وظيفة الشكاك في العبادات 22
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 25/1/1439 هـ
تعريف:

الشك والوسوسة في العبادات


كتابة الأخت الفاضلة أمجاد حسن


بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أبي القاسم المصطفى محمد
وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين المعصومين المكرمين
ورد في الخبر المعتبر، عن عبد الله بن سنان، قال: قلت لأبي عبد الله جعفر بن محمد (ع): "رَجُلٌ مُبْتَلَى بِالوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ، وَهُوَ رَجُلٌ عَاقِلٌ، فَقَالَ - أي الإمام الصادق: وَأَيُّ عَقْلٍ لَهُ وَهُوَ يُطِيعُ الشَّيْطَان، قلت: وَكَيفَ يُطِيعُ الشَّيْطَان؟ قَالَ: سَلْهُ، هَذَا الَّذِي يَأْتِي لَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ هُوَ؟ فَإِنَّهُ يَقُولُ لَكَ: مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ".
الرواية يسأل فيها أحد الأصحاب، الإمام (ع)، يقول له: عندنا رجل من أصحابنا عاقل لكن مبتلى حين الصلاة وحين الوضوء، يكرر الوضوء ويشك فيه، ويعيد، ويكرر، وهكذا الحال بالنسبة للصلاة. مع أنه رجل عاقل، فاهم. فالإمام (ع)، قال له: وأي عقل له وهو يطيع الشيطان!
أي هو عندما يقوم بهذه الأعمال، ويتصور أنه يضبط أمر الصلاة، ويضبط أمر الوضوء، وأن كل ذلك في مرضاة الله؛ حتى يتأكد أن الصلاة التي أتى بها، والوضوء الذي أتى به، مضبوطان وعلى القاعدة. بينما هو في الواقع يطيع الشيطان. فقال عبدالله بن سنان مستغربا من ذلك: "وَكَيفَ يُطِيعُ الشَّيْطَان؟"، كل هذا المكوث في الحمام، مستخدما كذا من اللترات، وهو لا يزال إلى الآن لم يتمم الوضوء، هو لا يطيع في هذا الشيطان، وإنما يحاول أن يجعل وضوءه وضوءا صحيحا. فقال الإمام (ع) له: "سَلْهُ"، أي: اسأله، هذا الذي يأتيه ويقول له: أعد الوضوء، وضوؤك باطل، لم تغسل اليد اليمنى، لم تغسل اليسرى، لم يصل الماء إلى كل مكان، هذا من أين يأتيه؟ وحي ينزل عليه مثلا؟ جبرائيل يجيئه، سيقول لك: هو من عمل الشيطان. الشيطان هو الذي يقول لي هذا الكلام، فهذه طاعة الشيطان. لما الشيطان يقول له: لم تغسل يدك، فيقوم بغسلها، هذا طاعة لمن؟ لله أم للشيطان؟ طاعة للشيطان. الله لم يقل له: اغسلها خمس وست وعشر مرات. قال له: اغسلها مرة واحدة وجوبا، والثانية استحبابا، وما زاد على ذلك هو من أمر الشيطان. فإذا أحدهم لم يكتف بهذه المرة الأولى أو الثانية المستحبة، وزاد على ذلك، فهذا يطيع الشيطان في أوامره.
هذه الرواية المعتبرة ستكون بداية حديثنا عن موضوع التشكيك في الأفعال العبادية، وذلك بعد أن تحدثنا في حلقات متعددة عن الشك كصفة سيئة غير محمودة. وتحدثنا عن الشك في العقائد، والشك في المجال الاجتماعي، والتشكيك في العاملين. ونتحدث هذه المرة عن التشكيك في الأفعال العبادية. ويبقى لنا في هذه الخصلة الذميمة من الخصال، موضوع واحد: وهو قضية الشك في العلاقات الزوجية، يأتي إن شاء الله.
كمقدمة عامة، الدين أراد من الإنسان أن يكون مستيقنا قدر الإمكان ومطمئنا، فجعل غاية من الغايات العظيمة للإنسان أن يكون على يقين من ربه، ويقين من نبيه وأئمته، ويقين من آخرته. هذه التي نسميها نحن عقائد، وهي: مواضع للإيمان بها، أفضل المراحل وأفضل الدرجات، أن يكون الإنسان مطمئنا إليها، ومتيقنا بها. يجد على نفسه وفي قلبه برد اليقين، وهدوء الاطمئنان. فيبقى عابدا لربه، متمسكا بعقائده، على يقين من ذلك. فإذا تزلزل، تغير، تبدل، فهذه عادة من الدرجات غير المستحسنة.
فيما يرتبط بالأفعال، أراد الدين من الإنسان أيضا أن يؤدي عمله العبادي - بل حتى عمله العام - وهو على اطمئنان قدر الإمكان. بأن لا يكون في حالة من التشكيك والتردد. في الحياة العامة، جاءت وصايا الدين على أنه إذا أنت تريد أن تقدم على شيء، فادرس هذا الشيء، تأمل فيه، ركز فيه، ثم أقدم عليه ولا تلتفت إلى جهات التردد.
وعلى فرض أن هذا الأمر، ما انتهيت فيه إلى نتيجة جازمة، استشر أهل الرأي والحكمة، واعمل برأيهم ولا تتردد. وعلى فرض أيضا أن هذا لم تصل فيه إلى نتيجة، وأهل الرأي اختلفوا بين أمرين متخالفين، آنئذ - حتى هذا المقدار، قال لك الدين، لا تبق مترددا – اذهب وخذ خيرة، حسب التعبير. ولعل الحكمة في الاستخارة، هي: إنقاذ الإنسان من حالة التردد واللا موقف وعدم الإقدام. فإما تقدم وإما تحجم، لا تبقى واقفا هكذا. مرة تقول سأفعل، ومرة تقول: أتراجع. أقدم على أحد الأمرين. حكمة الاستخارة - فيما نفهم - بشتى أشكالها وصنوفها هي: أن لا يبقى الإنسان على حالة من التردد والشك وإنما يسعى للإقدام على أحد الجوانب. هذا بالنسبة إلى الحياة العامة.
بالنسبة إلى الحياة العبادية، أيضا تعرض فيها صفة الشك، باعتبار عمل من الأعمال: الوضوء عمل من الأعمال، الصلاة عمل من الأعمال، سائر العبادات هي هكذا. فمن الممكن أن يطرأ على الإنسان العامل فيها شك أو ترديد. وهذا يمكن تقسيمه إلى ثلاثة أقسام. هذا النوع من الناس الذين يطرأ عليهم الشك والترديد، يمكن تقسيمهم إلى ثلاثة أقسام، فيما يهم حديثنا الآن. وإلا من الممكن باعتبارات أخرى، أن يقسموا إلى أقسام أكثر أو أقل أو مختلفة، لكن فيما نحن فيه من الحديث، نقسمهم إلى ثلاثة أقسام.
القسم الأول: حين يعرض على الإنسان شك متعارف اعتيادي. القسم الثاني: حين يبتلى الإنسان بكثرة الشك. القسم الثالث: عندما يبتلى الإنسان بالوسواس. هذه ثلاثة أقسام يمكن أن تكون هي الغالب في المجال الاجتماعي. بالنسبة إلى القسم الأول: من يبتلى بالشك المتعارف، فهذا يحصل مني ومنك وممن يستمع. وذلك على أثر، غالبا، أن ذهن الإنسان لا يستطيع أن يفكر في أمور متعددة في وقت واحد.
انظروا إلى عظمة الله عز وجل وجليل قدرته، يدبر تريليونات الأشياء في وقت واحد، ولا يشغله شأن عن شأن. حقيقة، هذه من الأمور التي لو تأمل فيها الإنسان، لاستدل بها على عظيم قدرة الله، وعلى إحاطة أمر الله عز وجل. فأنا وأنت أحيانا إذا فكرنا بثلاثة أشياء في وقت واحد، نضيع اثنين منها ويبقى واحد في الذهن. في الصلاة – مثلا - بمجرد أن نركز على فلان موضوع: اليوم مثلا حدث موقف في البيت، مع الزوجة، مع الأولاد. أحدهم اتصل اتصالا غير مناسب. وأنت في الصلاة سيطر عليك ذلك. في تلك اللحظة تكون أنت قد ضيعت في أي ركعة أنت؟! بمجرد أن سيطر عليك ذاك الاهتمام، فراح من ذهنك الحساب، أنه: أنت في أي ركعة؟! سجدت أم لم تسجد؟! قلت هذا الذكر أو لم تقله؟! وهذا أحد معاني: (مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ). فلا يستطيع هذا الإنسان استيعاب هذا المقدار. نعم بعض الأشياء - افترض - وهو يفكر، يسبِّح، هذا يحدث. ولكن من ميزات هذا الإنسان، ومن عجزه، يعني: من ميزاته في العجز، وأنه ناقص عاجز غير قادر، أنه لا يستطيع أن يجمع الأشياء كلها.
هو الآن في هذا المسجد، يفكر في أوضاع المسجد، وفي نفس اللحظة يفكر فيما يجري في البيت، وفي نفس اللحظة يفكر في أمر شركته، فتختل كل هذه الأمور. لكن ربنا سبحانه وتعالى: (مَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ). في هذه اللحظة، الله محيط بكل ما خلق ومن خلق. أما أنا وأنت فلا نستطيع أن نعدد أسماءها العامة، لكن الله سبحانه وتعالى يحيط بتفاصيل تفاصيلها الدقيقة ولا يشغله شيء عن شيء.
فيعطي ذاك المريض الشفاء في محله، في أقصى بلاد الغرب. وهذا المعوق الذي في أقصى بلاد الشرق، وذاك المكان الذي في شمال الكون، والذي في شرق الكون، وهذا الذي في البحار، وذاك الذي في المحيطات، والذي في الأفلاك، وهذا وهذا. وكلها تحت السيطرة في لحظة واحدة. أما أنا وأنت فلا نقدر على هذا الشيء.
ومن هنا يتطرق إلى الإنسان الشك، ليس فقط هذا. فكثيرون الآن يتحدثون عن أن نسبة لا تقل عن 40% من حوادث السيارات هي على أثر الانشغال بالجوال. الجوال معناه ماذا؟ معناه: أن ذهنك مشغول عبره بمكان ما. لذلك في نفس الوقت لا يمكنك أن تلاحظ ما حولك، فتقع الحادثة. هذا أوضح شيء وأقرب شيء بالنسبة إلى الإنسان.
فمن مناشئ الابتلاء بالشك: أن فكر الإنسان لا يملك القدرة على الإحاطة بكل الأشياء في وقت واحد. ولا يمكنه أن يُقفل عليها. بمعنى أنه: مذ تبدأ الصلاة، يُقفل دماغه فيقول له: لا تفكر في غير الصلاة. لا يملك هذا الشيء، بل كل الأشياء تظل تسري وتجري.نعم، هو يقدر أن يقيد يده، فلا تتحرك. وأن يقيد وقوفه فلا يذهب هنا أو هناك، لكن ذهنه لا يقدر أن يقيده ويقفله عما يدخل فيه. وهذا الذي يؤدي إلى ماذا؟ إلى الابتلاء بالشك، وهذا أكثر ما يعرض على الناس.
فلهذا الشرع الدين - في هذا الإطار مجموعة تشريعات – أولها: إذا كنت في المحل ولم تجاوزه بعد، أي لم تجاوز المكان الشرعي له، فيقول لك: آت به. الآن أنت - لنفترض - بعدما كبَّرت، واقف، لا تدري أنه: هل أتيت بسورة الفاتحة أو لا؟! لا تزال في المحل، بعدك لم تركع. لو ركعت، ينتهي الأمر، تجاوزت المحل. فالمحل الشرعي للفاتحة هو قبل الركوع، لكنك الآن ركعت وتجاوزت، فإذن: انتهى. لكن لو - على سبيل المثال - أنت واقف الآن، ولم تذهب إلى الركوع، وشككت في أنك أتيت به أم لا؟! آنئذ سوف يوجب عليك الشرع أن تأتي به. لأنك لا زلت في المحل، فتأتي بذلك الجزء المشكوك فيه. لكن لو تجاوزته، أي أنت الآن ذهبت للركوع، ثم شكيت أنه هل أتيت بالفاتحة أم لا؟ هنا يقول لك الدين: أنت تجاوزت المحل، فلا تعتني بذلك الشك.
مثل هذه التشريعات: قاعدة التجاوز، قاعدة الفراغ من الصلاة، أي: بعدما فرغت من الصلاة، شككت في أنك هل أتيت بالركوع بشكل صحيح أو لا؟! أتيت بالسجود بشكل صحيح أو لا؟! فيقول لك الدين: تجاوزت، فرغت من ذلك، لا تعتني بهذا الشك.
وهناك شك في أثناء الركعات، إذ يشك الإنسان أنه كم صلى من الركعات. وهنا شكوك مبطلة: مثل الشك في الركعتين الأوليين من كل صلاة، والشك في صلاة الصبح، والشك في صلاة المغرب إذا لم يمل ظن الإنسان إلى جانب، بحيث يغلِّبه في ذهنه، فإذا غلَّبه، انتهى. وإذا لم يغلَّب ذهنه إلى جانب، بحيث يبقى مترددا، فصلاته باطلة، ولا بد أن يعيدها. وأما إذا كان ما بعد ذلك، أي بعدما أكمل السجدتين من الركعة الثانية، شك: أنا صليت الآن ثلاث حتى أقوم للرابعة، أو صليت أربع؟! فهنا: يبني على الأكثر. الأكثر ما هو؟ الأربع. فيصلي الرابعة، ثم يأتي بركعة احتياط، وسجدتي سهو بعد الصلاة. وتفاصيلها في الفقه.
هذا بالنسبة إلى الإنسان صاحب الشك المتعارف، مثلنا، وأمثالنا، وكثير من الناس، على أثر الانشغال الذهني بشكل معين. فأحيانا بعض الناس، حتى في أثناء محاضرة، حديث قراءة، يكون مشغولا - مثلا – في وتسابه، في جواله. وهذا لا يمكنه أن يستمع للمحاضرة وفي نفس الوقت ماذا؟ يرد على الجوال، وما شابه ذلك. مثل هذا يحدث في الصلاة أيضا. فأحيانا يكون الإنسان مشغول الفكر بشيء، ويريد أن يأتي في الصلاة بشيء آخر، فلا يتمكن. فيضيِّع أحد الأمرين. وعادة يضيع أمر الصلاة. هذا القسم الأول.
القسم الثاني: من هو مبتلى بكثرة الشك. هذا إنسان شكه أكثر من المتعارف، ليس طبيعيا. عرَّفوه بعضهم أنه: من يشك في صلواته الخمس ثلاث مرات. أي كل يوم في هذه الصلوات الخمس يشك ثلاث مرات. هذا ليس طبيعيا. فبعضهم قال: لا، الأمر أمر عرفي. قد يكون أكثر من هذا، وقد يكون أقل من هذا، ولكن الناس لا يجدونه طبيعيا في شكه. يجدون أن هذا أكثر من المتعارف، أكثر من عامة الناس، هذا كثير الشك فلا يعتني بشكه في المورد الذي يشك فيه.
يعني مثلا: زيد من الناس، لديه شك – مثلا - فقط في الركعة الرابعة. وكل خمس صلوات، ثلاث صلوات منها يشك في الركعة الرابعة، هل أتى بها أم لم يأت. أو عمر من الناس شكه يكثر في قراءة الفاتحة، أما باقي أجزاء الصلاة فلا يشك فيها. كثير الشك، أي من هو متجاوز للمتعارف، غالبا يكون شكه في موضع معين، وله منشأ عقلائي. وقد قلتُ: قد يكون على أثر الانشغال. أحدهم - لنفترض - لديه بقالة، مدخولها 100 و200 ريال، فلا تشغل باله. لكن إذا أحدهم شغله بالعشرة ملايين وأكثر، فهذا أمر صعب، ويحتاج أكثر أن يسيطر على تفكيره. لكن لكلا الأمرين منشأ عقلائي، فيقول لك: أنا لدي تجارة ومنكسر فيها أو رابح. لدي مريض شاغل بالي، لدي هموم حقيقية تسيطر علي، ليس فقط في وقت الصلاة، حتى في غير الصلاة. فترى أنه كأنه معذور. وهذا قانونه: أن لا يعتني بشكه في موضع الشك. بمعنى ماذا؟ أي شيء يوجب كلفة إضافية فلا يفعله. مثلا: أنت الإنسان العادي في شكك، إذا شككت وأنت لا تزال واقفا قبل الركوع، فماذا تصنع؟ للتو قلنا: تقرأ الفاتحة، وقراءة الفاتحة هذه كلفة. لكن كثير الشك يقال له: هذه الكلفة مرفوعة عنك، فلا تقرأ. الآن أنا هكذا، لا أدري أسجدت أم لم أسجد؟ نازل هكذا، لكن لا أدري، هل طريقتي هذه معناها: أني سجدت السجدة الأولى، والآن لا بد أن أذهب للسجدة الثانية، أو سجدت السجدتين، أو ما سجدت أصلا، فإذا قال: أنه شك هل سجد سجدة أو لم يسجد؟ فالشخص العادي، ماذا عليه أن يصنع، ما دام هو في المحل؟ عليه أن يسجد. صحيح؟ كثير الشك، يقولون له: لا تسجد.
لو قال مثلا: لا أدري هل أنا سجدت سجدتين، أم سجدة واحدة. فالشخص العادي، ماذا يصنع؟ لا بد يسجد السجدة الثانية؛ لأنها غير مؤكدة. لكن كثير الشك، يقولون له: لا تسجد السجدة الثانية، واصل صلاتك. فكل شيء كان سيوجب على الشكاك العادي تكلفة، عملا، فكثير الشك نقول له في ذاك المكان الذي أنت فيه كثير الشك، لا تعتني بشكك. 
أنا كثير الشك، وشككت بين الثلاث والأربع، فأبني على الأربع. الشكاك العادي يبني أيضا على الأربع، لكن ثم ماذا يصنع؟ يضم إليها ركعة الاحتياط وسجدتي السهو. أما كثير الشك فنقول له: فقط ابن على الأربع، ولا تصلي ركعة الاحتياط، ولا تسجد سجدتي السهو. المطلوب مختصرا. كثير الشك له تخفيضات. فكل ما كان يجب على الإنسان الشكاك العادي، فلا يجب عليه. وكذلك أيضا، لو شك أنه - على سبيل المثال - هل أنا سجدت ثلاث سجدات أو سجدتين. فيقولون له: لا، قل أنا سجدت سجدتين، وواصل صلاتك من دون أن تحتاج إلى شيء. هذا بالنسبة إلى كثير الشك.
وأما الوسواسي – أجارنا الله وإياكم – فأمره أشد تعقيدا. لأنه ليس فقط في الأمور العبادية، بل الوسواسي يتحدثون عنه باعتباره مرضا من الأمراض، وله علاج. فالمستشفيات تعالج هذا باعتباره مرضا من الأمراض وتعطي للمصاب به وصفة طبية، وذلك لأنهم يقولون: أن الوسواس هو نوع خلل في كيمياء الدماغ، خلل في سوائله. فلهذا نحتاج – بحسب كلام الأطباء – إلى أن نعطي المصاب بعض الحبوب، بعض الأدوية، التي تعيد ترتيب هذه الكيمياء، وهذه الإفرازات، وهذه السوائل، بحيث ترجعها إلى شيء من التعادل. هذا فيما يرتبط بالطب، إذا لا بد للإنسان أن يراجع الطبيب ويعرض عليه نفسه.
وأما بالنسبة إلى الفقه، فيقال له: أنت لا تعتني بأي شيء. وتبني على أساس أن عملك صحيح. فوضوؤك الذي تعيده وتكرره، 10 مرات، 20 مرة، هو صحيح من أول مرة. لا عليك من الوضوءات التالية. صلاتك التي صليتها أول مرة هي الصحيحة. لا محل لإعادتها. لا تكرر. قراءة الفاتحة التي قرأتها هي الصحيحة. لا تكرر القراءة مرة ثانية. يدك التي غسلتها هي النظيفة الطاهرة الآن، لا تحتاج إلى أن تعيد غسلها. الإناء ذاك الذي طهرته مرة واحدة، هو هذا.
وكما قلت، البعض يبتلى بهذا الأمر. ولعل قسما من البيوت يوجد فيها، ولا سيما – أحيانا - في صفوف النساء. فكثير فيما يرتبط بالأمور العبادية، تجد النساء هم المبتلون بمثل هذا الأمر. وهذا كما قلنا له طريق علاج، والطريق الآخر هو الطريق المرتبط بالأمر الشرعي. أما ما يرتبط بالأمر الشرعي العبادي، فأولا: أن تحدد أو يحدد الإنسان نفسه، هل هو ممن يصدق عليه من هو مبتلى بالشك المتعارف، أو كثير الشك، أو وسواسي.
إذا هي لا تستطيع أن تحدد، أو هو لا يستطيع أن يحدد، لا بد أن يُحدد لهما. فيقال له، مثلا: أنت إذا كنت تشك في اليوم لمرة واحدة، فهذا شك موجود عند كل الناس. وأما إذا كنت تشك في صلاتك ثلاث مرات في اليوم فصاعدا، فأنت كثير الشك ولك وظيفة. وأما إذا كنت تشك أكثر من هذا، لا سيما في قضايا الطهارة والصلاة، فأنت وسواسي. وهذه المشكلة فقط في هذا الموضوع، فتراه يكرر في الوضوء، 20 مرة يتوضأ. بعضهم وبعضهن، يبدأ من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وهو إلى الآن لم يُتم وضوءه، فذاك الوقت يصلي صلاته قضاء. أي دين يأمر بهذا الشيء؟!
صلاته أيضا بنفس المعدل. يصلي ويعيد، يصلي ويعيد. وسبحان الله - الشيطان لعنة الله عليه - لا يبتلي الإنسان إلا في هذا. فمثلا: لو تقول للشيطان اذهب واجعله كثير الشك - مثلا - في دفع الزكاة، فلا يفعل به هذا. اجعله وسواسيا في دفع الخمس، فبدل أن يدفع مرة، يدفع 20 مرة، لا يفعل به هذا. وأمثال ذلك.
لكن في قضية الوضوء، يفتح له الباب واسعا. في قضية الصلاة أيضا. لماذا؟ لأن غرض الشيطان هو أن يفوِّت العبادة الحقيقية على الإنسان بأسهل شيء. باسم أنه أنت لا بد أن تضبط وضوءك وتضبط صلاتك، وإلى آخره. أحدهم قال - والله العالم مدى صحة هذا الكلام: أن زيدا من الناس لم يذهب إلى الحج مع تمكنه إلى أن مات. لماذا؟ لأنه كان يقول: ماذا هذا، كله نجاسة، أذهب إلى منى فأمشي على الأشياء، ربما أحدهم بال هنا، أو آخر فعل كذا هناك، ودماء، وإلى آخره. طيب. ثم هؤلاء الذين يطوفون حول الحرم ليس معلوما كيف هم؟! على طهارة أم لا. أمشي كذا، يصيبني كذا. وفعلا لم يذهب إلى الحج إلى آخر عمره بهذا الزعم.
انظر، كيف الشيطان يلعب بالإنسان إلى هذا المقدار. فيحرمه من الحج الذي يقول فيه القرآن: (وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)، بزعم ماذا؟ أنه أنا أريد أن أحافظ على الطهارة وأجتنب النجاسة.
فأول شيء: لا بد أن يحدد الإنسان مكانه، هو أين؟ هذا الإنسان: شكاك عادي أو كثير الشك أو وسواسي. النقطة الثانية: أن يفهم أن هذا مرض وأن هذا ليس خيرا له، وأنه مذموم من قبل الشرع، والإمام الصادق يقول: أنت لا تعبد الله بهذا، أنت تعبد الشيطان، تطيع الشيطان. أنت جندي من جنود الشيطان لو عملت هذا. فعملك ليس عبادة، عملك عمل شيطاني. هذا الذي تفعله ليس وضوء، هذه شيطنة. إعادة الصلاة للمرة الثانية والثالثة والرابعة، هذه شيطنة، وليست قربة. أنت لا بد - لما تنوي للمرة الثالثة والمرة الرابعة، أن تعيد، أن تقول: أصلي صلاة الظهر قربة إلى الشيطان، ليس إلى الله؛ لأن الله لم يأمرك بهذا وإنما أمرك به الشيطان.
معرفة الإنسان نفسه بشكل دقيق، وقناعته بأنه هذا عمل شيطاني، هذا ليس عملا رحمانيا ولا عباديا ولا قربيا ولا صلاة، هذه شيطنة. ليست وضوءا، ليست صلاة، وإنما لعب بأوامر الله عز وجل. هذه نقطة ثانية. والنقطة الثالثة: أن يُتفق معه على مرة واحدة في شيء. فإذا تتوضأ، لا تتوضأ من الحنفية، هات لك بطاسة، أو قنينة؛ لأنه كان النبي (ص) - لذكره صلوا عليه - يتوضأ بمد ويغتسل بصاع. فللقضاء على هذه الحالات من الوسوسة، يُلزم أن يتوضأ بمد، المد يعني: 750 جرام، أي: لتر إلا ربع تقريبا. وغالبا ما يكون اللتر معادل إلى الكيلو. لتر إلا ربع، هذه القنينة التي هي نصف لتر، يضيف عليها ربعا، فيكون هذا لوضوئه.
وأما الصاع فأربعة أضعاف ذلك، أي: لترين من المياه تقريبا. هذه قنينة ماء الصحة، يضيف عليها نصف لتر أيضا، فيكون هذا لغسله، أما أن يأتي أحدهم ويُفرغ خزانا كاملا، وبعده ما أتم وضوءه! فلتر ونصف اللتر يكفيانه. هذا القدح، هذه القنينة، الكبيرة المعتادة من المياه المعبأة، يضيف إليها نصف لتر، هذا للغسل. ومن نفس النوع، الحجم الصغير، الذي بنصف لتر، يضيف عليها ربعا آخر، فيكون هذا للوضوء. فإذا جهز المقادير، لا يذهب للحنفية، وبعد أن ينتهي، يقول: أنا توضأت، واغتسلت، ولا يعيد ذلك قط. الدليل على ذلك: هذه القناني التي جهزها لوضوئه وغسله وقد فرغت. فإذا لا يعيد ذلك، ويعصي أمر الشيطان في الإعادة، يكون يقطع الشيطان منه الأمل.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يبعد عنا الشكوك سواء منها العقدية أو العملية أو العبادية وأن يجعلنا من المستيقنين المطمئنين، إنه على كل شيء قدير. وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.

مرات العرض: 3400
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2565) حجم الملف: 30926.3 KB
تشغيل:

التشكيك وسوء الظن في المجال الاجتماعي 21
الشك وتدمير الحياة الزوجية 23