قراءة
رؤى في قضايا الاستبداد والحرية
المؤلف: الشيخ فوزي السيف
إضافات: أطياف للنشر والتوزيع-ط1/1428
مرات العرض: 9191
القراءة والتنزيل: عدد مرات التنزيل: (3845) قراءة
بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة:
لا يزال الاستبداد في صوره المتعددة هو البلاء الأكبر الذي ابتليت به هذه الأمة، ولا تزال متوالياته السيئة تعيد إنتاج نفسها في المجال السياسي والديني والثقافي والاجتماعي..
وإذا كان الاستبداد في زمن مضى يعني سيطرة فرد على الأمة وانفراده بسياسية أمورها من دون مشورة أو مساءلة، فإنه قد (تطور) في هذا الزمان ليصبح استبداد العائلة أو الحزب أو أخيرا الدولة!
وكان من متواليات الاستبداد قمع الرأي الآخر، ومنع المختلف -أيا كان دينيا أو مذهبيا أو سياسيا- من حرية التعبير بالرغم من أننا نجد أن هناك مناخاً واعداً يستفيد من الظروف القائمة في تكريس المطالبة بحرية الرأي كمفردة من مفردات الإصلاح السياسي في بلادنا المسلمة.
إننا نعتقد أنه ينبغي السعي إلى تحويل الثقافة الناقدة للاستبداد والمبينة لآثاره السيئة، وتلك المطالبة بحرية التعبير عن الرأي إلى ثقافة شعبية عامة.. فإنه قد يلاحظ المتأمل أن هذه المواضيع بقيت غالبا مواضيع النخبة تناقشها في مؤتمرات، أو دراسات.
بينما كان المصطلي بآثار الاستبداد وقمع حرية الرأي بشكل مباشر، عامة الناس. ولذا كان ينبغي أن تكون هذه الثقافة جزءا من التكوين الفكري الشعبي، حتى يتحصن الجمهور من آثارها السيئة ويحاربها عند حدوثها.
ضمن هذا الإطار كانت هذه الصفحات، والتي كانت في الأصل محاضرات ألقيت في الموسم الثقافي الحسيني الذي تشهده منطقتنا في كل عام، وتم إعادة تحريرها وتجميعها لتكون بين يديك. كما أن القسم الآخر الذي يتحدث عن حرية الرأي هو تفصيل لمختصر ندوة بُثت على إحدى القنوات الفضائية.
ولأنها كان يراد منها أن تخدم الغرض المتقدم (جماهيرية الفكرة) فقد تم الاحتفاظ بمستوى معين في المعالجة بحيث يستطيع أن يخدم أوسع شريحة من الناس.
وقبل أن أنتهي لابد أن أتقدم بالشكر الجزيل لمن شجع -وتابع- على تقديم هذه الصفحات إلى الطباعة، وأخص منهم الأخ الأستاذ محمد المحفوظ دام فضله، إذ ربما لولا تشجيعه لما كانت هذه الصفحات كما هي الآن.

فوزي آل سيف
5 رمضان 1427هـ


الفصل الأول:
الاستبداد السياسي وآثاره المخربة

قال الحسين بن علي عليه السلام :
ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله وأنا أحق من غير ..
ثورة الحسين كانت الصرخة الأعلى في وجه الاستبداد في الأمة . وبمقدار ما يكرر الاستبداد نفسه في صورة تمجيد أصحابه ، تتكرر صرخة الحسين  .
ماذا يعني الاستبداد ؟
تعريف الاستبداد : هو الاستئثار والاستحواذ ، والانفراد بالرأي في شؤون الجماعة فهو اغتصاب لحق مشترك . ثم اكتسب هذا اللفظ معنى سياسيا ، فأصبح يشير إلى نمط من الحكم ، فيقال حاكم مستبد ونظام استبدادي .
والاستبداد قد يقابله : المشاورة ، وجمع آراء الناس ، وقد يقابله الحرية في النظام ، والنظام الحر أو الديمقراطي ، أو الذي يعتمد الشورى .
من هو المستبد ؟ قد يتصور أن النظام السياسي هو الوحيد الذي يعنوَن بالاستبداد ، وهذا وإن كان أظهر وأوضح أنحاء الاستبداد ، إلا أنه لا ينحصر به ذلك أنه في كل شخص يوجد مشروع استبداد لو لم يسيطر عليه بالتهذيب والتربية . في كل شخص مشروع طغيان وتفرد ..
ـ الوالد في بيته قد يكون مستبدا : عندما يفرض الصحيح والغلط من الأمور لا لشي إلا لأنه قوله ، وأن كلمته لا تتثنى وقوله لا يراجع ، وإذا قال : لا يقال له كيف ولماذا ؟ والأم قد تكون مستبدة في حق بناتها عندما تتحكم من دون تعقل ، ولا مشاورة ، ترفض زواج ابنتها من فلان لأنها لا تشتهي أمه !
ـ و الزوج من الممكن أن يكون مستبدا عندما يتصرف على طريقة ( كيفي ) ويقسر زوجته على شيء لأن كيفه هكذا !
ـ المسؤول في الدائرة ، هذا إن صح التعبير عنه وإلا فإننا في كثير من المواقع قد نقلنا المصطلح ولم ننقل الثقافة والمعنى ، المسؤول يعني أن هناك من يحاسبه ويعرضه للمساءلة ، وهذا لا واقعية له في كثير من بلاد المسلمين ، هذا المسؤول الذي يتعامل بطريقة : أنت تعلمني شغلي ! والتهديد بعدم إنجاز العمل للمواطن .. إذا ناقشه في طريقة الانجاز ، أو مدته !
ـ المدرس في المدرسة مع الطلاب : حين يتحول في بعض الأحيان إلى طاغوت يسلط سيف رعب الدرجات و( الترسيب ) في الامتحان على من لا يعجبه في صفه ! ويستعذب تذلل الباقين له وتوسلهم إلى ( حضرته ) حتى يتفضل عليهم بالرضا !
ـ رجل الدين مع الناس ، من الممكن أن يبتلى بالاستبداد ..وهو الذي ينبغي أن يكون مثالا لمقاومة الاستبداد بالرأي والاستبداد السياسي ، قد يتحول هو بدوره ـ في غفلة عن دوره ـ إلى مستبد باتباعه وجماعته ، فيتعامل معهم كما يتعامل المستبدون مع رعاياهم !
ـ بل الانسان العادي في المجتمع أيضا من الممكن أن يمارس استبداده في حدود قدرته ، كأن يدخل تجمعا عاما فيرى أن الحق له فيه دون غيره ويمارس ذلك ، يدخل مسجدا فيطفئ أجهزة التكييف لأنه هو لا يريدها ، من دون أن يراعي باقي الناس الذين يطلبونها ، ويحتاجونها !
ـ وهكذا الولد مع أخيه وأخته ، عدم القبول حتى بالاستماع ، يشير إليه : اسكت ما أريد أن أسمع نصيحة !
هذه كلها أمثلة على مشاريع استبدادية في أفراد متنوعين من الناس ، مما يعني أن الأمر لا يقتصر على المستبد السياسي ، وإن كان سيأتي الحديث على أن من آثار الاستبداد السياسي إعادة انتاج الاستبداد في الأمة ، وتدوير آثاره في التشكيلات الاجتماعية من أسرة وغيرها .
لكننا في البداية سنتناول الاستبداد السياسي ، و سوف نستعين هنا بكلمات اثنين من رجال الاصلاح في الأمة وعلماء الدين ، الأول : هو الشيخ عبد الرحمن الكواكبي والثاني :هو الشيخ محمد حسين النائيني .
الاستبداد ـ كما قال الأول ـ : هو تصرف فرد أو جماعة في حقوق قوم بالمشيئة وبلا خوف تبعة .
وأما النائيني فقال : هو استيلاء وتملك يتعامل فيه السلاطين مع الرعية كما يتعامل المالكون مع أموالهم الشخصية ويعتبرون الناس عبيدا لهم . وربما تطاول بعضهم فقال : أنا ربكم الأعلى وأنه لا يسأل عما يفعل .
الاستبداد في تاريخ المسلمين :
يتفق المسلمون على أن المرحلة التي تلت عصر أمير المؤمنين علي  كانت بداية الملك العضوض ، الاستئثاري والاستبداد السياسي ، وفُسر ما نقلوه عن النبي  : إذا بلغ بنو العاص ثلاثين رجلا ، اتخذوا دين الله دغلا ومال الله دولا وعباده خولا . . . بتلك الفترة .
ويمكن للمتأمل أن يلاحظ السياسة العامة في هذه الحكومة ، فيرى أنها استبدادية في أصل تولي السلطة حيث أنها لم تأت من خلال مشورة الناس ، فضلا عن النص الشرعي ، ولم يكن أولئك الحكام يمتلكون الصفات التي تؤهلهم لقيادة الناس ، كما هو واضح في سيرتهم .واستبدادية في إدارتها للشأن العام .
ولا ينكر أولئك الحكام استبدادهم بل يظهر ذلك من خلال أقوالهم العامة للناس :
ـ فقد ذكر المؤرخون أن معاوية بن أبي سفيان لما أراد أخذ البيعة لابنه يزيد ، قام الخطباء واحدا بعد الآخر لكن سيد الخطباء كما وصفه معاوية كان يزيد بن المقنع الكندي الذي قال : أيها الناس أمير المؤمنين هذا ـ وأشار إلى معاوية ـ قاد الملك ، فإذا مات فوارث الملك هذا ـ وأشار إلى يزيد ـ ، فمن أبى فهذا ـ وأشار إلى السيف ـ ! واستحسن معاوية ذلك منه ، وقال اجلس فأنت سيد الخطباء !!
وابنه يزيد في موقفه تجاه الامام الحسين فإنه قد بعث رسالة لواليه على المدينة الوليد بن عتبة : أن يأخذ الحسين وابن الزبير وابن عمر بالبيعة أخذا شديدا ليس فيه رخصة حتى يبايعوا .. وفي نقل آخر : إن بايع الحسين وإلا فاضرب عنقه وابعث إلي برأسه .
ومن ذلك أيضا ما ينقل من قول الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان : لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه ، وإن الجامعة التي جعلتها في عنق عمرو بن سعيد لعندي . وقول الحجاج الثقفي : والله لا آمر أحدا أن يخرج من باب من أبواب المسجد فيخرج من غيره إلا ضربت عنقه .
إننا نعتقد أن من أعظم الجرائم التي تحققت على يد النظام الأموي في تاريخ المسلمين تكريس حكم الاستبداد كما لو كان هو طريقة الإسلام في الحكم .بحيث أصبح هو النموذج منذ أن كرسه معاوية بن أبي سفيان بتولية ابنه يزيد ، مع أنه غير مناسب لذلك الموقع بحسب النظرة الدينية ، وغير مؤهل بحسب الكفاءة الذاتية ، ولم يأت برأي الناس ومشورتهم .
جيء بهذا النموذج ، فتكرس في الأمة حالات الاستئثار بأموال الناس من قبل فئة قليلة هي التي تحيط بالمستبد ، وأصبح غير هؤلاء وهم عامة الناس في حالة حرمان عام ، سواء من حقوقهم الاقتصادية أو السياسية .
ولم يقتصر الأمر على زمان معاوية بحيث يعتبر ذلك الزمن فترة طارئة لا تلبث أن تزول ، وإنما أصبح منهجا وطريقة في الحكم ، خصوصا مع عدم تبلور منهج آخر في الحكم بعدما اختلفت طرق الحكم في أيام الخلفاء بعد وفاة رسول الله  ، ولم تتح الفرصة لأمير المؤمنين  لكي يواصل ما بدأه ..
صار الحكم الاستبدادي الوراثي غير المعتمد على الكفاءة ولا على رأي الناس وانتخابهم ، هو النموذج لحكم الإسلام ، والصورة الظاهرة له ، واستمر طيلة أيام الأمويين بل حتى الخليفة عمر بن عبد العزيز الذي عُرف بحسن فعله ، إلا أنه وصوله إلى الحكم كان على أساس هذا التوريث ولم يكن من خلال رأي الناس ، فضلا عن التنصيب الديني !
والعباسيون ـ والمفروض أنهم جاؤوا على خلفية معاداة الأمويين ومحاربتهم إلا أنهم لما حكموا ـ تمثلوا نفس المنهج تماما ، سواء في أصل الحكومة والوصول إليها ، أو في تفاصيل إدارة الاقتصاد والسياسة . واستمر الوضع في بلاد المسلمين هكذا حتى جاء العثمانيون بنفس الطريقة ومارسوا نفس الأساليب ، ومن النادر أن نجد فترة من فترات المسلمين قد خلت نهائيا من هذا النموذج ..


كيف ينشأ الاستبداد وتتراجع الشورى ؟
مع ملاحظة أن نظام الإسلام قام على تركيز الشورى كنظام في المجتمع والحرية كقيمة في الفكر ، فكيف ينشأ الاستبداد مع ذلك في بلاد المسلمين ؟
للاستبداد مناشيء كثيرة منها :
1/ تمجيد فكر الاستبداد وأشخاصه :يتأثر النظام الاجتماعي تأثرا كبيرا ومباشرا بالنظام الثقافي ، وفي العادة يتجسد الثاني في الأول ، فإذا كانت الثقافة السائدة في المجتمع خرافية فإنها تصنع طبقات مؤمنة بالخرافة وممارسة لها ، وإذا كانت ثقافة المجتمع عقلية وعلمية فإنها تسوق المجتمع باتجاه القضايا العقلية والانجاز العلمي ، وهكذا الحال هو في القضايا الاجتماعية ، فعندما تمجد عقيدة المجتمع ـ ثقافته وفكره ـ العدل والانصاف فإن الاستبداد هنا لا يجد له مجالا للنمو ، وهكذا ..
لقد رأينا أنه في البلاد التي يمجَّد فيها الاستبداد ، وتعظَّم فيها شخصياته تكون مهيأة أكثر من غيرها لقبول الاستبداد الجديد ، ولإنتاج مستبدين جدد .. ومن هنا فإننا ننظر بعين الريبة إلى محاولات البعض لإحياء شخصيات الاستبداد في تاريخ المسلمين .
كما أن إظهار الاستبداد بأنه قوة وحزم ، وأن الشورى واستفادة الرأي ضعف وخور ، هو من تمجيد الاستبداد ، فقد نقل عن عبد الله بن طاهر قوله : لأن أخطئ مع الاستبداد ألف خطأ أحب إلي من أن أستشير وأُرى بعين النقص والحاجة .
كما نقل بعض المؤرخين أن من أسباب نكبة الخليفة العباسي هارون الرشيد للبرامكة ، استماعه لشعر بعض ندمائه :
ليت هندا انجزتنا ما تعد وشفت أنفسنا مما نجــد
واستبدت مرة واحــــدة إنما العاجز من لا يستبد
فأقبل هارون يكررها : إنما العاجز من لا يستبد .
ونحن وإن كنا نشكك في ذلك ، ونعتقد أن القضية من الناحية التاريخية أوسع مما ذُكر إلا أن البيت الثاني يبين الفكرة الخاطئة التي تعظم الاستبداد ، وتراه قوة وقدرة .
على العكس نرى أن الاستبداد شر مطلق ، وأن ما يجري لتسويق أفكار من قبيل حاجة الشرق إلى المستبد العادل هو من جمع ما لا يجتمع ، إذ الاستبداد ـ بالنحو الذي عرفناه فيما سبق ـ طبيعته تختلف جذريا مع طبيعة العدل ، وطالب العدل منه ( متطلب في الماء جذوة نار ) .
وهذه الفكرة وإن نسبت للسيد جمال الدين الأفغاني ، إلا أن النسبة لم يعلم صحتها بل المعلوم خلاف ذلك ، ولو صحت فإنها خاطئة على كل حال ، لو أريد منها ما هو المفهوم من ظاهرها . فإنه سيأتي ـ في صفحات قادمة ـ كيف أن الإسلام يفكك بنية الاستبداد ويقبحه على المستوى الأخلاقي ، ويقنن إلغاءه على المستوى التشريعي .
2/ جهل الناس بحقوقهم : لقد كان الجهل مصدر كل شر ، ومن ذلك الجهل بنمط العلاقة التي ينبغي أن تكون بين الحاكم والمحكومين ، فإن بعض المحكومين يرى أن للحاكم عليه كل الحقوق دون أن يكون لهم أي حق عليه ، وإذا أعطاهم شيئا من الفتات فهو تفضل منه وتكرم !!
بينما الصحيح هو أن العلاقة بين الحاكم والمحكومين تبادلية ، وتخضع لقانون ديني أو تعاقد اجتماعي . ولهذا وجدنا الولاة الصالحين ، يصرحون بأن للناس حقوقا وأن على الحاكم أن يوفرها لهم ، وفي غير هذه الحالة فهو لا يملك الحق عليهم مع الاخلال بحقهم .
وقد أشار المحقق النائيني في كتابه (تنبيه الأمة و تنزيه الملة) إلى هذه الجهة فقال فيه تحت عنوان : استقصاء قوى الاستبداد الملعونة : أول تلك القوى وعلتها وروحها هو الجهل ، جهل الأمة بالحقوق والواجبات المتبادلة بينها وبين السلطة ، فمثلما كان العلم سبيلا إلى جميع السعادات فكذلك الجهل هو منشأ ومنبع كل الشرور والمؤدي إلى أسفل الدركات وهو الذي يحمل الانسان على عبادة الأصنام وإشراك الفراعنة والطواغيت مع الخالق سبحانه وتعالى ، وبوجود الجهل ينسى الانسان أو يغفل عن عن حريته الله وهبها الله له ، ويذهل عن تساويه مع الجبابرة والغاصبين في جميع الأمور بل يسعى لتطويق رقبته بنير العبودية لهم بينما يعتبر حريته التي هي أعظم النعم الربانية وأهم مقاصد الأولياء ، أمرا موهوما .
3/ استمراء الخضوع والذل والتعود عليه : يرى أحد الكتاب الغربيين : أن المستبد هو صنيعة المستبَد بهم وأنهم هم الذين أعطوه الكف التي تصفعهم ، والرجل التي تدوسهم ، ولو رفعوا يدهم عنه لسقط كالتمثال ) من هنا رأينا توجيهات أئمة الهدى الرافضة للظلم ، مخاطبة الناس بأن لا يقبلوا الذل ، حتى على المستوى النفسي فضلا على المستوى الخارجي . وسواء قدروا على تغييره في واقعهم أو لم يستطيعوا ذلك . فهاهو أمير المؤمنين علي  يقدم نموذج الشخص الخاضع لظالمه المستبد به ، القابل لطغيانه كنموذج كريه سيء لا ينبغي أن ينظر إليه بالتقدير ، بينما يقدم نفسه الشريفة على الطرف المقابل ، وأنه لا يصل إلى ذلك إلا بعد أن يجاهد ويقاتل بكل ما وسعه حتى لا يصل إلى هذه المرحلة . ( والله إن امرأ يمكن عدوه من نفسه يعرق لحمه ويهشم عظمه . ويفري جلده لعظيمٌ عجزه ضعيف ما ضمت عليه جوانح صدره .. أنت فكن ذاك إن شئت !! فأما أنا فو الله دون أن أعطي ذلك ضربٌ بالمشرفية تطير منه فراش الهام . وتطيح السواعد والأقدام . ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء ) .
ويخاطب البشرية داعيا إياها إلى أن تتمرد على القهر ، وغلبة المستبدين ، حتى تحوز على الحياة التي تستحق والتي خلقها الله لها ، وأن الموت الحقيقي هو عندما يعيش المرء مقهورا مسلوبا مستبَدا به ، بينما عندما يقهر عدوه وينتصر على طغيانه في حقه يكون قد عاش الحياة الحقيقية ، وإن كان في الظاهر قد مات . فيقول ( الموت في حياتكم مقهورين ، والحياة في موتكم قاهرين ) . ويرى أن قبول الانسان بالاستعباد ، وخضوعه له مخالفة للجعل الالهي ، والنعمة الربانية التي أكرمه الله بها ، ولذا ينهاه عن ذلك قائلا بشكل حازم ( لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا ) .
ويقارن بعض الباحثين بين كلام الامام علي  وبين كلام الخليفة عمر : متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ) بأن الفارق كبير بين الكلامين ، فإن الثاني يخاطب المستبدين والمستعبدين ، ويطلب منهم ألا يستعبدوا الناس ، من دون أن يكون لذلك ضمانة قانونية ، على أن المستبد متى وجد مجتمعا قابلا للاستعباد والاستبداد فإنه لن يتأخر في استعباده ، غير أن كلام الإمام علي  يخاطب الناس والرعية فيحرك فيهم حريتهم ، ويثير فيهم رفض العبودية لغير الله . ولعل هذا هو الذي أشار إليه المحقق النائيني رحمه الله في بعض كلماته بأنه يلزم رفض الاستبداد لأنه ينتهي إلى الشرك بالله .
آثار الاستبداد في الأمة :
في استعراض الكواكبي لآثار الاستبداد السياسي ، جعله أساس الداء الموجود في الأمة ، فقد قال في مقدمة كتابه : (كل يذهب مذهبا في سبب الانحطاط و في ما هو الدواء. ‏وحيث أني قد تمحص عندي أن أصل هذا الداء هو الاستبداد السياسي و دواؤه دفعه بالشورى الدستورية . وقد ‏استقر فكري على ذلك – كما أن لكل نبأ مستقر – بعد بحث ثلاثين عاما... بحثا أظنه كاد يشمل كل ما يخطر على ‏البال من سبب يتوهم الباحث عند النظرة الأولى انه ظفر بأصل الداء أو بأهم أصوله , ولكن لا يلبث أن يكشف له ‏التدقيق أنه لم يظفر بشيء . أو أن ذلك فرع الأصل , أو هو نتيجة لا وسيلة ).
فللاستبداد في نظر الكواكبي أثر سلبي مخرب على العلم والمعرفة ، حيث أن المستبد يحب بقاء الجهل والخرافة ، إذ أن المجتمع متى صار واعيا وعالما ، صار رقيبا على المستبد ، ولذا كان بين العلم و الاستبداد حرب مستمرة , بينما يسعى العلماء في تنوير العقول يجتهد المستبد في إطفاء نورها , ‏و الطرفان يتجاذبان العوام في ذلك . العوام الذين إذا جهلوا خافوا , و إذا خافوا استسلموا , ومتى علموا قالوا ومتى قالوا ‏فعلوا .
كما أنه يربط بين الاستبداد وبين الفساد سواء فساد الأخلاق أو ما هو أعم منها ، (الاستبداد يتصرف في أكثر الأميال الطبيعية و الأخلاق الحسنة , فيضعفها أو يفسدها أو يمحوها فيجعل الإنسان يكفر ‏بنعم مولاه , لأنه لم يملكها حق التملك ليحمده عليها حق الحمد , ويجعله حاقدا على قومه لأنهم عون لبلاء الاستبداد ‏عليه, و فاقدا حب وطنه , لأنه غير آمن الاستقرار فيه و يود لو انتقل منه , ... أسير الاستبداد لا يملك شيئا ‏ليحرص على حفظه ,لأنه لا يملك مالا غير معرض للسلب و لا شرفا غير معرض للإهانة . ضعيف الحب لعائلته , ‏لأنه ليس مطمئنا على دوام علاقته معها , و مختل الثقة في صداقة أحبابه , لأنه يعلم منهم أنهم مثله لا يملكون ‏التكافؤ , و قد يضطرون لإضرار صديقهم بل و قتله و هم باكون . و هذه الحالة تجعل الأسير لا يزوق في الكون لذة نعيم غير بعض الملذات البهيمية ) .
ولو أردنا أن نضيف بعض النقاط إلى ما سبق فإن الاستبداد :
1/ يخلق الانسان العاجز والمجتمع العاجز ، الذي لا يملك حولا ولا طولا ، فإن الاستبداد يعني أن كل شيء بيد المستبد ، وحين يكون كذلك لا يشعر من حوله بالقدرة ، فيكون عاجزا عن مواجهة التحديات ، ولذلك تسقط الدول المستبدة في أول مواجهة .. عاجز في الفكر : لأنه يؤمن بشخص يقول : ( ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ) فهو يعطل قدرة هؤلاء الناس على رؤية الحقائق ، وينظر فيها بدلا منهم ، ويفكر بالنيابة عنهم ، ولا رأي لهم مع وجوده ولا يحتاجون إلى إعمال فكرهم ما دام سيدهم وحامي حماهم موجودا ، ولهذا يستنكر عليهم لو أن أحدا منهم قد ( تجرأ ) واختار خلاف اختيار المستبد له ، في عقيدته أو توجهاته الفكرية فإنه يرى ذلك كبيرة من الكبائر ( قال آمنتم له قبل أن آذن لكم ؟) .
2/ يعلم الاتباع الكاذب و المخالفة المستترة : وهذا من إفساد الاستبداد للأخلاق كما تقدم ، فإن الصدق عند المستبد مهلكة ، والرأي الصحيح يصنع مشكلة . ولهذا يطيع الناس في الظاهر ويخالفون في الواقع ، تماما كما جرى في قصة السلطان الذي أمر الناس أن يملؤوا القدر الكبير لبنا فملؤه ماء . فإنهم يذكرون قصة معبرة وهي أن أحد السلاطين اضطر رعيته إلى أن يملؤوا قدرا كبيرا من اللبن الخالص بأن يأتي كل منهم بقدح مملوء منه ، بحيث لا يصبح الصباح إلا وقد امتلأ ، فكان كل واحد من الرعية يأتي بماء ويقول ماذا يضر لو أنني جئت بهذا المقدار من الماء بدل اللبن ، ومن الذي سيكتشف ذلك .. فكر كل واحد منهم بهذه الطريقة ، وما أن طلعت الشمس حتى بانت الحقيقة ورئي ذلك القدر الكبير مملوءا بالماء دون اللبن .
3/ يعيد الاستبداد إنتاج نفسه في المجتمع بصور جديدة : فالمواطن المسؤول مثلا خانع لمن فوقه من السلطات وأسدٌ على من تحته من المواطنين .. والرجل يستبد بالمرأة ويستعيد كل صور استبداد رؤسائه به في ممارسته مع زوجته داخل البيت ، فيتحكم تعسفا ، ويعاقب من غير مبرر ، ويلغي رأي وفكر تلك الزوجة تماما كما أنه ملغي من ساحة القرار السياسي والاجتماعي على يد من هو أعلى منه .
وهذه المرأة تستبد بطفلتها في تربيتها ، والمدرس يستبد بطلابه ويتلذذ بمعاناتهم ويطرب لتوسلاتهم إليه ، ويعيش حالة التعويض عن استبداد مسؤوله به ، ورئيسه في حقه .. وهكذا ..
السلطان يستبد برجل الدين والعالم ، وهذا يستبد بمن يتبعه فيتحكم به ويذله ويهينه لأنه لا يفهم ولا يفقه ، وأنه كيف عمل العمل الفلاني من العبادات أو المعاملات ؟
4/ الاستبداد يخدع الناس عن الحقائق : ويزيف المعرفة عليهم ، عندما يجعل الخيارات أمامهم محدودة ، فيصور أن البديل له هو الكفر ! وأنه لو تنحى لجاء السيل العرم ! وأن وجوده هو الأمان من المهالك ! لقد كان فرعون مصر والطبقة المستبدة حوله يقولون لأهل مصر في مقابل دعوات الحرية التي جاء بها نبي الله موسى وأخوه هارون ( إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى) ، وفي العصر الحديث كان شاه ايران يهول على الناس أنه عندما يضعف سلطانه سوف يأتي الشيوعيون الملحدون ويفسدون عقائد المسلمين !
وبعض سلطات البلاد المسلمة اليوم تخوف الناس من الديمقراطية بأن معنى الديمقراطية والحرية شيوع الاباحية الجنسية ، وأنه لا تبقى الأخلاق في بلاد المسلمين ! أو تخوفهم بأن الاصلاح الذي يأتي من الخارج فيه شرور كثيرة ، هذا مع أنهم لا يقومون بالاصلاح من الداخل ..
الاستبداد والديمقراطية : البعض يعارض الديمقراطية بزعم أنها وافد غربي ، فيتمسك بالاستبداد ، وإذا نظرنا إلى القيم التي يُتحدث عنها في النظام الديمقراطي ، من اختيار الناس ورأيهم بما في ذلك حق المرأة في الانتخاب .، ومن سيادة القانون فوق الحاكم والمحكوم ، ومن مساءلة ومحاسبة الجميع ، وفصل السلطات عن بعضها واستقلالها .. لرأينا أن أكثرها لا يبتعد عن الدين . فالمشكلة ليست في عداء اصطلاحات ولا معارضة تسميات ، وإنما المواقف تبنى على أساس واقع تلك التسميات ، فما هو معروف اليوم بعنوان الديمقراطية ، يقوم على أسس قد تنتهي إلى ما يوافقها في الدين من لزوم الشورى ، والعدالة .
لقد كان امتناع الحسين عن بيعة يزيد رفضا للاستبداد بأعلى الأصوات . وقد دفع في سبيل موقفه هذا الشاجب للاستبداد والطغيان أغلى الأثمان ، من دماء أصحابه وأهل بيته ، وتوج كل ذلك بدمه الشريف صلوات الله عليه .






















6/الاستبداد الديني والتعصب

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)
في إطلالة سريعة على الآية المباركة نجد أن فيها لونا قويا من التقريع والتوبيخ والوصف القاسي لتلك الفئة من الأحبار والرهبان ورجال الدين الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله ، ولعلك تتعجب كيف أن القرآن الكريم يفترض في هؤلاء الذين هم سدنة الدين ( الأحبار والرهبان والقسيسون ) وعموما رجال الدين كيف أن موقعهم الطبيعي هو أن يقربوا الناس إلى سبيل الله وأن يذكر مرآهم وشخصيتهم بدين الله ، ولسانهم إلى نهج الله ، فإذا بالقرآن يتحدث عن أن كثير من هؤلاء يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله ، وأن دورهم قد أصبح هو الصد عن سبيل الله !
كيف يتحول هذا الانسان الذي فرض فيه أن لديه العلم والمعرفة والآيات إلى أن يشبهه الله في القرآن بمثل الكلب ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ) ، إذ أن هذه الآيات فيها إمكان السمو بهذا ا لانسان والارتفاع به إلى رحاب الله . بينما قد انسلخ منها ، فمثله في تلك الحالة ( مثل الكلب ) . وفي موضع آخر يشبهه بالحمار ( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ، فما الذي ينفع الحمار أن يحمل على ظهره أثقالا من الكتب وأحمالا منها ، يبقى في الأخير حمارا !
إن مثل هذا التعبير القاسي لا نجده إلا في حق هذه الفئة من علماء الدين وأهل الكتاب لكي يحذر بقية العلماء من الانحراف !
استبداد الكنيسة ونتائجه :
كان حدوث الاستبداد لدى أرباب الكنيسة في أوربا ، واستيلاؤهم على مقدرات الناس ، وتسلطهم عليهم ، سببا رئيسا في حدوث الطلاق بين الدين المسيحي وبين الناس ، فإنهم في البداية استبدوا بالجانب العلمي ، وزعموا أن حقائق العلم محصورة بيدهم ، وهي ليست إلا التي في الكتاب المقدس ، فكفّروا من خالفهم في نظرياتهم ، فقد نقل أن غاليلو عندما حاكموه بتهمة مخالفة الكنيسة ( ومخالفة الله بالتالي ) اضطر إلى موافقتهم ثم خرج وضرب على الأرض قائلا أيتها الأرض أنت تدورين حول الشمس رضي أرباب الكنيسة أم لا .
هذا الاستبداد جعل الحياة الغربية منفصلة عن الدين ، وبذر فيها بذور العلمانية البعيدة عنه ، بحيث صار الدين أمرا شخصيا ، لكن لا تأثير له في الحياة العامة اجتماعيا أو سياسيا .
هكذا هم أهل الاستبداد فإنهم يرون أن الحقيقة وقف عليهم ، والمعرفة حكر عليهم وكما قال أمير المؤمنين  في صفة بعض العلماء ( لا يحسب العلم في شيء مما أنكره ) . بينما الحقيقة هي أنه ( حفظت شيئا وغابت عنك أشياء ) .
بل أكثر من ذلك هم يحتكرون الجنة ، فهم الفرقة الناجية والتي أعدت لها الجنة وغيرهم سيصلى نار سقر ! حتى أن أحدهم قيل له إن فلانا المسيحي قد تشيع ، فقال : بئس ما صنع انتقل من زاوية من نار جهنم إلى زاوية أخرى !
ومنشأ فكرة صكوك الغفران التي كانت بعض الكنائس تمنحها هو من هذا ، فإذا جاء المذنب واعترف أمام القس بذنوبه ، واشترى منه الغفران ، فقد حصل على المغفرة وبالتالي على موضع في الجنة .
إن ذلك هو من بيع الوهم على الناس والذين يقومون به إنما (يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ) بل (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) لأن هذا الطريق الكاذب سرعان ما يكتشف وآنئذ سيكون تراجع الناس عن طريق الله ، فلا يصدقون حتى العالم الصادق والواعظ الأمين .
ونفس هذا الأمر من التغفيل والاستهبال نجده في مجتمعاتنا المسلمة ..ويصطلح البعض على هذا التعامل بين فئات الاستبداد الديني ومجتمعاتها بالاستحمار .
علامات الاستبداد الديني :
من علامات الاستبداد الديني ، أنه يسوّغ فعل المستبدين والظلمة ..وله في كل ميدان فتوى حسب الطلب ! فالظالم يقوم بالإثم ، وهذا العالم يقوم بالتبرير .. ويعبر الامام زين العابدين علي بن الحسين u في رسالته لمحمد بن شهاب الزهري ـ وقد كان قاضيا لبني أمية وملتصقا بهم مدة من الزمن ـ عن هذه الحقيقة بأبلغ بيان :( واعلم أن أدنى ما كتمت وأخف ما احتملت أن آنست وحشة الظالم وسهلت له طريق الغي بدنوك منه حين دنوت وإجابتك له حين دعيت ، فما أخوفني أن تكون تبوء بإثمك غدا مع الخونة ، وأن تسأل عما أخذت بإعانتك على ظلم الظلمة ، إنك أخذت ما ليس لك ممن أعطاك ودنوت ممن لم يرد على أحد حقا ولم ترد باطلا حين أدناك . وأحببت من حاد الله أوليس بدعائه إياك حين دعاك جعلوك قطبا أداروا بك رحى مظالمهم وجسرا يعبرون عليك إلى بلاياهم وسلما إلى ضلالتهم ، داعيا إلى غيهم ، سالكا سبيلهم ، يدخلون بك الشك على العلماء ويقتادون بك قلوب الجهال إليهم ، فلم يبلغ أخص وزرائهم ولا أقوى أعوانهم إلا دون ما بلغت من إصلاح فسادهم واختلاف الخاصة والعامة إليهم . فما أقل ما أعطوك في قدر ما أخذوا منك . وما أيسر ما عمروا لك ، فكيف ما خربوا عليك .
وهذا التسويغ للظالم والتبرير للآثم لا يقتصر على معاصريه ، فربما يحصل هذا على فتات من مائدة الظالم ، ولكن هلم الخطب في غير المعاصرين له .. فماذا ينتفعون ؟ وعلامَ يحصلون ؟ فانظر مثلا إلى ابن العربي المالكي الذي يتحدث عن ثورة الحسين u التي أحيت الدين ، بمنطق أن الحسين قد قُتل بسيف جده !
ـ يعني أيضا : الاستبداد بفهم الدين ، واعتقاد أن الحقيقة ملكهم ، فالواحد منهم لا يرى شيئا من العلم عند غيره ، والحقيقة ليست إلا لديه ، مع أنه لا يتميز في الواقع بشيء على الآخرين من اتصال بالوحي مثلا أو انكشاف الحقائق لديه , ولكنه ( لا يحسب العلم في شيء مما أنكره ، ولا يرى أن من وراء ما بلغ مذهبا لغيره ) بل الاستبداد بالجنة وامتلاكها ( وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ..) . وتقرير من هو ذو الدين ومن ليس كذلك ..
من هنا كان الاستبداد الديني أسوأ من استبداد القوة والسلطة والسياسة . سواء قلنا بأنه هو الحاضن الذي ينشأ من خلاله استبداد الملوك والسياسيين كما قال الشيخ عبد الرحمن الكواكبي . أو قلنا إنهما توأمان لا يفترقان ، كما قال الشيخ محمد حسين النائيني . إلا أن الاتفاق على كون الاستبداد الديني أخطر من السياسي ، وأصعب منه لأسباب متعددة :
الأول : أن سلاح الاستبداد الديني هو الآيات والروايات ، والكلام باسم الدين .. في مقابل أن المستبد السياسي إنما يستطيع أن يسجن أو يقتل . ومثل هذا المسجون أو المقتول يتحول عند الناس إلى بطل أو شهيد ! بينما المستبد الديني لا يصنع ذلك مع من يعارضه ، وإنما يلغي وجوده الديني والاجتماعي ، يلغي شخصيته فيجعله فاسقا أو مبتدعا أو ربما كافرا .. والسلاح في ذلك آيات القرآن ، وروايات النبي 1 .
وذلك لأن ( حقيقته عبارة عن إلقاء عباءة الدين على الرغبات والارادات الشخصية البحتة ، لبعض المتلبسين بزي العلماء الذين استغلوا جهل الأمة بنفسها وجهلها بمقتضيات دينها فأوهموها بأن ما يدعونها إليه هو الدين الحنيف الذي يجب اتباعه وطاعتهم فيه ) .
الثاني : أن أثر الاستبداد الديني يبقى إلى أزمنة طويلة ، بينما أثر الاستبداد السياسي قد لا يكون له ذلك الأثر المستمر حيث أنه بموت المستبد أو بنهاية دولته ينتهي أثره . وذلك أن الاستبداد الديني يتحول إلى فتوى ونظرية ، وثقافة ، وهذه من شأنها أن تعبر الزمان ، وتصبح منهجا .
ولهذا وجدنا المستبدين السياسيين يسعون باستمرار إلى نفخ الحياة في جسم المذاهب الاستبدادية ، الجبرية ، لأنهم بمقدار ما يحيونها تحييهم وبمقدار ما ينشرونها تنفعهم !
إن ما نجده من تشويه لهذا الدين الذي جاء رحمة للعالمين ، مخلصا البشرية من الأحقاد والأغلال ، بمنطق ( الناس إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق ) هذا التشويه لم يكن وليد يوم التكفيريين الجدد ، وإنما هو نظرية السابقين من أنصار الاستبداد الديني الذين وضعوا بذرة التكفير والتفسيق والتبديع .

الثالث : أن هذا المنهج الاستبدادي يجعل لنفسه ما لم يجعل الله لذاته المقدسة ولا لرسوله المكرم ! فالله الذي خلق الناس ورزقهم وأعطاهم ، قال لهم في أمر الاعتقاد بالله أنتم أحرار .. والحساب مؤجل ليوم القيامة ( وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) لكن يتحمل الكافر مسؤولية كفره يوم القيامة فـ (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً) (الكهف:29)
فالله لم يجعل لنفسه في هذا الدنيا إكراه الخلق ، وقال ( لا إكراه في الدين ) ، لكن هؤلاء جعلوا لأنفسهم حق إكراه الغير على معتقدهم ، وطريقتهم واسلوب تفكيرهم ، فمن لم يكن على طريقتهم تتخذ تجاهه الاجراءات المباشرة ، يضيق عليه مجال الحركة ، وأفق الرزق ، وهكذا .
والأمر نفسه لم يجعله الله لنبيه مع أنه أفضل الكائنات ، وأعظم قامة في تاريخ البشر ، فنحن نسمع قول الله في أمر حازم لنبيه المصطفى (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) ) (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) ، و( قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) (وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) .
الاستبداد الديني يشيع الكراهية للغير بدواعي مختلفة ويحتجب حقوقهم : ()وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران:75) فهم مع أهل الديانات الأخرى يكرهونهم باعتبارهم كفرة ، ومع أهل الطوائف الأخرى باعتبارهم مبتدعة ومشركون ، ومع أهل المذهب الواحد ممن يختلف معهم باعتبارهم علمانيون .. وهكذا . ومن هنا كان تفرق الكلمة ، والتمزق الاجتماعي قرينا للاستبداد الديني كما رأى المحقق النائيني ، ذلك أن اتحاد الأمة واجتماع كلمتها هو العائق الأول أمام مخططات الجبابرة والمستبدين ، لذلك فهم يسعون في كل حال إلى استئصال قوة المقاومة هذه ، باصطناع أسباب الفرقة .


كيف ينظر الإسلام للفئة الدينية
لكيلا ينشأ الاستبداد الديني

لسنا بحاجة إلى التأكيد على موقف الاسلام من العلم وأهله . وبالطبع فإن أوضح مصاديق العلم الذي تؤكد عليه الأحاديث هو العلم بالدين .
فبدءا من أن الله سبحانه جعل أهل العلم ـ والملائكة ـ إلى جانبه في الشهادة على وحدانيته ، وعدالته ، وعزته وحكمته كما في قوله تعالى ( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ، إلى إخباره عن الراسخين في العلم أنهم ـ كخالقهم ـ يعلمون تأويل الآيات وأبعادها المختلفة ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) ، وإلى كون المخلوقات الأخرى ـ تقديرا منها لحامل العلم والساعي فيه ـ تستغفر له . وأخيرا بجعله من أقرب الناس شبها في درجته بالأنبياء .
إلا أن ذلك مربوط ومرهون بمسؤوليته ، في العمل بعلمه بالنسبة إلى نفسه ، وفي نشر العلم للناس . وإلا فمع تخليه عن أحد الأمرين لا يعود له تلك الأهمية . فإن ( ثمرة العلم العمل به ) و ( على العالم أن يعمل بما علم ثم يطلب تعلم ما لم يعلم ) بل إن هناك عملية تلازم بينهما حيث ( العلم مقرون بالعلم فمن علم عمل ، والعلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل عنه ) . و( اعلم أن قليل العلم يحتاج إلى كثير العمل لأن علم ساعة يلزم صاحبه استعماله طول عمره ) .
إن العالم العامل بعلمه يتحول من خلال ذلك العمل إلى نور الله في ظلمات الأرض .
في المقابل فإن العالم إذا انسلخ من علمه ، واستأكل به واستغل جهل الناس لأجل عمارة دنياه ، وتعامل مع الظالمين في وجه المؤمنين فإنه حينئذ يكون جاهلا ، بل هو شر الناس ويُقرن في هذه الحالة بفرعون وابليس ، ففي الخبر أن النبي  سئل عن شر الناس فقال : العلماء إذا فسدوا ..
وقد ضرب القرآن مثلا للمسلمين لكي يحذروا هذه الفئة الفاسدة من العلماء ، حين تحدث بأعنف ما يكون من اللفظ عن بلعم بن باعورا ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ* وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) . ويفسر الامام علي بن موسى الرضا ذلك بقوله : أعطي بلعم بن باعورا الاسم الأعظم وكان يستجاب له فمال إلى فرعون ، فلما مر فرعون في طلب موسى وأصحابه قال فرعون لبلعم : ادع الله على موسى وأصحابه ليحبسه علينا فركب حمارته ليمر في طلب موسى ، وانسلخ الاسم الأعظم من لسانه وهو قوله ( فانسلخ منها ..) .
ذلك أن العالم لما كان في هذا الموقع المتميز كان خطؤه مضاعفا ، وزلته تفسد عوالم ، ذلك أن ( زلة العالم كانكسار السفينة تغرق وتُغرق ) .
وأيضا فهو مسؤول عن علمه في بثه وتبيينه ، إذ أخذ الميثاق على العلماء (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) ، ولقد توعد القرآن الكريم أولئك العلماء الذين يكتمون العلم ، ويبقون الناس في جهلهم ـ بالتالي ـ أو أنهم يحولون العلم تجارة بعد أن كان بصيرة وهدى ، بأشد العقوبات في قوله ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) .
إن الضلال الفكري للأمة ( سواء في دينها ، أو في سياستها ، أو اقتصادها ..) قد يحدث بسبب تخلي هؤلاء العلماء عن ممارسة دورهم التنويري والتوجيهي ، فإنه ( إذا ظهرت البدع في أمتي فليظهر العالم علمه ، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله ) .
ثم إن هذا القبول الطوعي من قبل الناس بالعالم يجب أن لا يتحول إلى نحو سيطرة وسلطة منه عليهم ، فإن القرآن الكريم يخاطب الرسول الأعظم  وهو أفضل البشر ـ وهذا من باب إياك أعني واسمعي يا جارة ـ بأنه ليس له سيطرة على الناس ، وإنما دوره التذكير والبلاغ ، والتوعية ، ثم يقوم الناس باختيار ما يريدون بتمام حريتهم . فانظر إلى الآيات القرآنية التي تتحدث عن هذا الجانب وتأمل فيها ـ مع ملاحظة أن المخاطب فيها هو رسول الله  وهو خير الخلائق ـ .
ففي ثلاثة مواضع من آيات القرآن الكريم ، نفى القرآن أن يكون الرسول  وكيلا عليهم . وفي موضعين أمره أن يخبرهم بذلك وأنه ليس عليهم بوكيل ، ولا حفيظ . كما أنه ليس عليهم بجبار ، ولا مسيطر ، وإنما هو مذكر يثير فيهم دفائن عقولهم ، ومرتكزات وجدانهم .
فإذا كان النبي  وهو بتلك المنزلة العظمى ، دوره هو التبليغ والارشاد دون السيطرة والهيمنة ، فكيف يمتلك بعض عامة الناس من علمائهم هذه المنازل . هذا لا يمكن .
ولهذا وجدنا أن تعبيرات القرآن الكريم عن العلماء ، تبتعد كثيرا عن السلطة والسيطرة ، وتتحدث عن أنهم ( أهل الذكر ) ، وأنهم ( الذين يعلمون ) وأنهم ( لينذروا قومهم ) .
وبالتالي فإن موقعهم هو موقع الخبراء في مجال خبرتهم ، فكما أن الخبرة في الهندسة لا تعطي ولاية أو هيمنة للخبير فيها على غيره ، فكذلك الخبرة في الأمور الدينية ، نعم يكون له فصل النزاع في مجال خبرته ، وبيان وجه الحق ليس أكثر .
نعم يوجد في بعض الروايات أنهم ( حكام على الملوك ) ولكن من الواضح أنه ليس المقصود من ذلك الهيمنة الخارجية ، وإلا فعدم صدق هذه القضية ظاهر ، وإنما هي في مقام بيان المنزلة الحقيقية للعلماء وأنهم فوق الملوك ، تبعا لما يملكونه من أحكام إلهية .
ثم إن هذه المنازل الموجودة للعلماء خاضعة لرقابة الناس ، وعلى الناس أن يلاحظوا ذلك ، فإذا وجدوا من أحدهم ميلا أو هوى أو رغبة في الدنيا ، أو تجاوزا على أحكام الشريعة ، أو تبريرا لسلطانٍ إثمَه فليتبعدوا عنهم ، وليفارقوهم بل ليفضحوهم .
ما يتلخص لنا من نظر الاسلام للفئة الدينية هو ما يلي :
* إن موقع العلم بالدين في نظر الاسلام من أعظم المواقع ، وحامل هذا العلم يحصل على تقدير كبير تبعا لذلك .
* إن موقع التقدير ذاك مرتبط بتطبيق العالم علمه على نفسه ، من جهة وتبليغه للناس لارشادهم من جهة أخرى .
* إن دور هذا العالم في علاقته بالناس هو البلاغ والبيان ، وهذا لا يعطيه سيطرة عليهم أو هيمنة .
* إن موقع العالم الديني في مجتمعه ، إضافة إلى أنه مربوط بتطبيق العلم على نفسه ، وبثه في الناس ، ينبغي أن يكون تحت رقابة الناس , ونظرهم فإذا وجدوا منه غير ما هو المعهود من أمثاله من العلماء ، اجتنبوه وتنكبوه .
وبناء على ما سبق : فإن هذه النظرة لو تم التأمل فيها بدقة فإنها لا تسمح بتحول الفئة الدينية إلى جهة مستبدة من خلال سلاح الدين ، وإنما قد يحصل ذلك عندما يغفل الناس عن نظرة الاسلام تجاه الفئة الدينية التي هي ليست إلا مجموعة من الخبراء في الشأن الديني وأن مدى طاعتهم فيه مرتبط بتطبيقه على حياتهم وخطواتهم من جهة وتبليغهم إياه من جهة أخرى .
لذلك كان مهما جدا أن يتعرف الناس على ثقافة الاسلام في حق ( رجال الدين ) .
كما أن هذه الرؤية تجاه الفئة الدينية لا تسمح لرجال الاستبداد الديني أن يكون لهم موقع مهم بين الناس ، ولا تسمح لرجال الاستبداد السياسي أن يستفيدوا من موقع العلماء عند الناس .




كيف يفكك الإسلام بنية الاستبداد ؟


قد تقدم الكلام في كيفية منع الاسلام نشوء الاستبداد الديني ، أثناء الحديث عن نظر الدين للفئة العالمة بالدين ..
وبالطبع عندما نقول إن الاسلام يفكك بنية الاستبداد في المجتمع المسلم ، فلا نعني بذلك الأمر الحتمي الناجز ، وإنما المقصود هو أنه يصنع إمكانات منع حصول الاستبداد ، وتفتيته لو حصل . والتوجيه إلى ذلك بحيث لو التزم به المجتمع المسلم لما غرق في وحل الاستبداد ، وأما لو أهملت تلك التوجيهات ولم تنفذ عمليا ، فمن الممكن حصول الاستبداد بل هو واقع كما نقله التاريخ وكما يشهد به الحاضر .
مستويات متعددة :
يسعى الإسلام في تفكيك بنية الاستبداد ضمن مستويات ثلاثة : أخلاقي ، وعقدي فكري ، وقانوني .
المستوى الأخلاقي :
ينظر إلى الاستبداد على أنه ( تفرعن ) في شخصية فرد ، وتجاوز لحده الطبيعي حتى يصبح مستبدا . ويبدأ ذلك بـ ( إعجاب المرء بنفسه ) حتى لا يرى أن عند أحد ما عنده ، ولا يتصور وجود الحق عند سواه ضمن عقلية ( مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) ثم ( تكبره على غيره ) وممارسة ما يراه صوابا حتى في حق الآخرين من دون رأيهم أو مشورتهم ..
في مقابل هذا تحرص التوجيهات الدينية من المعصومين عليهم السلام على لزوم التعرف على النفس ، والنظر إلى عيوبها ونقائصها وأن العالم الحقيقي هو من يبدأ بمعرفة قدره وأن ذلك هو البداية الحقيقية لمعرفة الرب والحق وهذا واضح فإنه لا بد من تحديد المركز الذي ستنطلق منه المعرفة للغير ، من أنا ؟ حتى يتحدد من هو الآخر ، وما هي الأشياء بالنسبة لي ..ومثل هذه التوجيهات ليست أخلاقية فقط للقضاء على تفرعن الذات وتغولها بل هي إضافة إلى ذلك طريق معرفي .. ففي توجيهات المعصومين نجد أن :
( من عرف نفسه فقد عرف ربه ) كما عن النبي  ولقد دخل رجل عليه ، فقال يا رسول الله: كيف الطريق إلى معرفة الحق ؟ قال : معرفة النفس .
وذلك لأنها ( أنفع المعارف ) كما عن أمير المؤمنين علي  وأيضا عنه ، ( غاية المعرفة أن يعرف المرء نفسه ) ولذا كان ( من جهل قدره جهل كل قدر ) وجهل القدر هنا سيان بين انتقاص قدره أو الزيادة عليه .
والغاية التي تتعقبها هذه الروايات من معرفة النفس ، أن يتعقل المرء في النظر إلى ذاته ، ويعرف حدودها فلا يتجاوز تلك الحدود وبهذا ينسد طريق العجب كما عن الإمام الباقر  ( سد سبيل العجب بمعرفة النفس ) .
وفي نفس الإطار فقد تمت مهاجمة إعجاب المرء بنفسه ، في الروايات وتم التحذير من هذه الخصلة السيئة ، فإن عجب المرء بنفسه دليل على فساد عقله : كما عن أمير المؤمنين علي ( رضاك عن نفسك من فساد عقلك ) وذلك أن ( الإعجاب ضد الصواب ، وآفة الألباب ) . والأمر واضح فإن المعجب بنفسه لا يستزيد من العلم فيبقى في الجهل (العجب صارف عن طلب العلم ، داع إلى الغمط ) .
ولذا كان ينبغي الابتعاد عن كل ما يسبب إعجاب المرء بنفسه وبقدراته ، فالتملق للمعجب بنفسه ومدحه بما ليس فيه ممنوع لأنه يزيد من هذه الحالة ، و يعظم في عينيه شأن نفسه فيورده المهالك ، ولا سيما إذا كان المدح أمام الآخرين بحيث ينتفش هذا الممدوح كالطاووس فإن ( الإطراء يحدث الزهو ويدني من الغرة ) وقد سمع المقداد بن الأسود أحدهم يمدح الحاكم بين يديه فأخذ ترابا فحثاه في وجهه وقال : أمرنا رسول الله أن نحثو في وجوه المداحين التراب .
ودعت التوجيهات الأخلاقية في المقابل إلى التواضع ، والنصيحة ، وتقبل النقد واهداء العيوب . فنصحت بالتواضع للحق ( تواضع للحق تكن أعقل الناس ) ولله فـ ( من تواضع لله رفعه ) . وفي مقابل ذم التملق والمدح كان من يقوّم الأخطاء ويلاحظ النقائص في الشخص ويوجهه إلى تغييرها هو أحب الناس وآثرهم ( ليكن أحب الناس إليك من هداك إلى مراشدك وكشف لك عن معايبك ) . واعتبر أن من تستر على الشخص في عيوبه وسلبياته يكون بمثابة العدو فـ ( قد عاداك من ستر عنك الرشد اتباعا لما تهواه ) .
وفي مواجهة الفكرة الخاطئة القائلة بأن الاستبداد قوة ، وأن المشاورة ضعف ، وأن الحزم في تركها .. أكدت التوجيهات الدينية على أهمية تحلي الفرد ، والمجتمع بخصلة المشاورة في كل أمورهم صغيرها وكبيرها ، وأن ذلك مما يوجب الوصول إلى الهدف ، بينما الاستبداد بالرأي ينتج الهلكة وذلك أن ( المستبد برأيه موقوف على مداحض الزلل ) وإنما كان ( ينبغي للعاقل أن يستديم الاسترشاد ويترك الاستبداد ) لأن ( من استبد برأيه هلك ومن شاور الرجال شاركها في عقولها ) .وخلافا لما يتصور البعض من أن الشخص المهم هو من يعتد برأيه ، ويعتمد عليه ، فإن الأحاديث تقرر أن ( أفضل الناس رأيا من لا يستغني عن رأي مشير ) . والحزم ليس أن تستبد برأيك ، وتخفيه عن غيرك زاعما أن استشارتك الآخرين تنبئ عن ضعف ، وإنما ( الحزم أن تستشير ذا الرأي وتطيع أمره ) . ولو فعلت ذلك فلك الثناء في كلا الحالين من الخطأ والصواب ، فإن ( من استشار لم يعدم عند الصواب مادحا ، وعند الخطأ عاذرا ) .
إن سيرة النبي  وقادة المسلمين ، لتشير بوضوح إلى أن الشورى كانت استراتيجية دائمة لهم ، وأنه كان كل ( أمرهم شورى بينهم ) ، فالنبي  كما سيأتي في الحديث شاور أصحابه ، وهو أعرف منهم وأعلم بجهات الرأي ، ولكنه لكي يعلم المسلمين الطريقة التي ينبغي أن يكونوا عليها في حياتهم .
وهذا أمير المؤمنين الإمام علي ( عليه السلام ) يقول : بعثني رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على اليمن ، فقال وهو يوصيني : يا علي ما حار من استخار ، ولا ندم من استشار .
وكان موسى بن جعفر رأيه ممن يوازن به الجبال وربما شاور الأسود من غلمانه فقيل له : تشاور مثل هذا ؟ ! فقال : إن الله تبارك وتعالى ربما فتح على لسانه .كما نقل عنه ابنه علي بن موسى الرضا ، الذي كان بدوره يشاور أصحابه ، فقد قال معمر بن خلاد : هلك ( مات ) مولى لأبي الحسن الرضا فقال : أشر علي برجل له فضل وأمانة ، قلت : أشير عليك ؟ قال : نعم إن رسول الله كان يستشير أصحابه ثم يعزم على ما يريد .
وأما المستوى العقدي والفكري :
فإنه خلافا لما أشاعته قوى الاستبداد السياسي والديني في فكر المسلمين من أن وظيفتهم هي الخنوع والخضوع للظلم والاستخذاء للقوي الذي يتولى الحكم , فإن الرأي الصحيح هو ما تأصل كمبادئ في القرآن الكريم ، وتم شرحه على لسان النبي والقادة الربانيين ، وهو الذي يأبى ذلك الخضوع ولا يعترف بإمامة الظالم المستبد ولا يراها شرعية ويدعو إلى مقاومتها ، وتغييرها .
وفي المجال الفقهي فقد أكدت الروايات على عدم جواز الترافع والتقاضي إلى أئمة الاستبداد والجور ففي مقبولة عمر بن حنظلة قال سألت أبا عبد الله  عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة أيحل ذلك ؟ فقال  : من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت وما يحكم له فإنما يأخذه سحتا وإن كان حقه ثابتا لأنه أخذه بحكم الطاغوت وقد أمر الله تعالى أن يكفر به .
ومنعت من التعامل معه كسلطة شرعية ، فلا يمكن التعاون معه ولا العمل ضمن دائرته ، ولا قبول هداياه وعطاياه ..مما هو مفصل في كتب الروايات والفقه .
وفي روايات أهل البيت نجد أن الظالم والفاسق لا يكون إماما حتى على مستوى صلاة الجماعة فضلا عن قيادة الناس العامة ، فلا تصل النوبة إلى أنه هل يُخلع أو لا ؟
ذلك أن ( ولاة الجور شرار الأمة ، وأضداد الأئمة ) الشرعيين والحقيقيين ، ولذا كان ( سبع أكول حطوم خير من وال ظلوم غشوم ) . وهذا الذي يجعل مثل علي بن أبي طالب يـ ( أسى أن يلي أمر هذه الأمة سفهاؤها وفجارها ، فيتخذوا مال الله دولا ، وعباده خولا ، والصالحين حربا ، والفاسقين حزبا) .بل وعدت تلك الأمة بأنها لو سكتت عن الظالم ولم تواجهه أو تفضحه قائلة له إنه ظالم مستبد فإن تلك الأمة قد آذنت بوداع وزوال ( إذا رأيت أمتي تهاب الظالم أن تقول له أنت ظالم فقد تُودع منهم ) .
لقد نشطت القوى الاستبدادية في تاريخ المسلمين في إرساء ثقافة الخضوع للمستبد ، والطاعة له ، وتجنب الثورة عليه أو المعارضة له ، وأن يعطوه حقه ، ويسألوا الله حقهم !! . وتعاضدت الثقافات الباطلة تلك مع القوة السياسية . ولكن تصدي القادة الصالحين لبيان الحقائق أبطل تلك الفكرة وأشاع ثقافة أخرى هي أن الدين جاء للعدل ، والانصاف ، ولأجل الانسان ، وأن الدولة والحاكم عليه من الحقوق للناس أكثر مما له على الناس . فإن وفى بها وإلا أمر بالمعروف ونهي عن منكره ، أو ليضربن الله قلوب هؤلاء بعضهم ببعض ثم تكون الرحمة الالهية بعيدة عنهم ( لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ثم يلعنكم كما لعنهم ) .
لا مستبد عادل :
وينبغي هنا أن نؤكد على فكرة تنافي الاستبداد مع العدالة ، ولهذا فما يطرحه بعضهم بعنوان أن الشرق المسلم يحتاج إلى مستبد عادل ، هو كمن يقول بأننا نحتاج إلى نار مثلجة !
المستوى القانوني :وهو الالزام بالمشاورة في ثلاثة أصعدة :
الأول بين الرعية والراعي ، الثاني في مابين الناس أنفسهم ،و الثالث في الدائرة الأضيق دائرة الأسرة .
في الدائرة الأولى بين الرعية والسلطان نحن نجد الآية المباركة ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) تحكي عن العلاقة التي ينبغي أن تكون بين القائد ومرؤسيه . وللتعرف على أهمية هذه العلاقة الجديدة التي يرسيها الدين ، لا بد أن ننظر إلى العلاقات القائمة بين القادة ورعاياهم في الجاهلية ، فهناك نرى أنه لا وجود لرأيهم مع رأيه ، حتى مع خطئه فإنه يسير على طريقة ( انصر أخاك ظالما أو مظلوما ) و ( هل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد ) ، فجاء القرآن الكريم لكي يقول للنبي وهو المعصوم عن الخطأ وأكمل الناس عقلا : أن شاورهم . ( طبعا المشاورة هنا في الأمور النظامية العامة لا العبادية ) وهو أمر جدي وظاهره الوجوب لا الندب ، وأيضا فهو ليس صوريا ويشهد له ما بعده ( فإذا عزمت ) أي على أحد الآراء ، بل حتى لو قلنا إنه لتطييب الخواطر كان ينبغي أن يكون الأمر جديا ، إذ أي تطييب للخواطر إذا علموا أنه صوري ولن يؤخذ برأيهم مع استفراغ جهدهم في النظر والرأي !.. نعم هناك بحث في أنه كيف يكون ذلك ؟ هل هو لأجل اقتداء الأمة به أو ليميز الناصح من الغاش ..
ولقد نقل مؤرخو سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله عن مشاورته لأصحابه ، وأن المشاورة كانت بقصد الوصول الى نتيجة عملية وليس لمجرد الاسترضاء واستصلاح القلوب فقط .
وشاهد ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله شاور أصحابه في عدد من المواضع ولم يؤثر أنه تخلف عن المشورة مرة واحدة ، ففي قضية بدر صار الرأي الغالب الخروج الى القتال فقبل النبي صلى الله عليه وآله ,كان هناك رأي آخر بالقعود لكن الرأي الغالب في المشورة كان أن يخرج إليهم، وفي قضية الخندق أيضا عندما أشار سلمان بقضية الخندق ولاقى هذا الرأي قبولا من الحاضرين أيضا عمل به وفي موارد أخرى كما ينقل الأمام الرضا عليه السلام أن النبي كان يستشير أصحابه ، (كان يستشير) هذا التعبير ظاهر في الاستمرارية والدوام ليس مرة أو مرتين ،بل حتى لو قلنا أنه من أجل استصلاح النفوس وتطييب القلوب واسترضاء هؤلاء الناس مع ذلك لابد أن تكون المشاورة جدية ،لماذا؟ لأنه سوف يفهم بأن هذه المشاورة مشاورة صورية فيكون أدعى الى خراب النفوس ،لا تستصلح النفوس, مثلا لما آتي بجماعة وأشاورهم ثم أترك ما قالوا وأفعل ما أريد .فإن هؤلاء إذا دعوتهم مرة أخرى لن يستجيبوا , ولا تطيب قلوبهم .
فإذا كان النبي صلى الله عليه وآله أرقى الخلائق علما ومعرفة قد أُلزم بالمشاورة , لأي سبب من الأسباب ، لأجل تعليم الأمة واقتدائها أو لبيان الناصح من الغاش كما قال بعض المفسرين أو للاهتداء ، فما ظنك بالنسبة الى باقي الولاة وباقي الحاكمين لا شك أنهم مأمورون بالاستشارة .
الصعيد الثاني ـ تأسيس المجتمع الإسلامي على أساس المشاورة كما نجد ذلك في قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) يلاحظ أن سياق الآية هو سياق المدح وأنه حالة دائمة متكررة ، فهم مستجيبون لربهم ، ومقيمون للصلاة ، وأمرهم ( وهو شؤونهم العامة ) شورى ، وهم منفقون .
ولقد كان الأمر هكذا لولا غلبة حالات الاستبداد في بعض العصور ، فإنه قد نقل د أحمد شوقي الفنجري بأنه في إحدى المواجهات بين المسلمين والفرس أراد قائد الفرس أن ينهي المعركة سلما فتفاوض مع قائد المسلمين ، وعرض عليه فأجابه هذا بأنه لا بد أن يتشاور مع الجنود ، فقال القائد الفارسي ، إنا لا نولي من يشاور الجنود ، فقال المسلم ، لكننا لا نولي من لا يشاور الجنود ، ولذلك تنهزمون وننتصر .
الثالث ـ صعيد العائلة : فإن العلاقة التي ينبغي أن تكون هي أن لا استبدادر وإنما عن تراض بينهما وتشاور ..( فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا )
القرآن الكريم يذكر موردا واحدا نص عليه في قضية التشاور وهو اذا أرادا الفصال أي فطام الطفل ، وأما بالنسبة الى باقي المسائل فلم يذكر أمر المشاورة في الحياة الزوجية بشكل صريح ولكن عند التأمل في المعاني المطلوبة من الحياة الأسرية نتيقن أن المشاورة ضرورية هناك ، فنظام الأسرة جعل بشكل لكي يحقق المودة والرحمة والسكن بل إلى حد أن (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن).. هل تتصور أن المودة والرحمة تكون بين طرفين أحدهما مستبد والاخر مستبَد به ؟ هل من الممكن أن تكون هناك ملابسة ( بما تحمل من معاني القرب إلى حد التلامس ، ومعاني تزيين كل منهما لصاحبه ، وستر معايبه ) هل من الممكن أن تكون هكذا ملابسة مع شخص يتخذ القرارات ولا يعتني بشريكه في أي شيء من الأشياء ؟
نحن نعتقد أنه في هذا المورد تم ذكر القرآن الكريم لموضوع التشاور صراحة، في بقية المواضع اعتمد القرآن الكريم على القيم الأخرى التي لا تتحقق الا من خلال المشاورة ومن خلال المداولة في الرأي بين الطرفين .

















حرية الرأي والتعبير

يستقطع الحديث عن حرية الرأي والتعبير عنه مساحة كبيرة من مساحات الحديث والنقاش في عالم اليوم ، فعلى المستوى الفكري والنظري وجدنا أن طائفة من أصحاب الرأي ـ بغض النظر عن صوابه وعدمه ـ تطالب بأن يكون لها حرية التعبير عن آرائها ، وأن لا تصادر تلك الحرية من قبل أحد سواء كان جهة سياسية أو أخرى مجتمعية .
وعلى المستوى السياسي والعملي أصبحت المطالبة بحرية التعبير عن الخيارات السياسية في رأس قائمة مطالبات الحركات والجهات المعنية بالشأن السياسي . هذا من جهة ..
ومن جهة أخرى فإن هناك من يرى أن إطلاق العنان لكل من شاء أن يتحدث وأن يعلن رأيه سوف يجعل المجتمع معتركا ـ نظريا ـ في البداية ، ثم يتحول إلى ساحة قتال ، وذلك لأن إطلاق الحرية من دون ضوابط يعني مهاجمة كل فئة للأخرى بما تستطيع من القوى !
ويرى قسم ثالث أن الذي يجري في مجتمعاتنا الإسلامية هو تقييد حرية التعبير بأسماء يقبلها عامة الناس ، ولكن حقيقة هذه العملية تنتهي إلى الاجهاز على حرية الرأي والتعبير .. فقد تتحول ( ثوابت الدين ) عند البعض إلى دائرة واسعة تشمل حتى الاجتهادات الشخصية ، فلا يستطيع أحد أن يجاهر برأيه في مسألة بزعم أن هذا ضد ثوابت الدين .. وقد تستغل السلطات السياسية عنوان ( قيم الأمة ) و ( مصلحتها العليا ) وما شابه لكي تقمع فئة أو شخصا .
وهنا لا بد من الحديث التفصيلي عن حرية الرأي والتعبير عنه .
وفي البداية لا بد من الفصل بين الأمرين ، فإن التعبير عن الرأي هو مرحلة تالية لتكوينه ولا بد في بادئ الأمر أن يكون التفكير ، وتكوين الرأي متسالما عليه حتى يُتحدث عن مدى حرية التعبير عنه وإبدائه .. وربما يكون هناك خلط بين الأمرين أحيانا لكنهما متمايزان كما هو واضح .
هل يمكن تشريع حرية تكوين الرأي ؟
جاء في مفردات غريب القرآن:
رأى : الرؤية هي إدراك المرئي ، وذلك بحسب أضرب قوى النفس فقد تكون بالحاسة وما يجري مجراها مثل ( فإما ترين من البشر أحدا ) والثاني : بالوهم والتخيل نحو أرى أن زيدا منطلق ونحو قوله تعالى: ( ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا ). والثالث : بالتفكر نحو ( إني أرى ما لا ترون ) . والرابع : بالعقل وعلى ذلك قوله ( ما كذب الفؤاد ما رأى ) وعلى ذلك حمل قوله : ( ولقد رآه نزلة أخرى ) . ورأى إذا عدى إلى مفعولين اقتضى معنى العلم نحو ( ويرى الذين أوتوا العلم ) ، والرأي اعتقاد النفس أحد النقيضين عن غلبة الظن وعلى هذا قوله : ( يرونهم مثليهم رأي العين ) أي يظنونهم بحسب مقتضى مشاهدة العين مثليهم
وما يرتبط بحديثنا هو ما عدى الأول الذي هو إدراك المرئي بالحاسة .. أما الادراك للمرئي من خلال عملية ذهنية فهو الذي يرتبط بما نحن فيه .
ويبدو أنه بهذا المعنى لا يمكن تشريعه بمعنى الأمر به أو النهي عنه ، فهو أمر خارج عن التكليف لأنه ليس تحت الاختيار . فلا يمكن أن توجب على شخص ولا أن تنهاه عن أن تأتي الأسئلة إلى ذهنه من خلال ملاحظته الخارجية لأشياء ، وتكوين انطباع عنها ، مهما كانت درجة صحة أو سقم ذلك الانطباع .
لا يمكن منع الإنسان من تكوين صور ذهنية عن الأشياء ، ولا يمكن إيجاب ذلك عليه . نعم يمكن أن يقال له : إذا أردت تكوين رأي صحيح فاتبع الطريق الكذائي . كما أنه يمكن أن يقال له إذا أردت التعبير عن الرأي الذي تكون لديك فينبغي أن يكون بهذه الضوابط أو في الزمان أو المكان المعين .
خلفيات حرية الرأي والتعبير عنه :
لمعرفة آفاق حرية الرأي ، لا بد من الاشارة إلى بعض الجهات التي تعد بمثابة تأصيل لهذه الفكرة :
1/ العقل وحرية الرأي
خلق الله الإنسان في أحسن تقويم ، وكلفه بعبادة خالقه بعد معرفته وعمارة الأرض بعد أن استخلفه فيها ( اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) ، وجعل العقل في كل هذه الأمور قائدا ودليلا . وفي النتيجة على وفقه يكون الثواب والعقاب ) بك أثيب وبك أعاقب ) .
ولأجل ذلك فقد مكّن الله العقل الإنساني من اقتحام كثير من المجهولات ، وجعل فيه صلاحية الكشف عنها .
فبدءا من الاعتقاد بالله والإيمان به وهو غيب الغيوب ، جعل العقل طريقا إلى ذلك ، وأمر باتباع ما يهدي إليه ( وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) . ( قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) .
وبعد أن منح الله الإنسان ذلك العقل ، وزوده بتلك القدرة الهائلة ، لا يعقل في تفاصيل الحياة ـ أن ينهاه عن استعماله ، وعن تكوين رأي في ما يصادفه من قضايا !
2/ الحرية الإنسانية والرأي :
كما تميز الإنسان في خلقته بالعقل المدرك ، كان من الطبيعي أن يُخلق حرا مختارا ، وإلا فما نفع عقله آنئذ ؟ خلق الله الإنسان حرا ، ورفع عنه العبودية لكل أحد إلا لله سبحانه ، وعبودية الإنسان لخالقه وإن كانت قسرية في المجال التكويني ، إلا أنها في المجال التشريعي باختياره هو .. بل جُعل عزه وحريته في أن لا يكون عبدا إلا لخالقه كما في كلام للإمام علي ( إلهي كفى بي عزا أن أكون لك عبدا ..)
وبعث إليه الأنبياء والرسل لتكريس هذه الحرية ، وإزالة كل ما يحجز الإنسان عن تحقيق هذه الحرية ( ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم .. (. وأكد عليها القادة الدينيون فقد نقل الشريف الرضي عن الإمام علي قوله ) لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا ( . وقد نقل عن الخليفة عمر بن الخطاب قوله لعمرو بن العاص في قضية معروفة عندما اعتدى ابنه على أحد المصريين من غير حق ( متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ) ، ويرى بعض المحققين أن هناك فرقا بين الخطابين : فما عن الإمام علي  يتوجه إلى الإنسان ويخاطبه عن مسئوليته في حفظ الحرية التي أعطاه الله إياه وأكرمه بها ، وجعله مسؤولا عن تكريسها .. فليست هي منحة من سلطان أو قوي حتى ) يتصدق ) بها عليه ، وإنما هي جزء خلقة هذا الإنسان وقسم من وجوده ، ومنحة الله له . فلا يجوز له أن يفرط فيها . والحاكم وإن كان مسؤولا عن صيانتها ، ويمنع عليه اقتحامها ، إلا أن الطرف الأساس في هذه المعادلة هو نفس الإنسان ، وأن الحرية والاستعباد يبدآن من الذات .
ومثل ذلك خطاب الامام الحسين  لأعدائه ( إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحرارا في دنياكم ) .أي أن الحرية لا ترتبط بالضرورة بالدين ، فحتى مع غض النظر عن هذه الجهة فإنه ينبغي للإنسان أن يستشعر حريته ويمارسها ويحافظ عليها .
3/ تشريعات الحرية في الدين :
بناء على ما سبق فإن التشريعات الدينية ـ ولا تختلف أصول الديانات في هذه الجهة ـ جاءت لتكرس ممارسة الحرية لدى الإنسان ، بدءا من العقيدة وانتهاء بالعمل . فقد حفل القرآن الكريم في العديد من آياته بالدعوة إلى الحرية ، والتأكيد عليها . ففي أهم قضية وهي التعبد لله ، وطاعته لا يقبل الدين ممارسة الإكراه والقسر على الناس ، لكي يطيعوا الله ( فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر ) ، و( إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب )، و ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ( وقد كان يستطيع الله سبحانه أن يخلق الخلق على نحوٍ يكونوا مؤمنين جميعا ، ولكن ذلك ينفي غرض الخلقة وهدفها ) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) بالطبع يتحمل كل واحد نتيجة عمله ، ولكن في ضمن دائرة الاختيار ليس مجبرا على ذلك ، وهذا يتفق مع احترام الإنسان لذاته ، وشعوره بحريته كما قال ذلك الرجل ( ما كنت لأشهد بها وأنا في الوثاق ) .
ومن الأصول الإسلامية الثابتة أنه ( لا إكراه في الدين)، وينبغي التوقف قليلا ، والتأمل في هذا المقطع من الآية المباركة ضمن النقاط التالية :
1/ أن هذه القطعة جزء من ( آية الكرسي ) وقد أحيطت آية الكرسي بكثير من الاهتمام في النصوص المنقولة عن النبي  وأهل البيت عليهم السلام ، وفي تعامل المسلمين مع هذه الآية في فتراتهم التاريخية المختلفة . ونحن نعتقد أن هذا الاهتمام الاستثنائي يهدف ـ فيما يهدف ـ إلى تكريس ما فيها من رؤى إسلامية ، وأفكار عالية سواء في المعتقد التوحيدي ، أو في الممارسة الاجتماعية . ذلك أن آيات القرآن كلها من الله سبحانه ، واختصاص بعض هذه الآيات بمزيد من الاهتمام يعني وجود معنى إضافي فيها يُراد تركيزه ، وتكريسه .
ومع الأسف فإن البعض من المسلمين لا يتوجهون إلى هذه الجهة ، ويتصورون أن المطلوب منهم هو ترديد الآية كوِرد من الأوراد ، وتركيب من الألفاظ ، ولذلك قد يقرأه الواحد منهم بلسانه وهو مشغول في شيء آخر بيده ومستمع إلى متحدث بإذنه ، وناظر إلى صفحة بعينه !! وهذا مما يضيع على القارئ فرصة التعرف على معاني هذه الآيات والأوراد ، ويغيبه عن أغراضها .
2/ أن لهجة هذه الآية ولحن القول فيها ، حاسم وحازم ، وعلى شكل قانوني قاطع . فمن جهة قد وقعت النكرة ( إكراه ) في سياق النفي ، وهذا يفيد العموم كما هو المعروف عند الأصوليين ، ( لا إكراه ) أي لا يوجد أي إكراه . ( في الدين ) سواء قلنا أن ( أل ) هنا عهدية وتشير إلى دين الإسلام ، أو كما لعله الأقرب أن ( أل ) هي للجنس أي في جنس الدين لا يوجد إكراه . وطريقة الابتداء بها أيضا تفيد هذا المعنى وكأننا أمام نص قانوني .. لا إكراه في الدين .
3/ إن هناك اتجاهات متعدد في فهم هذه الجملة ( لا إكراه في الدين ) :
ـ الاتجاه الأول : يرى أن الآية هي إخبار ظاهرا ولكنها إنشاء واقعا ، وهي تنشيء تحريم الاكراه في الدين تكليفا ، وبطلان الآثار المترتبة على الإكراه وضعا .
ففي المقام الأول لا يجوز إكراه أحد على معاملة كالبيع أو النكاح أو البيعة السياسية مثلا ، ولو حدث أن تم الإكراه فإنه لا تترتب عليه الآثار من انتقال السلعة والثمن بين المتبايعين ، ولا تحقق الزوجية بين الطرفين ، ولا لزوم الطاعة والحصول على الحقوق بين الحاكم والمحكوم ..
وهي بهذا تشبه الكثير من الصيغ الواردة في التشريع الإسلامي مثل ( لا ضرر ولا ضرار ) بناء على شمولها لجانبي التحريم تكليفا ، والبطلان وضعا .
ـ الاتجاه الثاني : يرى أن الآية المباركة تتحدث عن الواقع الخارجي وتقرر أنه لا يمكن أن يحصل الاكراه في الدين ، وهي بذلك تخبر عن عدم إمكانية تحقق الدين بواسطة الإكراه ، وذلك لأن الدين في حقيقته هو التزام نفسي ، وعقد قلبي قبل أن يكون أعمالا جوارحية خارجية .. وقد يمكن أن ُيجبر شخص على القيام بأعمال خارجية على خلاف ما يعتقده لكن هذا ليس هو الدين ، فالدين لما كان من أفعال القلوب أولا وبالذات ، فإنه لا يقبل الإكراه .
وبالتالي فإن الآية المباركة تشير إلى أنه ينبغي الإقلاع عن عبث القسر والإكراه في الأمور الدينية .. لن يمكن قسر أحد على الدين .
ـ الاتجاه الثالث : يرى أن الآية المباركة تتحدث عن أنه لا توجد أحكام إكراهية في الدين ( دين الإسلام ) أو عموم الدين الالهي . مثلما أنه لا توجد أحكام ضررية ، ولا حرجية ( ما جعل عليكم في الدين من حرج ) . وبالتالي فإن مثل هذه العناوين هي بمثابة العناوين الثانوية الحاكمة على سائر العناوين الأولية في الأحكام ، عبادات ومعاملات ، فإن تحقق من شيءٍ ضررٌ فهو لم يجعل من قبل الشرع وإنما يرتفع ، ولو لزم من أمرٍ الحرجُ فإنه موضوع عن المكلف وهكذا بالنسبة للإكراه .
نتخلص مما سبق إلى نتيجة : أنه مع وجود هذه الأصول المحكمة والقيم الراسخة ، لا يمكن أن تأتي تشريعات الإسلام في تفاصيلها على خلافها ، بأن تكون القيم الأصلية رأسها الحرية بينما يكون التشريع التفصيلي مؤديا إلى العبودية ، أو أن تكون الأصول على الحق والتعقل بينما تؤدي التشريعات إلى الباطل والجهل، أو أن تنطلق الشريعة من العدل الالهي لتكرس الظلم البشري .. هذا لا يمكن أبدا .
وإنما مقتضى الانسجام بين الأصول العامة ، والتشريعات التفصيلية أن تكون الثانية شاربة من منبع الأولى ، ومستمدة منها .
ولهذا كانت حرية التفكير كعمل من أعمال المكلفين ، وبعد ذلك حرية التعبير عن الرأي والفكر منسجمة مع ما تقدم من الأصول التي تم فيها التأكيد على رفض الإكراه ، وتقييد الحريات .
ولذا رأينا القرآن يدعو إلى التأمل والاعتبار ، والسير في الأرض لتحصيل المعرفة من خلال التفكر .
ـ نتائج حرية الرأي والتعبير :
أ/ إن من نتائج حرية الرأي والتعبير تحقيق إنسانية الإنسان فكما سبق أن ذكرنا أن الله خلق هذا الإنسان على قاعدة حرية الاختيار ، الناتج بطبيعة الحال عن حرية الرأي والنظر في هذا الاتجاه أو ذاك ..
والتنازل عن هذا الجانب يعني أن ينزل الإنسان من المستوى العالي الذي وضعه الله فيه ، وأكرمه به إلى درجة يتساوى فيها مع سائر المخلوقات التي لم تخلق حرة ..
ب/ من نتائج الحرية : التنمية .. وذلك أننا نعتقد أن التنمية الاقتصادية والعمرانية ، رهينة بالتنمية الاجتماعية والبشرية ، وهذه لا تحصل من غير تنمية فكرية ، والتنمية الفكرية مستحيلة من دون حرية الرأي والتعبير عنه .
لا يمكن للفكر أن ينمو في ظل القمع ، ولا يمكن للتقدم أن يحصل في أجواء سيطرة الفكر الأحادي والصوت الواحد .
كيف يمكن للثقافة والمعرفة أن تتراكم في ظل الفكر الواحد ، ومنع الآخرين من التفكير أو إبداء أفكارهم ؟
3/ حرية الرأي طريق الحوار : اليوم هناك حديث دائم عن الحوار باعتباره مخرجا أساسيا من الأزمة التي تعيشها المجتمعات . القهر والضغط يجعل الحوار أمرا مستحيلا ، بل يدفع المقهور سواء كان فردا أو مجتمعا إلى التمسك بكل ما لديه ولو كان ذلك الشيء أمرا خرافيا ، بينما في صورة حرية الرأي وإبدائه ستحصل فرصة للأفكار لتعرض نفسها ، ويتبين فيها مواضع الخلل والخطأ .
فحرية الرأي ، وحرية التعبير عنه تساهم في إزالة الاحتقانات الموجودة بين الكيانات الثقافية المسلمة .
4/ من نتائج حرية الرأي والتعبير عنه ، الوقوف أمام موجات التكفير والقتل على خلفية الاختلاف الفكري .
إن هذا النفق الذي انساقت إليه بعض فئات الأمة ، عندما نصبت نفسها ميزانا يعين الكفر بمقدار ابتعاد صاحبه عن توجهاتها الخاصة ، ثم مارست ( دورها ! ) في تنفيذ أحكام التفسيق والتبديع وثم القتل في حق من يختلف معها في الرأي ، لا طريق للخروج منه بدون تشريع حرية الرأي والتفكير ، والعمل على قبول تعدد القراءات ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) .
5/ الإقرار بحرية الرأي والتفكير يمنع السلطات السياسية من قسر الناس على لون واحد من الرأي والنظر والخطاب .
حرية الرأي والتفكير تاريخيا :
بالرغم من أن تاريخ الحاكمين المسلمين منذ بدء الإسلام لم يكن نموذجيا في التعامل مع الرأي المخالف ، وربما لا نجد صورا كثيرة ممتازة في هذا الجانب ، إلا أننا لو نظرنا إلى القرآن الكريم ثم سيرة الرسول  وأئمة أهل البيت وبعض الخلفاء الصالحين لوجدنا صورا طيبة يمكن أن نستفيد منها كأمثلة ونماذج .
فأول ما نلتقي بنقل القرآن الكريم لمناقشات الكفار مع أنبياء مجتمعاتهم ، فنحن لا نرى أن الأنبياء يعيبون على أولئك إبداء آرائهم أو أنهم يعاتبونهم على كلماتهم ، وإنما يبسطون الأمر معهم مناقشين ومحاورين لبيان الحقيقة ولسانهم في كل ذلك ( أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ ) . ( أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( . .. هذا مع كون أولئك كفارا خاطئين .
ووجدنا طريقة الرسول الأكرم محمد  : حيث يناقشه أصحابه ، بما لو فعله بعضٌ في هذه الأزمنة مع عالمٍ من العلماء لعد مرتدا ! أوليس ( الراد عليهم كالراد على الله ) فيما يفهمه هؤلاء الناس خطأ .. فهذا عدي بن حاتم وكان على المسيحية سابقا ، لما قرئت عليه آية ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا ..) قال : يا رسول الله ما كنا نعبدهم !! قال : أليس كانوا يحرمون لكم ويحللون فتأخذون بكلامهم ؟
وفي تعامل الإمام علي مع الخوارج الذين عارضوه وخالفوه ، وأخيرا حاربوه فما كان يقمع رأيهم ، ولا يمنعهم عن إبدائه مع أنه الحاكم الحق !! بل كان يواجه كلامهم ورأيهم بحججه وبيناته .
والإمام الصادق u يتحاور مع الملحدين والزنادقة : فقد نقلوا أن ابن أبي العوجاء ، وقد كان تلميذ الحسن البصري ، لكنه تركه وانحرف عن التوحيد ، وكان يأتي مكة متمردا ومنكرا على من يحج ، وكان العلماء يكرهون مجالسته ومساءلته لخبث لسانه ، فأتى الإمام الصادق مع جماعة من نظرائه فقال : يا أبا عبد الله إن المجالس بالأمانات ولا بد لكل من به سعال أن يسعل ! أفتأذن لي في الكلام ؟ فقال له : تكلم !
فقال ابن أبي العوجاء : إلى كم تدوسون هذا البيدر وتلوذون بهذا الحجر ، وتعبدون هذا البيت المعمور بالطوب والحجر ، وتهرولون هرولة البعير إذا نفر ؟ إن من فكر في هذا وقدّر علِم أن هذا فعل أسسه غير حكيم ولا ذي نظر .. فقل فإنك رأس هذا الأمر وسنامه وأبوك أسه وتمامه .
فبدأ الإمام  يبين له أن هذا ( بيت قد استعبد الله به خلقه ليختبر طاعتهم في إثباته فحثهم على زيارته وتعظيمه وجعله محل أنبيائه وقبلة المصلين إليه .. ) الى آخر كلامه .

نماذج سيئة من السلطات الحاكمة :
نلتقي في الجهة الأخرى بنماذج سيئة من مصادرة الرأي ، ومقاومة حرية التفكير ، بل والمعاقبة عليه إذا خالف الارادة السياسية الرسمية ، بدءا من زمان الأمويين فإنه كان لدى عبيد الله بن زياد شخص يسمى ( صاحب العذاب )، وكان مجرد ذكر اسمه يسبب الرعب وربما الموت ، وقد ذكر ابن عبد البر في الاستيعاب في ترجمة قيس بن خرشة القيسي ، أن عبيد الله بن زياد أراد تعذيبه ، لأنه كان قوالا بالحق ، فاستقدمه إليه وقال ائتوني بصاحب العذاب فمال عند ذلك قيس فمات !!
وكان ( صاحب العذاب ) عند الحجاج اسمه معد ، ويتكلم بعضهم عما جرى بينه وبين حطيط الزيات الكوفي ، حيث كان عابدا زاهدا يصدع بالحق ، حاوره الحجاج وكان شديدا صلبا ، فقال معد صاحب العذاب للحجاج : إني أريد أن تدفعه إلي فو الله لأسمعنك صياحه فسلمه إليه فظل يعذبه ليلته كلها وهو ساكت حتى كسرت ساقه ، فسأله الحجاج بعد ذلك عنه ، فقال له : إن رأى الأمير أن يأخذه عني فقد أفسد علي أهل سجني . فاستلمه الحجاج وعذبه ثم لفه في بارية وألقاه حتى مات .
ولم يكن الحال أحسن في زمان العباسيين الذين ابتدعوا منصب صاحب الزندقة ، والتي هي ـ إضافة إلى سوء تطبيقها بحيث أصبحت سلاحا ضد المعارضين السياسيين ـ طريقة خاطئة من أساسها في مقاومة الأفكار .
فإنه يذكر الطبري في تاريخه في أحداث سنة 268 هـ أن فيها مات عمر الكلواذي صاحب الزنادقة ، وولى المهدي العباسي حمدويه محمد بن عيسى مكانه ، وفيها قتل المهدي الزنادقة .. ولفظ ( الزندقة ) واسع يدخل فيه ما بين الصوفية إلى الفساق ، والسياسيين ممن خالف السلطة .
وفي وقت متأخر حدثت فتنة خلق القرآن ، حيث تداولتها يد الحكام ، ونكلوا بمن يخالفهم الرأي فيها فبينما ضرب المأمون والمعتصم والواثق الناس على القول بخلق القرآن جاء المتوكل وضربهم على القول بقدمه وعاقب من يقول بخلق القرآن !! .
فكان ذلك تكريسا لدخول الحكومات على خط الحرية الفكرية وقسر الناس على نمط معين من الفكر والرأي .


ضوابط حرية الرأي في مجتمع المسلمين :
هل يمكن الحديث عن ضوابط ومحددات لحرية الرأي والتفكير ، ثم التعبير عنه ؟
ربما يعترض بعض على ذلك بأن الضوابط معناه تحديد حرية الرأي وقمعها ، فوجودها مخالف لعنوان الحرية !
ولكن الصحيح هو خلاف ذلك ، فإن :
عدم وجود ضوابط للحرية يعني الفوضى الاجتماعية ، فينتقض الغرض الذي يراد من حرية التعبير تحقيقه ، وتتخلف النتائج التي يفترض كونها ثمار الحرية الفكرية ..
من هذه الضوابط :
1/ثوابت الدين :
الدين الإسلامي يعتبر حدا لا يصح تجاوزه ، فلا يمكن أن يصار بعنوان حرية الرأي إلى الحديث في نفي الدين من حياة المجتمع المسلم مثلا .. وهكذا لا يمكن الحديث في ثوابت الدين الأساسية .
وجهة ذلك أن من المستحيل لأي شريعة أن تشرع إلغاء نفسها ، وإبطال وجودها ، وإلا كان ذلك عبثا . وسواء كان ذلك النظام والقانون إلهيا أو بشريا ، فإن قبوله بأن يكون في أصله محورا للنفي والاثبات ، يعني أنه لا مصداقية له .
وهذا لا يختص بالدين الإسلامي بل نحن نجد سائر الأديان كذلك ، بل حتى المناهج البشرية ، فإن العلمانية مثلا في أوضح صورها لا تشرع قانونا يلغي وجودها ، ولا تسمح بممارسة سياسية تنتهي إلى نفيها .
ثم إننا عندما نقول ثوابت الدين ، ينبغي أن نفرق بينها وبين المعارف الدينية ، في ما هو واضح هذه الفترة من التفريق بين الدين ( المقدس ) الثابت ، والمعرفة الدينية ( البشرية ) والتي هي نتاج العلماء والفقهاء والتي تخضع للاجتهاد والتغيير والتبديل .
ومما يؤسف له أن دائرة ( الثابت الديني ) التي هي في الأصل دائرة محدودة وصغيرة ، قد وسعها المتدينون بنحو كبير جدا ، حتى غدا كل أمر يمكن أن يكون من ( ثوابت الدين ) فقد تحدث بعض هؤلاء عن أن غطاء الوجه من ثوابت الدين ، وأن الاعتقاد بلزوم قتل المرتد من ثوابت الدين .. وإلى غير ذلك مما يوسع هذه الدائرة كثيرا !
إن ثوابت الدين سواء الاعتقادية كأصل التوحيد ، وأصل النبوة ، وأصل الإيمان باليوم الآخر والقرآن .. أو العملية التفصيلية كالصلاة ، والصيام ، والحج .. في أصولها دون التفاصيل التي تخضع للاجتهاد ، وتكون عرضة للاختلاف بين المذاهب ، بل أحيانا بين علماء المذهب الواحد .. هذه الثوابت هي حد من حدود حرية الرأي ، وضابطة من ضوابطها .
إننا إذ نؤكد على أن ثوابت الدين خط أحمر في المجتمع المسلم ، لما تقدم ، فإننا نؤكد أيضا على أن كثيرا مما يعده المتدينون ( ثابتا دينيا ) ليس هو كذلك ، وأن دائرة تلك الثوابت دائرة محدودة .
2/ النظام الاجتماعي :
من الواضح أن العقلاء في كل عصر يهديهم عقلهم إلى لزوم الكيان الاجتماعي القائم على نظام وقانون ، لكي تستمر حياتهم بنحو جيد .
كما أن الرسالات السماوية عندما جاءت كرست هذه الحقيقة ، وأمضت

القضايا المالية : مقاربةٌ شرعية
رؤى في الاصلاح الثقافي