عن ولاية الله والمعصومين والفقهاء
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 14/2/1438 هـ
تعريف:

عن ولَايةِ اللهِ والمعصومينَ والفقهاء


كتابة الفاضلة فاطمة آل الشيخ

قال الله العظيم في كتابه الكريم “اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ۗ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ” صدَقَ اللهُ العلي العظيم.

هذه الآية المباركة التي تتلو آيتينِ من سورة البقرة، أولُها ما عُرف بآيةِ الكرسي، وقد ذكرنا أن علماءَنا يحتاطون في الموارد التي جاء فيها نصٌ بقراءةِ آية الكرسي، كالأمور العبادية مثلا، وقد ذكرنا أن البعض يحتاط بأن يقرأ الإنسان بالإضافة للآية الأولى الآيتين اللتين تأتيانِ بعدها، وبناءً على ذلك ما يُقرأ في هذه الصلوات وأمثالها هو الآية بدءًا من “اللَّه لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ” إلى أن ينتهي بِـ“هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ”، فيتعاملُون معها من الناحية العملية باعتبارها جزءًا من آية الكرسي.
في مُرورٍ إجمالي نتعرض إلى بعض مفرداتها ثم نتحدث عن ولَايةِ الله سبحانه وسائِر الولَايات اللازمةِ بالنسبة للإنسان المؤمن.

معنى الوَلَايَة:
القرآن الكريم يبدأ بقوله تعالى “اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا”، الولي جاء من معنى المتابعة والقرب، تقولُ مثلا “هذا يلي هذا” يعني هذا إلى جانبه وقريب منه، ومن ذلك أُخذت معانٍ كثيرة، منها الولي بالمعنى الأقرب للإنسان والأجدر بالاهتمام به، تقول “الله ولي الإنسان” يعني أقرب إليه وأجدر بالاهتمام به لعلاقةِ العبودية والمولوية، اللهُ سبحانه ولي ومولى، والإنسان عبدٌ ومُوَلَى عليه. فهو قريبٌ منه وأحرى وأجدر وأولى بالاهتمام به وبرعايته.

بل نفس المعنى أيضًا يأتي بالنسبة للعبد، فتقول “هذا وليُ فلانٍ ومَولَاه”، بمعنى قريبٌ منه ويقعُ عليه الرعاية والعناية من قِبَلِ سيده، تقول “هذا سيدٌ وهذا مولى أو وليٌ لفلان” ، “أشهدُ أن عليًا وليُ الله” وليُ الله بهذا المعنى أي قريب إلى ذلك المقدار وهو أجدر وأولى بأن يقع اهتمامُ الله ورعايتُه ورحمتُه عليه.

وهذا الكلام ينطبق في سائِرِ الاستخدامات، تقولُ مثلا هذا وليُ البلدة أي الأقرب إليها من غيره والأجدر بأن يصب اهتمامهُ فيها، وسائر الاستخدامات هي من هذا النوع.

“اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا” أي الله هو الأقربُ إليهم، وهو الذي يلي أمرهم ويتولى شؤونَ الاهتمام بهم، فهي ولايةُ نصرةٍ واهتمامٍ وعناية. وقد رأى بعض المفسرين أن هذا الافتتاح بهذه الآية المباركة هو تعقيبٌ على الآية التي تسبقها عندما قال سبحانه “فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ”، فالتعليل وسبب عدم انفصام عروةُ الله مع الاستمساك بها ولماذا لا يضيعُ من تمسكَ بها هو لأن الله ولي الذين آمنوا.

آثارُ الوَلَايَة:
هذه الولَاية لها أطراف مختلفة من الآثار، مثلا وليُ اليتيم يُعطيهِ من أمواله، هذه من آثارها، ولكن هُنا أولُ وأظهرُ أثرٍ من الولاية الإلهية للمؤمنين قال “يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ”، لو لاحظنا هذه الكلمات لها معانٍ مختلفة، المعنى الأول ما يُذكر في استخدام الفعل المضارع، قال سبحانه “يخرجهم” ولم يقل “أخرجهم” والفعلُ المضارع ،كما يقول علماء اللغة، فيهِ حالةٌ من الاستمراية والديمومة وعدم الانقطاع، أي أن هذا لم يحدث في وقتٍ معينٍ من الأوقات أن الله أخرجهم من الظلمات، وإنما هي حالةٌ مستمرةٌ من الإخراج من الظلمات إلى النور.
لربما يقول البعض هذا الإنسان مؤمنٌ فهو بالنتيجةِ خارجٌ من الظلمات فكيف يُخرجه الله منها؟ المفترض أنهُ خارجٌ من الظلمات مع إيمانه، فيُقال الخروج من الظلمات والصيرورةِ في النور على درجات، فهناك درجاتٌ لا تتناهى لإضاءةِ قلب الإنسان بنور الله سبحانه، المرحلةُ الأولى شيءٌ بسيط لنفترض مثلا يخرجه من الاشتباهات العقائدية، ثم يُخرجه من المشاكل السلوكية، ثم يخرجه من الصفات الأخلاقية السيئة، وهكذا فإن الله في كل يومٍ يُخرج هذا الإنسان من ظلمةٍ إلى نورٍ من الأنوار، وهذهِ من أعظم نعم الله على الإنسان.
فنرى كيف أن الله دائما يرزق “إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ” في تلك الجهة المادية، الأعظم من ذلك هو هذه الجهة أن الله دائمًا يُخرجُ الذين آمنوا من الظلمات إلى النور.

نُلاحظ أيضًا أنهُ سبحانه قال “يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ” ولم يقل من الظُلمات إلى الأنوار أو من الظُلمة إلى النور، المفترض أن يكون هناك توحيدٌ في الجملة، فإذا استخدم كلمة ظُلمات المفترض أن يستخدم معها كلمة أنوار، ولكن في استعمالات القرآن الكريم نرى أن الله سبحانه عادةً ما يستخدم كلمة ظُلمات ومعها كلمة نور، وفي هذا إشارةٌ إلى أن النور والوعيَ والمعرفة يساوي الطريق المستقيم الواحد، ولكن الظُلمات تتعدد بعدد السُبُلِ الُمفرِقة عن الله عز وجل.
“وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ” أي الطرق الأخرى والظُلمات الثانية. فهناك مناشئٌ كثيرة تحصل للإنسان فتصنع له شبهةً وحيرةً وظُلمة، فهي طرقٌ وظُلمات بعضها فوق بعض، لكن المطلوب أن يهتدي الإنسان إلى صراطٍ واحدٍ مستقيم، وليس صراطات أو أنوار.

ثم نرى في قوله تعالى “وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ” أنهُ كما أن للمؤمنين  وليٌ وهو الله سبحانه، الذين كفروا لديهم أولياء وليس وليٌ واحد، فكما أنه لديهم طرق متعددة وظلمات متكاثرة، فالأولياء والزعماء وقادة الباطل أيضا متعددون، ولذلك يذهب بهم كل فريقٍ إلى طريقٍ خاص، هناك الله ولي الذين آمنوا وهنا الذين كفروا أولياؤهم الطاغوت الذين يخرجونهم من النور إلى الظلمات.
 
قد يطرأ سؤالٌ هنا أن الذين كفروا ليس لهم نورٌ حتى يخرجوا منه إلى الظلمات، والآية كأنما تريد أن تثبت أن الكفار لديهم نور والطواغيت يخرجونهم من هذا النور، فأي نورٍ هو نورُ الكفار؟!! الجواب قيل أنهُ نورُ الفطرة.
صحيحٌ أن هؤلاء ضالون ومنحرفون، ولكن بنسبةٍ من النسب تبقى لديهم بقيةُ فطرةِ الإيمان “فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا” هؤلاء الطواغيت وأولياء الكافرين يُخرجونهم من النور، ومن المعرفة، وحتى من بقايا فطرة ونور الإيمان إلى أن يُصبح الإنسان كما نُقلَ عن سيد الأنبياء محمد (ص) أنه كان عندما يُعدد (ص) المشاكل التي تحصل في بعضِ فِرقِ الأمة فيقول “ كيف بكم إذا رأيتمُ المعروف منكرا والمنكر معروفا” يعني حتى بقايا الفطرة التي تقول مثلا أن العدالة أمر جيد ومطلوب تتغير إلى أن يأتي أحدهم ويقول أن هذا ليس بصحيح وأننا يجب أن نُقدم الأمان على العدالة.
فإذا مثلا تمت عقوبة ظالمة على أحدهم فالفطرة الإنسانية تقول أن الظلم قبيح، إذا نُزعَ الإنسانُ من الفطرة فسيقول أن الشخص المعاقَب يستحق العقوبة لأنه مثلا ليس على مذهبنا أو ليس على ديننا لذلك هو يستحق العقوبة حتى وإن كانت ظالمةً له. هنا حتى بقايا الفطرة قد خرج منها هذا الإنسان، وبعد ما يُستخلص هذا الإنسان من كل وعيه ودينه وفطرته أيضا فإنهُ حينها يُصبح مؤهلاً للخلودِ في نارِ جهنم “ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ” نعوذ بالله وإياكم منها.

 أنواعٍ من الولايات الدينية:
نعودُ لبداية الآية المباركة “اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا”، هناك ثلاثةُ أنواعٍ من الولايات الدينية:
الولايةُ الأولى هي الولايةُ الإلهية وهي أن يعترف الإنسان أن الله سبحانه هو وليهُ في كل شيء، فهو رازِقُهُ وحاميه وخالقُه، وأنه هو الأقربُ إليه من كل شيء، وهذه درجات، فكلما ازداد الإنسان قربًا من الله تزداد ولايته لله عز وجل فيُكافِؤُه الله بأن يتخذه وليا.
كلما دنى الإنسان من ربه واتخذه وليًا وتوكل عليه ولم يرضى إلا به، في المقابل يصطفيه الله ويُقرِبُه وينتجبُه ويصبح وليا له، وإذا أصبحت وليَ الله وأصبح الله وليَ أمرك فترقب الخيرات. لذلك أولياء الله الصالحون في أوج تألقهم ووصولهم إلى الغايات العظمى فإنهم يتذكرون أن ما أصابهم من خير إنما هو نتيجة توليهم لله عز وجل وتولي الله عز وجل لأمورهم.
هناك فرقٌ بين قول شخص “إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي” وبين قول آخر “أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ”، نبي الله يوسُف عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة والسلام بعد مسارِه من أيام الصبا عندما أُلقيَ في البئر واستُعبِد وكان في كلِ يومٍ من الممكن أن يتحول إلى حُطامِ إنسان ولكن كان الله وليُهُ وهو تولَى ربه إلى أن وصل إلى ما وصل إليه وأصبح عزيز مصر والتقى بوالده، وبعدما نزغ الشيطان بينهُ وبين إخوته اعترفوا لهُ بالحق، فهو هنا من الناحية الدُنيوية الآن في أوج القمة، وأيضا من ناحية نعم الله الآخرى عليه، ولكنه قال في النهاية “أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ”. هُنا نبيُ الله يوسُف يقول يا رب أنت كنتَ وليٌ وناصرٌ لي طوال هذه المدة إلى أن وصلتُ لهذا المقام، لذلك يتوجه بالدعاء إليه ويُخاطِبُه مُعترفًا بهذا الأمر.

وهكذا عندما يُعلِمُ القرآن الكريم نبينا محمد (ص) فيقول “قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ” هل أتخذُ وليًّا غير الله سبحانه والحال أنه فاطرُ السماوات والأرض، ولاحظوا الإشارة هنا إلى أن الله سبحانه هو فاطِرُ السماوات والأرض وأيضا هناك في قضية النبي يوسف (ع)، هل أتخذ بدل الله شخصا آخر والحال أنه فاطِرُ السماوات والأرض؟ الفاطر تعني من يخلق شيئا ابتداعًا وابتكارًا بلا امتثال مثال.
وهذا ما أشارت إليه الزهراء (ع) في خطبتها الفدكية فتقول “خلق الأشياء لا من شيءٍ كان قبلها، وصورها بلا احتذاءِ أمثلةٍ امتثلها” لأن احتذاء الأمثلة سهلٌ جدًا، لنفترض أن أحدهم أراد أن يصنع سيارة، فيأخذ سيارة لديه يحاول أن يُقلدها ويصنع مثلها، فيحاول ويحاول في النهاية يصل إلى تقليدها، الأمر الأعظم هو أن يصنع ويبتكر شيئًا ليس له مثالٌ أو نموذجٌ سابق، وهذا ليس على مستوى أداة أو جهاز، وإنما فاطِرُ السماوات والأرض وما فيهن هو الله سبحانه.
فهذهِ هي الولَاية الأولى التي في قمتها الأنبياء والمرسلين وفي طليعتهم نبينا المصطفى محمد (ص)، وهذه لا تأتي إلا بعد اتخاذ العبد ربهُ وليا، فأنت من يجب أن يأخذ المبادرة وتقترب من الله وتتخذهُ وليا، وكلما اقتربت منه وكنت وليا لله فإنه بالمقابل سيتولاك ويُصبح ولي أمرك وبالنتيجة تفوز بالغاية القصوى. 

الولايةُ  الثانية هي ولاية نبينا محمد (ص)، وهي في أدنى درجاتها تعني محبة النبي (ص)، وفي متوسط الدرجات طاعةُ أوامره والانتهاء عن نواهيه (ص)، وفي أعلى درجاتها تقديم أمره (ص) على أمر نفسك ومحبته على محبة وُلدك وأهلك، وأن يكونَ هو أولى منك بنفسك.
في الحالة العادية لا أحد يرى أن أحدًا أولى به من نفسه، فأنت مُسلَطٌ على نفسك وترى نفسك أولى بنفسك من أي أحدٍ كان إلا فيما يرتبط بولاية رسول الله (ص)، فأعلى الدرجات فيها هو أن يعتقد الإنسان أن النبي (ص) حاكم على نفسه قبل حُكمِهِ عليها، ويتصرف النبي في بدنه قبل أن يتصرف ويحكم ويأمر وينهى هو على نفسه، وهذا ما أشار إليه القرآن في قوله تعالى “النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ” وذَكَّر به رسول الله في قضية الغدير عندما قال “ألستُ أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا بلى” لأن من يصدق القرآن الكريم لا بد أن يقبل بهذا الكلام.
فَفَرَعَ على ذلك الولايةَ الثانية وهي ولاية المعصوم ولاية أمير المؤمنين (ع) وولاية أهل بيته (ع) فقال “ ألا من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله” بحيث يكون الإنسان في قراراتِه وانبعاثاته وتوقُفاته محكومًا بأمر رسول الله وبأمر المعصومين عليهم السلام وللأسف فإن قسمًا من أبناء الأمة لم يتوجهوا إلى هذا المعنى، فحتى ولاية النبي عند قسمٍ منهم كانت منقوصة، ولذلك كانوا يرادُّوا النبي (ص) في أوامره ونواهيه، وهذا نوعٌ من أنواع رفض هذه الولاية النبوية. وأما ولاية الأئمة فحدث ولا حرج، فهناك قسمٌُ كبيرٌ من أبناء الأمة لا يرون ولاية الائمة (ع) حتى من الناحية النظرية ولايةً عليهم فضلًا عن الجانب العملي.
فهذا النوع الثاني وهي مرتبةٌ أدنى من المرتبة الأولى من الولاية وهي ولاية النبي (ص) ويتفرعُ منها ولاية المعصوم.

الولايةُ الثالثة  والمرتبة الثالثة وهي ولايةُ الفقهاء العدول في مذهبنا الإمامي، الإمامية يعتقدون أن للفقيه، وهو المجتهد المتخصص في فهم الشريعة تخصُصًا عاليًا، أنهُ هو أولى الناس بأن يتولى الأمورَ العامّة في زمان غيبة المعصوم.
في زمان حضور المعصوم قلنا أن الولاية للمعصوم متفرعةٌ عن النبي (ص)، أما في زمانِ غيبةِ المعصوم توجد في الأمة قضايا عامة كثيرة، نبدأ من القضايا الصغيرة على سبيل المثال يتامى ليس لهم ولي ، تُوُفيَ أبوهم وليس لهم أخوة كبار أو لم يوصي هذا الأب بوصية معينة، فهؤلاء يتامى لا واليَ عليهم، فهذه من أبسط القضايا ثم ترتفع إلى القضايا الاجتماعية العامة.
في زمن وجود المعصوم نعتقد أن ولاية هذه الأمور راجعة إلى هؤلاء المعصومين وأن أمرهم فيها نافذٌ على الجميع، في زمان الغيبة يدورُ الأمر بين أن يتولى هذه الأمور عامةُ الناس، فأي شخص تطالُ يده هذا الموضوع فإنه يتولاه، أو أن تُهمل هذه الأمور فلا يكون هناك أحد يتولاها.
بطبيعة الأمر لا توجد شريعة تقول بأن تُهمل هذه الأمور بدون ولاية، لذلك قال فقهاء الأمامية أن القدر المتيقن والشخص المعلوم أنه مُجازٌ بالقياسِ إلى غيره هو الفقيهُ العادل، لأنه من جهة يحملُ الجانب العلمي وهو معرفته بالشريعةِ والفقهِ الاسلامي معرفةً تخصصية، ومن جهةٍ أخرى مع فرضِ أنه عادلٌ وورعٌ فالجانب العملي والسلوكي أيضًا مضمونٌ من قِبَله. بناءً على ذلك، وعلى بعض الأدلة الأخرى التي لن نتعرض لها الآن، التزم فقهاء الإمامية بأن للفقيهِ، بمعنى المجتهد العادل، ولايةً على هذه الشؤون العامةِ في المجتمع.

ولكن العلماء اختلفوا فيما بعد في حدود هذه الولاية، بعض الفقهاء رأوا أن ولاية الفقيه هي كولاية المعصومين (ع) إلا ما استُثنِيَ من شؤونِ المعصوم. المعصوم مع فرض أنه لا يُخطئ ولا ينسى ولا يُذنب فدائرةُ تصرفه دائرةٌ غير محدودة، وسعةُ جريان حكمه واسعةٌ جدًا، ولكن الفقيه العادل مهما كان فلا يمكن أن يكون كالمعصوم، فإذن هناك بعضُ المستثنيات البسيطة التي يكون أمرُ المعصوم فيها نافذًا على الجميع ولكنها لا تصل إلى الفقيه العادل لأنها من مختصات المعصوم. بناءً على هذا الرأي فإن دائرة تصرف الفقيه دائرة واسعة تشمل القضايا الفردية والاجتماعية والسياسية والحرب والسلم وما شابه ذلك إلا بعض المستثنيات مما هو خاصٌ بالمعصوم.

ولكن ذهب فريقٌ آخر من الفقهاء ولعله المشهور إلى أن الولاية الثابتة للفقيه هي ولاية محدودة بأمور نحن نعلم أن الشارع لا يرضى بتركها.
المُشرع الاسلامي لا يرضى مثلا بأن تضيع الأوقاف، فالوقفُ الشرعي لا يجوز بيعه أو هبته أو نقله بناقلٍ من النواقل الشخصية للمُلك. فلا يجوز أن يأتي شخص ويقوم ببيع هذا الوقف فيأكل بذلك المال سحتًا، وكما تعلمون الوقف عندما يباع حتى لو بيع ٢٠ مرة مع كونه وقفا، ما لم يكن هناك بعض الاستثناءات في بيع الوقف، فإنه لا يجوز بيع الوقف ولا ينتقل لملكية المشتري، فهذا الشخص العشرون الذي اشتراه لا يستحله ولا يُصبح بإسمه، فالوقف يبقى وقفًا ولا يستحل من باعه فلسا واحدا منه. مثل هذه الأوقاف الشارع المقدس لا يقبل بأن تندثر فمن يتولى أمرها هو الفقيه العادل المجتهد.

أيضا أموال القُصَر واليتامى والغائبين لو تُركت هكذا أو تُركت للإخوان الكبار مثلا فمن الممكن أن يطمع هذا الأخ بأموال اخوته القُصَر، فلا بد هنا من تدخل الفقيه، الشرع يعطي لمثل هذا الفقيه الدخول في هذا الأمر ليمنع التعدي.

أيضا ما يرتبط بقضايا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضمنَ حدودٍ معينة فأولى الناس بإقامتها وتولِي أمرها هو الفقيه، في بعض الموارد لا يستطيع الإنسان بتصرُفِه الشخصي أن يأمر وينهى فيها لأن هذا قد يُؤدي لفوضى اجتماعية، لذلك قال الفقهاء أن الدائرة هنا أصغر من تلك التي تشمل الأمور السياسية وأمور الحرب والسلم، وإنما هذه الدائرة ترتبط بمثل ما ذكرنا من الأمثلة لكي لا تُترك هكذا، فأولى الناس بها هو الفقيه العادل وهذه هي الولاية الثالثة ولاية الفقهاء على مثل هذه الأمور.

هناك ولايات أخرى أقل مرتبة من ذلك مثل الولاية على اليتيم وعلى الوقف وما شابه ذلك وهي محدودةٌ جدا في إطارٍ معين.

إذن الله سبحانه في هذه الآية المباركة يُعظم من شأن الولاية الإلهية ودورها على الناس فيقول “اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا” ما هي آثار تلك الولاية؟ أوضحها أنه يخرجهم من الظلمات إلى النور في عملية إخراجٍ مُستمرةٍ ودائمة كما هو مُقتضى الفعل المضارع وليس من ظُلمةٍ واحدة وإنما من ظُلُماتٍ ودركاتٍ إلى نورٍ هو نورُ اللهِ عز وجل وإلى صراطٍ واحدٍ مستقيم وإلى دينٍ قِيَم ، لا إلى أديانٍ متعددة ولا فرق، وإنما نورٌ وصراطٌ مستقيم هو النورُ الذي أُنزل على محمدٍ (ص) وآله، ومن هذه الولايةِ يتفرعُ ولاية النبي (ص) ومنها يتفرع ولايةُ المعصوم.     
            


 

مرات العرض: 3394
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2558) حجم الملف: 53596.13 KB
تشغيل:

بين منطق الطغيان ومنطق القرآن
هذا هو القلب السليم