الشهيدْ السيّد محمد باقرْ الصّدر (على خطى الحُسينْ عليه السّلام)
تصحيح الأخت الفاضلة سلمى آل حمود
رَوَى عَنْ سَيِّدِنَا وَمَوْلَانَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهَ عَلَيْهِ وَالِهُ وَسَلِّمْ أَنَّهُ قَالَ: (فَوْقَ كُلٍّ بِرٍ بِرٌّ حَتَّى يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَيْسَ فَوْقَهُ بِرٌّ) صِدْقُ سَيِّدِنَا وَمَوْلَانَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهَ عَلَيْهِ وَالِهُ وَسَلَّمَ..
تَتَفَاضَلُ دَرَجَاتُ البِرِّ وَعَمَلِ الخَيْرِ فِي حَجْمِ تَأْثِيرِهَا الدنيوي وَفِي مِقْدَارِ أَجْرِهَا الأُخْرَوِيِّ, وَقَدْ يَبْدَأُ الإِنْسَانُ بِإِطْعَامٍ فَقِير مَثَلًا فَهَذَا بِرٌّ مِنْ البِرِّ وَلَهُ أَثَرُ دُنْيَوَي وَهُوَ إِشْبَاعُ هَذِهِ الكَبِدُ الحرة وَلَهُ أَثَرٌ أُخْرَوِيٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى المُطْعَمِ وَالدَّافِعِ وَهُوَ تَعَالِي الدَّرَجَاتِ وَتُكَثِّرُ الحَسَنَاتِ, وَقَدْ يَعْلَمُ إِنْسَانٌ جَاهِلًا بِالأَحْكَامِ وَالفَرَائِضِ وَالعَقَائِدِ وَهَذَا بِرٌّ مِنْ البِرِّ حَتَّى وَرَدٌّ فِي تَأْوِيلِهِ أَنَّهُ مِنْ الإِحْيَاءِ, إِحْيَاءُ النَّفْسُ المَيِّتَةُ بأن يُخْرِجَهَا الإِنْسَانُ مِنْ جَهْلٍ إِلَى عِلْمٍ بِالتَّعْلِيمِ, وَهَذَا بِرُّ لَهُ أَثَرَ دُنْيَوَي وَهُوَ أَنَّ هَذَا الإِنْسَانُ المُتَعَلِّمُ عَلَمًا يَمْشِي عَلَى الجَادَةِ الصَّحِيحَةُ وَالطَّرِيقَةِ القويمة وَلَهُ أَيْضًا أَثَرٌ أُخْرَوِيٌّ لِهَذَا المُعَلِّمِ وَهُوَ أَنَّهُ يَنَالُ ثَوَابًا وَأَجْرًا عَلَى أَصْلِ التَّعْلِيمِ وَعَلَى كُلِّ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ بِنَحْوٍ صَحِيحٍ وَهَذَا بِرٌّ أَيْضًا. وَ يَأْتِي بِبِرٍّ ثَالِثٌ, وَهُوَ خِدْمَةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ تَحَقُّقٍ لِلنَّاسِ فِيهَا يُسْرًا وَسُهُولَةً فِي الحَيَاةِ. عِنْدَمَا تَسْتَهْدِفُونَ عَمَلًا مِنْ الأَعْمَالِ الاجتِمَاعِيَّةَ فَتَقُومُونَ بِهَذَا العَمَلِ الَّذِي يُنَفِّعُ مِسَاحَةٌ وَاسِعَةٌ مِنْ أَبْنَاءِ المُجْتَمَعِ وَ لَهُ أَثَرُ دُنْيَوَيْ فِي تَسْهِيلِ حَيَاتِهِمْ, وَلَهُ أَثَرٌ أُخْرَوِيٌّ لَكَ وَهُوَ مَزِيدٌ مِنْ الأَجْرِ وَالثَّوَابِ, فَإِذًا كَانَ هُنَاكَ دَرَجَاتُ برٍ مُتَفَاوِتَةٌ فَإِنَّ كُلَّ دَرَجَةٌ قَدْ تَتَفَوَّقُ عَلَى الدَّرَجَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَهِيَ أَيْضًا تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اِخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالمَكَانِ وَالأَشْخَاصِ فَقَدْ يَكُونَ التَّعْلِيمَ فِي زَمَنِ مَعَي وَوَقَّتَ مَعَي وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى أَشْخَاصٍ مُعَيَّنِينَ أَعْلَى البَرِّ, بَيْنَمَا قَدْ يَكُونُ الإِطْعَامُ فِي وَقْتِ المَجَاعَةِ وَعَدَمِ وُجُودٍ مَا يُشْبِعُ بُطُونَ النَّاسِ أَكْثَرَ أَوْلَوِيَّةٌ مِنْ العِلْمِ فِي ذَلِكَ الوَقْتَ وَبِالنِّسْبَةِ لِهَذِهِ المَجْمُوعَةِ. إِذَنْ, فَإِنَّ دَرَجَاتِ البِرِّ تَتَفَاوَتُ إِلَى أَنْ تَصِلَ إِلَى مُنْتَهَى القِمَّةِ وَ أَعْلَى الدَّرَجَةِ وَهِيَ دَرَجَةُ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ, فَعِنْدَمَا يُقْتَلُ المَرْءَ فِي سَبِيلِ اللهِ مِنْ أَجْلِ إِعْلَاءِ دِينِ اللهِ وَمِنْ أَجْلِ إِيقَافِ الطُّغْيَانِ, حِينَئِذٍ تَتَوَقَّفُ الدَّرَجَاتُ عِنْدَ هَذَا الحَدِّ فَلَيْسَ فَوْقَهُ كَمَا يَقُولُ الحَدِيثُ الشَّرِيفُ: (فَلَيْسَ فَوْقَهُ بِرٌّ) هَذَا هُوَ المُنْتَهَى وَ لَعَلَّ أَحَدًا يَقُولُ مَثَلًا: وَرَدَ فِي الخَبَرِ أَنَّ مداد العُلَمَاءُ فِي يَوْمَ القِيَامَةِ يُوزَنُ مَعَ دِمَاءِ الشُّهَدَاءِ فَيُرَجِّحُ مداد العُلَماءَ عَلَى دِمَاءِ, الشُّهَدَاءِ. وَهَذَا لَهُ أَكْثَرُ مِنْ تَوْجِيهٍ وَأَكْثَرَ مِنْ جِهَةٍ, فَالآنَ نَحْنُ لَا نُرِيدُ الدُّخُولَ فِيهَا وَ قَدْ يَرْتَبِطُ هَذَا بِزَمَانٍ مُعَيَّنُو بِمَكَانٍ مُعَيَّنٍ وَ بِنَوْعِيَّةٍ مُعَيَّنَةٌ مِنْ العِلْمِ وَ بِوَقْتٍ خَاصٍّ, إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ التَّوْجِيهَاتِ الَّتِي لَا نُرِيدُ الدُّخُولَ فِيهَا الآنَ, وَلَكِنَّ بِحَسَبِ هَذَا الحَدِيثِ فَإِنْ أَعْلَى دَرَجَاتِ البِرِّ هُوَ الشَّهَادَةُ فِي سَبِيلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. أَحَدٌ مَرَاجِعِ التَّقْلِيدِ وَعُلَمَاءِ الأُمَّةِ وَالمُفَكِّرِينَ فِيهَا جُمَعٌ بَيْنَ دَرَجَاتِ البِرِّ المُخْتَلِفَةُ فِي التَّعْلِيمِ وَالتَّدْرِيسِ وَالكِتَابَةِ وَالتَّأْلِيفِ, وَأَيْضًا وَصَلَ إِلَى مُنْتَهًى السَّطْرُ وَغَايَةٌ البِرَّ وَهُوَ الشَّهَادَةُ فِي سَبِيلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ, وَ تِلْكَ الشَّخْصِيَّةُ هِيَ (آيَة اللهُ العُظْمَى الشَّهِيدُ السَّيِّدُ مُحَمَّدٌ بَاقِرُ الصَّدْرُ رُضْوَانٌ اللّه تَعَالَى عَلَيْهِ) الَّذِي اُسْتُشْهِدَ سَنَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعٌ مِائَةٌ لِلهِجْرَةِ عَنْ عُمْرٍ نَاهَزَ السبعةٌ وَالأَرْبَعُونَ عَامًا, لَعَلَّ هَذَا الرَّقْمُ يُشَكِّلُ فِي ذِهْنِكَ صَدَمَهُ, لِمَاذَا؟
لِأَنَّ الصُّورَةَ الَّتِي فِي ذِهْنِكَ عَنْ حَجْمِ الإِنْجَازِ الَّذِي قَامَ بِهِ, الشَّهِيدُ الصُّدَرَ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ تَقْتَضِي عَمْرًا أَكْبَرَ مِنْ هَذَا بِكَثِيرٍ, فَكَيْفَ لسبعةٌ وَأَرْبَعُونَ عَامًا يَنْتِجُ عَنْهُ كُلُّ هَذَا العَطَاءِ العِلْمِيِّ الأُصُولِيِّ الفقهِيِّ العَقَائِدِيِّ الفَلْسَفِيِّ, وَكُلُّ ذَلِكَ خِلَالَ هَذِهِ المُدَّةَ! بِالإِضَافَةِ إِلَى جِهَادٍ سِيَاسِيٍّ وَأَعْمَالٍ مُخْتَلِفَةٍ هُنَا وَهُنَاكَ.
سيرة الشهيد السيد محمد باقر الصدر.
لِنَبْدَأْ فِي بَعْضِ صَفَحَاتِ هَذِهِ السِّيرَةِ الطَّيِّبَةِ لِهَذَا العَالَمِ الجَلِيلَ, حَيْثُ بَدَأَ حَيَاتَهُ يَتِيمِ الأَبِ إِذْ تُوُفِّيَ أَبُوهُ وَهُوَ لَا يَزَالُ صَغِيرًا, وَالِدُهُ كَانَ السَّيِّدَ حَيْدَرُ الصَّدْرُ وَتُوُفِّيَ وَلَا يَزَالُ السَّيِّدُ مُحَمَّدًا بَاقِرُ صَغِيرُ السِّنِّ, لَكِنَّ تَوَفَّرَ لَهُ أمٌ فَاضِلَةُ كَانَتْ تَقُومُ مَقَامَ الأَبِ وَالأُمِّ مَعًا مِنْ العَائِلَةِ العِلْمِيَّةُ المَعْرُوفَةُ آلٌ يـــس, وَ أُخْتُ آيَة اللهَ العُظْمَى الشَّيْخِ مُرْتَضَى آلُ يــس رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ عَائِلَةٌ عِلْمِيَّةٌ فِي الكَاظِمِيَّةِ وَفِي النَّجَفِ الأَشْرَفُ وَفِيهَا عُلَمَاءُ أَفْذَاذٌ, وَهَذَا يُشِيرُ لِنَّا دَوْرٍ الأُمُّ الَّذِي تَقُومُ بِهِ إِذْ لَمْ تَكُنْ لَيْسَتْ عَلَى الهَامِشِ، وَلِيست مَوْقِعُ الاِنْفِعَالِ وَلَا أَنَّهَا سَلْبِيَّةٌ وَإِنَّمَا مِنْ المُمْكِنِ أَنْ تَسْتَنْقِذَ طِفْلَهَا مِنْ مَرَارَةِ اليَتَمِ وَمِنْ آثَارِهِ إِلَى حَيْثُ تَصْنَعُ مِنْهُ شَخْصِيَّةٌ كَامِلَةً مُتَقَدِّمَةً, وَكَانَتْ هَذِهِ الأُمُّ حُجَّةً عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النِّسَاءِ مِمَّنْ تَتَوَفَّرُ لَدَيْهِنَّ الظُّرُوفُ الكَثِيرَةُ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَسْتَطِعْنَ تَقْدِيمٌ الأَفْضَلُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَبْنَائِهِنَّ, فَرَّعَتْهُ هَذِهِ الأُمُّ وَاِحْتَضَنْتُهُ وَ تَجَاوَزَتْ بِهِ أَمَرُّ اليَتَمِ. تَوَفَّرَ لَهُ أَيْضًا أَخٌ أَكْبَرُ هُوَ السَّيِّدُ إِسْمَاعِيلُ الصَّدْرُ رَحْمَةٌ اللّه تَعَالَى عَلَيْهِ فَاِعْتَنَى بِهِ عِنَايَةً عِلْمِيَّةً, وَ وَجْهُهُ إِلَى طَلَبِ العِلْمِ وَ بَدَأَ بِتَدْرِيسِهِ الدُّرُوسِ الأَوَّلِيَّةَ وَالمُقَدَّمَاتِ فِي وَقْتٍ مُبَكِّرٌ خُصُوصًا وَأَنَّهُ لَاحَظَ عَلَيْهِ ذَكَاءً وَنُبُوغًا غَيْرَ عَادِي بِحَيْثُ يُنْقَلُ عَنْهُ أَنَّهُ فِي الحَادِيَةِ عَشْرٌ مِنْ العُمْرِ وَكَانَ يُدَرِّسُ المَنْطِقُ عَلَى يَدِهِ فَبَدَأَ يَكْتُبُ مُلَاحَظَاتٍ عَلَى هَذَا الكِتَابِ وَعَلَى المُؤَلِّفِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ كُتُبٌ كُتَيِّبَا حَوْلَ المَنْطِقُ. فِي الوَاقِعِ, أَنَّهُ فِي عَمْر إِحْدَى عَشْرُ سَنَةِ أَيٍّ أَنْ يَكُونَ الأَوْلَادُ أَلَانَ عِنْدَنَّا فِي الصَّفِّ الخَامِسِ الاِبْتِدَائِيِّ وَ نَجْدٍ بعضهم بالكاد يعرفون جدول الضرب الصغير أو الكبير، ولكن هذا السيد كان برعاية أخيه و استطاع في ذلك الوقت المُبَكِّرُ أَنْ يُؤَلِّفَ وَيُصَنِّفُ فِي شَكْلٍ لَمْ يَكُنْ مَعْهُودًا ثُمَّ دَخْلٌ وَأَعْطَى العَلَمَ كُلُّهُ وَهَذَا هُوَ سِرٌّ تَقَدَّمَ العُلَمَاءُ, فِي الرِّوَايَةِ عِنْدَنَّا (أعطِ العلم كلك يُعطك بعضه) فالمعاملة هكذا أي أنه إذا اعطيت العلم كل جهدك، كل وقتك، وكل اهتمامك يُعطك بعض العَلَمُ, أَمَّا إِذَا تُعْطِيهُ بَعْضٌ مِنْ جُهْدِكَ فَالخَلْفُ وَالعِوَضٌ عَلَى اللهِ آنَذَاكَ. فَأَقْبَلُ عَلَى العِلْمِ بِكُلِّهُ بِحَيْثُ قِيلَ أَنَّهُ كَانَ مَا بِين درس ومباحثة وقراءة وتعلم وكتابه كان يصل جهده العلمي إلى قريب من ثمانية عشرَ ساعة يومياً، ولم يكن يعرف شيئاً اسمه هذه المناسبات الاجتماعية إلاّ الضروري منها فقط أَمَّا الوَفايات والعَزاءات والفواتح وَالمَوَالِيدُ وَحَفْلَةُ عَقْدِ فُلَانٍ ، وَحَفْلَةُ عِرَسِ فُلَانٍ, وَحَفْلَةِ خِتَانِ فُلَانٍ وَغَيْرَ ذَلِكَ, هَذِهِ كَانَ يَعْتَبِرُهَا مُتْلِفَةً لِلوَقْتِ وَمَضْيَعَةٍ لِلعُمْرِ إِلَّا ذَلِكَ الشِّي الضَّرُورِيُّ الذي لا فكاك منه ، فأعطى العلم كل ما كان لديه.
فِي سِنٍّ الخَامِسَةِ وَالعِشْرِينَ طَوَى كُلُّ الكُتُبِ الدِّرَاسِيَّةِ المَعْهُودَةِ فَأَكْمَلُهَا وَبَدَأَ فِي تِلْكَ السَّنَوَاتِ أَيْضًا بِحُضُورِ أَبْحَاثِ الخَارِجِ لأعاظم العلماء كالسيد الخوئي رحمه الله والشيخ محمد تقي الجواهري رحمه الله، فهؤلاء من العلماء الكبار الذين استفاد منهم وانتفع منْ معَارفهُم.
فِي سِنٍّ السَّادِسَةِ وَالعِشْرِينَ بَدَأَ بِبَحْثِ الخَارِجِ تَدْرِيسًا, أَيٌّ أَنَّ عُمْرَهُ كَانَ سِتَّةُ وَعِشْرُونَ سَنَةٍ وَ يَدْرُسُ فِي بُحُوثِ الخَارِجِ للعلماء وكانت لديه أيضاً أنظار اجتهادية مبتكرة فكان قد جمع حوله مجموعة من الطلبة المتفاعلين معه وبدأ أول دورة أُصُولِيَّةٌ لَهُ وَعُمَرُهُ سِتَّةُ وَعِشْرُونَ سَنَةٍ, وَبَدَأَ دَوْرَتَهُ الفقهِيَّةَ وَعُمَرَهُ ثَمَانِيَةُ وَعِشْرُونَ سَنَةٍ, وَكَتَبَ كِتَابُ فَلْسَفَتِنَا الَّذِي سَوْفَ نتحدث عنه بعد قليل وعمره سبعة وعشرون سنة، فلك أن تتصور أن في عمر سبعة وعشرون سنة يكون الغالب أن يكون الشَّخْصُ لَتُّوهُ يَبْدَأُ بِالنَّضْجِ وَأَلْفُهُمْ لَا أَنَّهُ يَبْدَأُ بِالكِتَابَةِ وَالبَحْثِ الخَارِجِ وَالأَنْظَارِ الاجتهادية وَالآرَاءُ فِي الأُصُولِ إِلَى غَيْرُ ذلك.
كَانَ الرَّجُلَ ذَكِيًّا وَلَدَيْهُ نُبُوغٌ مُبَكِّرٌ وَفَوْقَ هَذَا وَهُوَ الأَهَمُّ أَنَّهُ أَعْطَى العَلَمَ مَا يَسْتَحِقُّهُ, وَ لَعَلَّ قَسَمَ مِنْ النَّاسِ يَقُولُ مَاذَا نَفْعَلُ نحن ليس لدينا نبوغ ولا ذكاء فمرفوع عنا القلم بينما القضية ليست بقضية نبوغ أو ذكاء استثنائي والجزء الآخر وهو المُهِمُّ هُوَ سَعَى الإِنْسَانُ وَجَهَدَ الإِنْسَانُ وَكَسْبُهُ وَتَعَلُّمُهُ وَجِدِّيَّتُهُ, وَهَذَا الَّذِي يُحَقِّقُ المُعَادَلَةَ الكُبْرَى وَالقُصْوَى, وَهَذَا مَا كَانَ يرتبط بأوليات السيد وبداياته في الحوزة العلمية.
مؤلفات الشهيد السيّد محمد باقر الصدرْ.
صَفْحَةٌ أُخْرَى, لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَعَرَّضَ إِلَيْهَا إِذْ أَنَّ الوَقْتَ لَا يَتَّسِعُ بِطَبِيعَةِ الحَالِ لِلحَدِيثِ عَنْ كُلِّ هَذِهِ الشَّخْصِيَّةِ. أَحَدٌ المُؤَلِّفِينَ عنده كتاب حول السيد الشهيد في خمسة مجلدات كبيرة وضخمة فلا نستطيع أن نتحدث عن هذه الحياة في أربعين دقيقة. والصفحة الأخرى التي نلاحظها هي الصفحة العلمية وهي على درجات الدرجة الأولى: ما يرتبط بدراساته في معالجة أَزْمَةُ الهُوِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى العَالَمِ الإِسْلَامِيِّ وَهِيَ تَحْتَوِي عَلَى كِتَابِ فَلْسَفَتِنَا, كِتَابُ اِقْتِصَادِنَا, وَكُتَّابُ البَنْكِ الآربوي فِي الإسلام، والغرض من هذه الكتب أنه في وقت من الأوقات عاشت الأمة الإسلامية تحدياً مباشراً من قبل النظريات المادية الأخرى سواءً في صورتها الغربية أو في صورتها الشيوعية والماركسية إذ أن هذه النظريات قد أتت و تسربت هذه إلى بلاد المسلمين .
النَّظَرِيَّةُ الشُّيُوعِيَّةُ بِتَفَاصِيلِهَا كَانَ يَبُثُّهَا الشُّيُوعِيُّونَ فِي العِرَاقِ وَفِي عُمُومِ الأُمَّةِ وَيُقْدِمُونَهَا بِاِعْتِبَارٍ أَنَّهَا نَظَرِيَّةٌ جَدِيدَةٌ فِي المعرفة و جديدة في السياسة، جديدة في العلم، و جديدة في فلسفة التاريخ إذاً ينبغي أن تُؤمن بها الأمة باعتبارها نظرية مُتَكَامِلَةٌ وَكَانَوَا يُرَوِّجُونَ لَهَا, وَكَانَ الاِتِّجَاهُ الغَرْبِيُّ أَيْضًا يُقْدِمُ الرَّأْسْمَالِيَّةَ بِاِعْتِبَارِهَا نَظَرِيَّةٌ فِي الحَيَاةِ وَتَعْتَمِدُ عَلَى أُسُسٍ فلسفية تسهل طريق المعرفة، ولديها نظر في هذه الأمور فبالتالي هم يرون أيضاً أن الأمة ينبغي لها أن تأخذها.
عَاشَ شَبَابُ الجِيلِ فِي ذَلِكَ الوَقْتُ أَزْمَةَ تَوَزُّعٍ فِي التَّوَجُّهِ وَ إِلَى أَيْنَ يلجؤون؟! فَالنَّظَرِيَّةُ الدِّينِيَّةُ حَتَّى وَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةٌ إِلَّا أنها غير مبلورة، وإذا كانت مبلورة فهي غير مكتوبة كتابة حديثة، وإذا كانت مكتوبة فهي ليست على طريقة المقارنة بِالنَّظَرِيَّاتِ الأُخْرَى, إِلَى أَنْ جَاءَ كِتَابُ السَّيِّدِ الشَّهِيدِ الصُّدَرَ رَحِمَهُ الله (فَلْسَفَتُنَا) لِكَيْ يُبَلْوِرُ النَّظَرِيَّةَ الإِسْلَامِيَّةَ فِي المَعْرَفَةِ ويبين مفاهيمها الفلسفية وأصولها وأيضاً يقارن بين هذه النظرية وبين سائر النظريات بلغة حديثة تحليلية علمية دقيقة، و اِسْتَقْبَلَ الوَضْعُ الإِسْلَامِيُّ عُمُومًا مِثْلَ هَذِهِ الدِّرَاسَةِ اِسْتِقْبَالًا جَيِّدًا وَلِأَنَّهَا لَمْ تُكْتَبْ بِنَفَسٍ مَذْهَبِيٍّ وَإِنَّمَا كُتِبْتَ بِنَفَسٍ إِسْلَامِيٍّ عام لذلك توغلت وانتشرت في عموم العالم الإسلامي وأصبحت في يد الباحثين من مختلف أبناء المذاهب حتى عندنا في البِلَادُ مَعَ تَحَفُّظِهِمْ عَادَةٍ عَلَى الكُتُبِ الشِّيعِيَّةَ وَالَّتِي يَكْتُبُهَا كُتَّابٌ شِيعَةٌ, وَكَانَ كِتَابُ اِقْتِصَادِنَا هُوَ أَحَدٌ المَرَاجِعِ المُعْتَمَدَةِ فِي الجامعات والبحوث ويُنظر إليها بهذا الاعتبار العالمي.
أَوَّلُ كِتَابِ كُتُبِهِ هُوَ كِتَابُ فَلْسَفَتِنَا وَعُمَرُهِ حَوَالَيْ سَبْعَةُ وَعِشْرُونَ سَنَةٍ, كِتَابُ اِقْتِصَادِنَا تَلَاهَ رُبَّمَا بِسَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ, وَكَانَ يُرِيدُ أن يكتب مجتمعنا قبل كتاب اقتصادنا ( فلسفتنا ثم مجتمعنا ثم اقتصادنا) لكنه يقول في مقدمة كتاب اقتصادنا :أنا رأيت أن التَّحَدِّي الاِقْتِصَادِيُّ تَحَدِّي قَائِمٌ وَمَوْجُودٌ بِالفِعْلِ, يَعْنِي هُنَاكَ مَنْ يَدْعُو إِلَى تَجْرِبَةِ نَمَطِ الاِقْتِصَادِ الاِشْتِرَاكِيِّ فِي بِلَادٍ المسلمين باعتبار أنهم يقولون هذه التجربة نجحت في البلدان الشيوعية فتعالوا لتطبقوا إذاً نمط الاقتصاد الاشتراكي و هناك فريق آخر يقول لا وأن النظام الرأسمالي الحر هو الذي يصنع التنمية والتقدم كما هو الحال في بلاد أوروبا الغربية وَأَمْرِيكَا, فَأَنَا إِذًا رَأَيْتُ أَنَّهُ مِنْ الأَنْسَبِ أَنْ أُبَادِرَ إِلَى الحَدِيثِ عَنْ المَوْضُوعَ الاِقْتِصَادِيِّ وَأَبْيَن كِلْتَا النَّظَرِيَّتَيْنِ وَ وِجْهَاتٍ النقص والاشكال الموجودة فيهما وأبين ماهي نظرة الإسلام و ما هو مذهبه الاقتصادي في المجتمع؟ كيف يُدار المال في الإِسْلَامُ؟ وَكَيْفَ تَحْصُلُ التَّنْمِيَةُ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ وَعَلَى إِثْرِ رَوَاجِ هَذَا المَذْهَبِ الاِقْتِصَادِيِّ.
كتابْ البنك اللاربوي ومؤتمرْ الكويتْ.
أَكْمَلُ هَذَا أَيْضًا بِكُتَّابِهِ البَنْكِ الآربوي فِي الإِسْلَامِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَنُعْقَدُ مُؤْتَمَرَ فِي الكويت دَعَتْ إِلَيْهُ وِزَارَةُ الأَوْقَافِ, وَهُوَ مؤتمر إسلامي عالمي على مستوى العالم الإسلامي كله، ودُعي إليه مفكرون وباحثون اقتصاديون من مختلف دول العالم الإسلامي مع سؤال: هل يُمكن للعالم الإسلامي أن يُنشأ بنوكاً غير ربوية؟ الربا محرم بصريح القرآن الكريم في قوله تَعَالَى "أَحَلَّ اللهُ البَيْعَ وَحَرُمَ الربا" وَعَلَى حُرْمَتِهِ إِجْمَاعٍ المُسْلِمِينَ, وَ النِّظَامُ الاِقْتِصَادِيُّ وَالبَنْكِيُّ المُتَعَارِفُ الآنَ قَائِمٌ عَلَى أساس عملية الربا. فمثلاً: البنك يريد أن يربح ويريد أن ينمو لذلك يتوسل بالعمليات الربوية، و البنوك لم تُفتح كجمعيات خَيْرِيَّةٌ تُعْطِي مَبْلَغًا مِنْ المَالِ كَقَرْضٍ ثُمَّ تَسْتَعِيدُهُ بَعْدَ سَنَوَاتٍ بِنَفْسِ المِقْدَارُ. فَمَصْلَحَةُ البَنْكِ تَقُولُ بِأَنَّهُ أَنَا بَنْكٌ وَ أُرِيدُ أَنْ أنمي المال، و أريد أن استثمر في هذه الأموال فلا يُفيدني هذا الأمر، فهل معنى ذلك أن نمنع البنوك مادامت قائمة على الربا؟ أو أن هناك طريقاً آخر يمكن مع وجود هذه البنوك الربوية ومع كونها مجدية اقتصادياً ورابحةً والمال فيها يُستثمر بِكَفَاءَةٍ, وَفِي نَفْسِ الوَقْتِ لَا نَتَوَرَّطُ فِي الربا, هَلْ هَذَا مُمْكِنٌ؟
دُعيّ السيد الشهيد الصدر رحمه الله إلى هذا المؤتمر فاعتذر عن الذهاب لهم لكنه قال أنا أبعث لكم بدراسة حول هذا المَوْضُوعُ, فَبَعَثَ بِدِرَاسَةٍ بِعُنْوَانِ البَنْكِ اللآربوي فِي الإِسْلَامِ وَالكِتَابِ مَطْبُوعُ الآنَ, يَبِينُ فِيهُ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَقُومَ البَنْكُ بعموم عملياته البنكية ويكون رابحاً ومع ذلك لا يتورط في الربا، و ماهي المداخل الشرعية التي يمكن للبنك أن يقوم بها ويكون رابحاً ومع ذلك لا يكون مرتطماً في الربا؟ كان كتاباً مهماً في هذا الجانب.
كتابْ الأسسْ المَنطقيّة للاستقراء ومجالات الكتبٌ الأخرى.
لَدَيْهُ كِتَابُ الأُسُسِ المَنْطِقِيَّةِ لِلاِسْتِقْرَاءِ وَكَانَ السَّائِدَ فِي الحوزات العِلْمِيَّةُ وَالمَعَاهِدُ الدِّينِيَّةُ وَغَيْرَهَا كَانَ المَنْطِقَ الأسرطي الذي يُبنى على قواعد معينة. أتى السيد الشهيد رحمه الله وانتقد هذا المنطق كما انتقده غيره، يعني أنه كثير من العلماء رَأَوْا أَنَّ المَنْطِقَ الأرسطي لَا يَصْنَعُ عِلْمًا جَدِيدًا بَلْ وَلَا يَصُونُ حَتَّى مِنْ الخَطَأِ, إِنَّمَا يَصُونُ مِنْ جِهَاتٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ الأَخْطَاءِ الفكرية. فبنى السيد الشهيد رحمه الله بناءً جديداً في المنطق وأسس له بنظرية استفاد منها في أكثر من مكان من الأماكن، في العقائد استفاد منها، وفي علم الرجال وفي غير موضعٍ من المواضع. وهكذا طرح كتباً للحوزة العلمية، ذكرنا أثناء حَدِيثِنَا عَنْ المَرْحُومِ المُجَدِّدَ الشَّيْخَ المظفر رِضْوَانُ اللّه تَعَالَى عَلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ دُعَاةِ تَجْدِيدِ المَنْهَجِ الدِّرَاسِيُّ فِي الحوزات العلمية وسعى في ذلك، السيد الشهيد قدم محاولةً رائدة كانت ناجحة إلى حد كبير عندما قدم منهجا دراسياً في علم الأصول في حلقات ثلاث معروفة الآن باسم حلقات الشهيد الصدر. الحلقة الأولى لطالب العلم المبتدأ، بل حتى قبله يوجد (المَعالم الجديدة) فَمَثَلًا إِذَا كَانَ أَحَدٌ مِنْ المُثَقَّفِينَ يَقُولُ أَنَا لَسْتُ طَالَبَ عِلْمٌ لَكِنْ أُرِيدُ أَفْهَمَ مَا هُوَ الأُصُولُ, مَا هُوَ أَوَّلُهُ وَمَا هُوَ تَالِيهُ؟ ماذا يُراد به؟ ماهي وظيفته؟ هذا في حال أنه إذا كان ضمن إطار ثقافي. و كتب كتاب المعالم الجديدة للأصول وهذا كتاب للمثقفين شباب الجامعات خريجي الثانوية وينفعهم ليعرفهم على المبادئ العامة حتى إذا تحدث معه شخص يكون ملمًا بِهَذَا الجَانِبِ. وَكَتَبَ لِطُلَّابِ الحَوْزَةِ كِتَابًا آخَرُ, فَالحَلَقَةُ الأُولَى لِمَنْ هُوَ مُبْتَدَأٌ فِي الحَوْزَةِ العِلْمِيَّةُ, الحَلَقَةُ الثَّانِيَةُ زَادَ جرعة العمق فيها والدقة إذ أن طالب العلم نفسه يُنهي الحلقة الأولى في ثلاثة أشهر تقريبا فيحتاج إلى متابعه في مستوى أَعْلَى فَيُدَرِّسُ الحَلَقَةَ الثَّانِيَةَ, أَيْضًا كُتُبُ حَلَقَةٍ ثَالِثَةٍ, لِنَفْسِ المَطَالِبُ وَلَكِنَّ مَعَ تَوْسِعَةٍ وَتَفْصِيلٍ وَتَعْمِيقٍ. فَالحَلَقَةُ الثَّالِثَةُ تَعْتَبِرُ قمة السطح الأصولي وبعد هذا يكون طالب العلم مؤهلاً لدراسة بحوث الخارج. كتب أيضاً في الفقه وله بحوث في العروة الوُثْقَى وَكَانَ المَطْبُوعَ مِنْهَا أَرْبَعَةُ أَجْزَاءَ, وَعُمْرَةٍ آنَذَاكَ اِثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ سَنَةٍ. وَكَانَتْ لَهُ أَيْضًا دَوْرَةٌ أُصُولِيَّةٌ حَرَّرَهَا بَعْضٌ تلامذته وله أيضاً كتب ثقافية عامة للشباب ككتاب بحث حول التشيع، وكتاب بحث حول الولاية الذي هو ذاته كان حول التشيع، وبحث حول المهدي عجل الله فرجه الشريف في الحديث عن الإشكالات التي تتحدث عن نظرية الإيمان بالإمام المُهْدَى عِجْلٌ اللّه تَعَالَى فَرَجُهُ الشَّرِيفُ, وَلَدَيْهُ كِتَابٌ فَدَكَّ فِي التَّارِيخِ (أَنَا فِي الوَاقِعِ عَلِّمِي بِالكِتَابِ قَدِيمَ جِدًّا وَأَتَذَكَّرُ أَنَّهُ كان جِيدَ العُمْقُ وَلِمَا عَلِمْتُ أَنَّ المُؤَلِّفَ أَلَّفَهُ وَعُمَرَهِ ثَمَانِيَةٍ عَشْرَةِ سَنَةً أَكَبُرْتُ ذَلِكَ جِدًّا), وَكِتَابُ الرَّسُولِ المُرْسِلُ وَالرِّسَالَةُ أَيْضًا في العقائد، إذاً هناك مجموعة من الكتب كتبها ونفعت الساحة الإسلامية ولا نستطيع ذكر جميع الكتب فكل كتاب يحتاج إلى تفصيل لكن هذا المقدار فقط جيد.
دور السيّد الصّدر معْ الأحزاب السياسيّة.
الدَّوْرُ السِّيَاسِيُّ الَّذِي قَامَ بِهِ, الشَّهِيدُ الصُّدَرَ كَانَ دَوْرًا مُتَمَيِّزًا أَيْضًا وَقَدْ بَدَأَ بِهِ فِي بَاكُورَةِ شَبَابِهِ يَعْنِي مِنْ سُنَّةِ 1958 وَالَّذِي كان عمره آنذاك بحدود ثمانية وعشرين سنه، سبعة وعشرين سنة، عندما حدث الانقلاب على الملكية وجاء عبدالكريم قَاسِمٌ وَجَاءَ الشُّيُوعِيِّينَ (تَحَدَّثْنَا عَنْ دَوْرِ الشُّيُوعِيِّينَ وَالأَحْزَابِ فِي تَلْوِيثِ الوَضْعِ العِرَاقِيِّ عِنْدَمَا تَحَدَّثْنَا عَنْ مَرْجَعِيَّةِ الإِمَامِ الحكيم) هنا تحركت المرجعية عبر عدة حركات منها أنها أسست جماعة العلماء وأصدرت مجلات منها مجلة الأضواء التثقيفية حَيْثُ كَانَتْ تُعْطِي مَوَاقِفَ لِلنَّاسِ, مَوَاقِفُ العُلَماءِ, مَوَاقِفُ المَرْجَعِيَّةِ, وَمَوَاقِفُ التَّابِعِينَ لِأَهْلِ البَيْتِ عَلَيْهُمْ السَّلَامُ، وكان للسيد الشهيد رحمه الله دور كبير في جماعة العلماء مع أنه كان في ذلك الوقت في أول الشباب أي بعمر 28 أو 27 سنة في وقت كان فيه جماعة من أكابر العلماء الأعاظم والكبار من العلماء لكن السيد الشهيد كان معهم وكان يكتب بعض البَيَانَاتُ الصَّادِرَةُ عَنْ جَمَاعَةِ العُلَماءِ وَيَكْتُبُ افتتاحيات مَجَلَّةَ الأَضْوَاءَ. تَعْبُرُ اِفْتِتَاحِيَّةً كُلُّ مَجَلَّةٍ عَادَةً عَنْ سِيَاسَةِ الجِهَةِ المصدرة للمجلة وتوجهاتها وماذا تريد، فعمله السياسي رحمه الله كان مبكراً، ولما جاءت عاصفة البعثيين زاد نشاط السيد الشَّهِيدُ رَحِمَهُ الله فِي مُقَابِلِ البعثيين. فَبَعْدَ أَنْ اِنْتَهَوْا الشُّيُوعِيُّونَ, جَاءَ البعثيون وَلَاسِيَّمَا فِي الحِقْبَةِ الأَخِيرَةِ مِنْ عَهْدَ البعثيين يعني حقبة أحمد حسن البكر ومن ثم صدام المقبور. في هذه الأثناء، السيد الشهيد ضاعف نشاطه و دعم الجهات الإسلامية والحركات العامة في الساحة وتفاعل معها وتواصل معها بقدر ما تسمح به الظروف المعاصرة في ذلك الوقت وتسمح له أَيْضًا ظُرُوفُ الحَوْزَةِ العِلْمِيَّةَ الَّتِي رُبَّمَا كَانَ عِنْدَهَا شَيْءٌ مِنْ المُلَاحَظَةِ عَلَى التَّعَامُلِ مَعَ الأَحْزَابِ وَلَكِنَّ مَعَ كُلِّ هَذِهِ الملاحظات كان للسيد الشهيد رحمة الله عليه دور كبير في دعم الحركات الدينية والأحزاب الإسلامية، وفي ذلك الوقت هُوَ بِنَفْسِهُ أَيْضًا بَدَأَ يَتَحَرَّكُ وَيُعْلِنُ مَوْقِفَهُ مِنْ الحِزْبِ البعثي وَيُحَرِّمُ الاِنْتِمَاءَ إِلَيْهُ وَيَنْصَحُ بِعَدَمِ التَّفَاعُلِ وَالتَّعَاوُنِ مَعَهُ وَقَدْ سجل البعثيون على الشهيد الصدر هذا الأمر باعتباره موقفا عدائيا لهم وظل هذا الأمر يتصاعد وفي عام 1992 حدث الاعتقال الأول للشهيد الصدر إلى 1400. أعتقل الشهيد الصدر لثمان مرات، بعض هذه الاعتقالات كانت لفترات قصيرة وَلَكِنَّ قَضِيَّةُ المُضَايَقَةِ وَ قَضِيَّةُ المُرَاقَبَةِ الدَّائِمَةُ واللصيقة أَيٌّ أَنَّهَا قَضِيَّةُ التطفيش (حَسَبَ التَّعْبِيرِ) لِطُلَّابِ العِلْمِ مِنْ حَوْلِهُ وتهديدهم وإعاقة توسع السيد الشهيد في هذه الأثناء كان شيئاً واضحاً للعيان لمن كان في النجف الأشرف في تلك الفترة، أنا أذكر كنا حينها في النجف الأشرف وكنت صغير السن في ذلك الوقت فكان المرور بجانب منزل السيد الشهيد شيئاً مَمْنُوعًا فَفِي بَعْضِ الفَتَرَاتِ لَا تَمُرُّ مِنْ هُنَا بَلْ أَذْهَبُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرُ فَكُنْتُ أَوَدُّ الذَّهَابَ لِسُوقِ العِمَارَةِ وَكَانَ لَدَيَّ عَمَلٌ فَيُقَالُ لي ارجع من هنا ولا تمر! مع أنه هذا بحسب المقاييس أنني ولدٌ صغير ومررت في شأن من الشؤون العادية فما ظنك بالنسبة للعلماء وبالنسبة إلى وجوه المجتمع، فرضت عليه مراقبة لصيقة وإيذاء لمن يأتي إليه نظراً لمواقفه تجاه هؤلاء البعثيين, إِلَى أَنَّ وَصَلَ فِي الأَخِيرِ إِلَى هَدَفِهِ خُصُوصًا مَعَ اِنْتِصَارِ الثَّوْرَةِ الإِسْلَامِيَّةِ فِي إِيرَانَ, فَأَعْلَنَ السَّيِّدُ الشَّهِيدُ مَوْقِفٌ صريح وحازم وواضح إيجابي تجاه هذه الثورة وتجاه قياداتها وأعلن استعداده للتعاون معها وبشر الناس بأن التوجه الإِسْلَامِيُّ وَبِالتَّالِي حَقَّقَ فُرْصَةً وَتَجْرِبَةً لِتَجْرِبَةِ الدُّسْتُورِ الإِسْلَامِيِّ وَالرُّؤْيَةِ الإِسْلَامِيَّةِ وَكَانَ هَذَا بِالنِّسْبَةِ للبعثيين شَيْئًا فَوْقَ التصور لاسيما وأنهم فيما بعد دخلوا في حرب ضد هذه الثورة وكانوا يحضرون لها فرأوا أن هذا الأمر شيء فوق الاحتمال وزاد من عزمهم على مواجهته.
دعوة الشهيد السيّد الصَّدر للتحرُّك في العراق.
ثُمَّ كَانَ الشَّهِيدَ أَيْضًا فِي الأَوَاخِرِ كَمَا يَظْهَرُ قَدْ وَصَلَ إِلَى تَشْخِيصٍ وَهُوَ أَنَّ العِرَاقَ لِكَيْ يَتَحَرَّكُ يَحْتَاجُ إِلَى دَمِ شَهِيدٍ أَيٌّ يحتاج إلى شهادة حمراء قوية تهز الضمائر و توقظ النفوس وأن ذلك الشهيد ينبغي أن يكون من وزن معين وذلك الوزن هُوَ نَفْسُهُ شَخْصِيًّا, أَيٌّ أَنَّ العِرَاقَ يَحْتَاجُ إِلَى شَهِيدَ وَأَنَّ ذَلِكَ الشَّهِيدُ هُوَ مُحَمَّدٌ بَاقِرُ الصَّدْرُ نَفْسُهُ لَا غَيْرُ فَاِشْتَغَلَ عَلَى هَذَا الأساس، ولم يكن في أمر شهادته لا غافلاً ولا ساهياً ولا انحصر وتورط، لكنه كان واعياً بالأمر وكان جازماً عليه ويتحرك على هذا الأساس.
وَفِي فَتْرَةٍ مِنْ الفَتَرَاتِ الأَخِيرَةِ وَخَاصَّةً لَمَّا فَرَضْتُ عَلَيْهِ الإِقَامَةُ الجَبْرِيَّةُ وَمَنْعُ أَيِّ أَحَدٍ مِنْ الاِتِّصَالِ بِهِ إِذَا بِهِ يُوَجِّهُ ثُلَاثَ نداءات وخطابات للشعب العراقي بصوته في رجب وشعبان من سنة 1400هـ وخاطب الشعب العراقي بصراحة أنه يجب أَنْ تَتَحَرَّكُوا, يَجِبُ أَنْ تُطَالِبُوا بِحُقُوقِكُمْ, فَهَذَا الوَضْعُ الَّذِي تَسِيرُونَ فِيهُ تُسَيِّرُكُمْ فِيهُ حُكَّامُكُمْ إِلَى الهَاوِيَةِ, العِرَاقُ سَوْفَ ينتهي إذا استمر هؤلاء في هذا المشوار الذي هم فيه وهؤلاء أفسدوا الأخلاق وأفسدوا الدين، أفسدوا العمران، أفسدوا الزِّرَاعَةُ, خَرَّبُوا العِرَاقُ كُلَّهِ وَ أَصْبَحَ العِرَاقُ مُحْتَاجًا إِلَى غَيْرِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ أَثَرَيْ البُلْدَانِ العَرَبِيَّةِ فَلاَ بُدَّ أَنْ تَتَحَرَّكُوا, و وَجَّهَ خِطَاباتِهُ لَيْسَ لِلشِّيعَةِ فَقَطْ بَلْ لِعُمُومِ الشَّعْبِ العِرَاقِيِّ سَنَتَّهِمُ وَشِيعَتُهُمْ عَرَّبَهُمْ وَأَتْرَاكَهُمْ وَالَى مُخْتَلِفُ القَوْمِيَّاتِ, وَفِيَّ آخر شريط و في آخر نداء أخبر أنه أنا بعد هذا يمكن أن لا تسمعوا صوتي أصلاً ولا تجدونني على قيد الحياة ولكن وَاصلُوا أَنْتُمْ المَسِيرُ وَالمِشْوَارُ إِلَى أَنْ يَأْذَنَ اللهُ بِنْصِرُكُمْ.
إِذَنْ فَإن الرَّجُلَ كان يَعِي مَا يَصْنَعُ, إِذْ كَتَبَ فِي رِسَالَةٍ مِنْ الرَّسَائِلِ وَالَّتِي تَمَّ تَبَادُلُهَا بَيْنَ النِّظَامِ العِرَاقِيِّ وَبَيْنَ السَّيِّدِ, الشَّهِيدِ الصدر رحمه الله (أقرأ لكم بعض فقراتها) وهو أن صدام المقبور أرسل رسالة إلى السيد الشهيد الصدر قبل قتله بفترة وَجِيزَةُ مُحْتَوَاهَا أَنَّهُ أَنْتِ كُنْتَ ضِدَّنَّا طِوَالَ هَذِهِ الفَتْرَةُ وَحَرَّمْتِ الاِنْتِمَاءَ إِلَى حِزْبِ البَعْثِ مَعَ أَنَّهُ حِزْبَ الوَحْدَةِ العَرَبِيَّةِ وَحِزْبٌ............. آلَخ وَمَا شَابُّهُ ذَلِكَ مِنْ الكَلَامِ, وَأَضَافَ: وَأَعَنْتُ أَعْدَائِنَا إِيرَانُ وَكُلُّ ذَلِكَ مُخَالَفَةٌ مُتَعَمِّدَةٌ لِلنِّظَامِ الحَاكِمِ فنحن الآن رأفةً بك وقبل أن نطبق عليك حكم القانون نقترح عليك بعض الاقتراحات التي لا تكلفك الشيء الكثير فنقترح عَلَيْكَ أَنْ تَكْتُبَ بِقَلَمِكَ وَتَوَقُّعٍ عَلَيْهِ كِتَابَةً بِجَوَازِ الاِنْتِمَاءِ إِلَى حِزْبٍ البَعْثِ العَرَبِيُّ الاِشْتِرَاكِيُّ, وَأَنْ تَظْهَرَ عَلَى شَاشَةِ التِّلْفَازِ الرسمي وتؤيد القيادة في العراق وتذم الفئة الإيرانية التي اعتدت على العراق وهذا لن يضرك شيئاً، وإذا فعلته فلك كل الكرامة وستحصل على كل ما تريد.
موقف السيّد الصَّدر الأخير واستشهاده.
كَانَ بِإِمْكَانِ السَّيِّدِ الشَّهِيدِ أَنْ يَتَنَازَلَ وَيَقُولُ أَنَا لَا أَسْتَطِيعُ فِعْلَ كَذَا وَيَعْتَذِرُ, لَكِنَّهُ كَانَ مشخصًا لِدَوْرِهِ كَمَا قُلْنَا (فَوْقَ كُلِّ بِرٍّ بر حتى يقتل المرء في سبيل الله) فدور الشهيد كان هو من سيحرك الوضع في العراق من خلال شهادته لذلك كتب رسالةً شَدِيدَةً وَطَوِيلَةً وَقَوِيَّةً إِلَى صَدَّامَ أَقْرَأُ لَكَ بَعْضُ فَقَرَاتِهَا: لَقَدْ كُنْتُ أَحْسُبُ أَنَّكُمْ تَعْقِلُونَ القَوْلَ وَتَتَعَقَّلُونَ فَيَقُلْ عَزْمَكُمْ الزَّامَّ الحجة لكن الأمر تبين ما هكذا فقد وعظتكم بالمواعظ الشافية أرجوا صلاحكم وكاشفتكم من صادق النصح ما فيه فلا حكم حتى حصحص أمركم وصرح مكنونكم تبين لي أنكم أظل سبيلاً من الأنعام السائبة وأقسى قلوباً من الحجارة الخاوية وَأَشْرَهُ إِلَى الظُّلْمِ وَالعَدُوَّانِ مِنْ كواسر السباع لَا تَزْدَادُونَ مَعَ المَوَاعِظِ إِلَّا غيًا وَمَعَ الزواجر إِلَّا بَغْيًا أَشْبَاهُ اليَهُودِ وَأَتْبَاعٍ الشيطان أعداء الرحمن قد نصبتم له الحرب الضروس وشننتم على حرماته الغارة العداء وتربصتم بأوليائه كل دائرة (وَهَكَذَا يَفِدُ عَلَى هَذَا الأَمْرُ) حَتَّى يَصِلُ وَيَقُولُ: تَبًّا لِكُمْ وَلِمَا تُرِيدُونَ أَظَنَنْتُمْ أَنَّ الإِسْلَامَ عِنْدَي مِنْ المَتَاعِ يُشْتَرَى وَيُبَاعُ أَوْ فيه شيء من عرض الدنيا يؤخذ ويعطى أي تعرضون ليه فيه باهض الثمن جاهلين وتمنونني عليه زخارف خادعة من الطين فوالله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر لكم إقرار العبيد، إن كان عندكم غير الموت ما تخيفوني به عجلوا به وإن عندي من الرواسي الشامخات ما تبلى من الرسوخ والثبات.
أَنَا لَسْتُ غَافِلًا عَنْ هَذَا وَأَنَا ثَابِتٌ وَصَامِدُ, أَنَا لَا أُعْطِيكُمْ بِيَدِي إِعْطَاءٍ الذَّلِيلِ وَلَا أَقَرَّ لِكُمْ إِقْرَارَ العَبِيدِ, وَهَذَا هُوَ نَهْجٌ الحسين عليه السلام، و هذا تعليم سيد الشهداء أبي عبدالله الحسين روحي له الفداء ولذلك بالفعل هم عملوا عمل يزيد وَعَمَلَ هُوَ عَمَلُ الحُسَيْن عَلَيْهِ السَلَامُ.
يَنْقُلُونَ أَنَّهُ اُسْتُدْعِيَ أَحَدُ أَبْنَاءِ عُمُومَةِ السَّيِّدِ مُحَمَّدٌ صَادِقُ الصُّدَرَ رَحِمَهُ الله ذَاتُ لَيْلَةٍ إِلَى مُدِيرِيَّةِ أَمْنِ النَّجَفِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ وقالوا له هذه جنازة محمد باقر الصدر، وهذه جنازة أخته العلوية بنت الهدى رحمة الله عليهما، افتح وتأكد حتى تقوم بِالمَرَاسِمِ وَتَدْفِنُهُمْ وَلَّا نُرِيدُ أَيَّ شَيْءٍ لَا تَشْيِيعَ وَلَا فَاتَحَهُ وَلَّا....., وَبِالفِعْلِ فَتَحَ التَّابُوتَ وَوَجَدَ أَنَّهُمْ قَتَلُوا بِالرَّصَاصِ وَكَانَتْ آثار التعذيب والكدمات والضرب ظاهرة على تلك الأبدان الطاهرة. وصَلى الله على سيّدنا ونبينَا أبي القاسمْ محمد وعلى آله الطيبينْ الطَاهرينْ. |