قيس بن سعد بن عبادة الخزرجي الأنصاري
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 26/9/1435 هـ
تعريف:

 


قيس بن سعد بن عبادة

تصحیح الأخت الفاضلة افراح البراهيم

حديثنا يتناول بعض الجوانب من سيرة حياة  قيس بن سعد بن عباده الخزرجي الأنصاري المدني المتوفى سنة ستين للهجرة.

في البدء لابدّ أن نشير أولًا إلى فكرة ترتبط بتوارث الصفات  وتكرارها بين الآباء والأبناء. هناك حديث شائع يعتمد على ما نقل عن أمير المؤمنين عليه السلام في قوله ( لا تقسروا أولادكم على أخلاقكم فإنّهم خلقوا لزمانٍ غير زمانكم)1

وهذه الكلمات إذا صحّت نسبتها إلى أمير المؤمنين عليه السلام فالواضح  بأنّ معناها أنّ الاقتصار على نمط الحياة ليس من الأمور الجيدة ، وهو يعد من الإكراه، لاسيما إذا كان هذا الإكراه على نمط حياة، حيث أنّ الأنماط الحياتية متغيّرهٌ ومتبدّلةٌ ومتطوّرة، فإكراه  جيل الآباء والأجداد لجيل آخر وهو جيل الأبناء والأحفاد على نمطٍ حياتي معين يعتبر أمرًا  غير محمود.

أما قضية تكرار المنهج الأخلاقي الذي كان عليه الآباء والأجداد واستعادة ما كان لديهم من خصال الكرم والصبر والعطاء والتحمّل وما شابه ذلك، فهو بلا شك أمرٌ محمود، بل أمرٌ مطلوب من قبل الآباء ولابدّ من تنشئة أبنائهم على ذلك.

بمعنى أنّه يجب علينا كآباء وضمن مسؤولياتنا أن نربّي أبناءنا  على الأخلاق الفاضلة ،وعلى ما كان عليه  أجدادنا  من الصبر على المشاكل، والتحمّل للمصائب، والسخاء، والكرم مع الآخرين ،وصلة الرحم، والرحمة ،وما شابه ذلك.

هذه الأمور ينبغي للإنسان أن يربّي عليها أبناءه وأحفاده،  وهذا الجانب ليس له علاقة بحديث أمير المؤمنين عليه السلام ( لا تقسروا أبناءكم على أخلاقكم فإنهم خلقوا لزمانٍ غير زمانكم ) لأنّ أصل الأخلاق ثابت وليس متغير، بينما المتغيرات هي :الأدوات، الأساليب، وطريقة التعبير عن هذه الأخلاق ، حيث نراها مختلفةً ومتغيرة ، ففي  زمنٍ من الأزمان كان علامة كرم الإنسان كما يقولون أن يكون (كثير الرماد ) دلالة على كثرة الطبخ في البيت  والإطعام.بينما قد  لا يكون هذا التعبير موجودا في العصور الحالية .

إنّ أصل فضيلة الكرم ،وأصل ميزة السخاء أمر غير متغير، بمعنى أنّ الكرم في  ذلك الزمان جيد، وأيضًا  في هذا الزمان جيد، وبعد مئة سنة سيظل جيدًا ولن يتغيّر، بينما تتغيّر الأساليب، الأدوات، وطرق التعبير عن هذه الخصال، وتختلف من زمانٍ إلى زمانٍ آخر.

لكن أصل هذه الصفات لا تتغيّر ولا تتبدّل ، فليس من الممكن أن ينقلب الصبر والتحمّل للمشاكل إلى أمر غير جيد في هذا الزمان ، وكان جيدًا في الزمن القديم.

إذن ..أصول المبادئ الأخلاقية ليست متغيّرة ولا تخضع للأزمنة،

الذي يتغير في هذه المبادئ الاخلاقية هي طرق التعبير عنها وطرق إظهارها وأساليب إبرازها ، حيث تتغير من زمان الى زمان آخر.لذا من المفترض أن يتوارث الأبناء من الآباء خصالهم الطيبة و مكارم أخلاقهم ، وأن يسعى الآباء في تكريس هذه الأخلاقيات في أبنائهم ، وبعد ذلك إن توارث الأبناء هذه  الصفات الأخلاقية وأصبحت واضحة لديهم فإنهم سيعبّرون عنها بالتعبيرات المناسبة للزمان والمكان والأشخاص.

نلاحظ عند دراستنا لشخصية قيس بن سعد بن عبادة قضية يذكرها أكثر من ترجم له ولأبيه، حيث أنّ صفة الكرم كانت واضحة ومتوارثة لديهم من جدّ قيس الى أبيه ثم اليه.

حيث كان جدّه يفتح باب منزله عند وقت الطعام ويقول للناس   ( أيّها الناس من أراد اللحم والشحم فإليّ ) فكان الناس بحكم حاجتهم أيام الجاهلية وفقرهم يتوافدون إلى منزله ويكرمهم بضيافته.وقد ورث سعد عن أبيه هذه الخصلة من الكرم والعطاء وكرّسها في حياته حتى عدّ من أسخياء العرب والمسلمين ومن كرمائهم ، وجاء قيس بن سعد أيضاً وكرّسها في حياته ، والوالد والولد كلاهما كانا في ركاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

أما سعد الوالد يعتبر من زعماء الخزرج ، الخزرج الذين كانوا أحد قسمي الأنصار في المدينة، حيث كان الأنصار عبارة عن الأوس والخزرج وهما أبناء عمومة في الأعلى ومن قبيلة واحدة.

سعد بن عبادة كان يعد من كبار زعماء الخزرج وهو من النفر القلائل الذين لقبّوا بالنقباء الإثني عشر ، وهم أول مجموعة بايعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مكة المكرمة في بيعة العقبة ، حيث كان هؤلاء اثني عشر رجلاً من الرؤساء على أقوامهم ، آمنوا بدعوة رسول الله ، وقاموا بدعوته إلى المدينة وعرفوا بنصرتهم إياه، ودفاعهم عنه، وقد أوذوا في سبيل ذلك، ومن بينهم سعد بن عبادة الذي تعرّض للأذى في سبيل دفاعه عن النبي ونصرته له.

فقد قامت قريش بالبحث عن هذه الثلة التي دافعت عن رسول الله والتربّص بهم ، فبدأت تبحث عنهم بعد موسم الحج، حيث استطاع البعض منهم النجاة، بينما وقع سعد بن عبادة تحت قبضتهم و ضربوه ضربًا مبرحًا عقابًا له على مبايعته للنبي ونصرته ودعوته للمدينة.

سعد بن عبادة في المدينة

 كان سعد بن عبادة من أوائل المستقبلين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما قدم المدينة ، وكان من البارزين في خدمة رسول الله ، بل ومن الذين تشرّفوا بدعوة النبي لهم ولأهلهم.فقد كان الوالد كريماً سخيًا معطاءً، وقد حظي بدعوةٍ كريمةٍ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له ولأهله.

ففي الخبر أنّ النبي صلى الله عليه وآله جاء إلى بيت سعد بن عبادة وطرق الباب مسلّمًا عليهم، فردّ سعد بصوتٍ منخفض ، فأعاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم السلام، فأجاب سعد أيضًا بصوت منخفض، وللمرة الثالثة أعاد النبي سلامه، فرفع سعد صوته  بالسلام عليه، ثم سأله ابنه لماذا تصنع هكذا؟ قال: قد سمعت صوت رسول الله ورددت عليه ، ولكنّني أحببت أن أستزيد من كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

ثم استضافه في بيته وهو بيت من بيوت كبار شخصيات المدينة المشهورة بالخير والثراء. سكب له الماء ليغتسل، ودعاه لذلك فاغتسل  الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في منزله ،وبعد خروج النبي دعا له ولأهله وقال ( اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة )2 وكان لهذه الدعوة أثرٌ واضح في حياة هذه الأسرة.

قيس بن سعد بن عبادة

كان ضمن هذه الأسرة، وقد ورث السخاء من أبيه سعد بن عبادة، بل ورث أيضًا حالة الزعامة والكرم من أبيه.

ومن ناحية البنية كان قيس يتمتّع بجسم متناسق طويل، وصاحب قوة كبيرة جدَا، فكان طويلاً وجسيماً بحيث ذكر في هذا الشأن أشياء غريبة عن طوله وجسامته وقوته، وفي نفس الوقت لم يكن ملتحيًا، حتى قال أحد الأنصار وددنا أنّ اللحى تشترى لاشترينا لحية لقيس بن سعد!

قيس بن سعد والدهاء

كان يعد ثالث ثلاثة من أدهى دهاة العرب كما تذكر كتب التاريخ، فقد قيل أنّ الدهاة من العرب كانوا ثلاثة :يذكرون عمر بن العاص ،المغيرة بن شعبة، قيس بن سعد بن عبادة.

قيس بن سعد كان ذا دهاءٍ ومكرٍ وقدرةٍ على تقليب الأمور، لكنّ هذا الدهاء والمكر لم يستمر معه إلى وقت إسلامه ، حيث أنّه كان يعلم أنّ الإسلام يمقت الغدر والمكر فامتنع عنه. لعله سمع أمير المؤمنين عليه السلام ينهى عن ذلك عندما قال بحق معاوية:

(والله ما معاوية بأدهى منّي ولكنه يغدر ويفجر ، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس، ولكن لكل غدرة فجرة، وكل فجرة كفرة، ولكل غادر لواء يوم القيامة..)3

هذا اللسان وهذا المقال يجعل من يتّبع أمير المؤمنين عليه السلام يترك مثل هذا الأمر، حيث أنّ الدين الإسلامي يعتبر قضية الفتك والمكر والغدر وحياكة المؤامرات من الأمور الشنيعة و الغير نافعة ، فقد كان البعض يستطيع أن يتغلّب على عدوّه بالمكر، وعلى سبيل المثال ، كان بمقدور مسلم بن عقيل أن يقتل عبيد الله بن زياد ولكنّه عرف أنّ ذلك من الغدر وهو يعلم أنّ الإسلام يمقت الغدر فلم يعمل به.

وكذلك قيس بن سعد كان من أقوى الرجال دهاءً وقوة، صاحب عقل راجح ، وقدرة عالية في تدبير الأمور ، لكنه بعد أن أصبح مسلمّا وعرف أنّ الإسلام يمقت الحيلة والدهاء التزم بتعاليمه ولو كان في الحيلة الحصول على مراده ومصالحه، حيث أنّ البعض يتوصّل إلى مصالحه عن طريق الخدعة واستغفال الآخرين دون أن يلتفت للضوابط الشرعية، بل ويعتبر أنّ ذلك من الذكاء والحكمة والتدبير ، يقول أمير المؤمنين عليه السلام (قد يرى الحول ( القلب ) وجه الحيلة ودونه مانع من أمر الله ونهيه ،فيدعها رأي العين بعد القدرة عليها ، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين )4

الإنسان الحكيم هو من يقدّر الأمور ويبصر القضايا ومن يضع حاجزّا من أمر الله فلا يلجأ إلى التحايل للحصول على مصالحه الشخصية ؛ لأنّه يعلم أنّ ذلك لا يجوز شرعًا، وأنّ ذلك ليس من الرجولة والشهامة والمروءة ، بل أنّ الرجولة والمروءة تكمن في الالتزام بأوامر الله وجعلها منهجًا في الحياة.

كرم قيس بن سعد

ذكرنا سابقا أنّ قيس بن سعد ورث الكرم عن أبيه وجده ، فقد شهد مع رسول الله صلى عليه وآله المعارك وكانت بصمات كرمه واضحة ، فقد روي أنّه في أحد الغزوات انقطع المدد عن الجيش وكان بحاجة إلى المساعدة، فقام قيس بإطعام الجيش وذبح ثلاثةٍ من الجمال حتى اكتفوا، وكذلك في اليوم الثاني ذبح لهم أيضاً ثلاث جمال، بل إنّه في اليوم الثالث اضطر للاستدانة لكي يطعم الجيش،

وفي اليوم الرابع قال له قائد الجيش أبو عبيدة ( يا قيس تتلف وتهمل مال أبيك ) فقال له قيس لم نتعلم بخلاً .. فلما رجع وأخبر أباه سعد بن عبادة بما كان من قائد الجيش ، قام سعد وسط الناس وقال ( أيها الناس لا تبخلوا ابني ) أي لا تعلّموه البخل، ما خلقنا للبخل ولا خلق البخل لنا. نحن آل سعد بن عبادة ولسنا أهلّا لذلك.

آل قيس وخلافة رسول الله

عندما اجتمع القوم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله في سقيفة بني ساعدة كان والد سعد بن عبادة مريضّا فجيء به إلى السقيفة، فقام خطيب الأنصار وخطب في القوم مدّعيًا أنهم أحق الناس بالخلافة لنصرتهم لرسول الله وتحمّلهم مسؤولية الدعوة والإنفاق من أموالهم في سبيل نصرة الإسلام.

ثم قام خطيب المهاجرين وحاول أن يقنع المسلمين بأحقيتهم بالخلافة ، إذ أنّ النبي من شجرة قريش ومن شجرتهم فهم بالتالي أولى بالخلافة ، فوضعوا أنفسهم مكان الأمراء ، والأنصار بمثابة الوزراء . عندئذ انقسم الصحابة الحاضرون في سقيفة بني ساعدة، إلى فريقين متنافسين:

الأول يطالب بـخلافة سعد بن عبادة وهم من الأنصار.

والآخر يطالب بخلافة أبي بكر وهم من المهاجرين.

وبهذا حدث الانشقاق فيما بينهم، وكذلك حدث الانشقاق بين الأوس والخزرج ، فقد أحسّ زعيم الأوس أسيد بن حضير أنّ خطيب الأنصار يشير إلى سعد بن عبادة ، فمال بكفته إلى أبي بكر فقال نحن نبايع أبا بكر ، بينما أصبحت الأكثرية من جهة الأنصار تلتف حول سعد بن عبادة الذي كان مريضًا ، وتزاحم المبايعون حوله، حتى قال أحدهم أنّ الرجل مريض، لقد قتلتم سعدًا، وقال قائل: اقتلوه قتله الله ، اقتلوه.

وبعد ذلك في السنة الثانية أو الثالثة  بعد وفاة رسول الله الله صلى الله عليه وآله وسلم رمي بسهم وقتل سعد بن عبادة، لأنّه  رفض البيعة و لم يبايع وكان ينظر لنفسه على أنّه أولى بالخلافة من الخليفة الفعلي، ولو تساءلنا من هو المستفيد الفعلي من مقتله؟ لوجدنا أنّه لابدّ أن يكون المستفيد للخلافة، لكنهم نسبوا مقتله إلى الجن.

حيث قالوا أنّ سعد بن عبادة ذهب ليلًا ليقضي حاجته وجاء اليه جني فرماه بسهمٍ فقتله.

أما بالنسبة لموقف قيس من أبيه وحادثة السقيفة فقد احتجّ على أبيه واعترض على ترشيحه لنفسه للخلافة ، وهو يعلم مكانة أمير المؤمنين عليه السلام من رسول الله وما قال فيه وما نصّ عليه من خلافته من بعده ، فكيف لأبيه أن يفكّر في الخلافة بدلًا عنه؟! إنّ البعض يعتذر لسعد بن عبادة لأنه إذا كانت قضية الخلافة بينه وبين أبي بكر فسعد أولى منه بذلك، أما إذا كانت القضية مع أمير المؤمنين عليه السلام فلا يجب التقدّم عليه، ومع ذلك كان قيس منزعجًا جدًا من موقف أبيه لدرجة أنّه هجره ، ذلك أنّ سعد يعلم مكانة أمير المؤمنين عليه السلام وهو الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، لذا كان موقف قيس موقفًا واضحًا ، وبقي مع أمير المؤمنين عليه السلام ولازمه ، وقاتل معه في حروبه المختلفة حيث شارك معه في حرب الجمل و صفين أيضاً وله قصائد شعرية في أثناء تلك المعارك مذكورة في كتب التاريخ.

موقفه في معركة صفين

وقف في صفين فقال معاويةً لأصحابه أنّ مجموعة من هؤلاء الرجال مع علي بن أبي طالب فمن يكفيني هؤلاء ويخلّصنا منهم؟ وكان أحدهم قيس بن سعد بن عبادة حيث أوكل به بسر بن أرطأة الذي ذهب يبارز قيس لكنه أخفق في قتله، حيث ضربه قيس وكانت الغلبة له.

كان قيس بن سعد ينشد باستمرار في تلك المعركة

أنا ابن سعدٍ زانهُ بن عبادة   

 والخزرجيون رجال سادة

ليس فراري بالوغى بعادة  

ان الفرار للفتى قلادة

يا ربي أنت لقّني الشهادة

والقتل خير من عناق غادة                      

واستمرّ ينشد ويقاتل ، وقيل أنّ أمير المؤمنين جعله على خمسة آلاف قائداً لهم في صفين ، واستمرّ ملازمًا أمير المؤمنين عليه السلام حتى استشهد الامام عليه السلام .

قيس بن سعد مع الإمام الحسن المجتبى

لازم الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، وكان من الأشداء الأقوياء في نصرة أبي محمد الحسن بن علي الزكي، إذ كان يرغب في الحرب والقتال مع ابن رسول الله لأنّه يعلم أنّ راية بني أمية راية ضلال ، وهي ذاتها الراية التي حاربت رسول الله صلى الله عليه وآله.

فكان متحمساً جداً للقتال ، فعندما حدثت المعركة وقام معاوية بإعمال كيده ومكره في تلك الحرب النفسية هو وابن العاص حتى استمال بعض الأتباع أمثال عبيدالله بن العباس، الذي استميل عن طريق أبنائه إذ أنّه لم يكن متواجدًا في تلك المعركة، وذهب بسر بن أرطأة إلى بيته وأخذ أبناءه وضربهم بالجدار حتى حطّم رأسيهما وأمهما تنظر إليهما ، حتى أصيبت في عقلها من هول هذا المنظر البشع الذي ارتكبه هذا الطاغية أمام عينيها.

بعد ذلك أرسل له معاوية رسالة مفادها أنّ الإمام الحسن عليه السلام قد بايع فما أنت فاعل؟ كان معاوية يكذب ويمكر ولا مشكلة لديه في ذلك، فهو يريد أن يصل لمبتغاه ولو عن طريق الحيلة والمكر، كان يعاهد ثم ينكث ، شتّان بينه وبين أمير المؤمنين عليه السلام في الرسالة كتب لعبيد الله بن العباس ( إن أتيت فلك الأمان وستكون معزّزًا مكرّمًا ولك ألف ألف درهم نصفها معجّل والباقي مؤجّل ، وإن لم تأتي فأنت كأحدهم من الناس، فإنّ من تقاتل معه قد سلّم الأمر لمعاوية ) .

كان عبيدالله بن العباس أحد قادة جيش الإمام الحسن عليه السلام وكان على أحد القطع، فلما وصلته رسالة معاوية خرج في جوف الليل بحيث لم يشعر به أصحابه، وعندما استيقظ أصحابه لصلاة الفجر لم يجدوه، وهكذا خذل إمامه.

أما القطعة الأخرى فكانت بيد قيس بن سعد بن عبادة وحينما انسحب عبيدالله مع جنوده قال الجنود لقيس ماذا نصنع؟ قال قيس ليس بيني وبين معاوية سوى السيف، بايع الإمام الحسن أم لم يبايع وهذا قسمٌ أقسمته من قبل، فهو رجلٌ مخادع وليس أهلًا للثقة وليس من الممكن أن يكون والياً للمسلمين.

ثم قال لهم: تقاتلون بلا إمام أو تسالمون أما أنا فأقاتل قالوا له نحن معك نقاتل.

وفعلاً بدؤوا القتال، ثم وصل له خبر من الإمام الحسن عليه السلام يفيد بإنّ الإمام قد لجأ للمهادنة والصلح مع معاوية فهو حلٌ من أمر القتال، غضب قيس لأنه يعرف معاوية تمام المعرفة ويعلم بأنّه داهية فكيف ستؤول الأمور إليه بسهولة، فرجع مع الجنود إلى الكوفة بعد انتهاء المعركة ، وبايع القادة معاوية لكن قيس رفض المبايعة وقال أنّه أقسم وليس بينه وبين معاوية إلا السيف.

وقد حاول أصحابه إقناعه بالبيعة لمعاوية وفي نفس الوقت عدم الحنث بيمينه بوضع السيف بينهما لكنه أصرّ على موقفه وكان صامدًا.كان قيس من الأنصار القلة الذين وصفوا بالثبات على خط أمير المؤمنين عليه السلام ، وإن تعرّضوا للهزيمة فإنّهم يبقون على ثبات مواقفهم ، فقد روي عنه أنّه تولى على مصر ثم عُزِل من قبل أمير المؤمنين عليه لظروف معينة ، وعند رجوعه قابله جماعة وأخذوا يعيّرونه بعزله ، ومنهم الشاعر حسان بن ثابت الذي كان عثماني الهوى وقال له أنت قتلت عثمان لأجل علي بن أبي طالب فحُرِمْت الأجر، مع أنّ قيسًا ليس له يدٌ في قتل عثمان

فأجابه قيس بجوابٍ شديدٍ حين قال له :

(  يا أعمى القلب والبصر ، والله لولا أن ألقي بين رهطي ورهطك حرباً لضربت عنقك ، اخرج عني ) فتراه وهو معزول ويشعر بانكسار إلا أنّه ثابت في نصرته لأهل بيت النبوة ولم يتخلّ عن الوقوف معهم، فهو من الأنصار الخلّص الذين مدحهم رسول الله بقوله:

.   ( كرشي وعيبتي )5.

تعبير عن أنّهم مخزن نصرة لي و مخزن أسرار أستعين به، هنا عبّر بالكرش لأّنّ الكرش يكون في الحيوان المجتر حيث يأكل الطعام ويدخله إلى داخل كرشه ثم يستدعيه وقت الحاجة ويمضغه من جديد، وكأنّه يستخدم هذا الكرش كمخزن للطعام حيث  يستفيد منه على دفعات.

والعيبة هي عبارة عن الشئ الذي تخزّن فيه الأشياء الثمينة  لذلك عبّر عن الأئمة بأنهم عيبة علم رسول الله، و مخزن علومه صلى الله عليه وآله وسلم فالنبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم يعبّر عن الأنصار الذين ينطبق عليهم هذا الحديث الشريف انطباقاً تاماً.

وقيس بن سعد رضوان الله عليه كان من طليعة الأنصار الذين لازموا أمير المؤمنين عليه السلام وثبتوا معه ،و ناصروه في كلّ معركة فنال بذلك مثل هذه المرتبة العالية من مراتب النصرة.
1.نهج البلاغة ص87
2.كنز العمال ج11/ ص689
3.نهج البلاغة ( باب المكر والخديعة) ص291
4.نهج البلاغة ( باب المكر والخديعة ) ص41
5.المجازات النبوية / الشريف الرضي ص71

مرات العرض: 3413
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2551) حجم الملف: 54430.53 KB
تشغيل:

بلال بن رباح الحبشي مؤذن الرسول
أبي بن كعب سيد القرّاء