11 المجتمع بين الرحمة الذاهبة والقسوة الغالبة
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 11/1/1439 هـ
تعريف:

المجتمع بين الرحمة الذاهبة والقسوة الغالبة

كتابة الاخت الفاضلة ليلى الشافعي 

          قال الله العظيم في كتابه الكريم : ( ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة ، أولئك أصحاب الميمنة )

        حديثنا بإذن الله تعالى بعنوان المجتمع بين رحمةٍ ذاهبةٍ وقسوةٍ غالبة والغرض فيه هو تقريب مفهوم الرحمة والتحريض عليه ومحاولة تطبيق بعض صفات القسوة على ما يجري في الواقع الاجتماعي .

الآية المباركة كما هو واضحٌ فيها تحريضٌ للإنسان المؤمن أن يصل إلى مرتبة المؤمنين الذين يتواصون بالصبر ويتواصون بالرحمة والمرحمة وأن هؤلاء هم أصحاب اليمين والميمنة . 

     فالرحمة كما عرفها وانتهى إليها صاحب كتاب التحقيق في كلمات القرآن الكريم ، الشيخ المصطفوي وهو كتابٌ من الكتب النافعة لفئات متعددة ، ويصل هذا الكتاب في بعض طبعاته إلى عشرة أجزاء وهو مفيدٌ جدًا للمهتمين بالقضايا القرآنية ، ومفيدٌ ومهمُ أيضًا لطلاب العلم والخطباء ولعموم الذين يريدون أن يتعرفوا على مفردات القرآن الكريم واصطلاحاته وأبعادها .

وتعلمون أن التأليف في مفردات القرآن الكريم متعدد،  وربما من أقدم الكتب المشهورة والتي لا تزال متصدرةً للساحة كتاب مفردات الراغب للأصفهاني. ولكن كتاب المفردات بالقياس إلى هذا لا يشكل عشرين في المائة من حيث الحجم وبنفس المقدار تقريبا من حيث المضمون 

لأن كتاب المفردات  في حدود الجزئين وكتاب التحقيق في كلمات القرآن الكريم قريب من عشرة أجزاء والمضمون الموجود فيه أيضًا جامع لما جاء في مفردات الراغب وفي غيره .

    في هذا الكتاب عندما يتحدث عن الرحمة ينتهي إلى أن الرحمة هي تجلي الشفقة والرأفة والحنان في صورة أفعالٍ خارجية وقد تصاحب أحيانا الألم ومع ذلك يقال رحمة . فالطبيب مثلا عندما يقوم باستئصال غدةٍ خبيثةٍ من بدن المريض فهذا ولو كان يسيل دمه ولو كان يؤلمه بهذه الجراحة إلا أن عمله هذا هو عمل رحمةٍ بالنسبة إليه باعتبار أنه خلصه من أخطار وأمراض وهلاك . فليست دائمًا الرحمة حنان ظاهري بل أحيانًا قد تترافق حتى مع الألم ومع التعب ولكن نتائجها نتائج طيبة ، وبناءًا على هذا مثلًا ما هو موجود في تشريعات الدين من الواجبات التي تترافق أحيانًا مع التعب ، وتترافق أحيانًا مع شيء من المشقة على الإنسان كلها تدخل في( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرجٍ ولكن يريد ليطهركم ) وفي بعض الآيات الأخرى ( يرحمكم )

فمثلًا يصوم الإنسان فترة طويلة فيشعر بالجوع والعطش وألم في رأسه ولكن مع ذلك بمجموع هذا العمل العبادي الذي قد يترافق مع شيءٌ من التعب هو رحمةُ لك لأنه من جهةٍ هو جنةٌ من النار ومن جهةٍ أخرى هو كمالٌ للنفس وللشخصية في الدنيا .

فالرحمة هي ظهور الحنان والشفقة والرأفة من طرفٍ على طرفٍ آخر ، وقد تترافق أحيانًا مع شيءٍ من الألم وهذا لا يضر بالرحمة .

   هذا في العنوان العام للرحمة من الناحية القرآنية وعندما نأتي لهذا المصطلح وننظر إلى دائرة حضوره الديني في العقائد وفي صفات الأنبياء وفي صفات المؤمنين وفي ميزات المجتمع المسلم نجده لا يماثله مفهومٌ آخر من حيث تكرره في القرآن الكريم . فمثلًا الرحمة وما يرتبط بها من اشتقاقات كراحم ومرحوم يرحم رحمة مرحمة .. إلى غير ذلك هذه الاشتقاقات للفعل (ر ح م ) تتجاوز أربعمائة مورد في القرآن الكريم وهذا يبين كثرة ترددها في القرآن الكريم ويبين أيضًا مكانتها ، لأن هذا المفهوم الذي يتكرر دائمًا بهذا المقدار يبين أن هناك اهتمامًا من قبل منزل القرآن العظيم على أن هذا المفهوم بمقدار تكرره يتكرس ويتركز مفهومه في الأذهان والأفئدة . فمن ناحية تكرر هذه الكلمة واشتقاقاتها شيءٌ كثير يتجاوز الأربعمائة مورد وفيما يرتبط بصفات الله تعالى ذكرنا أن صفات الله تعالى لأنها كمالاته ولأنها جهات جماله وهي غير محدودةٍ فصفاته أيضًا وأسماؤه غير محدودة . آلاف ، عشرات الآلاف ، مئات الآلاف ، ملايين ، لا حدود لها . لأن الله سبحانه وتعالى ليس بمحدودٍ وذكرنا أنه ما ورد ( أن لله مائة اسمٍ من دعاه بها يحصل له كذا وكذا ) على فرض صحة هذه الروايات تريد أن تقول أن هذه المجموعة من الأسماء لها هذه الآثار وقد تكون مجموعة أخرى من الأسماء لها آثار أخر ، لا أن هذه الأسماء هي فقط أسماء الله عز وجل وأنه لا يوجد له أسماء أو صفاتٌ غيرها .

    من هذه الآلاف أومئات الآلاف أو الملايين من صفات الله عز وجل وجهات كماله انتخبت صفتان لتكونا صفتين لاصقتين باسم الذات الإلهية ، فالله سبحانه وتعالى اسم الذات لا يسمى به غيره فهناك فرق بين الله وإله . إله يمكن أن تطلق على غير الله سبحانه وتعالى في اللغة العربية فتضاف إلى شيء لكن هذا الاسم العلم (الله )لا يصح إطلاقه أبدًا إلا على الذات الإلهية المقدسة فهو الاسم العلم المتخصص في ذات الله سبحانه وتعالى . ثم يوصف بصفتين كلتا الصفتين تنتهيان إلى الرحمة مع وجود كما ذكرنا مئات الآلاف أو الملايين من صفاته عز وجل ولكنك عندما تذكر تقول بسم الله الرحمن الرحيم . 

     الجميل في الأمر أن نفس هذا الباحث صاحب كتاب التحقيق يشير إلى نقطة يقول أن كلمة رحمن ورحيم في اللغتين العربية والعبرية كلاهما بمعنى واحد وكأن لهما أصلًا واحدًا ففي اللغة العبرية يقال عن الرحمن هارحمن والرحيم يقال رحميم بإضافة ميم قبلها وهناك بحث أنه هل للغات السامية أصول وجذور واحدة أو لا هذا يبحث في تاريخ اللغات وفي فقه اللغة وينتهون أن اللغات التي ذات مصدر مشترك ولوبحسب المنطقة عادةً ما تكون أصولها واحدة مع شيءٍ من التغيير . فمثلًا اللغات اللاتينية تجد أنه بالمقارنة عدد غير قليل من كلماتها تتشابه في أصولها وتختلف بعض الاختلاف ،واللغات السامية التي كانت منتشرة في المنطقة مثل العبرانية والسريانية والعربية عندما يبحث العلماء تاريخها وأصولها تجد أن لها جذورًا مشتركةً مع شيء من التغيير لا أنها تنطبق تمام الانطباق ولكن بنسبة كبيرةٍ هي متشابهة ومتشاكلة في أصولها .

   فهذه الصفة صفة الرحمن وصفة الرحيم موجودة في اللغة العبرية مع شيء من التغيير، فانتخبت هاتان الصفتان وهما تنتهيان إلى معنىٍ واحدٍ وأصلٍ واحدٍ مع شيءٍ من الفرق في أن إحداهما تختص بالدنيا والأخرى تشمل الدنيا والآخرة . هذه هي الصفة التي تزينت بها البسملة القرآنية والتي جعلت مفتتح السور القرآنية على مدى مائة وأربع عشرة سورة . مع ملاحظة أن عدم ذكر البسملة في سورة التوبة فلها تعويض في سورة النمل حيث الآية ( إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم )

هذا بالنسبة إلى صفة الله عز وجل وكأن الله يريد أن يقول اختصرنا صفات الله عز وجل التي لا حدود لها اختصرناها بأهم وأبرز الصفات وهي صفة الرحمن والرحيم وكأن هاتين الصفتين تقومان مقام سائر الصفات .

وحين تأتي لقضية الأنبياء فقد جعل الله تعالى الأنبياء وسائط لرحمته وجسورًا لفيض نعمته للناس ، متى صار هذا ؟

عندما قال (وأدخلناهم في رحمتنا) فالله سبحانه وتعالى عندما أدخل الأنبياء في رحمته جعلهم وسائط لرحمته إلى البشر من خلالهم تتنزل البركات وتأتي الخيرات إلى البشر وهذا بحثٌ مفصلٌ في مجال العقائد . كيف يكون النبي والإمام واسطةً في فيوض الله سبحانه وتعالى على البشر والغرض هو أن هؤلاء عندما وصلوا إلى هذه المرتبة عندما أدخلهم الله في رحمته فكانوا بعد ذلك وسائط لرحمة الله إلى الخلائق . وفي طليعة هؤلاء سيد الأنبياء محمد (ص) الذي وصف من قبل القرآن الكريم بوصفٍ ووصف من قبل نفسه بوصفٍ أعلى .

ما وصفه القرآن الكريم هو ( وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين )

طبعا هذا يختلف عن قول أرسلناك رحمةً فالنفي في البداية بشكلٍ مطلق والاستثناء بعد ذلك يفيد الانحصار . فلو قال أرسلناك رحمةً للعالمين لا يمنع أن تكون هناك صفة أخرى لا يوجد ما يمنع من ذلك .

أما إذا جاء بالجملة والكلمة على أساس النفي المطلق في البداية والإثبات بعد ذلك فما أرسلناك في أي شيءٍ لأي شيءٍ ولأي غرضٍ إلا رحمةً للعالمين فكأنما تمحض النبي (ص) في وجوده وفي بعثته وفي رسالته في أن يكون رحمةً للناس ، فبناءًا على هذا يفسر ما قاله صلوات الله عليه وعلى آله الطاهرين مما روي عنه ( إنما أنا رحمةٌ مهداة) وهذا يعني أنا لا شيء آخر إلا الرحمة  وبذلك يتساوى مع القول ب( وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين ) 

بعض التفاسير وبعض الآراء في الاختلاف بين الأمرين قالوا أن الثانية من قوله أعلى وأرقى لكن بناءًا على التوجيه الذي ذكرناه يتساوى الأمران . فعلك رحمة قولك رحمة تشريعك رحمة وجودك رحمة حنانك رحمة كل شيءٌ فيك رحمة بل أنت الرحمة مجسدة . هذا نفسه يساوي إنما أنا رحمةٌ مهداة وأنا لست إلا هذه الرحمة فإنما هي أداة حصر كما يقول علماء اللغة العربية .

وهذا التوجيه أقوى مما قيل وما أرسلناك إلا رحمة مرتبة وإنما أنا رحمةٌ مهداة مرتبةٌ أعلى . 

فالنبي (ص) كل فعلٍ منه ( فبما رحمةٍ من الله لنت لهم ) فنفس لينك هو رحمة من رحمات الله عز وجل التي عبأها في وجودك وجعلها في شخصيتك وهذا من آثار هذا المفهوم وعظمة هذا المفهوم 

وحين تذهب للمجتمع المسلم تجد أن أهم صفاته أنهم ( رحماء بينهم ) أشداء على الكفار رحماء بينهم ، والكفار لها معنى سنتعرض له فيما بعد في قضية قسوة القلب أحيانا 

وهذا المجتمع من صفاته أيضا أنهم  يتواصون بالصبر ويتواصون بالمرحمة وهذا الإنسان بعدما يقتحم العقبة إلى أن يصل إلى مرتبة ( ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة ) فيصفهم بأن هؤلاء هم أصحاب الميمنة . 

   والرحم أيضًا جاءت من هذا الباب في اللغة فهو العضو الخاص في المرأة على شكل كمثرى مقلوبة في الحالة العادية يكون وزنه حوالي خمسين غرام ثم بقدرة الله سبحانه وتعالى إذا حصل حمل يتمدد لكي يتسع لأكثر من كيلوين بحسب حجم الجنين والرحم نفسه أيضًا يزداد وزنه ، فهذا الرحم لشدة التصاقه داخل تجويف المرأة سمي بالرحم من باب هذه الرحمة وكأن ما كان في داخل الإنسان ومختلطًا بأحشائه ومتغذيا عليه ومحميًا به من أوضح أشكال الرحمة تغذية وحفاظ ورعاية وعناية ورتب على هذا الأمر أيضًا أمورشرعية ومنها قضية الميراث فالميراث قائم على أساس ( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) وبقية المناهج في قضية الميراث لا تعتمد اعتمادا نهائيا على الرحم فبعض المناهج تعتمد على أساس الولد الذكر القادر على الدفع والأخذ والبسط كما كان في زمان الجاهلية وبعض المبادئ الوضعية بل حتى بعض الطرق اليهودية في صورتها غير الصحيحة أيضًا تنتهج هذا النهج أن الولد الذكر هو الذي يرث وكلاهما خرجا من نفس الرحم . وحين جاء الإسلام جعل أولوا الأرحام عنوانا للميراث ثم التوجيهات الأخلاقية أيضًا في قضية الصلة والرعاية جعل الرحم محلًا لمبادىء أخلاقية في صلة الأرحام وفي عدم قطيعتها . فهناك مبادئ شرعية لازمة وهناك أمورأخلاقية محبذةٌ وفي بعض الحالات تصل إلى مستوى الإلزام . مقابل كل هذا التراث من الرحمة يأتي قضية القسوة نعوذ بالله من القسوة وقد تكون قسوة القلب وهي منبع كل القساوات وقد تكون قسوة اللسان وقد تكون قسوة الفعل وعلى الإنسان المؤمن أن يقطع السبيل من البداية فلا تكون قسوة القلب عند الإنسان ولاحظوا أن القرآن الكريم يتحدث عن القسوة ليس باعتبارها ضرب ولا قتل ولا جرح بل باعتبارها فعلٌ قلبيٌ فيقول ( فويلٌ للقاسية قلوبهم من ذكر الله ) فهؤلاء قلبهم قاسٍ عن ذكر الله وبعيد عن ذكر الله ولذلك يكون قاسيًا ويتحدث في موقف آخر ويقول   ( ثم قست قلوبكم فهي كالحجارة أو أشد قسوة ) والإنسان من هذه النقطة عليه أن يسعى كي يكون قلبه رحيمًا رفيقًا رقيقًا بعيدًا عن القسوة لأنه لو انتهى من هذه المرحلة فإن ما بعدها من قسوة اللسان لن تكون ، وأيضا قسوة الجوارح لن تكون . 

ما يدعو الإنسان لكي يسعى كثيرًا ليكون قاسي القلب أول شيء وأهم شيء أن حسابه يوم القيامة سيكون على أساس قسوة قلبه أو رحمة قلبه ، والعاقل الحكيم من يختار طريقة حسابه من الآن . فحين تذهب للمطار يقال لك هذا مسار أخضر لايوجد به تفتيش ولا غيره وهناك مسار أحمر به تفتيش ، فأنت من البداية تبحث عن المسار الأخضر وتعد نفسك حتى لا تحمل شيئًا لا يناسب هذا المسار فتمشي بشكل سلس وعادي ، أما حين تحمل أشياء مثلًا ممنوعة ثم تسلك المسار الأحمر ومع ذلك تطمح أن تمشي بسلاسة وبشكل طبيعي هذا لن يكون أبدًا . أنا الآن أستطيع أن أنتخب طريقة حسابي يوم القيامة وأستطيع أن أعرف كيف سأحاسب وكيف سأعامل من خلال ما أسلكه الآن . أنا رحيم أو قاسي  أحد الأمرين نفسه هذا سيأتي لي يوم القيامة في صورةٍ أخرى . ومخطئ جدًا هذا الإنسان الذي يتعامل مع زوجته ، مع أبنائه ، مع موظفيه ، مع إخوانه ‘ مع أصدقائه بقسوة قلب وجرح لسان وعنف يد ثم يتصور أنه يوم القيامة سوف يعامله الله سبحانه وتعالى معاملة الراحمين ويجعله من المرحومين فهذا يخدع نفسه إذا كان يفعل هذا الفعل . 

لأن الله سبحانه وتعالى آل على نفسه ألا يرحم ظالمًا ، فالقسوة في بعض صورها نوعٌ من أنواع الظلم فلا تتوقع إذا كان هناك ظالمٌ أن يأنتي يوم القيامة مرحومًا وإلا فالله سبحانه وتعالى يخلف ما قرره من القواعد . 

الله تعالى قال أن مقتضى القواعد الأولية هكذا اعمل حسنة نعطيك حسنة تعمل سيئة نعاقبك بسيئة هذا مقتضى القاعدة وهو أمرٌ طبيعيٌ . تفضل الله سبحانه وتعالى على الإنسان فقال نحن أصحاب فضل نعطيك الحسنة بعشر أمثالها بل بسبعمائة ضعف بل بيضاعف لمن يشاء ونعطي على السيئة تكرمًا منا ممكن أن نعفو مع أنك ليس لك حق في العفو بل أنا أتفضل عليك وقد أعفو عنك وأغفر لك فيوجد طرق متعددة فتحتها لك كي تحقق هذا التفضل منها : شفاعة نبيك المصطفى هذه من الممكن أن تحقق التفضل ، غفرانك لغيرك وسماحك لغيرك ورحمتك لغيرك أيضًا تحقق هذا التفضل لك . وإلا إذا عمل هذا الإنسان عملًا سيئًا قاسيًا لا يعامل بقسوة في يوم القيامة فقط يعامل بعدل . كما ورد في الدعاء( وخوفي من عدلك وعدلك مهلكي )  فنحن لا نخاف أن يظلمنا الله وإنما نخاف فقط من عدله . فمعنى عادل أن يقول أن صلاتك التي صليتها مثلًا وكنت مأمورًا فيها أن تأتي بكل أجزائها وشرائطها ولم تأتي بجزء واحد ولو نسيانًا فكأنك ما عملت شيئًا . والعمل الفلاني كان يقتضي منك الإخلاص وأنت خلطت فيه شيئًا من غير الإخلاص فسد وصار غير مقبول ... إذا عاملنا بعدله وعلى مقتضى مثل هذه القواعد جدً يتورط الإنسان . فنحن لا نطمع في عدل الله وإنما نطمع في فضل الله وعفو الله وجل وتفضل الله هو الذي ينجي الإنسان .

   فأول درجة من درجات القسوة التي يتورط بها الإنسان قسوة القلب ، وقسوة القلب قد تكون على الضعيف مثلًا عامل عندك تؤخر راتبه ثلاثة أو أربعة أشهر وهو مضطر أن يعمل عندك ، ماذا يعني هذا ؟ هذه قسوة غير مبررة . أو تجعله يعمل أكثر مما هو واجب عليه وهذه قسوة غير مبررة أو لا تعطيه حقه هذا ظلم وأنت أيضًا يوم القيامة نفس الشيء يحصل لك في ذلك الوقت يقال لك

اشرب بكأسٍ كنت تسقي بها         أمر في الحلق من العلقم 

فنفس الكأس الذي كنت تسقسه من القسوة والظلم لهذا الإنسان توقع أن يناقشك في الحساب مناقشة ويحصي عليك كل خطأ عملته وربك لا يظلمك في يوم القيامة أبدًا ولكن يتتبعك بسيئاتك ويتتبع أمرك في كل قضية ويناقشك في الحساب مناقشة كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام والمناقشة تعني أن هؤلاء الذين كانوا ينقشون يقولون الشوكة بالشوكة عمل دقيق جدًا ويحتاج إلى دقة وملاحظة شديدة . أو يقال هذه سيئاتك نعلم بها لكنك كنت محسنٌ لغيرك وكنت رحيم بالآخرين وكنت عطوفًا على من تحت يدك فتوكل على الله . فلا يحسب كم سيئة عليك وهذا ما نطمع فيه وهذا ما يعمله الله بالنسبة للرحماء ف(الراحمون يرحمهم الله ) وهذا من أعلى الدرجات وقلنا سابقًا عن الأنبياء ( وأدخلناهم في رحمتنا ) فإذا واحد من هؤلاء الخاطئين والمذنبين أدخله الله في رحمته ماذا يريد بعد ذلك . 

   ومن القسوة في القلب تمني الشر للآخرين  ونحن رأينا بعض المسلمين مع الأسف إذا صار إعصار في مكان بعض الناس يهلل ويطبل فيقول هذه جنود الله عملت ما عملت بالغربيين والمسيحيين ! من قال لك هذه جنود الله ؟ هل أرسلتها أنت ؟ ومن قال لك أن هذه عقوبة إلهية ؟ وما هو شأن من لم يكن مسيئًا ؟ فذاك الكافر الجاحد الذي وصله الحق ومع ذلك بارز الله وحاربه يستحق أما أكثر الناس ليسوا هكذا . أكثر الناس مستضعفون في أديانهم لا يعلمون الحقائق وقد تكون أنت مسؤولًا عن أنك لم توصل إليهم حقائق الدين وسيرة نبيك الكريم .فماذا يعني أن تتشمت وتتشفى ؟ 

   وإذا كانت تلك في بلاد الكفار فماذا عن تسونامي التي صارت في أندونيسيا وهي أكبر بلد مسلم في العالم كله من حيث السكان حيث يربو على مائتين وستين مليون نسمة ودمر أماكن وقتل أناس فماذا تقول فيه فيتشمت ويقول كانوا يعملون المنكرات وفيهم نساء متكشفات على الشاطئ فهذه عقوبة من الله. وصار هو من يعين عناوين أفعال الله تعالى وكأنما يأخذون التوقيع منه أن هذه عقوبة وهذه رحمة .

   وماذا عن الناس الذين كانوا في المساجد وأثناء الصلاة صار عليهم انزلاق أرضي وطمروا ! قال نعم هؤلاء أهل بدع وعلى غير المذهب الصحيح والحق وهكذا حتى إذا وصل عنده ترى عنده هذا القلب غير السليم القلب القاسي . فما يضرك لو أنك دعوت الله سبحانه وتعالى أن يكشف هذا الأمر عنهم وأن يهديهم إلى الصراط المستقيم فهذا أنت تحصل من خلاله على الثواب ، وإذا استجيب دعاؤك فإنك تحصل على الخير في الخارج . لكنك تجد عند بعض الناس قلب وغر وقاسي حتى أن بعضهم يقول فليموت الأطفال من غير المسلمين ماذا يحدث  لأنهم سيكبرون ويصبحون كفار . ما يدريك أنهم إذا كبروا سيصبحون كفارًا ؟ 

فالأولى بك أن تكون رحيمًا في أن تتمنى لهم الخير والهداية وأن تطلب من الله تعالى أن يهدي الضال من خلقه إلى رحمته . فهل ستضيق عليك جنة الله إذا كثر المسلمون ؟! 

هذه من نماذج قسوة القلب وهناك نماذج أخرى 

عندنا في داخل مجتمعنا قضية حضانة الأطفال .... تعلمون كمسألة شرعية لو حصل طلاق بين زوجين وعندهما أولاد فإن حق الحضانة للأم تمتد إلى سنتين على المشهور عند فقهائنا والأفضل إلى سبع سنوات لكنه ليس واجبًا . فالحد القانوني في الرأي المشهور المعاصر سنتان تبقى الفتاة والفتى عند أمه إذا كانا دون السنتين ، فلوكان عمره حين الانفصال سنة ونصف فإنه يبقى عند أمه ستة أشهر ، ولو كان عمره سنة يبقى سنةً أخرى عند أمه وحق الحضانة هذا يلزم على الأم أن تحضن أبناءها ولا يستطيع الأب أن ينتزع هؤلاء الأولاد من أمهم . بعد السنتين يكون هؤلاء الأولاد في حضانة أبيهم إلى سن الخامسة عشر هنا تنتهي الولاية عليه ويستطيع أن يختار أمه أو أبيه . 

في جانب الحضانة عندنا توجد حالات تعبر عن قسوة غير طبيعية . فماذا يعني أن أم الزوجة تقول مادام طلقك الزوج فامنعي عنه أولاده . هذا غير جائز بل هذا ظلم بل حرام شرعًا ولو حق الحضانة من حق الأم لكن من حق الأب أن يرى أبناءه بما هو متعارف بالنحو الموجود في المجتمع . فيجب عليها أن تسمح بذلك .

وأحيانًا عكس المسألة وهي أيضًا غير قليلة ، فبعد أن صار عمر الأولاد مثلًا أربع سنوات أو أكثر أو أقل بل حتى من السنتين بعد أن انتزعهم من أمهم حين انتهت حضانتها وصاروا عنده يقول لها تري نجوم السماء ولا ترين الأولاد وانسي أن لديك أولاد . وهذا التعبير جاءنا من بعض المشاكل بهذا التعبير : انسي أن لديك أولاد . وهذا حرام شرعًا وغير جائز وظلمٌ وقسوة 

( فويلٌ للقاسية قلوبهم ) ( ثم قست قلوبكم بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة ) 

وأعجب من ذلك عندما يكون من يفترض فيه الحنان والرحمة والحكمة والعطف هو من يحرض ! عندما تقول الأم لابنها لا تريها أبناءها أبدًا ... أنت أم ! صاحبة الرحمة فأنت خلقتِ وفي داخلك الرحم دلالة على أن الرحمة يجب أن تكون متكرسة في وجودك .. فتقومين بتحريض ابنك على ألا يري أم هؤلاء الأولاد أولادها ! فالأولاد يحتاجون لأمهم وأنت لا تستطيعين أن تقطعي علاقتهم لا بأبيهم ولا بأمهم .

وأنتم أيها الآباء قمتم بفعلة شنيعة وهي الطلاق وأضعتم مستقبل الأولاد وما راعيتم الله سبحانه وتعالى في مستقبلهم وفوق هذا تحرم الأبناء من أمهم أو الأم تحرمهم من أبيهم . فهؤلاء سينمون نموًا مشوهًا وعواطفهم تتقطع وقلوبهم تتمزق .

ومع الأسف في مجتمعنا في بعض الحالات حتى في محرم والذي هو صرخة إنكار على القسوة وعلى الظلم وإعلان تعاطف مع الرحمة والشفقة . 

فما فرق حرملة بن كاهل وشمر بن ذي الجوشن وزجر بن قيس عن هذا الإنسان ؟ فذاك يظلم طفلةً يتيمةً ويكوي قلبها بأذاه وهذا الأب يكوي قلب ابنته عندما يحرمها من أمها . أو الأم تكوي قلب البنت والولد عندما تغيبهم عن والدهم .

فنحن نقول ألا لعنة الله على الظالمين 

يمكن هذا الذي يقول ( ألا لعنة الله على الظالمين) يلعن نفسه قبل كل أحد . فهل الظالمون هم فقط الذين كانوا في كربلاء ؟ لا . فالظالمون أينما كانوا .

( ثم أذن مؤذنٌ بينهم ألا لعنة الله على الظالمين ) يوم القيامة إعلان لكل البشر فهل الظالمون فقط الذين كانوا في زمن النبي أو في زمن يزيد ؟ كلا .. الظالمون أينما كانوا قد يكون أنا أو أخي أو عمي أو زوجتي من مصاديق الظالمين الملعونين على لسان الله عز وجل ولسان أمير المؤمنين وعلى لسان بقية أهل البيت .

    فشهر محرم يعلمنا أن يكون عندنا موجهًا للعطف والرحمة والشفقة والرأفة  فدمعة طفلة مغيبة عن أبيها أو من أمها هي تساوي دموع الأطفال في كربلاء وبعد كربلاء نفس الحالة . فلم هنا ترحم وتبكي ولا تبكي لطفلتك التي صنعت بها هذا الصنيع وطفلتك التي صنعتِ بها هذا الصنيع . فقد يكون قسوة قلب موجودة وقد يكون قسوة لسان وقسوة اللسان نابعة من قسوة القلب كما يقول القرآن الكريم ( قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر ) فهناك بئر قسوة وبئر حقد هذا يطلق دفعات ورشقات من الكلمات القاسية والسيئة . 

كأن يقول : مسحت فيه الأرض ... هل هذا فخر أن يمسح الإنسان بفلان الأرض ؟ هل هذه عظمة .. أو تكلمت بكلمات ما استطاعت أن تنطق بعدها ..

هل هذا مفخرة أو أن الفخر أن يقول المؤمن كما في الروايات ( لأن أسمعتني كلمة لا أسمعك كلمة ) على عكس بعض الناس الذين يقولون لأن نطقت بكلمة أشرشحك . هذا ليس من صفات المؤمن .

  قسوة الألفاظ أحيانًا تكون في الانتقاد وأحيانًا في العركة ، هون عليك فالدنيا لا تستحق إلا التغافل والتسامح . فكلامك جزءٌ من عملك ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت ) . فما الداعي أن يتحول الكلام إلى فتيل للمعارك ؟ اسكت ، مالذي يضرك لو سكت ؟ هل ستسقط يدك ؟ أو تنكسر رجلك ؟ لن يحدث شيء . اترك الطرف الآخر يتكلم بما يريد .

وأخيرًا قسوة الأعمال والجوارح : ضرب ، عقوبات والتي تصل أحيانًا لإسالة الدماء . من أخذ منهم الميثاق الغليظ الزوج والزوجة ( وأخذنا منكم ميثاقًا غليظًا ) يصير بينهما ضرب يدمي ويحتاج إلى تقارير طبية وتتدخل الشرطة والمحاكم . لماذا؟ الأفضل للإنسان أن يقول صوابًا وأن يفعل حكمةً وألا يمد يدًا أو أن يتورط في مثل هذه الأمور . لا سيما إذا صار من أتباع أهل هذا البيت عليهم السلام وقد ذكرنا قبل قليل أن محرم يعلمنا أن القسوة شيءٌ فضيع وأن الرحمة هي المطلوبة ، وأهل البيت كانوا تجسيدًا للرحمة وأعداءهم كانوا تجسيدًا للقسوة . بدءًا من عصر العاشر من محرم تجلت القسوة في المعسكر الأموي في أبشع صورها وما تخفي صدورهم أكبر . فماذا يعني أن تقتل رجلًا ثم ترض صدره وظهره بالخيل ؟ 

وماذا يعني أن تقتل طفلًا رضيعًا لم يأتي بجناية ولم يدري ما الغاية ؟

لا ضير في قتل الرجال وإنما       ذبح الرضيع به الضمير يضام  

 


مرات العرض: 3397
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2552) حجم الملف: 62177.43 KB
تشغيل:

10 إلى اخوتنا في المذاهب إجابة لأسئلتهم حول محرم
1 مع الامام الحسين من مكة إلى كربلاء