أجواء خروج الامام الحسين من مكة
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 1/1/1438 هـ
تعريف:


أجواء خروج الإمام الحسين من مكة

 

كتابة الأخت الفاضلة أمجاد عبد العال

من خطبة لسيدنا ومولانا أبي الأحرار سيد الشهداء الإمام الحسين (ع)، قالها عند خروجه من مكة: "خُطَّ المَوْتُ عَلَى وُلْدِ آدَمِ مَخَطَّ القِلَادَةِ عَلَى جِيدِ الْفَتَاةِ، وَمَا أَوْلَهَنِي إِلَى أَسْلَافِي اشْتِيَاقَ يَعْقُوبَ إِلَى يُوسُف، وَخِيرِ لِي مَصْرَعٌ أَنَا لَاقِيهِ، كَأَنِّي بِأَوْصَالِي تُقَطِّعُهَا عُسْلَانُ الْفَلَوَاتِ، بَيْنَ النَّوَاوِيسِ وَكَرْبَلَاء، فَيَمْلَأْنَ مِنِّي أَكْرَاشًا جُوفًا، وَأَجْرِبَةً سُغْبًا لَا مَحِيصَ عَنْ يَوْمٍ خُطَّ بِالقَلَمِ، رِضَا الله رِضَانَا أَهْلُ الْبَيْتِ، نَصْبِرُ عَلَى بَلَائِهِ، فَيُوَفِينَا أُجُورُ الصَّابِرِين". صدق سيدنا ومولانا أبو عبد الله الحسين.

في إضاءة سريعة على هذه الخطبة، التي خطبها الإمام الحسين، في يوم الاثنين، السابع من شهر ذي الحجة، في مكة المكرمة؛ لكي ينطلق في فجر يوم الثامن - يوم التروية من ذي الحجة - خارجا من مكة المكرمة. الإمام (ع) خطب خطبة منها هذه الكلمات التي ذكرناها وقال: "خُطَّ المَوْتُ عَلَى وُلْدِ آدَمِ مَخَطَّ القِلَادَةِ عَلَى جِيدِ الْفَتَاةِ"، كأن هنا تشبيه في عدة جهات: أن الموت بالنسبة إلى الإنسان أمر طبيعي وملازم له، ليس غريبا عليه، بل هو الأمر الطبيعي فيه. تماما مثلما أن القلادة تتقلدها الفتاة على جيدها ورقبتها، كيف أن هذا الأمر طبيعي، وملازم لها، بل هو كمال وجمال لها. كذلك، فإن الموت بالنسبة للإنسان، إذا كان موت شرف وعز وكرامة، فإنه بالإضافة إلى كونه شيئا طبيعيا، هو زينة وهو جمال للإنسان.

وَمَا أَوْلَهَنِي إِلَى أَسْلَافِي اشْتِيَاقَ يَعْقُوبَ إِلَى يُوسُف"، تشوق ورغبة في أن يلحق بأسلافه: أبيه وجده وأعمامه الصالحين، الذين مضوا على الحق، والتحقوا - إلى دار الآخرة - بربهم. فكان تشوق الإمام الحسين (ع) كتشوق يعقوب إلى يوسف، أن يصير إلى ما صار إليه أولئك الأسلاف الطيبون.

ثم يقول: "وَخِيرِ لِي مَصْرَعٌ أَنَا لَاقِيهِ"، اختير لي: انتخب لي، هذا بناء على قراءة: خِيرَ لي. بعضهم يقرؤها: وخَيْرٌ لي مصرع أنا لاقيه، يعني هذا المصرع الذي أنا سأواجهه، هذا هو الخير، هذا هو الشيء الحسن، أو إشارة إلى اختيار تم من قبل الله عز وجل، فبني للمجهول، "خِيرَ لِي"، يعني: هناك جهة اختارت لي هذا المصير، تلك الجهة هي الله سبحانه وتعالى. "وَخِيرَ لي"، أو "خَيْرٌ لِي"، "مَصْرَعٌ أَنَا لَاقِيهِ".

" كَأَنِّي بِأَوْصَالِي تُقَطِّعُهَا عُسْلَانُ الْفَلَوَاتِ"، عسلان: جمع عاسل وأعسل، وهو الذئب، ذئب الفلوات، ذئب الصحاري، المفترس، الجائع، عادة يمزق الفريسة. كأنما هؤلاء الذين سيواجهونني ويقاتلونني صفاتهم صفات ذئبية. "كَأَنِّي بِأَوْصَالِي تُقَطِّعُهَا عُسْلَانُ الْفَلَوَاتِ، بَيْنَ النَّوَاوِيسِ وَكَرْبَلَاء"، النواويس، قالوا: مقابر النصارى. هذه المنطقة، نينوى، هي منطقة فيها تراث نصراني، حيث أنها كانت منطقة الأنبياء، أي مر بها أنبياء: يونس بن متى، كما ورد في حوار سيد الأنبياء محمد (ص)، في رحلته إلى الطائف. إذ التقى بعدَّاس، أو عِدَاس، وقدم ذلك النصراني له شيئا من العنب بعدما أوذي النبي (ص) ورمي من قبل السفهاء بالأحجار، فسأله: من أين أنت؟ قال: أنا من نينوى، فقال: ذاك بلد أخي يونس، بن متى، هو نبي، وأنا نبي من الأنبياء.

فهذه المنطقة منطقة تراث تاريخي ضمن الديانات الإسرائيلية. كان من تراثهم أنهم يبنون النواويس، المقابر، لكن ليس على طريقة المسلمين، يحفرون في الأرض مقدار قامة إنسان أو أكثر، وإنما يحفرون شيئا بسيطا ويجعلون فوقه بناء، قد تكون لهذه الجهة، سميت بالنواويس أيضا.

هذه المنطقة، يقول: "بَيْنَ النَّوَاوِيسِ وَكَرْبَلَاء، فَيَمْلَأْنَ مِنِّي أَكْرَاشًا جُوفًا، وَأَجْرِبَةً سُغْبًا"، هذه البطون الجائعة للحرام، كتلك البطون الجائعة للحم الفريسة في الذئاب، نفس المشابهة، ونفس المشاكلة، "لَا مَحِيصَ عَنْ يَوْمٍ خُطَّ بِالقَلَمِ، رِضَا الله رِضَانَا أَهْلُ الْبَيْتِ".

"رِضَا الله رِضَانَا أَهْلُ الْبَيْتِ"، لها معنيان، تحملهما أيضا كلمة واحدة. تارة بمعنى: أن ما يُرضي الله، يرضينا، وتارة بمعنى: ما يرضينا هو ما يرضي الله. بعبارة أخرى، مرة نقول: رضانا يدور مدار رضا الله سبحانه وتعالى. ومرة أخرى، لا، معنى أعلى من هذا: أن رضا الله في رضانا، اتباع منهج الله في منهجنا، من أراد طريق الله، يأتي على طريقنا. "رِضَا الله رِضَانَا"، كل شيء يرضاه الله سبحانه وتعالى نحن نرضاه، وكل شيء نحن نرضاه هو في رضا الله عز وجل. "نَصْبِرُ عَلَى بَلَائِهِ، فَيُوَفِينَا أُجُورُ الصَّابِرِين". هذه إضاءة سريعة.

هل ?ان الحسین محرما فأحل من احرامه ؟

هناك فيما يرتبط بخروج الإمام (ع) من مكة المكرمة، عدة جهات، الجهة الأولى: جهة تاريخية تقريبا وفقهية، وهي: أن الإمام الحسين (ع) هل كان محرما فأحل من إحرامه أم لا؟ إذا كان محرما، هل كان معتمرا بعمرة مفردة أم بعمرة تمتع؟ المشهور لعله في الذاكرة الحسينية، في المقاتل، وربما في العزاء، في الشعر، أن الإمام الحسين (ع) كان محرما فأحل من إحرامه، وذهب إلى خارج مكة.

فبعض الشعراء يقول: "وأحل من إحرامه خوف العدا"، هذا المعنى متكرر في ألسنة الشعراء، وربما في المقاتل وغيرها. إلا أن هذا ليس موافقا للتحقيق والروايات، وإنما ما هو موافق للتحقيق والروايات هو: أن الإمام الحسين (ع) لم يكن محرما ولم يكن على عمرة تمتع، وإنما كان قد أخذ عمرة مفردا، وعندما أراد الخروج من مكة كان محلا بالكامل. أما أنه لم يكن معتمرا عمرة تمتع، فهذا – كما تعلمون، وهذا بحمد الله معروف لديكم وللمؤمنين - لأن الحج عندنا يتكون من قسمين، هما في الواقع عبادة واحدة، عمرة التمتع، ثم يتحلل الإنسان، ثم يحرم لحج التمتع. والحج هو الوحيد الذي فيه عمل من قسمين منفصلين، بينهما فاصلة في الوسط. ليس عندنا من شيء غير الحج هكذا. فلا تستطيع مثلا أن تصلي ركعتين لصلاة الظهر، ثم تذهب إلى أشغالك، ثم تعود لتكمل الركعتين الأخريين، أو الصوم مثلا، تصوم مقدارا، ثم تعطل صوم، ومن ثم تعود لتكمل. الحج هذا موجود فيه.

والمعتمر عمرة تمتع مرتهن بالحج. ولذلك رأى بعض علمائنا أنه لا يجوز للإنسان أن يخرج من مكة إلا محرما، وإن كان الرأي المشهور الآن بين فقهائنا أنه: إذا اطمأن بعودته لإكمال الحج، فيجوز له أن يخرج.

المهم، أن الإمام الحسين (ع) لم يكن محرما بعمرة التمتع، وما قاله بعضهم من أنه كان محرما بعمرة التمتع ثم أضاف إليها طواف النساء وصلاته وتحلل بذلك، غير صحيح. لماذا؟ لأنهم يقولون لو أن إنسانا في عمرة تمتع، ثم صُدَّ من قبل ظالم، أي ذهب يعتمر عمرة تمتع، لكن قبل أن يتمها، جاء ظالم ومنعه من إكمال المناسك، فهذا لا يحتاج إلى أن يطوف طواف النساء، فليست وظيفته ذلك، وإنما فقط يفدي دما، يذبح شاة، وبالتالي يتحلل. والإمام الحسين (ع) لم يصنع هذا الشيء. وعمرته المفردة كانت مبكرة، إما في أوائل ذي الحجة، وربما حتى قبل ذي الحجة. فلما صار - مثلا - اليوم السابع أو اليوم الثامن، كان هو محلا أصلا، لم يكن محرما بعمرة تمتع، ولا متحللا من عمرة تمتع. بل كان محلا إحلالا تاما باعتبار أنه اعتمر عمرة مفردة، السبب، أن التحلل – أولا - من عمرة التمتع إنما يكون بذبح شاة، ولم يؤثر أن الإمام الحسين (ع) قد صنع ذلك، بالإضافة إلى الروايات الواردة.

السيد الحكيم ينفي كونه محرما قبل الخروج :

فهناك كلام للمرحوم الإمام السيد محسن الحكيم، رضوان الله تعالى عليه – مرجع الطائفة في زمانه، ولعل قسما كبيرا من الحاضرين قد أدرك أيامه وتقليده - يقول في هذا الكلام: "وأما في بعض كتب المقاتل"، هذا يذكره في كتاب: المستمسك، الفقه الاستدلالي، "من أنه"، يقول: هذا مذكور في كتب المقاتل، "من أنه جعل عمرته عمرة مفردة"، لأن بعضهم يرى هكذا: أنه حوَّل عمرته التمتع إلى عمرة مفردة، وطاف طواف النساء، وصلى ركعتيه، فتحلل. فيقول السيد: "وأما ما قاله في كتب المقاتل من أنه جعل عمرته عمرة مفردة مما يظهر منها أنها كانت عمرة تمتع وعدل بها إلى الإفراد"، يعني إلى عمرة مفردة، "فليس مما يصح التعويل عليه مقابل الأخبار المذكورة المعتبرة". فوظيفة من صُدَّ غير هذا. بالإضافة إلى ذلك، عندنا روايات معتبرة، أن الإمام الحسين (ع) إنما اعتمر من البداية عمرة مفردة، فلما صار يوم السابع والثامن، كان هو محل إحلالا عاديا، فلا يحتاج إلى شيء آخر. وهناك روايات على هذا، ذكرها، لكن لا مجال الآن لذكرها. فهذه أول مسألة فيما يرتبط بخروجه سلام الله عليه.

نعم، ربما قسم من الشعراء - باعتبار أن الشاعر يهمه التصوير، ولا يهمه التحقيق كثيرا – يصورون لك – مثلا - أن الإمام الحسين (ع) قد أحل من إحرامه، وعند البيت الحرام، وكذا. فقد يكون هذا الشاعر قد فعل ذلك؛ من أجل إثارة الشجى والحزن، وإضفاء صورة من العاطفة. وليس من شأنه عادة التحقيق، بل رأينا الشعراء يبالغون كثيرا في أمور لا أصل لها.

ذاك الشاعر الذي يقول مثلا: "وجحافل بالطف أولها .. وأخيرها بالشام متصل". هذه صورة شعرية لا توافق الحقائق التاريخية. أو قول الآخر: "جاؤوا بسبعين ألفا سل بقيتهم .. هل قابلونا وقد جئنا بسبعينا"، مع أن لا جيش الحسين كان سبعينا، ولا جيش عمر بن سعد كان 70 ألف. وإنما هذه صورة شاعرية.

وهنا أريد أن ألفت النظر إلى قضية وهي أنه أحيانا يصبح لدى الشاعر صورة شعرية معينة، فيحبك قصة وقضية تمثل تلك الصورة الشعرية الجميلة، والمؤثرة أحيانا، لكن فيما بعد تتحول تلك إلى قصة، ربما الخطيب يأتي بها باعتبارها حقيقية وجزء من السيرة، وهي ليست كذلك. فينبغي الالتفات إلى هذا الأمر. الشاعر شأنه - كما قلنا - أن ينظر إلى الصور الجميلة المؤثرة، وقد لا يكون في صدد التحقيق الدقيق للمسائل.

هل كان خروج الحسين من المدينتين انسحابا من المواجهة ؟

الإمام الحسين (ع) خرج من مكة بعدما غادر المدينة، في حركة منه؛ للانفصال عن الظلم والظالمين، والاحتجاج عليهم. ولعل واحدا يقول: أليس هذا الكلام نوع من الانسحاب. أحدهم في المدينة، فيخرج منها! في مكة فيقوم يخرج منها أيضا! والمفروض أن يواجه، أن يقاتل، أن كذا. الإمام الحسين (ع) يريد - فيما نفهم - أن يقدم لنا أسلوبا في مقاومة الظلم، والعالم الإسلامي اليوم أحوج ما يكون إليه.

مع الأسف الشديد، اليوم، العالم الإسلامي، يعيش معتركا سيئا للغاية. زيد من الناس، أو الفئة الفلانية، رأت أن الحاكم الفلاني ظالم، فتقرر: سنقاومه، فبأي ثمن نقاومه؟ هل نقاومه حتى لو أدى ذلك إلى تهجير ملايين من البشر من البلد؟! هل نقاومه حتى لو أدى ذلك إلى مقتل مئات الألوف من البشر؟! هل نقاومهم حتى لو دمرت هذه المقاومة البلد على رؤوس أهلها ولم يبق فيها بيت سالم؟ أم لا. من ذا الذي يجيز لي أنا الإنسان المعارض للظالم أن أفعل أي شيء بأي ثمن؟ أم هو الأمر مثلما فعل الإمام الحسين (ع). يقول: أنا أقاومه، ولكن لا أريد أن ينتهك البيت بسببي. فأخرج خارجه. مع أنه الأمان له، أي المفروض أن الأمان العام إلى إمام الحسين (ع) موجود في مكة، في البيت الحرام، في البلد الحرام، المفروض أن يبقى فيه، لكنه يقول: أنا أريد أن أحافظ على قداسة البيت، قداسة المكان. وقد قال إلى بعض من سأله: "لَإِنْ أُقْتَلَ خَارِجَ الحَرَمِ بِشِبْرٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُقْتَلَ دَاخِلَ الحَرَمِ بِشِبْرٍ". فأنا لا أقول – أنا الحسين – أني لا أريد أن أقاوم بأي ثمن من الأثمان. ل. فأنا أستشهد، أهل بيتي أيضا، لا بأس، إضافة إلى من: "أَوَمَنْ كَانَ بَاذِلًا فِينَا مُهْجَتُهُ وَمُوَطِّنًا عَلَى لِقَاءِ اللهِ نَفْسَهُ فَلْيَرْحَلْ مَعَنَا".

أما لو فرضنا أنه - كما رأينا في بعض النماذج التي نعيش فيها الآن - أن الحاكم المستبد مستعد إلى أن يأخذ آخر المشوار وأن يدمر، فأنت أيها الإنسان الثائر ضد الظلم، لماذا تكون سببا في تدمير البلد، وأرزاق الناس، وما شابه ذلك؟! من ذا الذي يجيز للإنسان هذا الأمر؟! هذا مع أن الحسين سلام الله عليه معصوم في كل خطواته. فلو اختار ذاك الاختيار، كان مسددا من قبل الله سبحانه وتعالى في اختياره. فما ظنك بغيره من عامة الناس الذين من الممكن أن يدمروا حياة المجتمع، ثروات المجتمع، تهجير البشر، قتل البشر، إلى غير ذلك.

فالإمام الحسين (ع) - فيما نفهم - من خروجه من المدينة، ثم من خروجه من مكة، أنه كان يريد أن يقول: أنا أتحمل مسؤولية موقفي بنفسي. فلا أدمر البلد، ولا أقحم الناس في مقاتل. أنا اخترت هذا الأمر بتوجيه رباني، "وَخِيرَ لِي مَصْرَعٌ أَنَا لَاقِيهِ"، وماض فيه، ولكن هل يجب أن يكون ذاك مدمرا لكل شيء؟ هذا ما لا نفهمه من الإمام الحسين سلام الله عليه.

الأمر الذي نراه في بعض البلاد من مشي هؤلاء المعارضين إلى حد تدمير البلد، وتهجير الناس بالملايين، وقتل الناس بالآلاف، فالنتيجة المحصلة، هو هذا! ومن أجل معارضتي أنا. وهذا ما لا نفهمه من خروج الإمام الحسين (ع) من المدينة المنورة أو مكة المكرمة.

فالإمام الحسين (ع) خرج قبيل موسم الحج. بمعنى: أنه خرج قبل بدء مناسك الحج التي يكون فيها الناس كلهم في حركة واحدة. فلماذا لم يحج مع الناس ولم يمش معهم في المشوار إلى آخره؟ ربما - وهذا يحتمل جدا - أن التهديد الذي كان يتعرض له الإمام الحسين (ع) بالقتل غيلة حال بدء المناسك، هو أكبر بكثير مما كان قبله.

فلو صار الإمام الحسين (ع) في خروجه إلى عرفات مع الناس، ثم في إفاضته إلى مزدلفة مع الناس، ثم في منى مع الناس، وهكذا. فإمكانات الاغتيال في هذا الجمع المزدحم هي أكبر بكثير مما لو كان قد خرج وانفصل عنهم، فهنا ستصبح المواجهة مباشرة وواضحة. أما في تلك الحالة، وهو نافر من عرفات إلى كذا، فمن الممكن أن يرمى بسهم.

وقد حصل هذا في تاريخ المسلمين. إذ أن حالات كثيرة هي لأشخاص ضربوا بسهم مسموم أثناء الحج.. فمن الذي يدري من رمى؟! من ضرب؟! وبعضهم بأشياء محددة فقط، وفي حالة زحام، ويكون ذلك الشيء الحاد مسموما، فينتهي الأمر.

نحتمل أن الإمام الحسين (ع) لم يكن يشاء أن يذهب دمه بهذه البساطة، وأن تسجل القضية - فيما بعد - ضد مجهول، فلا يبلغ مما أراد من نهضته ما كان يريد أن يبلغ. لذلك نحتمل أن هذا من أسباب تبكير الإمام (ع) في خروجه من مكة المكرمة، قبل أن يبدأ الناس في الخروج إلى يوم التروية. بالإضافة إلى ذلك، الجانب الإعلامي، إذ أن حركة الناس باتجاه، وحركته هو باتجاه مخالف لذلك، فهذا يعطي إعلاما وإشعارا بحركة الحسين سلامه الله عليه.

هل كان الإمام الحسين يعلم بمقتله ؟

خرج الإمام الحسين سلام الله عليه، في اليوم الثامن، يوم الثلاثاء، فجرا، وقد أعلن عن ذلك في يوم الاثنين، عندما قال: "فَإِنِّي رَاحِلٌ مُصْبِحًا إِنْ شَاءَ اللهُ"، وهذه الخطبة تطرح أيضا هذا السؤال: هل كان الإمام الحسين (ع) يعلم بمصرعه بالتفصيل أم لا؟ هذه مسألة من المسائل التي كانت ولا تزال تثير سؤالا واستفهاما في الذهنية الشيعية، بل الذهنية الإسلامية عموما. وبالذات قبل 50 سنة، ودقيقا قبل 46 سنة، حيث أُلِّف كتاب باسم: شهيد جاويد، باللغة الفارسية، بمعنى: الشهيد الخالد.

الشهيد الخالد صنع موجة من الموافقين والمعارضين. وكتبت عليه ردود، وكثير من الكتب، والكراسات، وغير ذلك، ألفه أحد المشايخ في إيران، اسمه: الشيخ نعمت الله صالحي. توفي قبل عشر سنوات تقريبا. وهذا كان يجيب على هذا السؤال من زاوية. فالكتاب كان يريد أن يقول فكرتين: الفكرة الأولى: أن الإمام الحسين (ع) إنما خرج في نهضته تلك لأجل إقامة حكومة إسلامية. وليس لحركة استشهادية. أي ليس لحركة يراد منها أن يقتل الإمام الحسين (ع)، وإنما حركة باتجاه إقامة حكومة إسلامية، وأتى بااستشهادات على ذلك من كلام الإمام (ع).

فإن كان خرج من أجل إقامة حكومة إسلامية، فهذا يتعارض مع أنه يعلم بمصرعه. فإذا أحدهم يدري أنه سوف يقتل ويموت، فلا معنى لأن يخرج من أجل إقامة حكومة إسلامية! إذن لم يكن يعلم بمصرعه ومقتله. هذه هي الفكرة الثانية التي ناقشها هذا الكتاب.

طبعا من ذاك الوقت، الفكرة الأولى أيدها العلماء الثوريون حسب التعبير، الذين كانوا يدعون إلى تحرك الإسلام وإقامة الحكم الإسلامي، فقد كان هذا الكتاب في الفكرة الأولى يخدمهم. أما الفكرة الثانية فقد عارضها أغلب علماء الحوزة التقليدية إن صح التعبير، فأنت تريد أن تقول: أنه لأجل حكومة إسلامية قام، فلم يكن يعلم بمصرعه ومقتله. وهذا مخالف لما عليه الطائفة، لما عليه الرأي الموجود لدى علماء أهل البيت (ع). فصار أخذ ورد، وكتب وكتب مقابلة، وتحول الأمر إلى ما يشبه التشنج الاجتماعي وقتها، كان ذلك قبل 46 سنة وما تلا ذلك.

الآراء في الساحة الشيعية حول الموضوع :

خلاصة الأمر، أن الآراء في هذا الجانب - وهذا يعم على الإمام أمير المؤمنين، والإمام الحسن، وعلى الأئمة الذين قتلوا بالسيف أو بالسم. فهل كانوا يعلمون بمصارعهم أم لا؟

- الموجودة في الأفق الشيعي، بشكل مختصر، ثلاثة آراء: الرأي الأول، يقول: أن الأئمة (ع) لم يكونوا يعلمون تفصيلا بمصارعهم زمنا ومكانا ولحظة. لماذا؟ يقول لك: لأن الإجماع قائم على أن المطلوب في الإمام أن يكون عالما بكل الأحكام، لا بكل الأحداث، لا بكل الوقائع، لا بكل الأعيان حسب تعبيرهم. وقضية علمه بمصرعه لم تثبت. هذا رأي ذهب إليه بعض العلماء.

رأي آخر: كانوا يعلمون، ولكن يعلمون إجمالا. لا يعلمون تفصيلا. بمعنى: أن الإمام الحسين (ع) - بناء على هذا الرأي - يعلم أنه مقتول، شهيد، لا يموت ميتة حتفة، وأنه سيكون في كربلاء. أما أن ذلك بالذات في اليوم العاشر بعد الظهر، بكذا ساعة، وأن قاتله فلان وفلان، فحسب هذا الرأي، الرأي الثاني، لم يكن الإمام الحسين (ع) يعلم بذلك. وإنما يعلم بالقضية علما إجماليا.

أيضا، الإمام أمير المؤمنين (ع) – حسب هذا الرأي - يعلم بمقتله في شهر رمضان إجمالا، على يد عبد الرحمن بن ملجم إجمالا، أما اللحظة والساعة والكيفية وكذا، لا يعلم بها بالتفصيل. هذا الرأي الثاني.

أما الرأي الثالث، وهو المشهور، والصحيح عندنا في الطائفة، هو: أن الأئمة (ع) كانوا يعلمون بمصارعهم تفصيلا أيضا، وهذا لأجل أن يبلغوا مرتبة من المراتب عند الله عز وجل، لا يبلغها إلا من يصبر على البلاء مع علمه به.

فلو أتيت لاثنين، واحد تقول له: ابرز إلى المعركة، وهو لا يدري أنه يُقتل، يرجو النجاة. فيبرز إلى المعركة، هذا له ثواب عظيم بلا إشكال. ولكن تأتي إلى واحد آخر، فتقول له: ابرز إلى المعركة وأنت ستقتل في هذه المعركة. فهذا مقاومته لنفسه، مقاومته لشهوات الدنيا، أعظم وأكبر. وصبره على الابتلاء، والتحديات التي يواجهها أكبر. فلا يبلغ ذلك الأول مقدار ما يبلغ الثاني من المرتبة.

علماؤنا حسب الرأي الثالث، يقولون: إن الله سبحانه وتعالى امتحن أئمة الهدى بصبرهم على البلاء، وعلى مواجهته مع علمهم بحلوله عليهم، ومع ذلك مضوا صابرين مستسلمين لأمر الله عز وجل، وهذا يعني أنهم في مرتبة هي عليا المراتب بالنسبة إلى سواهم. هذا مجمل المشهد في قضية الرأي في علم الإمام (ع) بمصرعه.

هذا الرأي الأخير يستند إلى قرائن كثيرة، وإخبارات متعددة. أما الرأي الذي يقول أنهم أصلا لم يكونوا يعلمون بمصارعهم، فهذا بعيد الواقعية جدا؛ لأن قضية مصرع الحسين (ع) في كربلاء كانت معروفة حتى عند عامة أصحاب الأئمة (ع). وإن شاء الله تأتي ليلة نشير فيها إلى هذا. فسلمان الفارسي، سنة 23 هجرية، وقد رأى بعض المسلمين - ومنهم: زهير بن القين – قد فرحوا بالفتح الذي حدث في هذه المعركة - فقال لهم: "إِذَا رَأَيْتُم أَنْفُسَكُم فِي نَصْرِ ابْنِ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ فِي يَوْمِ عَاشُورَاء فَكُونُوا أَشَدَّ فَرَحًا مِمَّا حَلَّ عَلَيكُم". أي ذلك اليوم، الذي ستقع فيه المعركة في كربلاء، يوم عاشوراء، وبينما أنتم تنصرون الإمام الحسين (ع)، كونوا أكثر فرحا مما أنتم عليه الآن.

وقد نقل متعددون عن الإمام (ع)، أنه عندما كان في طريق صفين، التفت إلى جهة نينوى، كربلاء، فقال: "صَبْرًا أَبَا عَبْدِاللهِ، صَبْرًا أَبَا عَبْدِاللهِ"، فسأله بعضهم عن هذا الكلام، فأخبرهم عن قضية كربلاء ومصرع الحسين فيها. ورسول الله تحدث. وغير رسول الله تحدث. والإمام الحسن، يقول: "وَلَكِنْ لَا يَوْمَ كَيَوْمِكَ يَا أَبَا عَبْدِاللهِ"، ويصف إليه الأمر كله. فإذا كان الآخرون قد سمعوا هذا من الأئمة (ع)، أترى الحسين (ع) لم يسمع بكل هذا، ولم يعرفه!

ومن الإشارات، هذه الكلمة: "وَخِيرَ لِي مَصْرَعٌ أَنَا لَاقِيهِ، كَأَنِّي بِأَوْصَالِي تُقَطِّعُهَا عُسْلَانُ الْفَلَوَات، بَيْنَ النَّوَاوِيسِ وَكَرْبَلَاء"، تحديد المكان، وأكثر من واحد، أشار إليهم الإمام الحسين (ع)، بأنه خارج، وأنه مقتول، وأنهم لن يتركوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي. يعني: علقة الدماء من جوفه. وهذا بحث طويل، ولكن هذا الرأي الثالث هو الرأي المعروف والمشهور عند علماء الطائفة، صلوات الله وسلامه عليه.

اختار الإمام (ع) العراق. وهذا بناء على الموضوع الغيبي، واضح. أن الأئمة (ع) كانوا مسددين من قبل الله عز وجل، في اختياراتهم. وهذا راجع إلى قضية غيبية. وقد أخبر رسول الله (ص) بهذا، بل وأتي له بتربة من كربلاء، وعرفت عنها أم سلمة، وغير هؤلاء. وهذا أمر دبر من قبل، وهيئ له.

فمن الجانب العادي، وبغض النظر عن هذه الجهة، فنلاحظ أن النظرة الفاحصة على العالم الإسلامي، في ذلك اليوم، لو أن إنسانا أراد أن ينتخب للإمام الحسين مكانا أفضل لإعلان مواجهته للسلطة الأموية، لم يكن ليجد هناك مكانا أفضل من الكوفة؛ ذلك لأن بعض الأماكن، كالبصرة، والمصر الكبير، لم تكن شيعية الهوى. اليمن وهي شيعية الهوى، كانت غالبا بعيدة جغرافيا، وعديمة التأثير سياسيا. فاليمن ليس لها تأثير كبير على الأمة. أما المكان الذي فيه وجود شيعي، بالمعنى الولائي على الأقل، والسياسي، كان الكوفة. وفيها إمكانيات التأثير على الأمة؛ ولذلك تم اختيار العراق، وخرج الإمام الحسين (ع) إلى ذلك المكان مع ممانعة من السلطة الأموية.

فما كان خروج الإمام الحسين (ع) سلسا. فقد حاولوا منعه، لكنه كان صارما في خروجه، إلى الحد الذي لا يوقع قتالا، لكنه مصمم على الخروج. فوقفت أمامه مفرزة عسكرية، لما صار بظاهر مكة، أي في الخارج، فهؤلاء الجنود الأمويون، الذين أرسلهم عمر بن سعيد الأشدق، كانوا هناك، حتى يمنعوا الإمام، لكنه أصر على المسير، فاجتلدوا بالسياط. هذا يذكره المؤرخ الطبري وغيره. أنه صار ضرب بالسياط وليس بالسيوف. باعتبار أن الإمام الحسين (ع) لم يكن يريد أن يصعِّد بهذا المعنى، ولكنه كان حازم الموقف في أنه سوف يخرج. فأُرسل إلى الوالي أن الحسين (ع) مصمم على الخروج، فهل نقاتله بالسيف؟ فقال لهم: لا. فترك الإمام الحسين (ع) يخرج، إلى حيث سيسير هذه المنازل المختلفة، 38 منزلا إلى أن وصل إلى كربلاء، في اليوم الثاني من شهر محرم الحرام. إذ اختار العراق لكي يفجر ثورته فيها. ووضع العالم الإسلامي، كما يصف الشاعر:

لم أدر أين رجال المسلمين مضوا      وكيف صار يزيد فيهم ملكا

العاصر الخمر من لؤم بعنصره       ومن خساسة طبع يعصر الودكا

فما رأى السبط للدين الحنيف شفا    إلا إذا دمه في كربلا سفكا

نفسي الفداء لفاد شرع والده          بنفسه وأهليه وما ملكا

بعد ذلك يقول:

فكان ما طبق الأرجاء قاطبة     من يومه للتلاقي مأتما وبكا

في كل عام، لنا في العشر واعية تطبق الدور والأرجاء والسككا

ها أنت تجد في كل مكان قد ترك الناس أمورهم، وراحتهم، وقضاياهم؛ لكي يذهبوا إلى مآتم الحسين (ع)، إلى ذكر الحسين (ع). يحملون في داخلهم قلوبا خفاقة بحبه. كل ينادي: واحسيناه.

دموعهم تسبق عبراتهم، وعبراتهم تعبر عما في داخلهم من حب وولاء للحسين (ع). الشاعر يقول: من يومه! لا ليس من يومه، بل من تاريخ الأنبياء. ذاك آدم أبو البشر قد بكى الحسين (ع)، فأي عين لا تبكي على الحسين إذا سمعت قصته. هل من عين عادية، وقلب، وضمير، يقال له: رجل ذبح ولده الرضيع على كفه، بذلك السهم المشؤوم فلا يتأثر! كيف إذا قرئت قصة الحسين على الأنبياء!

بكاك آدما قدما عند توبته    وكنت نورا بساق العرش قد سطعا

ونوح أبكيته شجوا وقل بأن  يبكي بدمع حكى طوفانه دفعا

كلمت قلب كليم الله فانبجست عيناه دما دمعا كالغيث منهمعا

ولو رآك بأرض الطف منفردا عيسى لما اختار أن ينجو ويرتفعا

هؤلاء الأنبياء بكوا، وسيد الأنبياء أيضا بكى على الحسين (ع)، من قبل أن يحدث الحادث. بل وهو طفل رضيع، بكاه النبي (ص). وكان أقل شيء يؤذي الحسين، يُبكي النبي (ص).

ينقلون، وهذا موجود سواء في كتب العامة بعضها وكتب الخاصة: أن النبي المصطفى (ص) ذات مرة، مر على بيت فاطمة الزهراء (ع)، فإذا به يسمع بكاء الحسين (ع) ينبعث من داخل الدار، فنادى: "يَا فَاطِمَة، يَا فَاطِمَة، سَكِّتِيهِ، سَكِّتِيهِ، أَمَا عَلِمْتِ أَنَّ بُكَاءَهُ يُؤْذِينِي". سكتي الحسين يا فاطمة، فأنا لا أتحمل بكاء الحسين.

مرات العرض: 3441
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2566) حجم الملف: 50738.84 KB
تشغيل:

تدبير المعيشة في النص الديني
تاريخ التشيع في آذربايجان