاية وهدف، لهذا لا يمكن أن يترك المخلوقين سدى ، ومادامت كلّ المخلوقات خلقت لغاية ومنها هذا الإنسان فلابدّ أن يكون هناك تكليف، وصاحب الغاية لابد أن يضع برنامجًا ، على عكس الذي لا يمتلك غاية وبالتالي لا يحتاج إلى برنامج، مثل الطفل ذو السنتين أو الثلاث
سنوات ، يعبث في مجموعة الألعاب، يرفع هذه ويحرّك تلك، وبالتالي لن ينتهي إلى نتيجة معينة لأنّ أقصى غايته هي اللعب، أما الذي له غاية حتى لو كان طفلًا مميزًا ، ويريد أن يصنع من هذه المكعبات بيتاً ، لابدّ أن يكوّن له برنامجًا معينًا ، وأن يسير على مسار معين ينتهي بتركيب هذه الأشياء بصورة منزل أو طائرة.
هذا الكون بما فيه من مخلوقات قد خلق لهدف وغاية، وأعلى مخلوقاته هو الإنسان على صغر حجمه وجرمه، وقد نسب إلى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام هذه الأبيات :

وتحسب أنّك جرمٌ صغير      وفيك انطوى العالم الأكبر

 فهذا الإنسان قد وصف الله خلقه بأحسن تقويم ( ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) ٤
وعندما أتمّ خلقه جعل الروح فيه ( ثم أنشأناه خلقاً آخر تبارك الله أحسن الخالقين)ه
فهذا الإنسان هو أعظم وأشرف وأعقد مخلوق على صغر حجمه، فلا يمكن أن يكون قد خلق إلا لأجل غاية وهدف وغرض، وقد أخبر الله تعالى عن هذا الغرض بقوله ( وماخلقت الجن والإنس إلا ليعبدون* ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون* إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين)

لو توقّفنا عند هذه الآية المباركة وتحدثنا عن هذا التركيب ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) يختلف عن قول( الجن والانس) فوجود النفي الذي يأتي بعده و الاستثناء يدلّ على قوة التركيب والحصر، وتعني ما خلقت الإنس والجن إلا لشئ واحد وهو العبادة ، وهذه العبادة لها معانٍ متعددة ، ولها شمولية.
العبادة هي غاية التذلل مع الطاعة والحب من قبل العابد للمعبود، فالإنسان من الممكن أن يتذلّل في أشد درجات الذل ومع ذلك لا يكون عابداً، كظالم يأتي فيذل الإنسان بقوته ويقهره بسلطانه، ولكنّ الإنسان الذي ذلّ من أجل ذلك الظالم ليس عابداً له، لأنه أطاعه جبراً وقسراً، فالعبادة ذلٌ مع طاعة ومحبة، إذن فغاية خلق الإنسان أن يكون عابدًا
( يعبدون) فيها نوعان من العبادة على قول بعض المفسرين:

*عبادة قسرية جبرية
* عبادة اختيارية طوعية

- العبادة القسرية هي عبادة كل المخلوقات ( فقال للأرض والسماء ائتيا طوعاً او كرهاً قالتا أتينا طائعين)٦
فالسماء بما فيها والأرض بما فيها من مخلوقات عاقلة وغير عاقلة هي في موقف عبودية لله تعالى، وذلك يعني أنّها  متكلة ومعتمدة على الله، ومجبورة أن تتّبع النظام الذي وضعه الله لها، فهذه عبودية مطلقة ( لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكلٌ في فلك يسبحون)٧
فلا الشمس تغير مسارها باختيارها، ولا الليل يسبق النهار ، ولا النهار يسبق الليل، ولا الأفلاك تنزل ولا الشجرة تمتنع عن النمو ولا النخلة في إعطاء الثمر، فهي مقسورة على ذلك إلا لو كان من أصل خلقتها، فلا سبيل لها أن تقرّر وتختار، السماء عبد والأرض عبد وكل المخلوقات عبيد لله بعبودية قسرية جبرية لا تمتلك تغييرها، مثل البدن فهو عبد لله قهراً، فالقلب يعمل ضمن منطق العبودية فهو يتحرك من غير إرادتنا ، ونتنفس بغير إرادتنا، كل هذه العمليات هي عبودية وطاعةٌ قسرية لله ككل الكون.
- العبادة الاختيارية هي عبادة طوعية، أي أنّ الله أوجب عليه أمورًا وترك له الخيار أن يفعل أو يترك، مثل الصلاة قال له صلِ ، فإن وفّق صلى واهتدى لله، وإلا كان له أن يعصي ربه ويتمرد على أوامره.
خلق البشر والجن كان من أجل العبادة الطوعية الاختيارية، والعبادة هي تقديم واستجابة للمعبود ، فإذا طلب شخص من آخر شئ واستجاب له، فإما ينتظر التكريم منه أو الثمن، أما الله سبحانه وتعالى فإنه يقول (ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون)٨ لماذا؟؟ لأنّ الله هو الرزاق، والذي يحتاج لرزق وثناء وتكريم الغير هو المحتاج، أما المعطاء الرزاق فلا يحتاج ، المحتاج للتكريم محتاج لأن يقوّي نفسه لأنه ضعيف، ودائمًا يتساءل لمَ لم يمدحني لمَ لم يشكرني أحد ؟؟
وهذا يعني أنّ لديه ضعف وخلل يرمّم به نفسه من خلال شكر وثناء الغير.
(ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون* إنّ الله هو الرزاق ذو القوة المتين) الله هو الذي يعطي القوة وهو غير محتاج للثناء والحمد.
يقول أمير المؤمنين (إنّ الله خلق الخلق حين خلقهم غنيًا عن طاعتهم آمناً من معصيتهم، لأنه لا تنفعه طاعة من أطاعه ولا تضره معصية من عصاه)٩، ولذلك نحن نعترف بقولنا بعد الصلاة في هذا الدعاء( اللهم هذه صلاتي صليتها لا لحاجة منك اليها ولارغبة منك فيها ولكن تعظيمًا واجابة لما أمرتني به)١٠
إذن فالكون والخلق هادف، والبشر والجن خلقوا لأجل العبادة التي قد تكون قسرية يشترك فيها كل المخلوقات مع الإنسان، وقد تكون اختيارية إرادية مثل الإنسان، كأن يكون في البيت شخص مطيع وآخر عاصٍ، شخص مصلي وآخر تارك للصلاة، فهذا اختار العبادة وذاك لم يخترها، إذن فغرض خلق الإنسان هو أن يكون عابدًا لله.

- العبادات توقيفية

لو نظرنا للعبادات التي طلبت منا لوجدنا أنّها ضمن برنامج بنظام معين وليست على أي طريقة كانت،
وهذا مقصد فقهاء الإسلام بقولهم أنّ العبادات توقيفية ( أي أنها غير متروكة لاقتراحات الإنسان) كأن يأتي شخص ويقول أريد عبادة الله بطريقة اليوغا الهندية( أي أنه يجلس بطريقة معينة ويركز نظره على نقطة معينة) أو شخص آخر يقول أريد عبادة الله من خلال الموسيقى ( أي أنّني عندما استمع للموسيقى تحلّق روحي وتلتقي بالله) أو عبادة الله من خلال الرقص ( وهو طريقة لتخلي الجسد واستبطان الروح) وهذا ما يصنعه الدراويش .
هذه الأنماط ليست عبادات لأن العبادا ت كما ذكرنا ليست اقتراحية وإنما هي توقيفية بنظام وطريقة معينة، وهناك تيار يعرف بتيار العرفان المنفلت عند بعض العرفاء يقولون فيه أنّ الصلاة والركوع والسجود ماهي إلا عبادة العوام ، أما عبادة العارفين فهي التأمل والتفكر ولا يحتاج الإنسان للصلاة ، وهذا كلام لاصحة له، فالعبادات برنامج دقيق محدود توقيفي لا يقبل بغيره، لذلك إذا جاء أحدهم وقال كما يقولون أنّ الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق ،  والعبادات كذلك فالصلاة طريق للعبادة وكذلك الموسيقى، نستطيع الصيام ونستطيع الرقص كذلك، فهذا الكلام لا صحة له، وقول أنّ الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق قول مشبوه جاء في الثقافة العامة عند المسلمين ولا أصل له ، وهو خاطئ حتمًا، وقد يكون صحيحًا بمعنى وخاطئ بمعنى آخر، لكن في النهاية هو  ليس بآية ولا حديث، وإنما هو مجرد قولٍ طرحه بعض العرفاء ثم تناقلوه.
إذن فالعبادات توقيفية وليست اقتراحية، برنامج محدود دقيق جدًا بالسفر والحضر ( من شهد منكم الشهر فليصمه) ١١
( من كان مريضًا أو على سفر)١٢
 لا يجوز له الصيام ( فعدة من أيام أخر) ١٣ فإذا صام وهو مريض مع علمه بالضرر الذي سيترتب عليه فصومه غير صحيح ويحتاج لصيام يوم آخر، ولو صام وهو مسافر ويعلم بالسفر حكمًا وموضوعًا فعليه صيام يومٍ آخر، لأنّ برنامج العبادة دقيق .

- أهداف العبادات
هذا البرنامج العبادي له أهداف وغايات وأغراض، فالكون خلق لهدف ، وكذلك خلق الخلق ، ونحتاج لمعرفة الهدف وهو العبادة التي تنقسم إلى جبرية قسرية واختيارية طوعية، والعبادة توقيفية كما ذكرنا وليست اقتراحات بل برنامج محدد كما ذكرنا  له أغراض وغايات ولذلك شرعت في الدين الإسلامي وسائر الأديان ، وهناك اهداف كلية للعبادات وأخرى تفصيلية.
وعلى الإنسان أن يعبد ربه حتى لو لم يعرف غاية العبادة وحتى لو اعتقد أنّه لا غاية فيها، فلنفترض أنّ الصلاة لا فائدة منها،( وإن كانت لها كل الفوائد) فيجب على الإنسان أن يصلي ويطيع ربه بغض النظر عن الفوائد المترتبة على عبادته،
فالإنسان مخلوق لله ومملوك له ومنعم عليه من قبله، ولولا نعمة الله لكان شيئًا غير مذكور، وربما كان من جملة ذاك السائل المنوي التالف نسيًا منسيًا لا يُذكر، وربما قد يكون جزءًا من دم الدورة الشهرية الذي لم يلتق بالحويمن فأصبح بويضة تالفة، فالله سبحانه قد أنعم عليّ وعليك وعلى كل الوجود بأن خلقهم ولم يكونوا شيئًا مذكورًا، كان من الممكن أن نكون أعدامًا وأمواتًا لكنه تعالى خلقنا وكان ذلك الخلق هو بداية النعم، ففي دعاء الإمام الحسين يوم عرفة يعدّد الإمام نعم الله على  الإنسان منذ بداية الخلقة إلى أن أنعم الله عليه بالهداية إلى طريقه ( كفلتني الأمهات الرواحم ... وألبستني الرياش وسلكت بي طرق المعاش) ١٤
فالإنسان الذ ي خلق بهذه الطريقة ولم يك شيئا مذكورًا وكان من الممكن ألا يكون هو عبد لله ، فالله عندما يأمره بالصلاة ليس له حق أن يسأل إن كانت الصلاة ذات فائدة أم لا، فهو مأمور بمقتضى المالك والمملوك، وعليه أن يستجيب لله حتى لو تصوّر عدم الفائدة، إلا إذا خرج من سلطان الله ونعمته ولم يتنفس من الهواء الذي خلقه الله ولم يشرب من الماء الذي أنزله الله ولم يستمتع بالشمس التي خلقها الله، فالقاعدة الاصلية هي أنه ولو كانت العبادة بلافائدة فيجب على الإنسان الإطاعة لأنّ هذا مقتضى قانون العبودية والربوبية، فالله خلقك ورباك وأنت عبد داخر لايملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، فيجب عليك عبادة ربك ، وفوائد العبادات لا حصر لها، فالله سبحانه يعرفك ويعرف ما توسوس به نفسك وهو أقرب إليك من حبل الوريد ولذلك وضع لك برنامجًا خاصًا لك يصعد بك إلى اعلى المدارج.

١ - الغايات الكلية

أولا / هذه العبادات تحقّق الغرض من خلق الإنسان، ففي الآية نفى واستثنى ليدل على الغرض الوحيد من خلق الإنسان ألا وهو العبادة، فإذا حقّقه فهذا يعني أنّه حقّق غرض وجوده.
*مدير شركة أعطيته مبلغًا طائلًا وقلت له: أريدك أن تحقّق غرضًا واحدًا وهو تحريك ميزانية الشركة من مليون إلى خمسة ملايين خلال خمس سنوات، إذا نجحت في هذا فأنت مدير ناجح وستستمر، وإذا لم تنجح فأنت خاسر وستطرد ، بعد خمس سنوات إذا أعطاك الميزانية كما طلبتها فهو حقّق غرض وجوده لأنه مدير ناجح.
وإذا حقّق النصف فهو نصف فاشل، وإذا لم يحقّق شيئًا فستطرده، وكذلك الإنسان إذا حقّق غرض وجوده في الحياة وهو العبادة فكأنما عمل ما أراده الله.
ثانياً / إنّ العبادات تحقّق العزة للإنسان بعبادة الله بينما غيره ذليل بعبادة الآلهة المتعددة، وهذا الإنسان يجد ضغطًا من شهواته وأهوائه إلى درجة أنّه يصبح عبدًا للهوى، فبعض الناس يتمثل فيهم قوله تعالى ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) ١٥ فيقتل من أجل شهوته الجنسية، ويعمل ليل نهار ليشبع بطنه حرامًا، ويعتدي على الآخرين ويمزّق العوائل والصداقات ،  وقد يقطع رحمه من أجل شهوة بطن أوشهوة فرج وسمعة مدح، فهذا الإنسان يقوده هواه وشهواته في الحياة، وهو متعدد الآلهة، بينما الذي يعبد الله يعتزّ بعبادة الله فترى حياته مستقيمة على منهاج الله. فيصبح كبيرًا وعزيزًا ، كما قال الإمام علي عليه السلام ( إلهي كفاني عزًا أن أكون لك عبدًا) ١٦ لأنّ غيري عبد لشهواته وسلطانه وطعامه، وأحيانًا تنتهي هذه العبادات بالإنسان إلى الموت، فكم شخصّ مات في سبيل شهوته أو لأجل مال، ونحن بحمد الله نسير على خطى أمير المؤمنين بعبادة الله، ولا نفتقر الا اليه( اللهم اغنني بالافتقار اليك ولا تفقرني بالاستغناء عنك)١٧ فكلما احتجت لله وخضعت وتذلّلت له فأنت عزيز وغني وقوي، بينما ذاك المستغني عن الله فهو ذاهب إلى عباد الله كسلطان جائر أو جاهل يزيده جهلًا، فيطلب من جاهل أجهل منه أن يعطيه مطلوبه كمشعوذ يدعي إعطاءه طفل حرم منه أو محبة زوج ، فهذه الأمور كلها جهل وظلال ، فالإنسان يقول في الصلاة:  بحول الله وقوته أقوم وأقعد، فليس لي حول ولا قوة إلا بالله، فعند التوجه لله نستغني عن جميع الآلهة والضغوط والمؤثرات، وهذا الغرض الثاني من العبادة، بأن تكون في الله ومن الله وإلى الله عز وجل.

ثالثًا/  السمو الروحي، فالإنسان روح عطشى للقاء ربها، ونفس تواقة للاطمئنان الذي تجده عند ذكر الله (ألا بذكر الله تطمئن القلوب)١٨
فالروح ترتاح عند خالقها (قل الروح من أمر ربي) ١٩
وهذه الروح عندما تلتقي بالله بالاستغفار والتوجه تتخلص من الجسد وحاجاته، فيرتاح الجسد وما أعظم لذة راحة الروح مقابل راحة الجسد.
فهذه الأمور تحقّقها العبادات، تحقّق غرض الإنسان في أن تتجلى فيه العبادة لله (إلا ليعبدون)
والعبادة لله تبعد العبادة لغيره وطاعة العبادات المتعددة والشهوات ، فتكون العبادة لصالح الإله الواحد وتسمو بروح الإنسان إلى حيث خلقها الله.

٢- الغايات التفصيلية
أما الغايات التفصيلية للعبادات فكل عبادةٍ تركّز على جانب،

- فالصيام (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) ٢٠ ، يحقّق قوة النفس وقوة الإرادة لتتقي المزالق والمهالك.
- والصلاة تأتي لتكون ذكرًا دائمَا لله( وأقم الصلاة لذكري)٢١ لأنّ الصلاة كلها ذكر، قولها ذكر وفعلها ذكر وركوعها ذكر وسجودها ذكر وآياتها ذكر.
فكل عبادةٍ من العبادات فيها غاية وغرض تفصيلي وهي في الهدف  العام تحقّق ما ذكرناه، ولعل سائلٌ يسأل ويقول: نرى بعض الناس لديهم مقدار كبير من العبادة فهو يصلي مع الجماعة ويصوم ويقوم ببقية العبادات ولكننا لا نرى أثر العبادة في سلوكه، وهذا المصلي في أول صفوف الجماعة ظالم لزوجته معنّف لابنته ومانع لها من الزواج، وذاك الصائم سارق لميراث إخواته ومحتجز لأموال إخوته فهو ظالم وسارق، فكيف تقول أنّ العبادات تحقّق هذه الأمور؟
الجواب على ذلك أنّ العبادات تحقّق هذه الأغراض في النفوس القابلة للزراعة، فعندما تزرعها وتضع البذور وتسقي الأرض فستنبت شجرة، أما إذا كانت الأرض سبخة فهل ستعاتب البذرة على عدم إنباتها أم ستعاتب الماء الذي لم يُنبت الشجرة؟ بل ستعاتب الأرض السبخة، فهذا الإنسان إذا كانت نفسه غير مهذبة وجائرة وظالمة فهذه العبادات قد لا تؤثر فيه ذلك التأثير المطلوب، الأمر الآخر وهو أيضًا إشارة لهذا المعنى ، إذا كان لديك مكان وسخ بمقدار شبر من القذارة والنجاسة، فستحتاج دلوين من الماء ليطهّر وتزول الأوساخ، ولكن إذا كان الوسخ كثيرًا فسيحتاج إلى أكثر من دلوين لتنظيفه، أحد العلماء يقول( الماء إذا بلغ قدر كر لم ينجسه شئ) فالماء القليل مثل ماء الإبريق أو القدر والذي يكون أقل من كر عندما يسقط فيه شئ من النجاسة ولو كان قليلًا فإنه نجس، مثل قدر به ماء تنجّس بقطرة بول، فطريقة تطهيره تكون بالماء الجاري أو الماء الكثير.
أما الماء الكثير وهو ما بلغ كر مثل ماء البانيو الذي يكون ثلاثة أشبار طولًا وعرضًا، فإذا وقعت فيه قطرات بول فإنه لا يتنجس إلا إذا تغير لونه أو طعمه أو ريحه، أما إذا لم يحصل ذلك فهو غير نجس.
أحد العلما الظرفاء كان يقول (وإذا بلغت النجاسة قدر كر لم يطهرها شئ)
هناك نفوس لشدة ذنوبها وكثرة تجاوزاتها على الشرع تتحوّل إلى قدر كر من النجاسة، فمالذي سيطهرها؟ ، فالصلاة والصلاتين لا تكفيه، بل يحتاج إلى  أربعة وعشرين ساعة صلاة وصوم حتى يطهّر نفسه، فبعض النفوس لديها من الحقد والبغضاء والذنوب ما مُلئت به نفسه، فلا تؤثّر فيه الصلاة اليومية ولا حتى صلاة إحدى وخمسين، وإنّما يحتاج طوال الوقت إلى الصلاة ليتغيّر، لذلك نرى أشخاصًا مارسوا المنكر بأبشع صورة وهم يصلّون، لكن الصلاة لم تؤثر فيهم لأنّ نفوسهم وصلت من القذارة إلى حدٍ عظيم، فالذين كانوا في كربلاء أمام الإمام الحسين كانوا يصلون ،  فحتى لو كان لدى الإنسان الكثير من الأعمال الباطلة فيجب عليه إقامة الصلاة، وليس صحيحًا قول البعض أنّه إذا لم تمنعك الصلاة عن الفحشاء والمنكر فمن الأفضل أن تتركها، حتى لو صلى ثم ارتكب المنكر، لاتقل لأحد أبدًا: إما أن تصلي وتلتزم بأمور الصلاة وتستقيم وإلا فلا تصلي، إما أن تصوم وتترك السرقة أو لا تصوم، ذلك القول حرام فذاك واجب بمكانه وذاك واجب اخر، فالنصيحة الأفضل له هو أنّه كلما زادت النجاسة كلما احتجنا لماء أكثر، كلما زادت الخباثة كلما احتجنا لعبادات أكثر لغسلها، فالذين كانوا في كربلاء كانوا يصلّون لكن مقدار صلاتهم لم يكن كافيًا لتطهير تلك النفوس التي ملئت بطون أصحابها من الحرام، فالصلاة تؤثر بمقدار لا يُذكر أمام حجم القذارة التي في نفوسهم، وإلا فالصلاة تعين ويُستمسك بها ( وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين)٢٢ ، وكذلك في الأزمات والمشاكل والقضايا الصعبة( إنّ الإنسان خلق هلوعًا* إذا مسّه الشر جزوعًا* وإذا مسّه الخير منوعًا* إلا المصلين) ٢٣ فهم يمنعون التأثير الطبيعي من الهلع والجزع والبخل على الأموال، فالصلاة ترفع الإنسان إلى مستوى المقاومة في مواقع الشدة ، ولذلك تمسّك بها سادتنا وقادتنا في أروع صورة، فقد كان الإمام زين العابدين كثير الصلاة والعبادة، وهو معروف بهذا اللقب من قبل مجيئه للدنيا، ورد عن النبي فيما ورد فيه ذكر الإمام بزين العابدين ، فالإمام الباقر ينقل عنه أنّه كان يقوم عامّة ليلته ويقضي أكثر وقته في الليل بالعبادة، فإذا تعب قال لابنه الباقر عليه السلام : بني عليّ بصحيفة جدك علي بن أبي طالب، فيأتي الإمام الباقر بصحيفة الإمام فينظر لها زين العابدين طويلًا ثم يلقيها ويقول: أف، من يقدر على عبادة علي بن أبي طالب، فالأئمة هم الذين يقال عنهم حقاً ( إلا ليعبدون)، وهم القدوة لنا، فلو نظرنا إلى حالهم وحالنا لوجب علينا أن نبكي على أنفسنا، عدة ركعات نصليها بأي توجّه وأي كيفية ونمنّ بها على ربنا، وكل أحد يتصوّر نفسه في قوله تعالى ( وعباد الرحمن) ٢٤
و لكن أين هم وأين نحن؟؟
نسأل الله أن يوفقنا للسير على منهاجهم..
٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠
١ سورة الذاريات آية ٥٦ ٥٨.٥٧
٢ سورة الأنبياء آية ١٧.١٦
٣ سورة آل عمران آية ١٩١
٤ سورة التين آية ٤
٥ سورة المؤمنون آية ١٤
٦ سورة فصلت آية ١١
٧ سورة يس آية ٤٠
٨ سورة الذاريات آية ٥٧
٩ خطب نهج البلاغة رقم ١٩٣
١٠ بحار الأنوار ج٨٣ ص٣٨
١١ سورة البقرة ١٨٥
١٢ سورة البقرة ١٨٥
١٣ سورة البقرة ١٨٥
١٤ دعاء عرفة شبكة رافد للتنمية الثقافية
١٥ سورة الجاثية آية ٢٣
١٦ موقع الحيدرية
١٧ مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح
١٨ سورة الرعد آية ٢٨
١٩ سورة الإسراء آية ٨٥
٢٠ سورة البقرة آية ١٨٣
٢١ سورة طه آية ١٤
٢٢ سورة البقرة آية ٤٥
٢٣ سورة المعارج آية ٢٢.٢١.٢٠.١٩
٢٤ سورة الفرقان آية ٦٣

مرات العرض: 3489
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2554) حجم الملف: 61353.63 KB
تشغيل:

2/ هل للنبي صلوات الله عليه حق التشريع في الدين
تاريخ تشريع الوضوء وفلسفته 5