الفرار من الزحف
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
التاريخ: 18/9/1433 هـ
تعريف:

 الفرار من الزحف

كتابة الأخ الفاضل محمود المطر
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16))) (الأنفال)

أحد كبائر الذنوب التي عرفت بهذا التعريف في مرويات المعصومين هو الفرار من الزحف عند المواجهة بين المسلمين و الكافرين تحت راية مشروعة, سيما اذا كان مع النبي او مع الامام المعصوم. في هذه الحالة يكون الفرار من الزحف من قبل بعض افراد هذا الجيش المسلم اثماً من الآثام و كبيرة من الكبائر. و قد توعد الله سبحانه و تعالى في هذه الآية المباركة بأن على الفاعل غضبا من الله و بأن له جهنم و بئس المصير.

((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ)), التولية بالدبر تعبير كنائي عن الهزيمة, لا موضوعية لهذه الحركة. أي أن الذنب في التراجع, لا بإعطاء العدو ظهره. فلو انهزم و تراجع بأي نحو من الأنحاء, فانه يتحقق فيه انه ارتكب هذه الكبيرة و هذا الذنب العظيم.

((وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ)) لماذا يشدد الإسلام و القرآن على وجه الخصوص, فضلا عن روايات أهل البيت بهذا المقدار الكبير على قضية الهزيمة, و ان فيها هذا الاثم العظيم؟ نظراً للآثار الخطيرة التي يخلفها المتراجع و المنهزم في المجتمع الإسلامي. تراجع الناس عن الايمان في حالة السلم مثلا يؤثر آثار سلبية كبيرة. لذلك كان أعداء الإسلام يستغلون هذا التأثير النفسي لخلخلة المجتمع الإسلامي. بعض اهل الكتاب قالوا: ((وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)) (72 آل عمران) بعض اليهود اقروا أنهم بالبرهان والحجة لا يمكن ان يواجهوا الإسلام. بدلا من ذلك كانوا يذهبون للمجتمع المسلم فيقولون نحن منكم نريد أن نسلم, و بعد ذلك يعلنون انهم رجعوا عن الإسلام بعدما قارنوا الإسلام باليهودية – حسب زعمهم - بغرض زعزعة المجتمع الاسلامي.
في حال الحرب تراص و صمود الجيش يعتمد على صمود افراده, فكل فرد يأخذ العزيمة و الثبات من أقرانه ممن حوله. فلو تراجع أو هلع أحدهم سيحدث ذلك تراجع عدد من الأفراد يتصاعد بازدياد عدد المرتدين عن القتال, و قد يؤدي ذلك لهزيمة الجيش بأكمله. و لذلك في بعض الجيوش البعيدة عن الإسلام, قد يرمى المتراجع عن القتال فوراً بالرصاص, لالتفاتهم لهذه الحقيقة, حفاظاً على ثبات الجيش. لهذا وقف الدين هذه الوقفة من الفرار وقت المواجهة, و انزله منزلة أعظم من الزنا و شرب الخمر. هنا قد يرد سؤال: هل يقتصر هذا الحكم على الجيوش التي تكون تحت قيادة معصومة من نبي أو امام, أو انها حكم عام؟ هذا بحث فقهي خارج عن موضوع البحث الحالي.

ذكرنا أسباب تشديد الإسلام على حرمة الفرار من المواجهة, و هنا نذكر الاستثناءات لهذا الحكم. وردت ثلاثة موارد لو فر الفرد فيها لا يتحقق عليه ارتكاب الكبيرة, وان كان يعد الفرار هنا ذنبا أيضاً..

الاستثناء الأول: اختلال المعادلة العددية بين جيش المسلمين و جيش الكافرين
في بداية الإسلام, لو كان عدد جيش الكافرين عشرة اضعاف جيش المسلمين, وجب الثبات. لكن لو زاد عن العشرة أضعاف لم يجب.
 ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ۚ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ (65))) (الأنفال) فالمعادلة هي 1 الى 10. و نلاحظ استخدام لفظ (حرض) لضرورة التشويق و التشجيع على العمل, ليس فقط على مستوى القتال بل لأي عمل خير. الكلمة الطيبة صدقة. يجب ألا نتردد في الثناء على الجهود المبذولة في المجتمع و إن كانت بسيطة. الشيخ محسن قرائتي, أحد العلماء, يذكر أنه التقى بالسيد محمد الشيرازي في كربلاء اثناء الزيارة. و قد شجعه في سلوك مضمار دراسة و تفسير القرآن الكريم. فبدأ بعد عودته من الزيارة بالمطالعة في علوم القرآن الكريم حتى أصبح له أسلوب مميز يجذب الشباب و يقرب علوم القرآن لهم. و يعد برنامجه (دروس من القرآن) الذي يبث باللغة الفارسية ثاني اكبر برنامج من حيث عدد المشاهدات. كل هذا ثمرة التشجيع! فلنجعل أمر التحريض و التشجيع عادة في مجتمعاتنا. ((إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3))) (العصر)  
أذاً التحريض و التشجيع و التشويق مؤثر, لدرجة أن القرآن يقول بأن التحريض يصنع من الواحد عشرة, و من القوة عشر قوى, و يفجر في الانسان طاقات هائلة!

هذه كانت المرحلة الأولى من الإسلام تتطلب مواجهة الواحد لعشرة. بعد ذلك قال تعالى: ((الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ۚ فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)) (66)
يعني تحولت المعادلة 1 الى 2. هنا لو انهزم احد المسلمين من القتال, يؤثم و لكن لا يعد مرتكباً لكبيرة.

الاستثناء الثاني: (الا متحرفاً لقتال)
أي أنه ذاهب الى حرفة أو طريقة قتالية أخرى. مثلاً أن يكون يقاتل بالأسلحة الخفيفة فيتحول للقتال بالدبابة. أو أن يكون يقاتل راجلاً, و من ثم يقاتل على ظهر فرس. :ان ينضح بالنبل, و بعد ذلك اصبح لديه سيفاً فأخذ يقاتل به. تحول المقاتل من طريقة الى أخرى قد يتطلب حركة باتجاه معين, و قد يصادف أن يعطي العدو ظهره – أي دبره – لكن هنا لا ينطبق عليه الحكم المذكور, لأن تغيير الجهة هنا لغرض قتالي و ليس للفرار من المواجهة.

الاستثناء الثالث: (أو متحيزاً الى فئة)
مثلا أن يكون في الجبهة الشرقية و يصله خبر أن الجبهة الغربية فيها ضعف أو هجوم قوي من العدو, فيتحول اليها. هذا يقتضي أنه يرجع مسافات و يلتف على الجهة الأخرى. و لو اعطاهم دبره لا يعد من الفارين من الزحف.

أذا فرّ الفرد في غير هذه الموارد تنطبق عليه الآية و يعد مرتكبا لكبيرة من الكبائر. و اذا ارتكب الفرد ذنباً من الذنوب – لا سيما كبيرة من الكبائر - فهو ظالم لنفسه. و اذا كان ظلم نفسه فانه لا يصلح للامامة العظمى لقول إبراهيم ((قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)). فالذي يفر لا يمكن أن يتساوى ابداً مع من يكر. و لذلك يتعجب الانسان, و نحن هذا اليوم نعيش ذكرى عزوة بدر الكبرى و غداً بداية أيام أمير المؤمنين عليه السلام و ذكرى شهادته, من مساواة قسم من المسلمين بين علي بن ابي طالب عليه السلام مع غيره. الذي كان كراراً غير فرار. و هذا فيه اثبات للصفة و تعريض بالغير. لأن قالها النبي في معركة خيبر, عندما تحصن اليهود في ذلك الحصن, و ارسل النبي صلى الله عليه و آله احد أصحابه و معه قسم من المسلمين لفتح الحصن. عندما رأوا حجم الحصن و ضخامته, فكروا في العذر الذي ممكن يقبله رسول الله منهم. أحياناً أنت ترسل انساناً الى شغلة,  هو في الطريق لا يفكر في حل للمشاكل التي ممكن تعترضه, بدلاً من ذلك يفكر "اذا انا فشلت ... ما العذر الذي اقدمه لمرسلي لاقناعه ان فشلي كان شيء عادي؟" فهؤلاء فعلوا ذلك تماماً, رجع الصحابي الذي ارسله رسول الله مع أصحابه يجبنهم و يجبنوننه. و يضعفهم و يضعفونه. في اليوم التالي أرسل النبي رجلاً آخر, و لم يعد بحظ اوفر من الرجل السابق. عندها قال صلى الله عليه و آله: (لأعطينَّ الراية غداً رجُلا يحبّ الله ورسوله ويُحبّه الله ورسوله كرَّار غير فرَّار يفتح الله على يديه) فأعطى الراية لأمير المؤمنين علي بن ابي طالب!
كرار على وزن فعال, أي يتكرر منه الهجوم و الكرّ على العدو باستمرار. و يعرّض بمن سبقه من الصحابة, فقال غير فرار. فبعضهم لم تكن الأولى لهم, يروى عن قائد جيش المشركين حينها في يوم أحد خالد بن الوليد, أنه بعد هزيمة جيش المسلمين رأى جماعة يفرون و لا يلوون على شيء, أحدهم كان متلثماً عرفته من عينيه, لكن تركته و اغفله اصحابي. و أما شخص آخر فقد (ذهب بها عريضة) كما يقولون, هرب حتى وصل الى سيف البحر, يعني من المدينة الى جدة تقريباً 400 كم و هو يهرب. "هسه واحد يهرب يرجع بيتهم, الى بيت الجيران ينخش, مو 400 كيلو!". و لذلك يذكر أنه عندما عاد هذا الرجل الى المدينة و رآه أمير المؤمنين عليه السلام تبسم و قال (ذهبت بها عريضة!) "يعني واجد طوخت المسألة! ما كانت تستاهل هالكد."
هذا علي الذي ما فر قط, حتى أعداؤه اللم يتجرؤوا على ادعاء ذلك فيه و لو كذباً. يعني الأمويون و الزبيريون عندما دونوا التأريخ غيروا بعض فضائل علي عليه السلام.  فقالوا -مثلا- الذي قتل عمرو بن عبد ود العامري كان محمد بن مسلمة الأنصاري, اغفالاً لدوره عليه السلام. لكن لم يتجرأ أحدهم أن يقول أن علياً فر في موقعة من المواقع, ففي ذلك تكذيب حديث رسول الله صلى الله عليه و اله. و لذلك يتعجب الانسان كيف يساوى بينه و بين غيره. يقول السيد باقر الهندي:

أنى ساووك بمن ناووك – و هل ساووا نعلي قنبر
قاسوك أبا حسن بسواك – و هل بالطود يقاس الذر

 

مرات العرض: 3472
المدة: 00:52:02
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2570) حجم الملف: 17.1 MB
تشغيل:

متى تكون إعانة الظالم محرمة ؟
أصلاب وأرحام طاهرة : آباء وأمهات النبي