عدي بن حاتم الطائي ومواقف مبدئية
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 15/9/1435 هـ
تعريف:


عدي بن حاتم الطائي ومواقف مبدئية

 

كتابة الأخت الفاضلة فاطمة قانصو

تصحيح الاخ الفاضل علي حسن البوري

قال الله تعالى: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُم)

حديثنا يتناول بعض جوانب حياة أحد أصحاب رسول الله (ص) والذي كان من السائرين على منهاج أهل البيت (ع) وهو: عدي بن حاتم الطائي، توفي عام ٦٧هـ في الكوفة عن عمر تجاوز المائة سنة -وبعض الأقوال توصله إلى مائة وعشرين سنة- حين وفاته.

عديٌّ بن حاتم الطائي طالما عُرف بهذه النسبة، فالذاكر له ليس بحاجة إلى أن ينسبه إلى غير حاتم الطائي، الذي هو أجود وأكرم العرب، ومضرب المثل والجود والسخاء، وهو الذي تُنقل عنه الكثير من الحكايات والأشعار في هذا الجانب كقوله لغلامه:

أوقدْ، فإن الليل ليل قرَ1 .. والرّيحَ، يا مُوقِدُ، رِيحٌ صِرُّ2

عَسَى يَرَى نارَكَ مَنْ يَمُرُّ .. إنْ جَلَبَتْ ضَيْفاً، فأنْتَ حُرُّ


وكان يقول لغلامه أن يصعد مرتفعاً في منطقته -منطقة حائل شمال المملكة حالياً-، ويأمره أن أوقد ناراً في الصحراء في جوف الليل، حتى يهتدي بها الضال وطالب الطعام، ولكي تقيه من البرودة وشدة الرياح وما شابه، ولو جلبت هذه النار شخصاً أو ضيفاً إلينا فأنت حر مكافأة لك على هذا العمل.

 

سخاء وكرم حاتم كان معروفاً ومشهوراً، فتراه يخاطب زوجته قائلاً:
أماوي! ما يغني الثراءُ عن الفتى .. إذا حشرجت نفس وضاق بها الصدرُ


حيث أن الأموال والثراء، كلُّها لا تنفع حينما تبلغ نفس الإنسان الحشرجة ويُوشك أن يموت، فالأجدر أن ينفق ماله بما ينفعه ويُخلّد ذكره. حاتم الطائي لم يدرك الإسلام، بل أدركهُ ابنه عديّ، الذي ورث الكرم عنه. برغم أن عدداً كثيراً من العرب ورثوا المكارم والسخاء عن آبائهم؛ لكنّهم لم يحصلوا على نفس شهرتهم.

عديٌّ في بداية أمره كان يدين بالمسيحية الركوسيّة، ويظهر أن الروم كانوا يريدون أشخاصاً وأحياءَ تُمثل خطاً متقدماً في داخل الجزيرة العربية، واستطاعوا أن يستقطبوا قسماً من هؤلاء، وكان من جملتهم الأحياء التي تقطنها قبيلة طيء -موطن حاتم الطائي وابنه عدي-.

البداية كانت إثرَ ذهاب عديّ مراتٍ إلى الشام ولقائه بالقساوسة ترك عبادة الأصنام وأصبحَ مسيحياً -دين الركوسيّة يُعرف الآن بالمسيحية الشرقية-. في حين أن قبائل طيء لازالت على عبادة الأصنام والتماثيل، حاتم والمقربين إليه كان يدينون بالمسيحيّة. وهذا كان له بالغ الأثر عندما أرادت الروم الاشتباك مع المسلمين للقضاء على الدعوة الإسلامية المحمدية؛ فهم أرادوا أن يستفيدوا من مثل هذا الوجود.

المنطقة التي تقطنها طيء تعتبر قريبة نسبياً من المدينة ومكة -حاضنة الدعوة المحمدية آنذاك-، وفي ذات الوقت أصبح لها ارتباط ديني واقتصادي مع الروم؛ وبالتالي عندما يتحرك الرومان من الجهتين -مع حلفائهم الجدد- سيكونون قادرين على إحراج موقف الدولة الإسلامية التي أسسها رسول الله (ص)، وقد حصل ذلك في غزوة تبوك.

النبي المصطفى (ص) أدرك هذا التحرك بثاقب بصيرته؛ لذلك قام بعمل استباقي وأرسل سرية تضم مئتا مقاتل بقيادة أمير المؤمنين (ع) إلى منطقة طيء قبل وقعة تبوك بسنة تقريباً، فاقتحموا المنطقة وفتحوها قبل أن تكون نقطة تقدم للأعداء. عندها جاء أمير المؤمنين (ع) بيوتاتهم فجراً، عديُّ بن حاتم استطاع أن الفرار وبعض عائلته وانطلقوا إلى الشام وبقي فيها مدة. استطاع أمير المؤمنين (ع) أن يسيطر على كل المنطقة، غنم الغنائم، أخذ سبياً وكان من جملتهم سفَّانة بنت حاتم الطائي -أختُ عدي- وكانت امرأة متكلمة وجميلة وذات شخصية ومقام رفيع، فساق الغنائم والسبايا وجاء بهم جميعاً إلى المدينة.

يظهر أن النبي (ص) كان قد عين مكاناً للسبايا -سبايا الكفار اللواتي يؤتى بهن- في حجرة قريبة من المسجد، إلى أن يرى فيهم أمراً، ولمّا جيء بالغنائم من الإبل والشاة وما شابه قُسمت، ولكن بقيت النساء -كسفانة وأمثالها-، اللواتي يعتبرن من الأسرة الحاكمة، فعدي الطائي كان حاكماً لطيء ورئيس قومه الديني والزمني، والنبي (ص) في كل سيرته كان يحرص على ألا يذل أحداً إلا إذا كان ذلك الطرف هو المعتدي، فالكفار المعاندين التعامل معهم يختلف.

رسول الله (ص) لم يمارس أبداً مبدأ "عزيز قوم ذل"، لا يُمارس معهم إلا الرحمة والمداراة. فبقيت سفانة ومعها عدد ممن سُبي لفترة، ويروى أنّ أمير المؤمنين (ع) قال مرة لها مع مرور النبي (ص): إذا شئتِ فكلميه -أي النبي (ص)- فوقفت سفانة وتكلمت بكلام فصيح وخطابة بديعة، وهذا يبين أن الإنسان ذا القدرة الجيدة على البيان والكلام بمقدوره أن يدافع عن حقه واستخلاصه أكثر مما لو لم يكن كذلك.

فقامت وقالت: (يا محمد، أنا سفانة بنت حاتم الطائي، مات الوالد وغاب الوافد وإن أبي كان يطعم الطعام ويفشي السلام ويقري الضيف ويأمر بالمكارم فإن شئت أن تمن علينا، منَّ الله عليك ولا جعل لك إلى لئيم حاجة، ولا سلبَ نعمة قوم إلا جعلك في ردها إليهم سبباً...)، هذا الطلب قدمت فيه ثناءً وذكراً لحسبها ونسبها في عدة عبارات، ولكنَّها أجزلت وأوفت مرادها.

حينها قال لها النبي (ص): من وافدك؟
قالت: عدي بن حاتم
قال: الفار من الله ورسوله؟
فسكتت، فمنّ عليها رسول الله (ص) وأمر بإطلاقها
فقالت: أنا ومن معي؟ فقال: نعم
وكساها كسوة حسنة وأعطاها مالاً، وقال لها: إن شئت المقام عندنا أقمتِ، وإن شئت الذهاب ذهبتِ، هذا وهي لا زالت غير مسلمة.. فلاحظ طريقة رسول الله (ص) في تعامله وإحسانه.

فبقيت بضعة أيام في المدينة إلى أن جاء ركب يريد الذهاب إلى الشام، وكانت سفانة تعرف هذه القبيلة الوافدة، فاستأذنت رسول الله أن تذهب مع الركب إلى الشام لأن أخاها ذهب إلى الشام وبقي هناك.
فركبت مع هذا الركب وذهبت، يقول عديُّ بن حاتم: كنتُ جالساً في مكاني وإذ بي أرى ضعينة وعليها امرأة، فقلت: هذه ابنة حاتم والله. فلمّا وصلت نزلت إليَّ وقالت لي: تعساً لك وبؤسا، نجوت بنفسك وأهلك وتركت الخيل تأخذنا؟ أهكذا عهدَ إليك أبوك؟
فقال لها: لا تعتبي، فليس عندي عذرٌ كي أعتذر به، إنني المخطئ فانزلي.
حينها قال لها: كيف وجدتِ هذا الرجل؟
فقالت: إني أنصحك أن ترجع إليه، فإني رأيته وما هو بملك، فإن يكن نبياً فإنك أسعدُ الناس به، وإن يك غير ذلك فلا أظن معروفه يخطئك.

فلما أشارت إليه بذلك، قرر أن يأتي من الشام إلى المدينة في أواخر عام 8هـ.
ذهب إلى المدينة ودخل على رسول الله (ص)، فقال له: من أنت؟
قال: أنا عدي بن حاتم.
قال النبي (ص): الفار من الله ورسوله، أفررت حتى لا تشهد بأن لا إله إلا الله وأني رسوله؟
قال عدي: إن لي ديناً غيره.
قال النبي (ص): أنا أعلم بدينك منك.
قال عدي: أنت!!
قال النبي (ص): نعم، ألست تأخذ المرباع؟ وفي دين الركوسيّة لا يجوز ذلك.. فكيف تأخذه وهو لايحل لك في دينك؟ والمرباع: أن يأخذ الرئيس ربع الغنائم، ويصطفي لنفسه أفضل ربع، وهذا على خلاف ديانتهم الركوسية.
فإما أنه لا يعمل بدينه، أو أنه لا يعرف بهذا الأمر.

النبي (ص): ألست على الركوسية؟ فهم لا يأخذون المرباع.
قال عدي: صدقت، وعندها تلا النبي (ص) الآية المباركة: (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)
قال عدي: يا محمد، لسنا نعبدهم، فكيف تقول اتخذناهم أرباباً من دون الله؟
قال النبي (ص): أليسوا يحلون لكم الحرام، ويحرمون عليكم الحلال؟
قال عدي: بلى.
قال النبي (ص): فتلك عبادة، عبادة طاعة دون عبادة الله.
تكلَّم معه النبي شيئاً ولا زال يريد أن يرى تصرفاته.

يقول عدي بن حاتم: قمنا فمشينا، في الطريق رأينا امرأة ضعيفة كبيرة في السن.
فاستوقفت النبي (ص)؛ فوقف معها طويلاً يُحدثها.. فقلت في نفسي: هذه ليست طريقة الملوك، فالملك عنده خدم وحاشية.. لا يمشي بالطريق ويقف مع امرأة طويلاً ليقضي لها حاجة!
ذهبنا إلى مكان آخر فأجلسني وقدّم لي وسادة، أنا جلست عليها وهو جالس على الأرض، فقلت في نفسي: هذه ليست أخلاق الملوك ولا الطامحين إلى السلطة.. بل إنه بما أراني وهو أعلم بديني وأعلم بما كنت أصنع؛ تبين أنه نبيٌّ من الله. فأقبلت عليه وأعلنت بين يديه أن أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك محمداً رسول الله.

بعد ذلك ولّاه النبي (ص) على صدقات قومه -أي طيء-، وهذه فكرة كان يقوم بها النبي (ص)، وقد تبيّن في علم الاجتماع والسياسة أنه ليس من المناسب أن تولي مسؤولاً من خارج القرية على أموال الناس الذين لا يعرفهم ولا يعرفونه، هذا حتى لا يشعر الناس بأنهم محكومون لغيرهم، بل محكومون بأنفسهم.

الله -عز وجلّ- قد بعث في كل قوم نبيّاً منهم: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ). إذ لو أن الحكومات تلتفت لهذا المعنى، تتجنب الكثير من المشاكل والحساسيات، وهي أن تأتي بآخرين، من مناطق مختلفة، من مذاهب مختلفة، من عشائر مختلفة، وتستبعد أهالي نفس هذه المناطق التي تُحكَم.

ملاحظة: النبي (ص) بالأصل كان يولي على الصدقات مسؤولاً منهم، وأيضاً وافداً منهم قدر الإمكان. فعيّنه على صدقات قومه وذهب؛ لكنه شهد مع النبي (ص) حجة الوداع، ولذلك هو يُعد أيضاً من رواة حديث الغدير.

وباعتبار أن منطقته -منطقة حائل- تقع خارج المدينة المنورة، وهو ولم يهاجر إليها بل كان يزورها بين الفينة و الأخرى، فلم يُلحَظ منه نشاط مميز فيها إلا في بعض الحالات، حيث أنه صادف يوم وفاة الرسول (ص) هناك، وشهد أحداث السقيفة وما جرى فيها على أمير المؤمنين (ع) ويُنقل له نص في هذا المعنى: ما رحمت أحداً من الخلق كرحمتي لأمير المؤمنين (ع) عندما جيء به يُقاد قودا لكي يبايع.

فالتفت إلى قبر النبي (ص) وقال: يا ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا أن يقتلوني، وهم يقولون له بايع، فقال: فإن لم أفعل؟ قالوا: فإذن تقتل، قال: تقتلون عبد الله وأخا رسوله، قالوا: أما عبد الله فنعم وأما أخو رسوله فلا، إنك لا تستفيد من قرابة الرسول (ص).

وتمسك عدي بن حاتم بأمير المؤمنين (ع)، وينقل عنه أحاديثَ في فضله، كما ذكرنا، مثل حديث الغدير وبعض الأحاديث الأخر، ولكن أيضاً لم يمنعه هذا أن يشارك في الأعمال العسكرية التي كانت في زمان الخليفة الأول أو الخليفة الثاني، فقد اشترك في حرب اليمامة ضد مسيلمة الكذاب واشترك أيضاً فيما بعد في فتح العراق، كان له دور وإسهام مهم في هذه الأثناء وفيما بعد عندما صارت الخلافة لأمير المؤمنين (ع)، وكان من المبايعين له والمحشدين لأهل طيء في نصرته، وشهد مع الإمام علي (ع) أكثر حروبه.

وموقفه في حرب الجمل أنه ذهب إلى قومه وبدأ يخطب فيهم في حق أمير المؤمنين (ع) ويستنهضهم، فجند منهم قرابة 600 جندي، وفي هذه الحرب أيضاً أبلى بلاءً حسناً حتى فُقئت عينه -وهو في ذلك الوقت قد تجاوز الثمانين من العمر، بالاعتماد على ما يقوله بعض المؤرخين أنه بلغ ١٢٠ سنة-، وهذا يعد مرتبة استثنائية أن يشارك أحد في مثل هذه العمر، وهو في غاية العنفوان والحركة والجهاد الحربي والعسكري.

عندما نزل أمير المؤمنين (ع) الكوفة واستقر بها، وتبعه أولاً بنو هاشم وأكثر أصحابه ومن يحوطه، انتقل هو من منطقة طيء إلى الكوفة، وذلك سنة ٣٥هـ. كان عدي بن حاتم لصيقاً بالإمام (ع)، وكان دوره وعمله -في هذه الفترة- أكثر مما كان عليه الحال وهو في حائل؛ حيث أنها كانت بعيدة نسبياً عن المدينة -حيث كان الإمام (ع)- وليس بمقدوره متابعة ما يجري هناك.

عندما استشهد أمير المؤمنين (ع) نهض لنصرة الإمام الحسن (ع). وله في هذا المجال موقف متميز؛ لأن الإمام الحسن (ع) عمل على استدامة خط أبيه المرتضى (ع) بمحاربة ومقاومة معاوية، وانتدب الناس للقتال.

الخطاب الأول للإمام الحسن (ع) كان فيه نعي أمير المؤمنين (ع)، وفيه كان يبشر بانطلاقة من جديد لقتال معاوية، وكان المعسكر والاجتماع في النخيلة -خارج الكوفة-، فأي شخص يريد أن يتهيئ للقتال يجب أن يكون هناك، وكذلك من يحتاج إلى سلاح وغير ذلك، فأصبحت النخيلة مكاناً للتدريب وتنظيم الجيش.

يترتب الجيش هناك ويتحرك في اليوم الثاني، بداية الحركة متذبذبة وضعيفة لأسباب مختلفة. من أواخر أيام الإمام علي (ع)، كانت الروح المعنوية للجيش الكوفي منخفضة، وقد أشار إلى ذلك في خطبه الأخيرة. وكذلك استمر هذا الضعف إلى حين الإمام الحسن (ع)، حيث لا بوادر تشير إلى أن هذا الجمع يريد أن يشارك بحرب.

فقام عدي بن حاتم وقد اجتمع الناس في مسجد الكوفة ونادى: أيها الناس، أنا عدي بن حاتم الطائي -حتى يعرفون مكانه ومن هو هذا المتكلم-، ثم قال: سبحان الله! تعساً لهذه القلوب، أين خطباء المصر الذين ألسنتهم في أيام الدعة والسلم كالمخاريط؟! فإذا جدّت الحرب يراوغون كالثعالب! أين هؤلاء المتكلمين! أراكم وقت الحرب تتراجعون يا عجباً لكم، يدعوكم ابن بنت رسول الله (ص) الحسن بن علي (ع) للخروج إلى قتال عدوه وعدوكم وينتدبكم إلى النخيلة فلا يخرج إلا جماعة متذائبون. فبدأ يخطب فيهم ويحشّد حتى انبعث قسمٌ من الناس على إثر هذه الخطبة.

في ذلك الوقت -على افتراض أنه كان من أبناء المائة والعشرين- فهو الآن في التسعين من عمره. ورغم ذلك لازالت مواقفه مشهودة ومميزة في تحشيد الناس لقتال جيش معاوية.

لمّا استقدمه معاوية وجلس معه أراد أن يستثيره فيتندم على مواقفه السابقة، فيقول له: يا ابن حاتم ماذا فعل الطرفات؟ -يقصد أولاده الثلاثة طريف3 وطرفة ومطرِّف-. أراد معاوية أن يوظف هذا الأمر، فقال: ما أنصفك علي بن أبي طالب (ع) أبقى أولاده الحسن والحسين (ع) ومحمد، وأرسل أولادك ليقتلوا، فقال عدي في موقف يعبر عن شدة انتمائه وكذلك فطنته ونباهته: أنا الذي ما أنصفت علي بن أبي طالب (ع) حيث قتل في سبيل الله وأنا بقيت بعده، وكان ينبغي أن أقتل أنا قبله.

ثم قال له معاوية: إن هناك بقية من دم عثمان، لابد من المطالبة بها، وأنتم مطالبون من بني عثمان وتُؤاخذون على ذلك. فقال له عدي: يا معاوية، إذا سُلَّ سيفٌ سُلَّت سيوف، والله إن السيوف التي قاتلناك بها في صفين لهي لا زالت على عواتقنا. وهنا أحس معاوية أنه ليس بهين، فقال لعمر بن العاص: اكتبها، فإنها من الحكم -إذا سُلَّ سيف سُلَّت سيوف-.

في نفس المجلس أو في مجلس آخر أراد عبدالله بن الزبير أن يذكره بمواقفه السابقة، فقال له: متى فُقئت عينك؟ في حرب الجمل كان قد ضُرب عدي بسهم في عينه وذهبت، فهو يريد أن يذكره بذلك الماضي، فقال عدي: فقئت عيني يوم فرّ أبوك هارباً خائفاً، وقُتل خالك طلحة، وضربت على قفاك، ولولا رحمة الله للحقت بخالك، وكنا على الحق وأنتم على الباطل، في ذلك الوقت فقئت عيني. هنا يتجلى موقف الرجل صاحب البصيرة والمعرفة وصاحب الموقف.

استمر على هذا الاتجاه وبقي في الكوفة، إلى زمان المختار الثقفي كان موجوداً، لكنه لم يشهد معركة كربلاء. وأظن أن الأمر له ما يبرره إذا قلنا أن ما نص عليه مثل صاحب أُسد الغاب أن عمره ١٢٠، وبعضهم قال بعد المائة. لو فرضنا أن عمر المائة والعشرين كان هو المتوسط، إذن ففي زمان معركة كربلاء كان عمره بين 112 – 113 سنة، ومن الواضح أن هذا العمر ليس بعمر يمكن فيه القتال.

بهذا النحو، ولكنه لم ينجو من عنت الأمويين، ففي زمن زياد بن أبيه لمّا تولى على الكوفة، صارت قضية حجر بن عدي (رض)، وفيما بعد قام أحد بني طيء وهو عبدالله بن خليفة الطائي، والذي يعتبر شاعراً مفوهاً وقديراً، بنعي هؤلاء الذاهبين والشهداء وكان أيضاً هو ضمن الحركة الاحتجاجية ضد زياد بن أبيه. فطلب عبد الله بن خليفة ولكنَّه اختفى، فرأى زياد بن أبيه عدي بن حاتم الطائي (رض)، وهو رجل كبير في السن فأخذه وألزمه بإحضار عبدالله بن خليفة إليه، فقال: والله لو كان تحت قدمي ما رفعتها عنه.

فتعرض عدي بن حاتم الطائي (رض) لهذا الشكل من الابتزاز، أن يأخذه مكان الذي سبَّب المشكلة حتى يأتيه به، فأصر عليه حتى تحرك بعض الطائيين وأوصلوا الخبر إلى زياد أن الأمر لا يحتمل، ومن الممكن أن تحدث ثورة، فهذا عدي بن حاتم (ع) وله من المنزلة الكبيرة والشأن الرفيع عند قومه، ولن يقبلوا أن يؤخذ بلا جرم أو ذنب ارتكبه.

فاضطر أن يطلقه زياد وقال: اعهد لي ألا يبقى -أي عبدالله بن خليفة- في الكوفة، فقال له: أنا أنصحه وأكلمه وما من مشكلة. فعدي بما كان يملك من نفوذ اجتماعي قال لعبد الله بن خليفة غيب وجهك عنه، لا تبقى في الكوفة طالما هذا الرجل الفاتك والشرس موجود، انتقل إلى مكان آخر.

وقيل أن عدي بن حاتم (رض) بقي في السجن أياماً إلى أُنضجت القضايا، لم يكن أمره أمراً سهلاً لكن موقفه كان ثابتاً رضوان الله تعالى عليه.

هذا شيء يسير عن حياة هذا الصحابي الجليل السائر على منهاج أمير المؤمنين (ع) بعد أن تشرف بالإيمان على يدي رسول الله (ص). بقي في الكوفة إلى أن توفي كما ذكرنا سنة ٦٧هـ، وهو في ذلك الوقت من أعيانها ورؤساءها، حتى خُشي أن يُوسَّط في بعض قتلة الحسين (ع) عند المختار الثقفي لما كان يملكه من نفوذ. طبعاً مثلُ عدي لم يكن من الذين يجيرون قتلة الحسين (ع)، ولكن هذا الأمر يبين المقدار الذي وصلت إليه منزلته ومكانته الاجتماعية. ولو أنه كان يملك القدرة والقوة نظنُّ أنه لم يكن ليتأخر أبداً عن القتال إلى جانب الحسين (ع)؛ فهو في ذلك العمر لم يكن قادراً على القيام بمثل هذا الجهد العسكري والحربي، وربما أيضاً لا يخلو من في مثل هذا السن من الأمراض التي تقعدهم وما شابه ذلك.
1.قر: الليل القِر، هو شديد البرودة.
2.صر: الريح الصِر، هي شديدة الهبوب.
3.هناك خلاف في مقتل طريف، هل أنه قُتل على يد أتباع أمير المؤمنين (ع) في معركة النهروان باعتباره من الخوارج، أم استشهد إلى جانب أمير المؤمنين (ع).

 

مرات العرض: 6687
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (4463) حجم الملف: 51232.16 KB
تشغيل:

مصعب بن عمير فاتح المدينة بالقرآن
حذيفة بن اليمان راصد الخط المنحرف