قراءة
الحياة الشخصية عند أهل البيت (ع)
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
مرات العرض: 13345
القراءة والتنزيل: عدد مرات التنزيل: (4926) قراءة
الحياة الشخصية عند أهل البيت

بسم الله الرحمن الرحيم

الحياة الشخصية لماذا ؟!

يشهد عالمنا الإسلامي منذ سنوات عودة إلى الذات وتقدماً نحو فهم المضامين الدينية من قبل اكثر فئات المجتمع مثقفيه وعوامه، وشبابه وناشئته، وهذا الأمر يحدونا إلى التعرف على نمط الحياة المطلوبة للإنسان المسلم ذلك أن أول تجل مطلوب لهذه المضامين إنما يلحظ في نمط الحياة التي يختارها الإنسان، وربما يكون أيضا أصعبها. ذلك أنه من السهل أن تتم مطالبة الآخرين و(الغير) بتطبيق المبادئ، ولكن من الصعب أن يجسد هذا المطالب مطالبه في حياته.
كلأ وإذا كان يمكن للكثير أن يتحلوا بالأخلاق في المجتمع، ولعرف عنهم في حياتهم العملية.. مثلا- الحسنات والدعوات الصالحة ، فليس هذا دليلا نهائيا على سلامة الشخصية، بل ينبغي النظر إلى الحياة (الخاصة) والسيرة الشخصية، وإلى السلوك في المنزل، وإلى التعامل مع الزوجة وإلى إدارة الأطفال.. إلى حيث يبقى المرء وحيدا بلا رقابة خارجية بل صاحب السيطرة.. فكيف تكون أخلاقه ؟! وأي نمط يجسد ؟!
من هنا كان ضرورياً اللجوء إلى حياة المعصومين عليهم السلام وفي طليعتهم سيدهم رسول الله صلى الله عليه وآله الذي سئلت زوجته عائشة عن أخلاقه- في المنزل- فأجابت: كان خلقه القران.
الحياة الشخصية بتفاصيلها التي نعيشها باعتبارنا اكثر قدرة على فهم ضروراتها وضغوطها، وكونها تخرج عن ذلك الحاجز السميك الذي صنعناه حول أنفسنا من كونهم (عليهم السلام) معصومين، وبالتالي خرجوا في (وعي البعض) عن دائرة البشر إلى دائرة الملائكة..
بالطبع سوف نجد في نهاية المطاف ذلك التناغم الرائع بين ما يقوله المعصومون من مبادئ وبين ما يعيشونه في حياتهم الشخصية من وقائع. وبالرغم من أن هذا الجانب من حياتهم المباركة لم يتناول في شكل نظرية كاملة، بل أستطيع القول لم يول العناية الكافية نظرا لوقوعه في دائرة الآداب والسنن غالبا، وهذه لا يتناولها المؤرخون باعتبارها ليست إحداثا تاريخية مهمة فهي خارجة عن اختصاصهم، كما يتسامح فيها الفقهاء نظرا للتسامح في أدلة السنن، إضافة إلى كونها تتعلق بالحياة الشخصية فلم يفصل فيها أهل البيت عليهم السلام كما بسطوا الحديث في مواضيع أخرى. لذلك نضطر إلى التقاط نقطة من هنا وإشارة من هناك واستظهارا من هذا الحديث، ومحاولة تفسير لذلك الحديث حتى نصل إلى القيم العامة الجامعة بين هذه التفاصيل.

* إننا في هذا الموضوع على حدي سيف قاطع:
- البشرية المطلقة.
- الغيبية المطلقة.

وكلاهما مخيف إن تم التمسك به، ذلك أن مآل الطريق الأول والذي سلكه بعض المسلمين تحويل المعصومين وفي طليعتهم سيد الخلق والرجل الأكمل في الكون إلى إنسان عبثي يخجل المسلم من النظر في أحاديث سيرته.
واني لا يكاد ينتهي تعجبي ممن يفكر بهذه الصورة بالنسبة للرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) فهو على قول بعضهم- والعياذ بالله- رجل مشرك مدة أربعين سنة، وعلى دين قومه قبل البعثة وهو الذي ينهض بعد بعثته لكي يجامل قومه أو نسيانا فيضيف إلى القرآن آيات تمجد الأصنام!! وهو صاحب اللعب مع زوجاته وتارك شؤون الأمة ليقوم بسباق الضاحية معهن فيسبق مرة ويخسر أخرى!! و.. و.. إلى غير ذلك..
هذا والإفراط في النظرة البشرية المطلقة ينتهي بنا إلى أن يكون بعض العلماء المتنزهين عن القبائح المذكورة افضل سيرة من هذا الشخص، وهو خلاف كل المعتقدات.
كما ان الإفراط في الجانب الغيبي لدى مجموعة أخرى من المسلمين من الذين رفعوا المعصومين فوق منازلهم، لتصورهم بأنهم بذلك يقدرونهم ويحترمونهم، هو الآخر بدوره اشتباه كبير.. إن هذه المنزلة لا لأنهم أنصاف ملائكة، وان دمهم كذا وتركيبهم الجسمي كذا.. وإنما تبوؤا هذه المنزلة العظمى لأنهم كانوا بشرا مثلنا ولكنهم ارتفعوا بالوحي والعلم الإلهي، وتطبيق القرآن إلى درجة أعلى من منازل الملائكة.
إن الفخر والمجد الذي حصل عليه هؤلاء هو انهم عاشوا ضرورات الجسد وضغوط الواقع الخارجي وعوامل الهبوط ولكنهم مع ذلك اخلصوا العبادة لله حتى اختصهم واستخلصهم، ويلخص القرآن الكريم هذه المعادلة بالجمع بين حالتي البشرية والغيبية بقوله:- حاكيا عن لسان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)..

- (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي إنما ألهكم إله واحد) .
- (قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا) .

يتعين على القارئ للسيرة الشخصية للمعصومين عليهم السلام أن يتحرك في إطار هذين الحدين، فلا بشرية تنزل بالمعصوم إلى القبائح العرفية فضلا عن المحرمات باعتباره في اعتقادنا الأكمل في وقته- ومطلقا بالنسبة للنبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)-، ولا غيبية ترفعه عن الأرض التي يعيش عليها لتحجز مكانه في السماوات بين الملائكة.

* كان من نتائج غياب النظرية الكاملة في هذا الجانب ان تعددت التفاسير تبعا للتمسك بالتفاصيل، من دون ملاحظة القيم العامة والخطوط الرئيسية فإذا كانت ميول شخص (تقشفية) فإنك تراه يجمع الأحاديث الواردة عن زهد أمير المؤمنين عليه السلام وشربه اللبن الحازر الحامض مع كسرات شعير يكسرها بركبته ليبسها. بينما إذا كان ممن انعم الله عليه، وكان من أهل التأنق فانه يحفظ جيدا أحاديث لبس الإمام الصادق والرضا عليهما السلام تلك الأكسية اليمنية الجيدة والثمينة.
وهذا الأمر ليس جديدا، إذ إننا نواجه في التاريخ أيضا إشارات تنبيه إلى هذا الفهم فهذا ابن المنكدر يذهب لينصح الإمام الباقر (عليه السلام) وقد رجع من عمله في بستان له وهو يتصبب عرقا، ينصحه بترك الدنيا فيرده الإمام ويعرفه الخط العام لمعنى طلب الدنيا، وهؤلاء قوم من الصوفية يدخلون على الإمام الصادق فينكرون عليه بعد أن رأوا عليه ثيابا بيضا كأنها غرقىء البياض .
ان هذا ليس من ثيابه ولا من ثياب آبائه كرسول الله وأمير المؤمنين عليهما السلام فيخبرهم بمدخلية الزمان والظروف في تغيير التفاصيل مع المحافظة على القيم .
وهنا من الضروري البحث عن عدة قضايا أثناء التعرض إلى تفاصيل تلك الحياة المباركة للمعصومين عليهم السلام.
فهل كل الأعمال التفصيلية تدخل في إطار السنة ؟! مثلا تفضيل هذا المعصوم للطعام الكذائي، وتفضيل معصوم آخر لنوع آخر هل يدخل ضمن (الحالة البشرية) ولا مدخلية للحكم الشرعي ؟! خصوصاً انه توجد لدينا أحاديث تبين عدم الاتفاق على التفاصيل في تفضيل هذا الطعام أو ذاك ؟
وهل للزمان مدخلية في آكل هذا النوع، ولبس ذلك الصنف، والزواج من هذا الجنس ؟!
وهل للموقع الذي يشغله الشخص في المجتمع مدخلية في تعيين النمط المطلوب في الحياة الشخصية، فإذا كان قائدا ينبغي أن يكون بشكل كما يستفاد من حديث الإمام أمير المؤمنين مع عاصم بن زياد وإذا لم يكن فبشكل آخر ؟!
بل.. هل للمكان دور في تعيين جانب من الحياة الشخصية ؟! فإذا كان مثلاً الأكل الفلاني بالمدينة مناسبا ومطلوبا فهل يكون بخراسان أيضا مطلوبا مع اختلاف الأجواء، بل ومع اختلاف الأشخاص أيضا، هذا بناء على أن توجيهات المعصومين في هذا الجانب موافقة لقواعد الصحة- إن قلنا بكونها إرشادية- على الامثل ؟!
ثم ما هو المطلوب.. هل هو التفاصيل أم القيم العامة ؟! هل المطلوب الزهد في الدنيا- بمعناه الحقيقي- ؟! أم هناك علاقة خاصة مع الصوف باعتباره صوفا ؟!
هل هي القناعة والخشونة أم حب عذري لأقراص الشعير ؟!
هذه الأسئلة وسواها قد تجد إجابة في الصفحات القادمة- كما سنحاول ونرجو ، وقد لا تجد، لكنها تفتح القمقم عن مارد العقل للتأمل في سيرهم الشخصية ولعلها تكون البسملة لسور آخرين من الباحثين.
فوزي آل سيف
1/11/1410هـ


الفصل الأول
حياة المعصومين بين الغلو والتقصير
خطان يمكن للباحث أن يلحظهما في التعامل مع المعصومين عليهم السلام، بالرغم من كونهما على طرفي نقيض إلا انهما ينتهيان إلى نتيجة واحدة، هي إخراج الناس من محيط الاتباع والاقتداء.
خطان يخرجان من الحد الوسط، والجادة إلى حاشيتي الطريق، إفراطا وتفريطا.
هذان الخطان هما: الغلو و التقصير.
ونظرا لعلاقة هذا الموضوع الأكيدة ببحثنا فإننا سوف نتناوله بشيء من التفصيل ذلك أننا ندرس الحياة الشخصية بمختلف جوانبها في حياة المعصومين عليهم السلام لكي ننطلق منها إلى معرفة النمط المطلوب دينياً ، ونحاول أن نتمثله في حياتنا كما أوضحنا في المقدمة، هذه العملية تعتمد على تكوين (الاتباع والاقتداء) كعلاقة نهائية بين الأمة وبين المعصومين، وهذه العلاقة لا يمكن أن تتكرس في ظل سيادة نظرة الغلو، ولا التقصير. ذلك ان المغالي كما سيتبين- لاحقا- لا يغالي إلا وهو مصمم على عدم الاتباع، فيرفع درجة الشخص إلى مراتب لا يدعيها الشخص لنفسه، فيخرجه من حالته البشرية إلى نموذج (إله- أو نصف إله) وحينئذ لا يطالب نفسه بالاقتداء به، وأما المقصر فلأنه لا يعتقد بأن هذا الشخص يختلف عنه كثيراً فلماذا يقتدي به ؟!
ويظهر من عدد من الأحاديث إشارات إلى هذين الصنفين، وإن كان التأكيد يكثر في ذم الغلاة، وذلك للخطر الاستثنائي الذي يمثله هؤلاء على العقيدة، ما لا يمثله المقصرون.
- فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال: يا علي مثلك في هذه الأمة كمثل عيسى بن مريم احبه قوم فأفرطوا فيه وابغضه قوم فأفرطوا فيه، فنزل الوحي (ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون) .
- وعن أمير المؤمنين (عليه السلام):- يهلك فيَّ اثنان محب غال ومبغض قال.
- وعن أمير المؤمنين أيضا (عليه السلام): يهلك فيَّ رجلان محب مفرط يقرظني بما ليس لي، ومبغض يحمله شنآني على أن يبهتني .
وكما ذكرنا آنفا فإن الغلو كان الداء الأخطر والأكثر الذي ابتلي به المعصومون عليهم السلام من قبل الجهلة، والخاطئين، وسوف نتحدث عن هؤلاء عند الحديث عن دوافع الغلو وبواعثه.
فقد جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقال له:
سلام عليك يا ربي!! فقال له الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): مالك لعنك الله ربي وربك الله، أما والله لكنت ما علمتك لجباناً في الحرب لئيماً في السلم .
واختص أمير المؤمنين (عليه السلام) بمجموعة لم تستطع إدراك سر عظمته ولم ينته عقلها إلىإمكان وجود هذه العظمة في بشر مثلهم فألهوه، ولذلك احرقهم بالنار. فقد روي أن أمير المؤمنين (عليه السلام) مر عليهم وهم يأكلون في شهر رمضان نهاراً، فقال لهم: أسفر (مسافرون) أم مرضى ؟! قالوا : ولا واحدة منهما !!
قال: أفمن أهل الكتاب انتم ؟! قالوا: لا.
قال: فما بال الأكل في شهر رمضان نهاراً ؟! قالوا: أنت! أنت..
ولم يزيدوا عن ذلك، ففهم مرادهم، فنزل عن فرسه، فالصق خده بالتراب ثم قال:
ويلكم إنما أنا عبد من عبيد الله فاتقوا الله وارجعوا إلى الإسلام فأبوا فدعاهم مرارا، فأقاموا على أمرهم، فنهض عنهم، ثم قال شدوهم وثاقاً وعلي بالفعلة والنار والحطب، ثم أمر بحفر بئرين فحفرتا فجعل احداهما سربا، والأخرى مكشوفة وألقى الحطب في المكشوفة وفتح بينهما فتحاً وألقى النار في الحطب فدخن عليهم وجعل يهتف بهم ويناشدهم: ارجعوا إلى الإسلام فأبوا فأمر بالحطب والنار، وألقي عليهم فاحترقوا، فلم يبرح واقفا عليهم حتى صاروا حمما .
ويظهر أن هذه المجموعة وإن انتهت بأشخاصها إلا أن منحى الغلو استمر لفترات متأخرة حيث نجد رجلا يسأل الإمام الرضا عليه السلام محتجا بقول ينتهي إلى الغلو في أمير المؤمنين وسيأتي نص جواب الإمام عليه السلام. ويظهر أن الإمام الصادق عليه السلام قد ابتلي أيضا بفئة أخرى من هؤلاء الغلاة، فقد قام بعضهم يلبي باسم الإمام (يقولون لبيك) فلما أخبر بذلك خر ساجدا إلى الأرض وهو يبكي، ويلوذ بإصبعه ويقول: بل عبد الله، قنّ داخر، يقول ذلك مراراً كثيرة ثم رفع رأسه ودموعه تسيل على لحيته، قال مصادف (احد مواليه) فندمت على إخباره، وقلت له: جعلت فداك وما عليك أنت من ذا ؟!
فقال: يا مصادف إن عيسى لو سكت عما قالت النصارى فيه لكان حقا على الله أن يصم سمعه ويعمي بصره، ولو سكت عما قال ابو الخطاب (احد الغلاة) لكان حقا على الله أن يصم سمعي ويعمي بصري .
وهكذا الحال نجد أن عددا من الانتهازيين ممن صنعوا مذهب الواقفة، اضطرهم ذلك إلى القول باستمرار حياة الإمام موسى بن جعفر عليه السلام تلك لم تكن إلا نماذج لأنماط غلو الجهال في حياة المعصومين عليهم السلام ننطلق منها للحديث عن دوافع الغلو، وعوامله.
عوامل نشوء الغلو
(1) عدم المعرفة أو المعرفة الناقصة:
المراقب لموقع المفاهيم في الثقافة الإسلامية يجد أن المعرفة الصحيحة تحتل أهم المواقع، فحركة الإنسان الحياتية مرهونة في صحتها أو خطئها بالمعرفة التي يحملها، إذ (ما من حركة إلا وأنت محتاج فيها إلى معرفة)، ولهذا السبب يقيم المرء طبقاً لمعرفته، قبل تقييم عمله، فكم من عامل يجهد نفسه في العمل ولكنه يخطى الاتجاه لأنه ناقص المعرفة ولذلك يقول أمير المؤمنين عليه السلام: ( لا تستعظمنّ أحدا حتى تستكشف معرفته)، ويتم تصنيف الاتباع لا على مقدار ممارساتهم العبادية فقط، وإنما على قدر معرفتهم ويقينهم (اعرف منازل الشيعة على قدر روايتهم ومعرفتهم)، بل إن العبادة تختلف فهي من العارف أفضل في قيمتها عن عبادة قليل المعرفة أو الشاك إلى درجة أن يكون (نوم على يقين خير من عبادة على شك).
وأثر المعرفة في السلوك والعمل يدرك بملاحظة آثار الجهل الوخيمة في حركة الإنسان ذلك انك ( لا ترى الجاهل إلا مفرطاً أو مفرطاً) .
وكما أن المعرفة الصحيحة تؤثر في (حركة) الإنسان، فإن تأثيرها في (عقيدته) اكثر أهمية. ذلك أن العقيدة هي الإطار العام لحركة الإنسان، بل هي محتوى حياته. وبقدر ما تكون عقيدته سليمة، تكون حياته سعيدة، لذلك أمر الله الناس بالاستجابة لرسله لأنهم يدعون البشر إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم وحياتهم (يا أيها الذين أمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ). ونحن نجد أن من أهم الدعوات التي يسألها المؤمن ربه، دعوات المعرفة (اللهم عرفني نفسك فانك إن لم تعرفني نفسك لم اعرف نبيك، اللهم عرفني نبيك فإنك إن لم تعرفني نبيك لم اعرف حجتك، اللهم عرفني حجتك فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني). وهذا التسلسل البديع في معرفة الله، ثم معرفة الرسول ثم معرفة الحجة والإمام، يبين احد الأسباب التي ضل لأجلها من ضل إذ انهم في إحدى حلقات هذه السلسلة لم يتوفقوا للمعرفة الصحيحة والكاملة، فالذين لم يعرفوا الله حق معرفته، لم يقدروه حق قدره، فانحرفوا عن الجادة من بدايتها، وأولئك الذين لم يعرفوا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يسلموا له لذلك أعلنوا عليه الحرب، وأولئك الذين لم يعرفوا الإمام معرفة صحيحة انقسموا إلى (محب غال ومبغض قال).
في هذا المجال وجدنا أن عدم المعرفة نهائيا أو المعرفة الناقصة أدت بهؤلاء الناس إلى الغلو، خصوصا انهم جهلوا أسرار الفضل والتفوق في شخصيات المعصومين فرفعوا المعصومين (عليهم السلام) فوق مرتبة البشر (الأمر الذي لم يكن يدعيه المعصومون بل يلعنون من يصنع ذلك).
هؤلاء لم يستطيعوا الجمع بين (بشرية) الأنبياء والأئمة، وبين (جامعيتهم) للمناقب والفضائل فسلكوا احد طريقين لإراحة البال من عناء التفكير والجمع بين هاتين النقطتين المشكلتين فالبعض سلك طريق التفريط والتقصير، فكذب ما ورد بحق تلك الصفوة من البشر، زاعما أن ما ورد أكاذيب، وانه لا فرق بينهم وبينه، فكيف لا يستطيع هو أن يتخلص من قيود الهوى وأغلال المادة بينما يستطيع أولئك التحليق في سماء الفضائل، وهكذا وجد (المبغض القالي)، والبعض الآخر أراح نفسه بان أوجد تبريرا يرضي به ضميره، وذلك بأن اعتقد أن هؤلاء لا يحملون هذه الصفات، ولا يتمثلون تلك الفضائل إلا وهم يحملون روحاً أخرى (إلهية مثلاً) وإنهم ليسوا بشرا، إذ البشر يخضع للهوى والجسد، ويحد بحدود الزمان والمكان، وهؤلاء ليسوا محدودين!! وهكذا نشأ (المحب الغالي)، الذي صدق ولكنه لم يستطع أن يعرف وان يوفق بين بشرية المعصومين وجامعيتهم للفضائل.
(2) الأحاديث المتشابهة:
في القرآن الكريم توجد ( آيات محكمات هن أم الكتاب واخر متشابهات ) والمحكمات هي التي يستطيع الغالب فهمها ومعرفة مؤدياتها ومعانيها، بينما المتشابهات تلك التي لا يستطيع معرفة معانيها غير من أنزلت عليهم والراسخين في العلم، وكل ذلك بتعليم الله سبحانه.
ووظيفة عموم الناس في ما يرتبط بالمتشابهات ردها إلى الله ثم إلى الرسول وخلفائه والعمل بهذه الآيات المتشابهات- من قبل الرجوع إلى الله وإلى الرسول- ليس فقط لا يهدي بل يوبق ويهلك.
وكما في القرآن الكريم آيات محكمة وأخرى يغلق فهمها على غير الراسخين في العلم، كذلك في الأحاديث والآثار، فمنها ما يستطيع فهمه غالب من يسمعه ومنها ما لا يستطيع إلا العلماء.
وكما كانت وظيفة العموم في ما يرتبط بمتشابه القرآن رده إلى الله وإلى الرسول فإن الوظيفة هنا كذلك- مع حفظ النسبة بين الآيات والأحاديث لجهة قطعية الصدور في الأولى وحاجة الثانية للتحقيق- فلا يجوز رد الآثار والأحاديث لمجرد أن عقولنا لا تبلغ أو لا تصدق وإنما ترد إلى العلماء بها، والمشكلة هي حين يقوم غير الخبراء بالتعاطي مع هذه الأحاديث وتفسيرها حسب مدركاتهم، فيفسدون ولا يصلحون.
وما نحن فيه هو من هذا القبيل ذلك فلو أخذنا مثالا هو الغلاة أيام أمير المؤمنين (عليه السلام)، يقول ابن ابي الحديد " لما ظهر من أخباره بالمغيبات حالا بعد حال، قالوا: ان ذلك لا يمكن أن يكون إلا من الله تعالى، أو من حلت ذات الإله في جسده، ولعمري انه لا يقدر على ذلك إلا بأقدار الله تعالى إياه عليه، ولكن لا يلزم من أقداره إياه عليه أن يكون هو الإله أو تكون ذات الإله حالة فيه، وتعلق بعضهم بشبهة ضعيفة نحو قول عمر وقد فقأ علي عين إنسان ألحد في الحرم: ما اقول في يد الله فقأت عينا في حرم الله!! ونحو قول علي: والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسمانية بل بقوة الهية، ونحو قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ا لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده واعز جنده وهزم الاحزاب وحده) والذي هزم الاحزاب هو علي بن ابي طالب لانه قتل شجاعهم وفارسهم عمرا لما اقتحم الخندق فاصبحوا صبيحة تلك الليلة هاربين مغلوبين من غير حرب سوى قتل فارسهم" .
وهكذا ما أثر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: اتاكم علي في السحاب، فتصور هؤلاء جهلا بأن المقصود من كلامه أنه اتى في الغيوم والسحب، بينما إشارة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم أ إلى لبس علي (عليه السلام) عمامة سوداء اهداها الرسول اياه وكان يسميها السحاب ؟!
(3) مصلحة المغالين:
يضاف إلى عدم المعرفة ومتشابهات الأحاديث، ان عددا من الغلاة كانوا (ملكيين اكثر من الملك) فبالرغم من انهم كانوا ينهون من قبل المعصومين (عليهم السلام) من دعواتهم في المرحلة الاولى وفي مراحل أخرى يلعنون ويطردون ويتبرأ منهم، إلا انهم لا ينفكون متعلقين بدعوتهم، هنا لا بد من التفتيش عن المصلحة، فهؤلاء لو كان دافعهم غير المصلحة المادية أو الشهرة الاجتماعية والرئاسة لكانوا بذلك النهي، بل بتلك البراءة يتركون دعواتهم وينصرفون عنها، ولكن ما دامت هذه الدعوة تحقق لهم وجودا اجتماعيا، والتفافا من قبل السذج والبسطاء من الناس، فلم لا يستمرون فيها ؟!
بل كان الغلو نوعا من الهروب عن الالتزام الديني، فالمغالي يبدأ بتقديس الرسول أو الإمام ويرفعه فوق درجته بأن يجعله نبياً أو رباً- والعياذ بالله - ثم ينصب نفسه باباً وطريقاً وحيداً اليه، ويفرض على من يؤمن بدعوته أن يؤمن به باباً للإمام أو نبيا لذلك الرب!! ثم يبدأ باسقاط التكاليف عن نفسه وعن من يتبعه واجبا تلو الاخر. ولو نظرنا إلى ما سطره التاريخ من حركات الغلو وجدنا انها انتهت إلى حركات اباحية ومذاهب غير ملتزمة.
فالغلاة في أيام امير المؤمنين (عليه السلام) يفطرون ايام شهر رمضان من غير مرض ولا سفر ثم يدعون: أنت أنت !!
وهم انفسهم في وقت متأخر- ايام الإمام الحسن العسكري- تجدهم يتأولون تاويلات باطلة لنفي التكاليف، فهم يقولون: ان الصلاة معناها رجل، لا ركوع ولا سجود، وكذلك الزكاة معناه رجل لا عدد دراهم ولا اخراج مال، وترقوا في ذلك حتى اسقطوا الواجبات واحلوا المحرمات واباحوا نكاح المحارم!!
وقد فضح أهل البيت عليهم السلام هذا الهدف الذي يسعى له الغلاة، الا وهو اسقاط التكاليف الدينية وحذروا منها.
فعن الإمام الصادق (عليه السلام) إنه قال: احذروا على شبابكم، الغلاة لا يفسدوهم فان الغلاة شر خلق الله، يصغرون عظمة الله ويدعون الربوبية لعباد الله، والله ان الغلاة شر من اليهود والنصارى والمجوس الذين اشركوا.. ثم قال:
الينا يرجع الغالي فلا نقبله، وبنا يلحق المقصر فنقبله.. قيل له: كيف يا ابن رسول الله ؟!
قال: الغالي قد اعتاد على ترك الصلاة والزكاة والصيام والحج فلا يقدر على ترك عادته ابدا والمقصر إذا عرف عمل و اطاع .
(4).. وعوامل ا خرى:
ولأننا لا نريد أن نمحض البحث لموضوع الغلو وعوامله لذلك سنشير اليها اشارة عابرة. فمن العوامل المساعدة على نشوء الغلو تسرب (وتسريب) الافكار الاجنبية عن العقيدة الاسلامية الى المجتمع الاسلامي.. ذلك أن عمليات الفتح الاسلامي للبلاد المجاورة جعلت شعوب تلك المناطق يختلطون بسهولة بالمسلمين وحصل في هذا الاختلاط الاجتماعي تبادل ثقافي، فكما اثر المسلمون في شعوب تلك المناطق واقنعوها بالدين، فإن عقائد تلك الشعوب وجدت طريقا كي تختلط بعقائد المسلمين لابسة من جديد ثوب الاسلام، إضافة إلى حركات التوجيه التي نشطت حينئذ كان لها دور كبير في هذا (التسرب)، فقد كان إضافة إلى هذا (التسرب) عملية تسريب " فقد تسرب كثير من الاسرائيليات عن طريق نفر من المسلمين انفسهم امثال عبد الله بن عمرو بن العاص فقد روى انه اصاب زاملتين من كتب اهل الكتاب يوم اليرموك فكان يحدث الناس ببعض ما فيها اعتمادا على حديث مروي " . ونستطيع أن نفهم هذا التسريب بتتبعنا لنشوء بعض الفرق، فهذا سوسن النصراني كان أول من نطق بالقدر وقد اظهر الإسلام، وعنه اخذ معبد الجهني، واخذ غيلان الدمشقي عن معبد، ثم عاد سوسن إلى النصرانية بعد أن بث فكرته.
وهذا ابن كلاب من بابية الحشوية، وكان عباد بن سليمان يقول انه نصراني، قال ابو عباس البغوي: دخلنا على فيثون النصراني وكان في دار الروم بالجانب الغربي فجرى الحديث إلى أن سألته عن ابن كلاب فقال فيثون: رحم الله عبد الله (اسم ابن كلاب) كان يجيئني فيجلس إلى تلك الزاوية وعني اخذ هذا القول، ولو عاش لنصرنا المسلمين (أي جعلناهم نصارى).
* كما كان من العوامل ردة الفعل التي حصلت لدى بعض فئات المسلمين- أو افرادهم- تجاه مظلومية شخصيات معينة في التاريخ، فتراكم الظلم، وزيادته عن الحد المحتمل في حق أهل البيت (عليهم السلام) ادى بعدد من جهال الناس- إلى أن يأخذوا موقفا معاكسا لتلك المظالم في زيادة التقديس لهذه الشخصيات، بحيث خرجوا من جادة الاعتدال.
كيف واجهوا الغلو:
يمكننا تقسيم جهد أهل البيت عليهم السلام في مواجهة الغلو إلى قسمين تبعا لانقسام هذه الفئات، فالفئة الأولى تلك التي قررت أن تمضي في خط الغلو، لا لأجل شبهة، وإنما لأجل مصلحة، هؤلاء الذين يعرفون ماذا يصنعون، لمثل هؤلاء لم يكن لأهل البيت من موقف سوى فضحهم ولعنهم وطردهم، فإن قدروا عليهم كما كان الحال ايام امير المؤمنين (عليه السلام) فانهم يصفون قتلا وحرقا، وفي الازمنة التالية كان اهل البيت (عليهم السلام) يأمرون اتباعهم بقتلهم اغتيالا - إن استطاعوا- ويظهرون البراءة منهم أمام اتباعهم.
أما الفئة الثانية والتي يبدو انها كانت الاكثر، تلك التي لم تكن تستطيع (معرفة) الرسول والأئمة معرفة صحيحة فيلتبس عليها الأمر، فتنسب اليهم امورا يبرؤون منها تنسب اليهم ذلك بدافع التقدير، وحل المعضل الفكري الذي تعانيه، لهؤلاء وجدنا أهل البيت عليهم السلام كانوا يقومون بـ :
(تأكيد الحالة البشرية):
كما سبق وأن قلنا إن بعض الناس لنقص في معرفتهم يلجؤون إلى رفع الأنبياء واوصيائهم عن الدرجة البشرية إلى درجة أعلى.. والقرآن الكريم وهو يعالج هذه المسألة كان واضحا وصريحا عندما قال:- موجها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)-: (قل إ نما انا بشر مثلكم يوحى الي إنما الهكم إله واحد) فهو (صلى الله عليه واله وسلم) مثلهم تماما في تركيبه وخلقه، والغرائز التي ركبت فيه والضغوط التي تلم به، إلا أن الفارق بينه وبينهم انه يتلقى الوحي، وانه قد صاغ نفسه- لا جسمه- من جديد على اساس هذا الوحي، وفي آية أخرى يتحدث القرآن عن نبي الله عيسى وامه مريم، حيث غالى فيهما بنو اسرائيل (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا ياكلان الطعام ) فكلمتا (رسول وصديقة) تشيران إلى الجانب المرتبط بالرسالة وبالله، بينما كلمة (ياكلان الطعام) تشير إلى الممارسة البشرية التي كانا يقومان بها، وقد ورد في تفسير (ياكلان الطعام) انهما يتغوطان من باب ذكر اللازم للدلالة على الملزوم، وهذه العملية عملية بشرية صرفة.
وفي الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم): لا ترفعوني فوق حقي فإن الله اتخذني عبدا قبل أن يتخذني نبيا. ويحذر امير المؤمنين من الغلو مبيناً انه مع كل فضائله إلا أنه عبد مربوب.
ونجد الإمام الصادق (عليه السلام) يأمر أحدهم وكان يحمل بعض افكار الغلاة بان يجهز له ماءاً ليدخل الى بيت الخلاء، وبهذا العمل يسقط كل افكار ذلك الرجل، ولنقرأ الرواية، فقد روي عن اسماعيل بن عبد العزيز قال: قال لي ابو عبد الله (عليه السلام) يا اسماعيل: ضع لي في المتوضأ
ماء.. فقمت فوضعت له، فدخل فقلت في نفسي: انا اقول فيه كذا وكذا ويدخل المتوضأ يتوضأ ؟! فلم يلبث أن خرج فقال: يا اسماعيل لا ترفع البناء فوق طاقته فينهدم، اجعلونا مخلوقين وقولوا فينا ما شئتم فلن تبلغوا.. قال اسماعيل.. وكنت اقول انه.. واقول واقول. (اي انه رب ورازق وما شابه)!! فانت ترى ان الإمام (عليه السلام) بهذه المسألة هدم صرحا من الافكار الخاطئة في ذهن هذا الرجل.
وسوف يأتي في البحوث القادمة عن حياتهم الزوجية وما يرتبط بها من الشهوة الجنسية وعن مسائل الطعام والشراب واللباس، ما يفي ويزيد في تأكيد هذا الجانب البشري لتلك الفئة التي أرادت أن تحترمهم احتراما كبيرا فاخطأت الطريق.. لكننا هنا نكتفي بنقل حديث عن الإمام الرضا (عليه السلام) والذي يبدو أن عصره، باعتبار انه كان عصر مناظرات ومناقشات، شهد نقاشات كثيرة حول هذا الجانب.
فقد قال المأمون للإمام الرضا (عليه السلام): بلغني أن قوما يغلون فيكم ويتجاوزون فيكم الحد.
فقال الرضا (عليه السلام): حدثني ابي موسى بن جعفر عن ابيه جعفر بن محمد عن ابيه محمد بن علي عن ابيه علي بن الحسين عن ابيه الحسين بن علي بن ابي طالب قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا ترفعوني فوق حقي فإن الله تبارك وتعالى اتخذني عبداً قبل أن يتخذني نبيا، قال الله تبارك وتعالى: (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكمة والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين اربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ) وقال علي (عليه السلام) : يهلك في اثنان ولا ذنب لي: محب مفرط ومبغض مفرط.
وأنا لنبرأ إلى الله عز وجل ممن يغلو فينا فيرفعنا فوق حدنا كبراءة عيسى بن مريم من النصارى، قال الله عز وجل: (وإذ قال الله يا عيسى بن مريم ءأنت قلت للناس اتخذوني وامي الهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن اقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا اعلم ما في نفسك إنك انت علام الغيوب ما قلت لهم إلا ما امرتني به ان اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وانت على كل شيء شهيد) .
وقال الله عز وجل: ( لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ) وقال عز وجل: (ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وامه صديقة كانا ياكلان الطعام ) ومعناه انهما كانا يتغوطان، فمن ادعى للانبياء ربوبية أو ادعى للأئمة ربوبية أو نبوة أو لغير الأئمة امامة فنحن براء منه في الدنيا والاخرة .
خط التقصير:
في الطرف المقابل لخط الغلو والإفراط في الأنبياء والاوصياء كان هناك خط التقصير والتفريط، حيث أن هذا الخط ليسر فقط لم يغال فيهم بل بخسهم حقوقهم، ونسب اليهم اقوالاً أو افعالاً لا تليق بالعاديين من محترمي العلماء أو أصحاب العلم، بل اشراف القبائل ولقد افرط اصحاب هذا الخط في التركيز على بشريتهم بحيث حصروا الجانب الغيبي، وما يتصل بالوحي والرسالة في زاوية ضيقة جدا من حياتهم.
وسوف نتحدث عن العوامل التي ساعدت على انتشار افكار هذا الخط، والذي يبدو انه لا يتصل فقط بتفسير حياة الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بل يتعدى إلى تفسير حياة الأنبياء السابقين (عليهم السلام) فضلا عن
الاوصياء وبالرغم من أن النصوص التالية- والتي نعتقد بخطئها- لا تليق بمقام الرسالة والنبوة، إلا انها لما كانت قد وردت في كتب الحديث بل و(الصحاح) فلا بد من الاشارة إلى بعضها، لنرى كيف أن هذا الاتجاه أيضا وقع في التطرف الذي وقع فيه خط الغلاة ولكن من الجهة المقابلة. ونرى كيف أن هذا الخط لما كان قائما على اساس غير سليم، ادى به ذلك إلى أن يدعي هذه الأحاديث على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والرسل السابقين.
* واليك بعض هذه الأحاديث:
- النبي يبول واقفا ؟!
عن أبي وائل قال كان ابو موسى يشدد في البول ويقول أن بني اسرائيل كانوا إذا اصاب ثوب احدهم البول قرضه، فقال حذيفة: لوددت أن صاحبكم لا يشدد هذا التشديد فلقد رأيتني أنا ورسول الله نتماشا فلقي سباطة خلف حائط فقام كما يقوم احدكم فبال، فانتبذت منه، فاشار الي فجئت فقمت عقبه حتى فرغ .
-.. ويلعن بدون استحقاق!!
عن أبي هريرة أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: اللهم إنما محمد يغضب كما يغضب البشر واني قد اتخذت عندك عهدا لم تخلفنيه، فأيما عبد آذيته أو سببته أو لعنته أو جلدته فاجعلها كفارة وقربة تقربه اليك -... وينسى آيات القرآن فيسقطها!
عن هشام عن ابيه عن عائشة قالت: سمع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رجلا يقرأ في المسجد فقال: رحمه الله اذكرني كذا وكذا اية اسقطتها في سورة كذا وكذا .
- ويستمع الغناء من المغنيات!.
عن عائشة: ان ابا بكر دخل عليها والنبي عندها يوم فطر أو أضحى وعندها مغنيتان تغنيان بما تقاذفت الانصار يوم بغاث، فقال ابو بكر: مزمار الشيطان ؟! (مرتين قالها) فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): دعهما يا ابا بكر ان لكل قوم عيداً وان عيدنا هذا اليوم .
- ويتفرج مع زوجاته على الراقصين في المسجد!
- عن عائشة أنها قالت: لقد رأيت رسول الله يوما على باب حجرتي والحبشة (الراقصون السود) يلعبون في المسجد ورسول الله يسترني بردائه لكي انظر إلى لعبهم ثم يقوم من اجلي حتى اكون أنا التي انصرف فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن حريصة على اللهو .
-.. وخده على خد زوجته!
-- ايضا عن عائشة في حديث اخر.. وكان يوم عيد يلعب السودان بالدرق والحراب فاما سألت النبي واما قال تشتهين تنظرين ؟ فقلت نعم: فاقامني وراءه خدي على خده وهو يقول دونكم يا بني ارفدة (تشجيعا لهم) حتى مللت قال: حسبك ؟! قلت نعم قال: فاذهبي .
ولو تتبعنا بقية الأحاديث لطال بنا المقام، ونحن هنا لا نريد أن نناقش كل حديث بمفرده سواء من ناحية سنده أو من ناحية مخالفته مع احاديث أخرى
تنقلها هذه الصحاح فيما يرتبط بسيرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد تعرض لذلك- بشكل مستقصى صاحب كتاب (في رحاب الصحيحين) فليراجع في موقعه.
الا إننا ومن النظرة الاولى نستطيع أن نرى أن هذه الأحاديث لا تليق في مؤدياتها بأي مؤمن عادي فضلا عن سيد الخلق، وافضل الأنبياء، واكمل المرسلين. و(اديب الله). فلو لم ترد هذه الأحاديث في (الصحاح)، واغفلنا الاسم المذكور فيها ثم عرضناها على علماء المسلمين على أنها وقائع حياة عالم من العلماء، فانهم لا شك يتنفرون منه، ويتقززون!!
فإذا كان ابو موسى- وهو احد المسلمين- يشدد في مسألة البول، ويراها منقصة لمن يبول واقفا، وترى احاديث أخرى- في نفس الصحيح- ان من عذاب القبر ما يسببه الاستهانة بالبول والنجاسة، ثم يحث ابو موسى المسلمين الذين يستمعون له على الاهتمام بذلك- استقذارا للعادة الجاهلية-، فكيف يعتبر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)- وهو اكمل الناس خلقا- الأمر طبيعيا ثم... كما يقوم احدكم ؟! حسب نص الحديث !!
ثم إننا في مسألة اللعن لا نستطيع أن نقبل ذلك من شخص عادي لأن اللعن من دون استحقاق والسب والشتم هكذا عبثا خلاف العدالة والاخلاق، فكيف نقبله من الرسول وهو الذي اثر عنه أنه لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً ، حتى في مقابل اليهود الذين كانوا يشتمونه ويدعون عليه بالموت، ولا في مقابل الكفار في غزوة احد لأنه لم يبعث لعاناً وإنما بعث رحمة للعالمين، فكيف يقوم والحال هذه بلعن اشخاص من المسلمين من دون استحقاق ؟!
وشخص يلعن عبثاً، ويسب، ويجلد ويخضع لعواطفه ومشاعره في ما يرتبط بعقوبات الناس من دون دليل ولا جناية.. كيف يؤتمن على كلام الله وعلى تطبيق احكامه ؟!
جواب هذا السؤال في الحديث الثالث الذي يرى أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ينسى، ويسقط آيات من القرآن من السور!!.
ثم داهية الدواهي..
بالله عليك- ايها القارىء- هل تتوقع من رجل كان عليه أن يجهز اكثر من ثمانين سرية وجيشا، وأن يقيم دولة، وأن يطبق احكام الله، وأن يعلم المسلمين.. وان.. وان.. هل تتوقع من رجل كهذا أن يترك كل تلك المسؤوليات لكي ينفذ رغبات زوجاته في مشاهدة الراقصين، واللاعبين بالحراب ورجال السيرك ؟! واين ؟! في المسجد، في بيت الله الذي وضع للعبادة وذكر الله!! الأمر الذي لا يقبل به عاقل، فقد روي في تتمة هذه الأحاديث أن عمر بن الخطاب لما رأى هؤلاء الراقصين في المسجد نهرهم وحصبهم بالحصى!! بينما يجلس اعظم الأنبياء والمرسلين- مع زوجته وخدها على خده- متفرجاً ومأنوساً بهذه المناظر اللاهية ؟!
وتحولت هذه المسائل في جهتين: الأولى انها توسعت لتشمل بقية الأنبياء (عليهم السلام) والثانية انها تبلورت في صورة عقيدة، بعد أن كانت ( اخباراً ).
قال ابن ابي الحديد ما خلاصته: قال قوم من الخوارج وابن فورك من الاشعرية انه يجوز بعثة من كان كافرا، وقال برغوث المتكلم من النجارية لم يكن الرسول قبل البعثة مؤمنا بالله!! وقال السري: انه (الرسول) كان على دين قومه (الشرك) أربعين سنة!!.
وقال ابن حزم في كتابه الفصل في الملل والأهواء: فذهب طائفة إلى أن رسل الله يعصون في جميع الكبائر والصغائر حاشا الكذب في التبليغ فقط، وهو قول الكرامية من المرجئة وقول ابي الطيب الباقلاني من الاشعرية ومن اتبعه.. ثم قال واما هذا الباقلاني فانما رأينا في كتاب صاحبه ابي جعفر السمناني، قاضي الموصل انه كان يقول : أن كل ذنب دق أو جل فانه جائز على الرسول حاشا الكذب في التبليغ فقط، وقال: جائز عليهم أن يكفروا !! وقال: إذا نهى النبي عن شيء ثم فعله فليس دليلاً على أن ذلك النهي قد نسخ لأنه قد فعله عاصيا لله تعالى ! وليس لاصحابه أن ينكروا عليه، وجوز أن يكون في امة محمد من هو افضل من محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) منذ بعث إلى أن مات !!
ونوجه القارئ الكريم إلى أن هؤلاء القائلين: من المسلمين ! لكيلا يشتبه عليه الأمر.
ونحن هنا لا نريد أن نناقش المسألة عقيديا، لابطالها، إنما كنا في صدد بيان شيء من تعامل خط التقصير مع الأنبياء (عليهم السلام) وسيدهم محمد (صلى الله عليه واله وسلم) ثم يهون عليك معرفة نظرهم في الاوصياء والأئمة (عليهم السلام).


دوافع التقصير
ا- المعرفة الناقصة:
كما سبق وأن قلنا في مبحث الغلو، فإن الأمر هنا أيضا يأتي، فالمعرفة الناقصة بشأن الرسول أو المعصوم، تجعل هؤلاء المفرطين يغلبون الجانب البشري الى الحد الذي ينعدم فيه تأثير الجانب الرسالي (الوحي) في شخصية المعصوم.
انهم يتصورون ان النبوة أو الإمامة لباس يلبسه صاحبه في اوقات الدوام ليعرف من أي صنف هو. أو وظيفة يؤديها كما يؤديها غيره لو كان هناك غيره، وانه لا ميزة له اطلاقاً و" ان الرسول ما هو إلا مجرد وسيلة لا غاية، فضله من الوحي ومآثره من الرسالة وعظمته في الجهاد، وقدوته في الاخلاق مثل اي قائد أو زعيم، فاختياره للرسالة ليس ميزة لشخصه بل لأن الرسالة لا بد ان تبلغ من خلال رسول تتوفر فيه شروط الاداء والتبليغ، والتركيز على الاختيار والاصطفاء ليس من الوحي في شيء، وهو اقرب إلى الاصطفاء اليهودي والوحي يرمي إلى ما بعد الاختيار وهو التبليغ وليس إلى اختيار الشخص ذاته ".
ويضيف د. حسن حنفي معبرا عن رأي هذا الخط فيما يرتبط بالرسول:
" وان اثبات ان الرسول خاتم الأنبياء والمرسلين لا يعني أيضا تركيزاً على فضائل شخص أو على مزايا فردية لأحد بل يعني أن النبوة قد انتهت وأن الإنسان قد استقل " .
هذه النظرية تتجاوز الكثير من حقائق التاريخ وثوابت العقيدة، ويتجلى فيها نقص المعرفة الذي يؤدي إلى تضخيم الجانب البشري والغاء جانب الوحي والرعاية الالهية، بالتدريج.
إن اختيار محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لأداء الرسالة ميزة مهمة لشخصه لأنه كان افضل خلق الله لاداء هذه الرسالة وتبليغها، ولو كان في خلق الله من اول الخلق الى قيام الساعة افضل منه لكان هو الذي يتحمل مسؤولية تبليغ الرسالة، وكونه خاتماً للنبيين يعني اضافة إلى ختمه للنبوات والرسالات، ختمه للفضائل..
إننا نجد أنفسنا أمام منطق متميز عندما يخاطب الله سبحانه وتعالى نبيه محمدا (صلى الله عليه واله وسلم)، فهذا النبي الذي ادبه الله حتى بلغ مبلغا قال فيه (.. وانك لعلى خلق عظيم ) آنئذ اعطاه سمة لم يتحدث عنها القرآن لاحد من النبيين حينما قال مخاطبا البشر- والمسلمين خصوصا- (وما أتاكم الرسول فخذره وما نهحم عنه فانتهوا) بل أدب المسلمين بأدب خاص مع الرسول، انه امرهم بالصلاة عليه، لأن الله وملائكته يصلون عليه (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) ووضع مجموعة قوانين وآداب، تحدثت عنها سورة الحجرات .
وهذا لم يتم إلا بعد أن تهيأ الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) بعون الله إلى المقام الذي اريد له، فمنذ البدايات كان يتقلب في الساجدين وكان تحت رعاية الله وعند طفولته (قرن الله به (صلى الله عليه وآله وسلم) من لدن أن كان فطيماً اعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن اخلاق العالم ليله ونهاره) . وهكذا حتى بعثه الله هادياً للخلق.
لقد كان الأنبياء والاوصياء بشراً .. وهذا صحيح، ولكن بشر (أعلى في الصفات) بحيث يستطيعون أن يصبحوا (محال معرفة الله، ومساكن بركة الله، ومعادن حكمة الله وحفظة سر الله). ميزتهم لم تكن في الصفات الجسمية الخارجية، والتركيب البدني وخطأ معاصريهم- وربما من جاء بعدهم ايضا- انهم ارادوا أن يكون هناك علامات فارقة تدل على نبوة هؤلاء وامامة أولئك (وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الاسواق) ارادوا ملكاً يمشي على الأرض، بينما ميزتهم كانت في صفاتهم النفسية، في علمهم، وحلمهم، وقدرتهم القيادية، في عمق ايمانهم بالله، واخلاصهم لدينه.
ب- العامل السياسي:
الناظر بعمق يلاحظ بوضوح آثار العامل السياسي في تشكيل هذه النظرة ونشرها بين المسلمين. ذلك ان اظهار الأنبياء والمعصومين بمظهر العابثين والبشر الذين ينساقون وراء عواطفهم وشهواتهم، يسهل على الحاكمين الذين يريدون الاستمرار في طريق العبث الاغراق في النزع.
ومن المعلوم أن مرتكز المسلمين قائم على ان المخالفات الدينية وتجاوز الاحكام والتشريعات لا تنسجم مع مقام الزعامة الدينية و(خلافة المسلمين)، ونظراً لكون هؤلاء الزعماء قد مردوا على الانحراف، لذلك لا بد من مخرج، وافضل مخرج ادعاء تلك الاعمال- بنسبة ما- للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والتأكيد عليها، ليصبح القيام بها من قبل الخليفة والحاكم امراً معقولا.
فإذا كان الرسول يستمع إلى المغنيات في بيته دون أن ينكر عليهن فما الذي يمنع الخليفة من شرب الخمر بين حبابة وسلامة، حتى يريد الطيران ؟!
وإذا كان- والعياذ بالله- يهدى له الخمر قبل البعثة فما الذي يمنع الحاكمين من شربها (صبوحا) و(غبوقا) بعد البعثة ؟!
وهكذا على قاعدة:
( إذا كان رب البيت بالدف مولعا فشيمة أهل البيت كلهم الرقص ) تصوير الرسول- فضلا عن الأئمة- بهذه الصورة (البشرية في اسفل درجاتها) يجعل من السهل على الحاكم أن يكون امير المؤمنين- وظل الله في الأرض- ومحيي السنة ولكنه في نفس الوقت يعاقر الخمر ويترك الصلاة و.. الخ.
القضية اشبه هنا بان يكون الرسول شخصاً عادياً فتوظف في شركة إلهية فهو مطالب أمام هذه الشركة- ومسؤولها- بواجبات وفروض، لكنه عندما ينتهي الدوام ليس مطالبا بأي شيء تجاه هذه الشركة..
إضافة إلى ذلك فإن نزع صفة (وما ينطق عن الهوى) يجعل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) زعيماً جاء لمرحلة، وكما حركته مبادؤه، حركته مشاعره وعواطفه فظل يوزع اللعنات والرحمات، يمينا وشمالا، ويعطي الاوسمة واحكام العقوبات لمن يستحق ولمن لا يستحق وبالتالي، إذا سادت هذه الفكرة، فهذا يعني أن ما ورد في ذم بني امية وكونهم الشجرة الملعونة في القرآن، وما ورد من طرده لبعض الاشخاص وهدر دم البعض الاخر، لم يكن من الدين وإنما هو من الهوى وهكذا يتم تبرئة الحكم ومروان ومعاوية وبني امية ليتم اتهام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)!!
بالتالي فكلام الرسول في ايامه لم يكن حجة حسب هذه النظرية لأنه منبعث عن الهوى ! فضلاً عن تأثير هذا الكلام بعد وفاته (صلى الله عليه واله وسلم).. آنئذ يكون اتباعه امرا غير عقلائي ألم يقل الحجاج الثقفي وهو ينظر الى المسلمين يطوفون بقبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
- ما لهم يطوفون باعواد ورمة بالية ؟! هلا طافوا بقصر امير المؤمنين ؟!
إن هذه هي النتيجة الطبيعية لخط التقصير، فهل يمكن بعدها افتراض اقتداء الاتباع بسيرته والحال هذه ؟!
ج- افكار الخارج :
شجع المستشرقون هذا التوجه في كتابة السيرة وفي عرض شخصية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، سواء منهم المنصفون أو المغرضون، أما المغرضون فالسبب واضح، وأما المنصفون فلأن التركيبة الثقافية التي ينطلقون منها، تركيبة مادية لا تستطيع أن تفهم كامل العوامل الغيبية، ولا تستطيع إدراك شخصية الرسول بالتالي.
والملاحظ انهم يتعاملون مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من خارج الدائرة، التي وضع نفسه فيها لذلك فإن تحليلاتهم تبنى على هذا الاساس، خصوصا انهم ينطلقون من واقع تهميش الدين المسيحي في حياتهم، والغاء دور السيد المسيح (عليه السلام).
وبالرغم من أننا نتجنب- عادة- نقل أقوالهم لما فيها من جرأة على مقام الرسالة وشخصية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا أننا هنا سنضطر إلى نقل بعضها للتدليل على ذلك الخط الحاقد الذي أراد إبراز شخصية الرسول ضمن إطار بشري وضيع، ثم نستكشف من هذه الأقوال أو بعضها الأثر الذي خلفته في رؤية بعض المسلمين من اصحاب خط التقصير فيما يرتبط بشخصية الرسول ا لكريم.
ففي كتاب الإسلام والغرب نقرأ ما يلي عن تصورات الكتاب والقساوسة المسيحيين عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم):
ينسب المؤلف إلى المؤرخ " ليل " قوله: " كان يسكن يثرب (المدينة) ومكة، وكل المنطقة التي بجوارهما اناس يؤمنون بالأصنام ويعبدون الشمس، والقمر، والوحوش، والطيور، وليس لديهم معرفة بالله، ولا يوجد عندهم ملك ؟ فهم اناس ذوو دراية وفهم بسيطين ". " وكانت ولادة محمد عادية، إذ كان في البداية وثنيا كما كان العرب القدماء في زمانه !!. وقد عاش بربريا بين برابرة، ووثنيا بين وثنيين ". ويتابع: " كانت الجزيرة العربية على تخوم العالم المسيحي، وكانت الملجأ الآمن والطبيعي للهراطقة الخارجين على القانون وبدأ الإسلام مجموعة من العقائد المسيحية واليهودية والوثنية "!!
وينسب المؤلف إلى المرجع (ريبرو بيشو) قوله: " احضرت إلى محمد امرأة تدعى مارية القبطية، فاتخذها محظيته. وقد حدث أن خلا بها في بيت زوجته حفصة. وعندما رجعت زوجة محمد رأتهما فأثار هذا غضبها، واقتربت منه قائلة: يا نبي الله، ألا يوجد بين نسائك امرأة أحقر مني ؟ لماذا خلوت بها في بيتي ؟، فأجابها محاولا تهدئتها واسترضاءها: هل يسرك لو أنني امتنعت عنها ؟ فأجابته (نعم) ؟ فأقسم أن لا يقرب مارية مرة ثانية وقال لحفصة: لا تخبري أحدا بهذا الأمر! وبعدئذ نكث بقسمه ووعده وعاد إلى مارية ثانية. ومن ثم جاء في قرآنه في هذا الصدد ما معناه: إذا أقسم المسلمون قسما ثم رغبوا أن ينكثوه، فبإمكانهم أن يفعلوا ذلك على أن يكفروا بعد ذلك عن خطئهم دون الالتزام والتقيد بقسمهم ".
ويقول المؤلف: " لقد تبنى الكاتب اللاتيني (سان بيدرو) رأي أعداء محمد المعاصرين وذلك بقوله: إن اصطناع الوحي عند النبي ما هو إلا دليل على التظاهر الكاذب بالفضيلة والدين، أو إن الشيطان قد تلبس في شخصية محمد، وأعتقد بأن ولع محمد بعائشة ليس بعمل جدير بنبي !. ويشارك المؤلف منتقدي محمد في موضوع تعدد زوجاته فيقول: " ليس ممكنا ذكر قوائم باسماء زوجات محمد فهن كثيرات... ". ويقول المؤرخ " سان بيدور" معللا تعلق النساء بمحمد: لقد كان محمد يلبس الحلي، ويتعطر بالروائح، وهكذا كانت رائحته جميلة وكان يلون شفتيه ويكحّل عينيه، وكان يفعل كما يفعل زعماء المسلمين (زعماء فاتحي الاندلس من المسلمين) اليوم ". وعندما انتقد اتباع محمد النبي على تصرفه هذا اجابهم بأنه منح ثلاث متع في هذه الدنيا: الطيب والنساء والصلاة " وكم تبدو هذه الاشياء معيبة فى نظر المسيحيين " ويقول المؤلف " في نظر مسيحيي القرون الوسطى، فإن تصرفات محمد مع النساء كافية وحدها لأن تجعل محمدا غير نبي " !!
بقدر ما يشكل الغلو من خطر حقيقي- عموديا- على صفاء العقيدة وسلامتها، فإن التقصير يشكل خطراً آخر- أفقياً- على صعيد الجمهور والناس، بل ربما قيل بأن التقصير لأنه يتحرك في مساحة واسعة عند الناس - بينما يبقى الغلو محصوراً في فئة قليلة معزولة يسهل رصد فكرها ومواجهته لأنه يخالف مسلمات المسلمين- فإنه يشبه الداء الدفين الذي لا يشعر به بينما يفتك بالجسم. هذا إضافة إلى كونه قريبا من النفس، ومحبباً اليها، كونه يغذي في الإنسان مشاعر الغرور وانه يشبه الرسل والاوصياء تماماً، وعندما يتنازل تحت ضغط نقاط ضعفه فيذنب يجد العزاء- في هذه النظرة- ان الرسل أيضا خضعوا لنقاط ضعفهم !!
لذلك نعتقد أن الإسلام وعلى لسان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين (عليه السلام) وهم يتوجهون إلى اخطار نظرة التقصير المفرطة، اتخذوا عدة تدابير لمواجهتها. وسنتعرض إلى عدد من الأحاديث في هذه المواجهة:
* احاديث الاصطفاء:
من البداية كان يتم التركيز على أن مسألة النبوة والإمامة من المسائل الغيبية التي تتصل باصطفاء الله تعالى وانتخابه، لأشخاص كانوا- في علمه- اصلح الخلق لهذه المواقع خلافاً للنظرية التي تقول باختيار الناس مطلقا.
فعن سعد بن عبد الله القمي عن الحجة القائم .. قلت: فاخبرني يا مولاي عن العلة التي تمنع القوم من اختيار الإمام لأنفسهم ؟!
قال: مصلح أو مفسد ؟! (اي ينتخبون مصلحاً أو مفسداً ؟).
قلت: مصلح. قال: فهل يجوز أن تقع خيرتهم على المفسد بعد أن لا يعلم احد ما يخطر ببال غيره من صلاح أو فساد ؟!
قلت: بلى. قال: فهي العلة واوردها لك ببرهان ينقاد لك عقلك.
ثم قال: اخبرني عن الرسل الذين اصطفاهم الله عز وجل وانزل عليهم الكتب وايدهم بالوحي والعصمة، وهم اعلام الأمن اهدى إلى الاختيار منهم مثل موسى وعيسى (عليهما السلام) هل يجوز مع وفور عقلهما وكمال علمهما إذ هما بالاختيار ان تقع خيرتهما على المنافق وهما يظنان انه مؤمن ؟!
قلت: لا.
قال هذا موسى كليم الله مع وفور عقله وكمال علمه ونزول الوحى عليه اختار من اعيان قومه ووجوه عسكره لميقات ربه عز وجل سبعين رجلا ممن لا يشك في ايمانهم واخلاصهم فوقع خيرته على المنافقين، قال الله عز وجل:
(واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا.. ) فلما وجدنا اختيار من قد اصطفاه عز وجل للنبوة واقعا على الافسد دون الاصلح وهو يظن انه الاصلح دون الافسد علمنا أن الاختيار لا يجوز إلا لمن يعلم ما تخفي الصدور ..
* احاديث الحب والولاية:
- عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا يؤمن احدكم حتى اكون اليه احب من نفسه وأهلي أحب اليه من أهله وعترتي أحب اليه من عترته وذريتي احب اليه من ذريته .
- عن امير المؤمنين (عليه السلام): انظروا أهل بيت نبيكم فالزموا سمتهم واتبعوا اثرهم فلن يخرجوكم من هدى ولن يعيدوكم في ردى فإن لبدوا فالبدوا وان نهضوا فانهضوا .
- وقال- واصفا أهل البيت-: فانهم عيش العلم وموت الجهل، هم الذين يخبركم حكمهم عن علمهم وصمتهم عن منطقهم، وظاهرهم عن باطنهم، لا يخالفون الدين ولا يختلفون فيه فهو بينهم شاهد صادق وصامت ناطق .
* ارساء آداب خاصة في العلاقة مع الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) وأهل ببته: المتتبع للنصوص الإسلامية،. وسيرة المسلمين مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يلاحظ أن هناك آدابا خاصة تم اقرارها من قبل القرآن الكريم، كما نجد ذلك في سورة الحجرات، مثل عدم رفع الصوت فوق صوت النبي وعدم الجهر له بالقول (يا ايها الذين آمنوا لا ترفعوا اصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض ان تحبط اعمالكم وانتم لا تشعرون ).
وتحت طائلة التهديد بحبط الاعمال تنهى عن ذلك، وتنعى على أولئك الذين لا يعقلون من المنادين من وراء الحجرات، ثم تنهى عن الضغط على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والجائه لاتخاذ مواقف لا يريدها لأن في ذلك عنت المجتمع (واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ).
وقد كانت سيرة المسلمين الأوائل الذين عرفوا قدر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قائمة على الاحترام الكامل، والتوقير الاكيد للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته، فالتاريخ ينقل هذه الصورة لنا عن مدى تعلقهم وحبهم لرسول الله..
ففي الخبر عن اسامة بن شريك قال: اتيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واصحابه حوله كأنما على رؤسهم الطير.
وقال عروة بن مسعود حين وجهته قريش عام القضية الى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ورأى من تعظيم اصحابه له وانه لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه وكادوا يقتتلون عليه ولا تسقط منه شعرة إلا ابتدروها، وإذا امرهم بأمر ابتدروا امره، وإذا تكلم خفضوا اصواتهم عنده، وما يحدون النظر اليه تعظيما له، فلما رجع إلى قريش قال: يا معشر قريش اني اتيت كسرى في ملكه وقيصر فى ملكه والنجاشي في ملكه واني والله ما رأيت ملكا في قوم قط مثل محمد في اصحابه.
وعن انس قال: لقد رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والحلاق يحلقه وقد أطاف به اصحابه فما يريدون أن يقع شعره إلا في يد رجل .
وتعزيزا لهذا الجانب كانت الصلاة على النبي وآله جزءا من الصلاة اليومية لدى جميع المسلمين، واليها يشير الإمام الشافعي في الشعر المنسوب له:
يا آل بيت رسول الله حبكم فرض من الله في القرآن انزله
كفاكم من عظيم الشأن انكم من لم يصل عليكم لاصلاة له
ولهذا لما نزلت آية الصلاة على النبي: (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا ايها الذين أمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) ، فهم منها المسلمون الأمر الشرعي، فجاؤا يسألون عن معناها يروي كعب بن عجرة: لما نزلت هذه الآية قلنا: يا رسول الله هذا السلام عليك قد عرفناه كيف الصلاة عليك ؟! فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): قولوا: اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على ابراهيم وآل ابراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على ابراهيم وآل ابراهيم إنك حميد مجيد .
* التاكيد على مسألة العصمة:
ذهب اتباع أهل البيت (عليهم السلام) إلى عصمة الأنبياء عن الصغائر والكبائر، وتنزيههم عن المعاصي قبل النبوة وبعدها. على سبيل العمد والنسيان، وعن كل رذيلة ومنقصة، وما يدل على الخسة والضعة، وكذلك الحال بالنسبة إلى عصمة الأئمة (عليهم السلام)، لنفس الحيثيات التي يجب فيها عصمة الرسول وكذلك كمالهم "فإن المقطوع به كمالهم في جميع احوالهم التي كانوا فيها حججاً لله تعالى على خلقه ".
قال الشيخ المفيد رحمه الله: العصمة من الله لحججه هي التوفيق واللطف والاعتصام من الحجج بهما عن الذنوب والغلط في دين الله تعالى والعصمة تفضل من الله تعالى على من علم انه يتمسك بعصمته، والاعتصام فعل المعتصم، وليست العصمة مانعة من القدرة على القبيح ولا مضطرة للمعصوم إلى الحسن ولا ملجئة له اليه بل هي الشيء الذي يعلم الله انه إذا فعل بعبد من عبيده لم يؤثر معه معصية له، وليس كل الخلق يعلم هذا من حاله بل المعلوم منهم ذلك هم الصفوة والاخيار، قال الله تعالى: (إن الذين سبقت لهم من الحسنى) وقال: ولقد اخترناهم على علم على العالمين ) وقال: ( وانهم عندنا لمن المصطفين الاخيار) والانبياء والأئمة من بعدهم- معصومون في حال نبوتهم وامامتهم من الكبائر كلها والصغائر والعقل يجوز عليهم ترك مندوب اليه على غير التعمد للتقصير والعصيان ولا يجوز عليهم ترك مفترض لأن نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة من بعده كانوا سالمين من ترك المندوب والمفترض قبل حال امامتهم وبعدها .
حصيلة المطاف
نستطيع بعد هذا المطاف في الخطين الخاطئين المتطرفين وبعد أن اشرنا الى عيوبهما اثناء الحديث عنهما، أن نستفيد النتائج التالية، خلاصة للبحث، وحصيلة:
ا- لا يجوز تبرير التطرف بالتطرف المقابل:
إن احد الاخطاء التي وقع فيها الطرفان في النظرة إلى شخصيات الأنبياء والاوصياء، أن كل نظرة كانت رداً على تطرف النظرة المقابلة ولعل هذا الخطأ لا يزال مستمرا، ففيما يقوم البعض- خاطئين- بالمغالاة في هذه الشخصية أو تلك نظرا لتصورهم بأنها ظلمت ولم تعط حقها كما ينبغي، فتقوم لتعويض تلك المظلومية، باضفاء صفات المبالغة والغلو، مثلا عندما ترى أن الأئمة (عليهم السلام) كانوا أيام حياتهم يعانون أنواع الألم و الأذى من قبل الحاكمين وإلى أن انتهت حياتهم قتلا وسما، فيأتي بعض الاتباع فيما بعد، ويقومون- بزعمهم- برد هذه المظلومية عبر احترامهم وتقديرهم، فيضفون عليهم تلك الصفات. بينما كان الأمر طبيعيا حسب سنة التاريخ، إذ أن المصلحين والعباقرة لا يستقبلون بالورود والرياحين بل بالمتاعب والصعوبات في مهمتهم الاصلاحية حتى يصلوا إلى اهدافهم الكبرى إذ أن (الله لو أراد لأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان ومعادن العقيان ومغارس الجنان وان يحشر معهم طيور السماء ووحوش الأرضيين لفعل، ولو فعل لسقط البلاء وبطل الجزاء واضمحلت الأنباء ولما وجب للقابلين أجور المبتلين ولا استحق المؤمنون ثواب المحسنين ولا لزمت الأسماء معانيها ولكن الله سبحانه جعل رسله أولي قوة في عزائمهم وضعفة فيما ترى الأعين من حالاتهم مع قناعة تملأ القلوب والعيون غنى، وخصاصة تملأ الأبصار والأسماع أذى. ولو كانت الأنبياء أهل قوة لا ترام وعزة لا تضام وملك تمد نحوه أعناق الرجال وتشد إليه عقد الرحال لكان ذلك أهون على الخلق في الاعتبار وابعد لهم في الاستكبار ولآمنوا عن رهبة قاهرة لهم أو رغبة مائلة بهم فكانت النيات مشتركة والحسنات مقتسمة ولكن الله سبحانه اراد أن يكون الإتباع لرسله والتصديق بكتبه والخشوع لوجهه والاستكانة لأمره والاستسلام لطاعته أمورا خاصة لا تشوبها من غيرها شائبة وكلما كانت البلوى والاختيار اعظم كانت المثوبة والجزاء أجزل .
كما يقول امير المؤمنين (عليه السلام). إلا أن عدم فهم هؤلاء لهذه السنة أدى بهم إلى ذلك الاتجاه من المغالاة والإفراط.
في الطرف المقابل كان هناك تطرف اخر اتخذ صورة افعال إحيانا وردود افعال احياناً أخرى.. إذ أن ذلك التقديس والإفراط ادى إلى تنكر وتقصير في هذا الجانب فافسدوا من حيث ارادوا أن يصلحوا، غافلين عن قول الله عز وجل (ولا يجرمنكم شنان قوم الا تعدلوا، اعدلوا هو اقرب للتقوى)، وهكذا كما باء اليهود بخطيئة عداوة المسيح، مباغضة منهم لتقديس المسيحيين اياه، تكرر الأمر هنا، فوجد بين المسلمين من ينتقص الأنبياء عليهم السلام وخصوصا خاتمهم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن بعده أهل بيته (عليهم السلام). وقد تقدم نقل كلمات بعضهم.
إننا كما ندين التطرف في المغالاة، ونعتقد أنه منهج خاطىء خصوصا انه يخرج الناس عن امكانية اتباع هذه الشخصية (التي اخرجت من طور البشر)، كذلك ندين التطرف في التقصير والتنكر للفضائل والمنزلة الخاصة بها ونعتقد ايضا انه منهج خاطىء، لأنه يخرج هذه الشخصيات من منزلة (القدوة).
إن الخط الوسط بين التطرفين هو الذي نختاره، حيث اننا فى الوقت الذي نعتقد فيه أن الأنبياء والاوصياء بشر وأناس مثلنا من ناحية التركيب البدني إلا أنهم يختلفون عنا في حجم مسؤوليتهم، وفي مستوى صفاتهم، وفي اتصالهم بالله سبحانه وتعالى.
2- التفصيل بين نوعين من الحياة لدى المعصوم:
إننا نعتقد أن الروايات التي تتناول حياة المعصومين (عليهم السلام) ينبغي تقسيمها إلى نوعين تبعا لأن حياتهم تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: الحياة المرتبطة بالشؤون الدينية، بما يمثله (المعصوم) من دور بالتبليغ لدين الله، بكونه مبلغاً لرسالة الله في هذا المجتمع، وفي هذه الحياة تكون سنة المعصوم (أقواله و أفعاله وتقريره) حجة نهائية كاملة، لأنه في هذه الحياة يتعامل على اساس صفته التي اعطي اياها من قبل الله سبحانه، والمجتمع ينظر إلى اعماله ويقيمها ضمن هذا الإطار، وهو في هذه الحياة يتعامل ضمن اطار العصمة، لذلك كل كلمة منه تعتبر تشريعاً أو ارشاداً الى تشريع.
ويظهر أن المسلمين فهموا هذه المعادلة- غالبا- لذلك كانوا ينقلون سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ويهتمون بها اهتماماً بالغاً، واختص اتباع اهل البيت (عليهم السلام) بتتبع سيرة الأئمة إضافة إلى سيرة الرسول، لكونهم يعتبرون أن هذه السير تشكل ركيزة لاكتشاف الكثير من الاحكام الالهية في الحياة والدين.
القسم الثاني: ما يرتبط بالامور الشخصية المتعلقة بالمعصومين باعتبارهم (بشرا) يعيشون وسط مجموعة من الناس، إضافة إلى كونهم، خاضعين- مع هذه الحالة البشرية- إلى متطلباتها واحتياجاتها. ما يرتبط بالامور الخاصة- حسب الاصطلاح الحديث-.
وبالرغم من اننا لا نجد في الأحاديث هذا الفصل الواضح، إلا ان طبيعة كل قسم من الحياة تقتضي هذا الأمر. وفي هذا النوع الثاني لسنا مضطرين - بالضرورة- إلى اجراء قانون العصمة، ولا تقع بالضرورة ايضا- في دائرة التشريع، فمثلا ما يرتبط بالطعام- وسوف يأتي بحثه-.. استحسان المعصوم لهذا الطعام أو ذاك، واكله لهذا النوع أو ذاك لا يدخل- بالضرورة- ضمن دائرة الاحكام (الالزامية أو الاقتضائية) بل قد يدخل ضمن دائرة الامور الشخصية والذوقية المباحة.
إن هذا الفهم الواقعي لحياة المعصومين، يقطع الطريق على خط الغلو والتقصير في نفس الوقت، ويضع رجلي الباحث على سكة التعامل الصحيح مع هذه السير.
إننا عندما نعتقد أن المعصومين (عليهم السلام) بشر، وان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) (بشر مثلكم يوحى اليه) فإن هذا يعني انه يؤكد هذه الحقيقة بممارساته البشرية، وتلك الممارسات التي يدخل قسم منها في اطار التوجيه الى الحكم الشرعي، بينما القسم الاخر لا يتجه هذا الاتجاه، وإنما يلبي حاجة خاصة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وينبغي أن لا يفهم أن هناك انفصالا وتناقضا بين القسمين، بل العلاقة علاقة انسجام وتكامل، إنما ننفي في القسم الثاني (ضرورة) أن يكون تشريعاً فقد يكون وقد لا يكون ولكنه لا يخرج عن اطار الشخصية الكاملة التي يجسدها المعصوم، فليس ممكنا أن نفترض في هذا القسم وجود أعمال أو ممارسات مخلة بالمبادىء العامة لشخصية المعصوم (عليه السلام).
3- فتش عن عظمة المعصومين (عليهم السلام) في صفاتهم ومسؤولياتهم:
المتتبع لالفاظ الأحاديث والروايات الواردة حول اهل البيت (عليهم السلام) يلاحظ أن تلك الروايات لا تكشف عن ميزات خارجية استثنائية، وإنما تعين الصفات الاخلاقية وتبين مفردات (الدور) الأساسي الذى كانوا يقومون به.
والفرق كبير بين مفردات (الدور) الديني والاجتماعي والسياسي، وبين مفردات الشخص وحالاته الاستثنائية (فيما يرتبط به كشخص)، فبينما يدور النقاش ويحتدم بين الخطين (الغلو والتقصير) حول امور الشخص (هل انه يدخل دورة المياه مثلنا ؟! هل ان دمه ازرق أو احمر ؟! وهل هذا الدم طاهر أو نجس ؟! هل أن جزئه الناسوتي اكبر أم اللاهوتي ؟!.. إلى آخر قائمة المناقشات التي تدور..) فإن الجانب الأهم والذي يطالب الناس بالاقتداء به وهو صفات الدور والمسؤولية، ينسى في تلك المعمعات!!
ولنقرأ أحد هذه النماذج التي تتكلم عن مواصفات الدور الذي يقوم به المعصومون (عليهم السلام).. والنموذج يروى عن الإمام علي الهادي (عليه السلام) مما يكتسب اهمية استثنائية، ونستطيع أن نلاحظ أن صدوره كان عن الإمام الهادي الذي ابتلى أيام امامته بالغلاة، وحيث توسع نشاطهم وتعاظم، ولذلك كانت هناك حاجة لنص صريح فيما يرتبط بالمواصفات الحقيقية التي يمثلها أهل البيت عليهم السلام بعيدا عن الغلو، وعن التقصير أيضا.
وسوف نستشهد ببعض فقراته ولا نورده بالكامل لطوله من جهة، و لإبهام بعض الفقرات وحاجتها إلى الشرح والتفسير، الأمر الذي سيخرج بنا عن أصل البحث، وقد نوفق لالقاء نظرة متأنية شارحة في وقت لاحق على هذا النص المسمى (بالزيارة الجامعة): (السلام عليكم يا أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ومهبط الوحي ومعدن الرحمة وخزان العلم ومنتهى الحلم واصول الكرم وقادة الأمم واولياء النعم وعناصر الابرار ودعائم الاخيار وساسة العباد واركان البلاد وابواب الإيمان وابناء الرحمن وسلالة النبيين وصفوة المرسلين وعترة خيرة رب العالمين..).
إننا في هذا النص نجد بعد تعيين الاشخاص مورد العلاقة وكونهم أهل بيت النبوة وموضع الرسالة نلتقي بعدد من المفردات، ادعو القارىء الكريم إلى التأمل فيها، إننا أمام (قادة) و(اولياء) و(دعائم) و(ساسة) و(أركان) و(أمناء).. وهكذا يستمر النص في هذه الصفات (ائمة) و(مصابيح) و(اعلام) و(مثل) و(دعوة) و(حجج) و(حفظة) و(حملة الكتاب) (السلام على أئمة الهدى ومصابيح الدجى واعلام التقى وذوي النهى واولي الحجى وكهف الورى وورثة الأنبياء والمثل الاعلى والدعوة الحسنى وحجج الله على اهل الآخرة والأولى ورحمة الله وبركاته. السلام على محال معرفة الله ومساكن بركة الله ومعادن حكمة الله وحفظة سر الله وحملة كتاب الله واوصياء نبي الله وذرية رسول الله صلى الله عليه وآله ورحمة الله وبركاته).
ثم لينظر القارىء الكريم إلى الدقة في التعبير، حيث أن هؤلاء لا وجود لهم إلا باعتبارهم عبيد، وخدم، ودعاة إلى الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن بالتالي أن ينزلوا منزلة الارباب كما يفعل الغلاة.. انهم مطيعون لله ، وقوامون بامره وعاملون ولكن بارادته إلا أن النص يستمر وكما نفى خط الغلاة فانه ينفي خط التقصير، فيكمل الفقرة تلك بتبيان موارد اصطفاء الله لهم، فهم عبيد، ومطيعون، ولكن في نفس الوقت (اصطفاهم) بعلمه و(ارتضاهم) لغيبه و(اختارهم) لسره و(اجتبا هم) بقدرته..
(السلام على الدعاة إلى الله والادلاء على مرضاة الله والمستقرين في امر الله والتامين في محبة الله والمخلصين في توحيد الله والمظهرين لأمر الله ونهيه وعباده المكرمين...)
(.. واشهد انكم الأئمة.. المطيعون لله القوامون بأمره العاملون بارادته الفائزون بكرامته اصطفاكم بعلمه وارتضاكم لغيبه واختاركم لسره واجتباكم بقدرته واعزكم بهداه وخصكم ببرهانه وانتجبكم لنوره..).
غير ان هذا الاصطفاء والاجتباء لم ينته إلى الغرور أو الجحود وإنما بعد كل ذلك اتخذوه طريقاً للعبودية وتعظيم الخالق (فعظمتم جلاله واكبرتم شانه ومجدتم كرمه وادمتم ذكره ووكدتم ميثاقه واحكمتم عقد طاعته ونصحتم له في السر والعلانية ودعوتم إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة وبذلتم انفسكم في مرضاته، وصبرتم على ما اصابكم في جنبه واقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وامرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر 00) .


الفصل الثاني
ا- الأصلاب الطاهرة والأرحام المطهرة
عند الحديث عن الحياة الشخصية، والزوجية بالذات يستوقفنا عنوان عريض هو (الاصلاب الطاهرة والارحام المطهرة).
ذلك أننا نعتقد أن الله سبحانه وتعالى وهو يقذر لخلقه هداة وقادة (اصطفى) (وانتخب) هؤلاء منذ الازل، وقضى بان يكون هؤلاء في خير العتر، وان ينموا في خير الاسر.. ونظرا لأهمية الموضوع، نبسط الكلام فيه عبر النقاط التالية:
* تبعاً للدور الذي ينتظر الأنبياء والاوصياء من هداية البشر، وتوجيههم إلى عبادة الله، تلك المسؤولية الخطيرة التي تختزل هدف خلق الاكوان، والانس والجان ف (ما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون ) لذلك فإن الافراد المؤهلين للقيام بهذه المسؤولية لا بد أن يكونوا من نوع خاص، يخلقون، و(يصنعون) تحت عين الله، وهذا يعني انهم يصطفون في البداية من خير الاسر، وينتخبون من أفضل السلالات في النسل البشري، حيث لا يحملون في انفسهم (اقذارا) بعثوا لتطهير البشر منها.
من هنا نجد أن العملية تتم ضمن اطار (الاصطفاء) الذي لا يخضع للصدف، أو للعبث، بل حتى لا يدخل فيه رغبة هذا النبي أو عدم رغبته في أن يكون كذلك، ولا يؤثر فيه انتخاب الناس ورضاهم به، ضمن تصويت (د يمقراطي).
إن هذه العملية غيبية مطلقة، وإلهية بحتة، ومهما حاول البشر تفسيرها فإنهم لن يصلوا إلا للمعاني الخارجية منها.
ولذلك نجد في القرآن الكريم، نسبة تمام الفعل (الاصطفاء) إلى الله سبحانه بينما يقف الأنبياء في موقف الانفعال المطلق:
- (إن الله اصطفى آدم ونوحا وأل ابراهيم وآ ل عمران على العالمين* ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم ) .
ولأن هذه المعادلة غيبية وإلهية ولا تدخلها المقاييس البشرية التي نعتادها، لذلك فإن الله تارة يختار ويصطفي رجلا، واخرى يصطفي النساء، مع أن المنطق البشري العادي لا يتوقع ذلك (قالت: رب إني وضعتها انثى)!!، إلا أن القرآن يقول:
- (وإذ قالت الملائكة يا مريم: ان الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين ) .
ولعل علة هذا الاصطفاء الذي جاء متكرراً في الآية كون مريم ستحتضن أحد انبياء الله العظام، عيسى بن مريم عليهما السلام.
بل حتى حين يعارض الناس اختيار شخص معين، تكون الحجة النهائية للمؤمنين (إن الله اصطفاه عليكم ) إذ ان الله سبحانه صاحب الخيرة ولا يستطيعها سواه عز وجل (وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون ) .
*- هذا الإصطفاء الخاص للمهمة الكبرى يجعل من الضروري أن تستمر العناية واللطف الالهي بشأن الشخص (المصطفى) منذ بداية البدايات، من الحلقة الاولى في السلسلة الطويلة التي سيتكون فيها، ذلك اننا نعتقد أن هذا المصطفى المنقذ يحب أن يكون الأكمل والافضل- في زمنه للبعض ومطلقا لنبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)-.
ونظرا لأن للوراثة دوراً هاماً في اكساب الحلقات المتأخرة من النسل صفات الحلقات المتقدمة (الاباء، والاجداد) لذلك لا بد أن تكون كل السلسلة النبوية طاهرة حتى يحمل ذلك الوليد- الذي سيكون نبيا مرسلاً أو إماماً قائداً- صفات الطهر، وإلا فإنك ( لا تجني من الشوك العنب)!!
إن علماء الوراثة يقررون أن الإنسان يتأثر سواء في تركيبه البدني وشكله الخارجي أم في ميوله النفسية وصفاته الاخلاقية- بقدر ما- باسلافه:
" الإنسان في الزمن مثلما يمتد في الفراغ إلى وراء حدود جسمه.. وحدوده الزمنية ليست اكثر دقة ولا ثباتا من حدوده الاتساعية، فهو مرتبط بالماضي والمستقبل على الرغم من ان ذاته لا تمتد خارج الحاضر.. وتأتي فرديتنا كما نعلم إلى الوجود حينما يدخل الجنين في البويضة ولكن عناصر الذات تكون موجودة قبل هذه اللحظة ومبعثرة في انسجة ابوينا واجدادنا واسلافنا البعيدين جدا، لأننا مصنوعون من مواد آبائنا وامهاتنا الخلوية وتتوقف في الماضي على حالة عضوية لا تتحلل.. ونحمل في داخل أنفسنا قطعا ضئيلة لا عداد لها من اجسام اسلافنا وما صفاتنا ونقائصنا إلا امتداد لنقائصهم وصفاتهم.
إن أساس تكوين انسجة الإنسان مسألة يكتنفها الغموض إذ اننا لا نعرف كيف جمعت جينات أبويه وأجداده وأجداد اجداده في البويضة التي نشأ هو منها كما نجهل إذا كانت ذرات نووية معينة من احد الاسلاف البعيدين المنسيين غير موجودة فيه، أو إذا كانت تغييرات اختيارية في الجينات قد لا تتسبب في ظهور بعض الصفات غير المتوقعة فقد يحدث احيانا أن يبدي احد الأطفال الذين عرفت ميول اسلافهم لعدة اجيال اتجاهات جديدة غير متوقعة " .
وبالرغم من اننا لا نعتقد بحتمية تأثير الوراثة- خصوصاً في الجانب المعنوي- بمعنى أن يكون الإنسان مسلوب الإرادة تماما تجاهها إلا:
" ان القاعدة العامة للوراثة تقتضي ان ينجب الأباء المؤمنون والامهات العفيفات أولادا طيبين فهولاء يمكن أن يحرزوا السعادة في ارحام امهاتهم فلا توجد في سلوكهم عوامل الانحراف الموروثة إلا اننا لا نستطيع أن نحكم على هؤلاء بأن ينموا وينشؤوا ويعيشوا الى الأبد كذلك إذ قد يصادفون بيئة فاسدة تعمل على انحرافهم وتغيير سلوكهم وسجاياهم الموررثة وقلبها رأسا على عقب ".
وهكذا الطفل المولود من آباء وامهات. لا يعرفون عن الإيمان شيئاً فإنه يعتبر شقيا في رحم امه- تبعاً لقانون الوراثة- لكن قد يصادف بيئة صالحة وتربية جذرية تعمل على استئصال العوامل الشريرة من داخل نفسه و أخيراً يكون في الاتقياء المؤمنين والافراد الصالحين في المجتمع
ولعلنا نستطيع تفسير حديث الإمام الصادق (عليه السلام) في هذا الإطار إذ قال:
- إذا اراد الله ان يخلق خلقا جمع كل صورة بينه وبين ادم ثم خلقه على صورة احداهن-.
هذه الآثار التي تخلفها الوراثة على الاشخاص متسالم عليها بين العقلاء لذلك نجد امير المؤمنين (عليه السلام) عندما أراد الزواج بعد وفاة الزهراء فاطمة (عليها السلام) يقول لاخيه عقيل- وكان عارفا بانساب العرب- اختر لي امرأة ولدتها الفحولة من العرب حتى تلد لي غلاما يكون ناصرا لابني الحسين. ويقول لمالك الاشتر في عهده الشهير اليه:
(ثم الصق بذوي المروءات والاحساب، واهلى البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة، ثم اهل النجدة والشجاعة، والسخاء والسماحة فانهم جماع من الكرم، وشعب من العرف) .
فهو يتعامل مع القضية وكأنها مسألة مسلمة، ففي الحديث الأول لا يريد امرأة جميلة، أو من قبيلة معروفة أو ثرية، و إنما من اسرة شجاعة، لتلد بطلاً ، وهكذا في النص الثاني حيث يرى أن اهل البيوتات الصالحة والعوامل الكريمة تتجمع فيها الصفات الجيدة ويتركز فيها المعروف.
وكما أن الاثار الايجابية تنتقل من جد إلى اب الى ابن فكذلك الاثار السلبية، فالمولود عن سفاح مؤهل اكثر من غيره للزنا والجريمة، ولو نظرنا في حياة القتلة ومجرمي التاريخ لوجدنا آثار الوراثة ظاهرة، فهذا ابن النابغة وذاك ابن آكلة الاكباد، وعداهم ابن الزرقاء.. وهكذا..
نظرا لذلك فإننا نعتقد ان الله سبحانه وتعالى- وهو يدبر الأمور بحكمته- جعل الأنبياء والأئمة نجي خير نسل منذ آدم حتى خرجوا إلى هذه الدنيا ولكيلا نطيل البحث نترك الاخبار تتحدث:
- ففي تفسير الاية الشريفة في سورة الشعراء:
( وتوكل على العزيز الرحيم * الذي يراك حين تقوم * وتقلبك في الساجدين ).
عن جابر بن عبد الله الانصاري قال: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اين كنت وآدم في الجنة ؟!
قال (صلى الله عليه وآله وسلم): (كنت في صلبه، وهبط الى الارض وانا في صلبه، وركبت السفينة في صلب نوح، وقذف بي في النار في صلب ابراهيم، لم يلتق ابوان لي على سفاح قط، لم يزل الله ينقلني في الاصلاب الطيبة إلى الارحام المطهرة هادياً مهدياً حتى اخذ الله بالنبوة عهدي وبالإسلام ميثاقي).
- وعن الباقر محمد بن علي عليهما السلام في تفسير الآية المذكورة قال:
(يرى تقلبه في اصلاب النبيين من نبي إلى نبي حتى أخرجه الله من صلب أبيه من نكاح غير سفاح من لدن آدم عليه السلام).
- وعن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ( أخرجت من لدن آدم من نكاح غير سفاح).
- وعنه أيضاً : قال رسول الله:
(لم يلتق ابواي قط على سفاح، لم يزل الله ينقلني من الاصلاب الطيبة
الى الارحام الطاهرة، مصفى مهذبا، لا تنشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما) .
وهكذا: (ما افترق الناس فرقتين إلا جعلني الله في خيرهما فاخرجت من بين ابوي فلم يصبني من شيء من عهد الجاهلية وخرجت من نكاح ولم اخرج من سفاح من لدن ادم حتى انتهيت إلى امي وابي فأنا خيركم نفسا وخيركم ابا) .
ويتحدث امير المؤمنين (عليه السلام) عن هذه المسألة في عدد من خطبه، باعتبارها احدى المسلمات العقيدية، فيقول (عليه السلام): واصفا الأنبياء عليهم السلام:-
(.. فاستودعهم في افضل مستودع، واقرهم في خير مستقر تناسختهم كرائم الاصلاب الى مطهرات الارحام كلما قضى منهم سلف قام منهم بدين الله خلف، حتى افضت كرامة الله سبحانه وتعالى إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فاخرجه من أفضل المعادن منبتا وأعز الارومات مغرسا، من الشجرة التي صدع منها انبياءه، وانتجب منها امناءه، عترته خير العتر، واسرته خير الاسر، وشجرته خير الشجر نبتت في حرم، وبسقت في كرم، لها فروع طوال وثمر لا ينال..) .
ويقول (عليه السلام) ايضا في ذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).:
- (اختاره من شجرة الأنبياء، ومشكاة الضياء، وذؤابة العلماء وسدة البطحاء، ومصابيح الظلمة، وينابيع الحكمة).
ويقول في موضع اخر:
- (واشهد أن محمد عبده ورسوله وسيد عباده، كلما نسخ الخلق فرقتين جعله في خيرهما لم يسهم فيه عاهر ولا ضرب فيه فاجر) .
هذا والتاريخ يحدثنا عن أن آباء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واجداده كانوا في جصخ ادوارهم رواد الفضيلة والعفة واهل الشرف والكرامة، والمدافعين عن المظلومين الناهين عن المنكرات . وننقل من التاريخ بعض، مايذكر عن عفة عبد الله، والد النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، والذي توفي وكان الرسول جنيناً في بطن امه آمنة.
فقد روى ابن اسحاق: أن عبد المطلب لما انصرف عقب فداء ابنه مرت بعبد الله امرأة من بني اسد بن عبد العزى بن قصي وهي أم قتَّال اخت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى وهي عند الكعبة، فنظرت إلى وجهه، فقالت: اين تذهب يا عبد الله ؟!
قال: مع أبي .
قالت: لك مثل الابل التي نحرت عنك على ان تتزوجني.
قال-: أنا مع ابي ولا أستطيع خلافه ولا فراقه.
فخرج به عبد المطلب حتى اتى وهب بن عبد مناف بن زهرة ووهب هذا سيد بني زهرة سنا وشرفا يومئذ فزوجه ابنته آمنة بنت وهب وهي يومئذ سيدة نساء قومها.
وبعد أن زف عبد الله إلى عروسه آمنة وفد على رهط من قريش وفيهم المرأة التي عرضت نفسها عليه، فقال لها لما لم تابه به:- ما لك لا تعرضين عليّ اليوم ما كنت عرضت بالامس ؟!
قالت له: فارقك النور الذي كان معك بالامس فليس لي بك حاجة، وكانت تسمع من اخيها ورقة بن نوفل- وكان قد تنصر و اتبع الكتب- انه كائن في هذه الأمة نبي فطمعت أن يكون منها، رمما قالته أم قتال بنت نوفل من الشعر تتأسف على ما فاتها من الأمر الذي رامته وذلك في ما رواه البيهقي:
عليك بآل زهرة حيث كانوا وآمنة التي حملت غلاما
ترى المهدي حين نزا عليها ونورا قد تقدمه اماما
إلى أن قالت:
فكل الخلق يرجوه جميعا يسود الناس مهتديا إماما
براه الله من نور صفاه فأذهب نوره عنا الظلاما
وذلك صنع ربك إذ حباه إذا ما سار يوما أو اقاما
فيهدي اهل مكة بعد كفر ويفرض بعد ذلكم الصياما
وروى ابو بكر الخرائطي: ان كاهنة متهودة من اهل تبالة كانت قد قرأت الكتب يقال لها فاطمة بنت مر الخثعمية رأت في وجه عبد الله نور النبوة فراودته عن نفسه على أن له مائة من الابل، فاجابها عبد الله:
اما الحرام فالممات دونه والحل، لا حل فساتبينه
فكيف بالامر الذي تبغينه يحمي الكريم عرضه ودينه
وفي هذا الشعر الذي ينسب لوالد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)،تتجلى العفة والالتزام بالحنيفية، إذ الأمر لا يخلو من ان يكون حراما أو حلالا، فاما الحرام فانه يقدم على الموت قبل أن يقدم على الحرام، ولا يستبين فيه الحلال فصد عنه على كل حال.. هذا في ايام جاهلية العرب حيث كان الكثير لا يتورع في هذه الموارد، بل ترى الرجل السري فيهم يذهب إلى بيوت الدعارة ويمارس الفاحشة مع ذوات الاعلام، ويأتي فيما بعد الولد مجهول النسب لاشتراك آبائه واختلاطهم!!
وما ورد في القصة الاولى مع أم قتال ينفعنا في هذا المقام حيث تؤكد - عياناً- الاخبار التي تفيد أن رسول الله كان نورا من صلب طاهر الى رحم طيب، ورغبة المرأة في عبد الله أول يوم كانت لملاحظة هذا النور، فحين تزوج وانتقل هذا النور الى آمنة بنت وهب والدة الرسول، ليتخلق في رحمها الطاهر، فقدته من وجهه، والذي يظهر ان هذا الأمر كان من القضايا المشهورة لذلك عندما يخطب ابو طالب في الناس مبينا هذه الخصائص في عدة مناسبات، لا ينكر عليه احد، فقد قال في خطبة نكاح فاطمة بنت اسد زوجته: الحمد لله رب العالمين، رب العرش العظيم والمقام الكريم والمشعر والحطيم الذي اصطفانا اعلاماً وسدنة وعرفاء خلصاء وحجبة بهاليل اطهاراً من الخنى والريب والاذى والعيب واقام لنا المشاعر وفضلنا على العشائر، نخب آل ابراهيم وصفوته وزرع اسماعيل.. إلى اخر خطبته فهو يؤكد الطهارة من الخنى والريب اي السفاح والحرام بل المشتبه، والاذى والعيب إشارة إلى الطهارة المعنوية في الاخلاق والصفات. كما يبين هذا الامتداد الذي يصلهم بابراهيم واسماعيل عليهما السلام.
استمرار العناية الالهية :-
وكما بدأت هذه العناية الالهية بنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد استمرت معه ومع اوصيائه عليهم السلام، إذ ان نفس المقدمات التي تم الحديث عنها فيما يرتبط بضرورة صيانة آباء الرسول و اجداده عن كل العيوب الاخلاقية والمفاسد المعنوية جارية هنا فيما يرتبط بضرورة صيانة الاوصياء من بعده.
أما في ما يرتبط برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث يكون والد هذه الاسرة (من خلال الزهراء فاطمة عليها السلام) فقد تقدم الحديث، واما ما يرتبط بامير المؤمنين (عليه السلام) حيث هو والد هذه الاسرة المباركة مباشرة ويشترك في النسب مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في جدهما عبد المطلب فقد قال (عليه السلام):
- (والله ما عبد ابي ولا جدي عبد المطلب ولا هاشم ولا عبد مناف

بناء القادة في منهج أهل البيت (ع)
نظام الإدارة الدينية عند الشيعة الإمامية